التعليم عن بعد تاريخيا.
التعليم "عن بعد " هو ظاهرة تعليمية قديمة جدا، كانت أولا "على بعد "، لما كانت وسائل الاتصال والنقل غير فعالة كما هي عليه الآن، والأخبار الواردة والرسائل تحتاج أيام، وأيام لتصل إن وصلت! وكثرة المعيقات: من قطاع طرق، وحروب وأوبئة...
وعلى سبيل المثل لا الحصر نذكر من علمائنا الأجلاء المغاربة من سافروا طلبا للعلم على بعد: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن داود الصنهاجي، والعلامة القاضي عياض، وابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية...
ابتداءا من القرن الثامن عشر، عند تطور وسائل النقل، و تبني الدول الخدمات البريدية كرافد مهم وفعال في التنمية والتطور لا محيد عنه، بدأت تظهر مدارس تقدم خدمة التعليم عن بعد للراغبين في تعميق دراستهم. او لكسب مهارات غير متوفرة مكان إقامتهم، ما فتئتْ أن تنامت بتطور وسائل الاتصال وسرعة وسائل النقل، لتصل ذروتها مع سيادة الأنترنيت.. وترسخ أيضا قي قرار النخبة المتعطشة للتعلم جدوى، ونجاعة التعليم عن بعد كخيار لتوسيع أفاق معارفهم.
المغرب لم يكن بعيداً عن الحدث، فقد عرف وجود مدارس غربية تلبي الحاجة؛ و خلال ثمانينات القرن الماضي شخصيا، وقفت على نشاط مركز تكوين مهني بالرباط وهو يزود الراغبين في تتبع تعلم تقني في الاليكترونات مقابل أجر بسيط في حدود 40 درهما للمجزوءة.
هذا النسق من التعليم لم يندمج كليا مع المنظومة التعليمة، ولم تهضمه، ولم تتقبله الدول جلها حتى شواهده النهائية، ربما لخروجه عن سيطرتها عليه وعلى برامجه، وبيداغوجيته، ورغم ذلك.. ظل صامدا، فارضا وجوده في سوق التعليم الحر.
لماذا؟
لأنه بكل بساطة، الفئة الناشدة خدماته، فئةٌ ناضجة، تواقة للتعلم وراغبة في توسيع مداركها من تلقاء نفسها، لا تعير اهتماما للشواهد بقدر ما تهتم بالمعرفة والتوسع في الميدان الذي تنشط فيه، وتحاول تتبع مستجداته، وكثيرها يكون في الغالب من المهندسين، والأطباء والمصممين والتقنيين...إلخ
التعليم زمن الكورونا.
مع جائحة كورونا، وسرعة انتشارها في الأوساط المغلقَة، صار التعليم مستحيلا، فسارع المغرب في تبني التعليم عن بعد، منتهجا الخطة الفرنسية بحذافرها دون التفكير في تبني برتكول يتوافق والخصائص المغربية...ويراعي للفروق الشاسعة بين البنى التحتية و الحالة الاجتماعية والاقتصادية البينة بين الدولة الفرنسية والمغربية... ظنا منه أن ما نجح في الشمال، ينجح في الجنوب، أو ربما وهذا هو الأرجح لقصور الفكر الخلاق عند المغاربة لإيجاد صيغة ملائمة وبيئتنا، أو مخافة تبني برنامج يفشل اخيرأ، والفشل وزر لا يحتمل!
فعلا.. بعد شهرين بدأت وسائل الاتصال الفرنسية تنقل تذمر الآباء وأولياء الأمور، وحتى الهيئة التعليمية، وقبل هذا التاريخ بدأت بوادر فشل تظهر عندنا نحن، بل بمجرد انخراط المغاربة في هذه التجربة تنبأ كل ذي تصور لمسارات العمليات البيداغوجية بأنا لن نكون موفقين!
نعم..! كيف يكتب لنا النجاح؟ وجل أطرنا أمية، بالكأد بدأت تفك شفرة التعامل مع الحواسيب واللوحات الاليكترونية، ولا دراية لها باستغلال وسائط الاتصال استغلالا احترافيا لبث المعرفة والتواصل لنقل رسالة تعليمية محضة كهدف. والسواد الأعظم من أطفالنا لا يملكون وسيلة تقنية تضمن مرور الرسالة البيداغوجية، واستقبالها؛ مع تدني الصبيب وانعدامه كليا في مناطق كثيرة من البلاد .
والأهم ... غياب تلك الرغبة القدسية في المعرفة، وتلك الذبالة الواقدة في الأعماق التواقة لزيت العلم عند معظم اطفالنا، وأيفاعنا؛ كما هي قارة في نفوس البالغين والناضجين فكريا.
إنا بالكاد نسيطر على الطلبة والأطفال بالترسانات البيداغوجية والتنظيمية داخل الحجرات الدراسية، فكيف؟ وهم بعيدون عنا، وعن كل مراقبة وتتبع، دون أن ننسى أن هناك فئات ليست باليسيرة خارجة عن مراقبة حتى عن الوالدين ـ الأم والأب ـ كليهما، الغائبين التزاما بعملهما.
تقييم للمرحلة الأولى.
رغم هذه العوائق انخرطت الهيئات التعليمية المغربية، كل وحسب اختصاصها لإنجاح تجربة التعليم عن بعد، ولتفادي المحظور، توقف الدراسة والقبول بسنة بيضاء.
فصار التلاميذ يتواصلون مع معلميهم عبر الواتساب، لمتابعة الدروس، وشرع أساتذة من تلقاء أنفسهم ينشرون الدروس يوميا على اليوتوب، وتجندت الإذاعات وصارت صرحا ناقلا للمعرفة كما هي مسطرة، ومقررة في المدارس الابتدائية والثانوية.
التجربة رغم ما لها وعليها لا يحكم عليها بالفشل، أو النجاح ما دام لم يصدر أي تقييم عددي وتربوي للأطفال من خلال روائز، أو تمارين، ويقيني أنها لم تكن ناجحة وللأسباب التالية:
• لم ينخرط الكل في العملية قلبا وقالبا ظنا منهم أن الجائحة لن تأخذ إلا كذا ايام، ويعود الحال إلى اصله.
• افتقار البلد إلى بنى تحتية، تسهل مرور الرسالة التربوية على أحسن وجه.
• اعتماد منصة الواتساب كوسيلة وعبر سمارتفون، أو أيفون خطة قاصرة لصغر الشاشة، وقلة الاختيارات التي لا يوفرها إلا الحاسوب.
• جهْل رجال التربية بعالم الانترنيت، وما يمكن أن يقدمه من تسهيلات خدمة للعملية التربية، مثلا: ( outlook 365 et les classes virtuelles )، والذي سبق وأهدت الوزارة ـ سبعة سنوات خلت أو أكثرـ كل معلم حسابا للولوج لهذه الخدمة ... ولكن ويا للأسف لم يتفاعل ويتعرف عليها إلا فئة قليلة جدا... جدا.
التعليم الحضوري في زمن الجائحة.
مما لا شك ان للتعليم الحضوري حسنات لا تحصى، على مستوى المعرفي والوجداني، والقسم كبيئة له دور في نحت شخصية المتعلم وصقلها لتكون وفق الأنموذج المماثل للمجتمع، وفضاء مساعدا على تسهيل نقل المعرفة والتعلم بيسر مما هو عليه خارجه، فأجواؤه اجواء محفزة تخلق جوا تنافسيا يبث الرغبة في التعلم والمحاكات.
إنا إن تمادينا في تبني التعلم عن بعد سنخسر رهان التعلم، أكثر مما نحن عليه الآن ، لاستحالة وجود ضامن أو مرجعية سابقة كمقياس نعوذ بها لتصحيح مسارتنا واختياراتنا. فالعودة إلى التعليم العادي أحمد وأكثر إلحاحا.
كيف ذلك إذن، ونحن نعلم أن حتى التفكير في المشروع قبل تنفيذه يعد مخاطرة قاتلة؟
المعروف أن الاحتكاك والعمل عن قرب هو العامل الفعال في نقل العدوى، والمدرسة وسط موبوء معروف عنه أنه ناقل لكل الأمراض المعدية بين روادها، والعاملون بها أكثر من يتغيبون نتيجة نزلات البرد ولزكام!
فكيف نحل مشكلة التقارب، وخلق وسط إلى حد ما صحي، سليم في انتظار أن تتغير خريطة جينات فيروس كورونا فيتحول إلى واحد ظريف من خلال طفرة من يد ربانية،؟ او في انتظار لقاح واق.؟
نعلم جميعا أن مدارسنا مكتظة، معدل الملء فيها يلامس أربعين تلميذا، يجبر الإدارة التربوية على أن تضع تلميذين على كل طاولة، وضعٌ يسهل العدوى مئة في المئة.
إذن من اللازم انزال العدد إلى النصف... ليصير لكل تلميذ مقعد واحد، وبعيد عن رفيقه بما يقارب مترا، مع نوافذ مفتوحة عن آخرها.
الأمر سهل جدا يكفي التخلي عن كل المواد الثانوية والاحتفاظ بالمواد الأساس... ولا يحضر في الصباح إلا النصف قي حين يأتي النصف الثاني مساء،...
مثلا المستوى الأول نبقي على الرياضيات والقراءة والخط، والحصص الاخرى الخاصة بالتربية الفنية والقرآن والتربية الاسلامية... تلغى إلى أن يدحر الوباء...
نفس الاستراتيجية تخصص للمستوى الثاني... مع إسناد للمعلمين اختيار نصوص تعبير قصيرة جدا واخرى للقراءة في حدود ستة أسطر ولكن محتواها غني بالأساليب والتراكيب المستهدفة.
بالنسبة للأقسام العليا يستغنى أيضا على كل المواد من نشاط علمي و تربية إسلامية بكل مكوناتها، ويتم الاختصار في حصص التعبير الكتابي على تمارين بسيطة...
والتقييم يستحسن ان يكون فوريا من خلال ألواح بيضاء تمسح بالكحول...( طريقة لامارتيني)
نفس العمل يكون بالنسبة للغة الفرنسة، يركز على المهم وما يخدم الأهداف العامة، والغائية.
بالنسبة للأقسام العليا كل أساتذة التربية الاسلامية يستغلون في تدريس اللغة العربية ولا يبقى اختصاص في المواد العلمية لتوفير العنصر البشري الكافي لتغطية الحاجة إلى العنصر البشري..
وإلى جانب هذا يظل التعليم عن بعد قائما كما واكبته القنوات التلفزية، ومنصات اليوتوب.
وحتى يكتب النجاح للعملية، يجب أن يعرف التلاميذ أنهم متابعون بتقييم وتقويم لأعمالهم حتى تأخذ الأمور بجدية من قبلهم و حتى لا نضطر للقفز على الامتحانات كما مضى... فيما ظل الوباء مقيما..
هذا تصور يمكن أن يأخذ كفكرة نواة يتوسع فيها ذووا الاختصاص حتى تتبلور في شكل أفضل خدمة للحقل التربوي.