يرى البعض أن أسوأ سيناريو يُمكن أن تتخيّله البشرية، قد تجلى في مأساة "تشيرنوبيل" (Chernobyl) -التي تحوّلت مؤخّرًا لمُسلسل حقّق نجاحًا مُنقطع النظير-، وهنا الحديث عن تسعينات القرن الماضي فقط؛ لأن -ربما- أسوأ سيناريو يُمكن أن يحدث للبشرية في وقتنا الحالي هو أن تختفي شبكة فيسبوك الاجتماعية خصوصًا مع تعالي الأصوات التي تُطالب بالحد من خدماتها(1)(2)، فهل يُمكن فعلًا السيطرة على شبكة فيسبوك بسهولة؟ أم أن ما أسّسه "مارك زوكربيرغ" من الصعب جدًا تفكيكه؟
ما بعد الشبكة الاجتماعية
كان "زوكربيرغ" أول المُتأثّرين بسلسلة الفضائح التي طالت شبكته الاجتماعية، فنظرية ترك الشيء الذي يعمل على حاله دون تغييره باستمرار لم تعد تفي بالغرض، ليخرج على العالم بفكرة تحويل فيسبوك لشبكة اجتماعية للمحادثات الفورية على غرار مسنجر أو "واتس آب" تُركّز بشكل أساسي على خصوصيّة بيانات المُستخدم من جهة، ومحادثاته وعلاقاته الشخصيّة من جهة أُخرى.
لكن القائمين على الشبكة الاجتماعية كانوا يُجهّزون منذ القِدم لمثل هذه الكارثة، لحقبة ما بعد فيسبوك، فهم من أجل ذلك قاموا بالاستحواذ على تطبيق "واتس آب" لقاء 19 مليار دولار أمريكي تقريبًا، دون نسيان الاستحواذ على "إنستغرام" لقاء مليار دولار تقريبًا، فبهذه الحالة يضمن "زوكربيرغ" أن شركته ستبقى قائمة لأن "واتس آب" يُستخدم حول العالم من قبل أكثر من 1.5 مليار مُستخدم، ناهيك بنسخة الشركات (WhatsApp for Business) الصادرة قبل فترة.
أما "إنستغرام" فهو وحده حكاية أُخرى، فهو شبكة اجتماعية تُتيح مُشاركة الوسائط، لا رقيب لها في الوقت الحالي، أضف إلى ذلك خاصيّة الحكايات التي يستخدمها أكثر من نصف مليار شخص يوميًا. الرسائل الخاصّة في "إنستغرام" هي أيضًا كيان قائم بفضل مجموعة من الميّزات أهمّها مكالمات الفيديو الجماعية. وأخيرًا، وليس آخرًا، تتعزّز مع مرور الوقت خاصيّة التسوّق الإلكتروني داخل التطبيق، ليتحوّل تطبيق "إنستغرام" من أداة لمُشاركة الصور المُربّعة فقط، إلى شبكة اجتماعية تتماشى مع نمط حياة جيل الألفيّة الجديدة.
ولو فرضنا أن التجربة الاجتماعية الخاصّة بفيسبوك بجميع تطبيقاتها في خطر، فإن عملة "ليبرا" الإلكترونية (Libra) التي كشفت الشركة عنها مؤخّرًا تُعتبر حجر الأساس لمُستقبل فيسبوك، فتطوير نظام جديد يعتمد على تقنية "بلوك تشين" (Block Chain) يفتح لفيسبوك آفاقًا جديدة بعد سنوات من الاعتماد على خوادمها المركزية.
مُجتمع للمُطوّرين
جميع السيناريوهات السابقة تفترض بقاء فيسبوك في المجال الاجتماعي بشكل أو بآخر، لكن الشركة في الوقت ذاته تمتلك حلولًا أُخرى تُساعدها على البقاء بعيدًا عن الأضواء مع المُساهمة في جزء كبير جدًا من المشاريع التقنية حول العالم.
نجحت فيسبوك في تطوير مراكز بياناتها الخاصّة، فمُهندسو الشبكة لم يجدوا في الخوادم المتوفّرة في الأسواق ضالّتهم، وقرّروا تطوير شرائحهم الإلكترونية الخاصّة لضمان أفضل أداء مُمكن. ومن هنا، فإن مُستقبل فيسبوك ما بعد الشبكات الاجتماعية يُمكن أن يتحوّل لحلول التخزين السحابي التي تدرّ الملايين على كل من أمازون ومايكروسوفت، فبحسب آخر الأرقام، حقّقت أمازون من خدماتها السحابية (AWS) أكثر من 7.34 مليار دولار، في وقت حقّقت فيه مايكروسوفت بفضل خدمات "آجر" (Azure) ما يُقارب الـ 9.4 مليار دولار أمريكي(3)(4)، وهذا خلال فصل مالي واحد.
في حقيقة الأمر، لم تترك فيسبوك مسألة التخزين السحابي دون المساس بها، ففي الفترة ما بين عامي 2012 و2017 أطلقت خدمة "بارس" (Parse) التي تُتيح للمُطوّرين بناء تطبيقات تعتمد على السحاب بشكل كامل لتخزين البيانات والوصول إليها في أي وقت دون الحاجة للدخول في تعقيدات الخوادم وإعداداتها المُختلفة(5)، وتلك خدّمة حقّقت انتشارًا لا بأس به بين أوساط المُستخدمين قبل إغلاقها، ودفعت غوغل فيما بعدُ للعمل على "فايربيز" (Firebase) التي توفّر مجموعة كبيرة من الأدوات لمُطوّري التطبيقات.
وقبل الانتقال لمجال آخر يُمكن لفيسبوك أن تجد ضالّتها فيه مُستقبلًا، طوّرت الشبكة الاجتماعية مكتبة "ريآكت" (React) التي تُتيح بناء واجهات للمواقع والتطبيقات بسهولة تامّة بآلية تتماشى مع التقنيات الحديثة ومع تسارع حجم تبادل البيانات بين التطبيقات(6)، وهي مكتبة مُستخدمة من قبل شركات على غرار مايكروسوفت "آوت لوك" (Outlook) أو "غيت هاب" (Github)، إضافة إلى "يانديكس" (Yandex) الروسية(7).
الذكاء الاصطناعي
تقف خلف الخوارزميات التي تعرض آخر الأخبار والمُشاركات في فيسبوك و"إنستغرام"، مجموعة كبيرة جدًا من تقنيات التعلّم الذاتي للآلة والذكاء الاصطناعي التي تقوم بتحليل كل مُشاركة مع تحديد حجم اهتمام المُستخدم فيها؛ لتُقرّر فيما بعدُ الآلية الأمثل لعرضها أمام المُستخدم.
ما سبق يعني أن فيسبوك بإمكانها الاستفادة من تلك الخوارزميات ومن سرعة تعاملها مع البيانات الكبيرة لتقديم أدوات تُساعد في بناء تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي كمُحرّكات البحث مثلًا، فجزء كبير من نشاط غوغل كان في يوم من الأيام قائمًا على هذا النوع من التقنيات التي تسمح بأرشفة مواقع الإنترنت مع تسهيل الوصول إليها داخل مُحرّك بحث الشركة الأقوى بلا مُنازع في الوقت الراهن.
تقنيات تدريب الآلة (Machine Learning Models) هي من الأمور التي يُمكن لفيسبوك التوجّه إليها وستبرع فيها بكل تأكيد، فهي تقنيات تقوم بإنشاء مجموعة من الأنماط لتقديمها للآلة بعد دراسة آلاف المُشاركات والوسائط. في فيسبوك، هناك أدوات تقوم بقراءة الرسائل المُتبادلة داخل تطبيق مسنجر، على سبيل المثال لا الحصر، وتُحاول العثور على نمط يتكرّر للتعلّم منه، كتحليل الإجابات على سؤال كيف حالك؟ (How are you?)، بعدها ستُصبح الآلة قادرة على مُحاكاة الإنسان والإجابة على هذا السؤال بأكثر من طريقة.
لأمر نفسه يُمكن تطبيقه على الصور ومقاطع الفيديو، فتلك الأدوات ستقوم بتحليل الصور للتعرّف على الموجود فيها. وبفضل نظام التعليقات والوصف أسفل الوسائط في "إنستغرام"، ستقوم الآلة بالربط فيما بينها لتُصبح بذلك قادرة على التفرقة بين العناصر المُختلفة.
تلك الفرضيات النظرية المذكورة أعلاه موجودة كتطبيقات على أرض الواقع في حقيقة الأمر، وداخل فيسبوك أيضًا، فتحليل الرسائل داخل تطبيق مسنجر هو أمر قامت به فيسبوك وطوّرت -بناءً عليه- مُساعدًا رقميًّا يُعرف باسم "إم" (M)(8). كما قامت في وقت من الأوقات بتجربة نظام للمحادثة يعتمد على البرمجيات الذكية فقط، لتتفاجأ بأن الحوار الذي يجري بين الخوارزميتين تطوّر فيما بعد ونتجت عنه مُصطلحات تفهمها الآلة فقط، أسوة بالاختصارات في المحادثات التي يقوم الإنسان بها.
وبما أن الحي أبقى من الميّت، فإن أي شخص على معرفة بسيطة بأدوات المُطوّرين الموجودة داخل المُتصفّحات، بإمكانه فتح موقع "إنستغرام" والتوجّه لأي صورة أو مقطع فيديو ومن ثم فتح أدوات المُطوّر وسيتفاجأ بوجود وصف تقوم الخوارزميات بوضعه لكل صورة، وصف يُحلّل كل عنصر موجود بداخلها، وهذا يُظهر وجود أدوات تتدرّب بشكل آلي وحيّ لمعرفة محتويات الصور التي ينشرها المُستخدمون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن شركة "آي بي إم" (IBM) العريقة، التي كانت في يوم من الأيام مُتخصّصة في مجال تطوير الحواسيب، توفّر في الوقت الراهن قواعد بيانات تحتوي على ملايين الصور تقوم ببيعها للشركات الراغبة بتدريب خوارزميات الرؤية الحاسوبية الخاصّة بها(9)، وهذا يُمهّد طريق فيسبوك لحقبة ما بعد الشبكة الاجتماعية، لو وصلت إليها.
البناء رقم 8
من يُشاهد مؤتمر فيسبوك السنوي، "إف 8" (F8)، الخاص بالمُطوّرين يعي تمامًا أهمّية البناء رقم 8 (Building 8) بالنسبة لشركة فيسبوك، ففيه تجري عمليات الأبحاث والتطوير على مجموعة كبيرة من التقنيات والأجهزة، والتي كان آخرها جهاز "بورتال" (Portal) الذي يعمل كمُساعد رقمي داخل المنازل.
في "إف 8" لا توجد حدود للخيال بالنسبة للشركة التي تمتلك موارد مالية كبيرة جدًا، وهي تقوم بمجموعة كبيرة من الأبحاث على صعيد التقنية، والإنسان، والحشرات، وأي شيء آخر يُمكن أن يُسهم في تطوير الحياة البشرية في المُستقبل القريب والبعيد.
في عام 2017 كشفت الشركة عن مشروعين حالمين، الأول يُساعد على قراءة النبضات الكهربائية داخل دماغ الإنسان دون الحاجة لزرع أي جهاز في الجُمجمة، والثاني يُساعد على نقل الصوت عن طريق الجلد(10). تطمح فيسبوك من خلال المشروع الأول إلى مُساعدة الأشخاص للتحكّم بالحواسيب عن طريق التفكير فقط، دون الحاجة لتحريك أي شيء، فالنبضات داخل دماغ الإنسان تتحرّك باتجاهات مُختلفة على حسب العمل الذي يرغب القيام به، كتحريك الشفاه، أو تحريك اليدين، أو حتى التفكير بقول نعم أو لا، وتلك أمور تسعى فيسبوك لفك طلاسمها لتحويلها فيما بعد لأوامر يتم إدخالها لأي جهاز ذكي أو حاسب أمام المُستخدم.
الكلام السابق يعني أن الشخص وعند ظهور رسالة له على الشاشة بإمكانه التفكير بقبولها أو برفضها، ليقوم النظام بالضغط على الزر المُناسب. أما المشروع الثاني، نقل الصوت عن طريق الجلد، فهو يُساعد على تخليص المُستخدمين من ضرورة شراء سمّاعات، وهو مفيد أيضًا لفاقدي حاسّة السمع، فاهتزازات الصوت ستنتقل للدماغ عبر الجلد دون المرور بتلافيف الأذن المُختلفة.
الحشرات لم تسلم من أبحاث فيسبوك أيضًا، فهي تقوم الآن بمحاولة التحكّم فيها عن بُعد عن طريق تثبيت جهاز صغير مُتّصل بنهاياتها الحسيّة الرئيسة كتلك المسؤولة عن تحريك الأرجل أو الأجنحة، وبالتالي يُمكن إعطاء أمر يُحفّز تلك النهايات لتحريك الجزء المطلوب، وعوضًا عن بناء روبوت صغير بحجم الذبابة، يُمكن الاستفادة من الحشرات الحالية الحيّة للقيام بوظائف مُختلفة(11).
يُمثّل الكلام السابق حقائق موجودة على أرض الواقع ومُثبّتة باستثناء انتهاء فيسبوك وشبكتها الاجتماعية، فهذه فرضية بحتة لن تحدث بين ليلة وضحاها؛ لأن تفكيك كيان فيسبوك شبه مُستحيل مع الأسف.