التربية و الصورة .. نحو أفق للاندماج - حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.org"إنه عصر الصورة ! "
هكذا أعلن آبل جانس عام1926 مبشرا بتحول كبير في أنماط التخاطب الاجتماعي ,وانتقال تاريخي من اللفظي إلى البصري . فمع ظهور السينما وتزايد الإقبال على المشاهدة الفيلمية ساد الاعتقاد بفعالية الصورة كأداة للمعرفة و الابداع و التواصل , بل انبرى المتحمسون الى الاعلان مبكرا عن تراجع سلطة القراءة والثقافة المكتوبة امام جاذبية الصورة المتحركة !
ومع انتشار التليفزيون منذ أربعينيات القرن الماضي تأكدت هذه الهيمنة الايقونية إذ تحول الفضاء السوسيوثقافي إلى فضاء بصري بامتياز , وأضحت الصورة فاعلا اساسيا في تشكيل وعي الانسان المعاصر .
إلا أن إدراك الاوساط الاقتصادية و السياسية  للدور الخطير الذي تلعبه الصورة في الهيمنةعلى النشاط العقلي , وتوجيه السلوك وإكساب عادات جديدة سيحول هذا الفضاء إلى ساحة معركة ومضمار للتسابق نحو استباحة العقول وتدجين الوعي , وحصر النشاط الانساني في الاستهلاك و التقليد وعبادة الصورة ! 
فتنامت المخاوف من مخاطر الادمان على مشاهدة الصور المتحركة وما يترتب على ذلك من هدر للوقت و الجهد و الطاقة الانسانية ,وبث عوالم خيالية تفصل المرء عن معيشه وواقعه ,وتمنحه إشباعا وهميا لرغباته وطموحاته , كما تسهم بشكل واضح في تسطيح الفكر وحصر الاهتمام بالمؤقت و الهامشي على حساب الثابت و الضروري ! , لذا ارتفعت الأصوات مطالبة  بتفعيل البعد التربوي و الانساني للصورة المتحركة .. وداعية إلى الحد من ثقافة الاستهلاك التي أضحت سمة لازمة للمنتوج البصري .

1) الصورة المتحركة..عربيا :

إن الرصد المتأني لمظاهر التحول البنيوي الذي أحدثته الصورة المتحركة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية يدفعنا إلى الجزم بأن مساحة الجرح أكبر من الطعنة ذاتها ! . فقد أحدثت الثقافة البصرية المستوردة خللا عميقا في الهوية ومنظومة القيم , وكرست قابلية مرضية للتبعية و الاستهلاك , كما مارست تخديرا جماعيا أفقد هذه المجتمعات إحساسها باللحظة التاريخية ,وضاعف من نكساتها إذ تحولت إلى "قمامة للصور" ومستودع للمنتوج البصري الرديء أو منتهي الصلاحية !.
لقد أسهمت معضلة الأمية , والتربية الأسرية المعيبة , بالإضافة إلى الانبهار الشديد بمظاهر الحضارة الغربية  في تدعيم هيمنة الصورة المستوردة على الوعي و السلوك حتى صار الراشد قبل الطفل يُسلم بأن المعرفة البصرية حقيقة يقينية لا يرقى إليها الشك !. ورغم تعدد محاولات التحسيس بسلبيات إدمان الصورة و الدعوة إلى مساءلة المنتوج البصري وترشيد استهلاكه إلا أن التعامل بجدية مع هذه التحذيرات  سيتحقق ,ولو جزئيا, بعد الاقبال الكبير على منتجات الثورة الرقمية , وما خلفه من انحرافات خطيرة كتنامي السلوك الاجرامي , وشيوع ثقافة الكسل , وتراجع الحس الوطني , وانهيار البعد الأخلاقي ..

2) الصورة المتحركة.. في المشهد التربوي :

   لا بد من الاعتراف أولا بكون المنتوج البصري  المتداول حاليا وبشكل واسع من لدن الأطفال هو رافد    من روافد الغزو الثقافي الذي يسعى  إلى سلخ الطفل عن هويته وقيمه , وتكبيل حريته و شل قدرته على     التفكير الحروالابداع للإبقاء عليه دوما في خانة التبعية و الاستهلاك . فالراصد للمنتوج الموجه للطفل يلمح الحيز الكبير الذي تشغله الأعمال الأجنبية المترجمة " رسوم متحركة, برامج وثائقية, ألعاب الفيديو..." مما يدفعنا إلى التساؤل حول غياب إنتاج عربي في هذا المجال الحيوي الذي يلعب دورا خطيرا في التنشئة الاجتماعية لرجال الغد !
فإقبال الطفل على التفاعل الملفت مع الصورة المتحركة مرده بالأساس إلى جاذبية المعرفة الحسية التي تقدمها ,وسدها للفراغ النفسي الذي يخلفه قصور التربية المنزلية , والمناهج الدراسية بالإضافة إلى إجادة  الصورة المستوردة لفنون الاستمالة و الإقناع و الإبهار في سيطرتها على مدارك الطفل, ودفعه لاستبدال واقعه بعوالم من الخيال تحقق له متعا إدراكية ووجدانية , وتمنحه إشباعا بديلا في أفق تخديره !
لذا صار لزاما إرساء ثقافة بصرية بديلة , تحقق للطفل تنشئة اجتماعية سليمة , وتحصنه ضد عوامل التذويب و الاستلاب الحضاريين.

3) إكراهات وآفاق ..

إن استيعاب جاذبية الصورة المتحركة , ومقدرتها الإقناعية  في العملية التعليمية هو السبيل الأمثل
للتخفيف من آثارها الجانبية . إلا أن مجموعة من الاكراهات تنتصب حائلة دون تحقق هذه الغاية بالشكل المطلوب , ولعل ابرزها :

* استمرار هيمنة اللفظي و المكتوب في البرامج و المقررات الدراسية على حساب البصري .
* غياب توجيه أسري فيما يتعلق بتعامل الطفل مع المنتوج البصري مما يهيء له مناخا أمثل لتبني الاتجاهات السلبية وتشرب القيم و الرؤى الدخيلة .
* سيادة البعد الاستهلاكي في منتوجنا العربي وتنصله من مهمة تشكيل وعي بصري و الاسهام في التأسيس لفن قراءة الصورة مما زكى شرعية  الاقبال على المنتوج الأجنبي .
* محدودية الدعم المادي للمبادرات و المشاريع الرامية لاحتواء الصورة المتحركة في المنظومةالتربوية
* ندرة البحوث التربوية المهتمة بثقافة الصورة وميل المتوفر منها إلى التركيز على الآثار السلبية بدل الاهتمام ببلورة تصور متكامل لإدماجها بشكل فعال في خدمة المشروع المجتمعي ككل .

لكن بالرغم من هذه الإكراهات تجدر الإشارة إلى النزوع الملحوظ  و المتنامي نحو تجاوزعتبة التلقين الخطي , وتمكين المتعلم من آليات إنتاج المعرفة البصرية.
 ولعل  أهم المبادرات في هذا الصدد تلك المتمثلة في خلق أندية سينمائية بالمؤسسات التعليمية ,وإحداث التلفزة التفاعلية , واحتضان مؤسسات التربية و التكوين  لتظاهرات " بصرية" كالفيلم التربوي..

 4) على سبيل الختم :

ان الحضور  الجارف للصورة في مجتمعاتنا ,واقتحامها لكل مجالات الحياة اليومية ,وسعيها لإشاعة فكر قائم , للأسف, على المحاكاة و التقليد و النسخ المشوه يحتم الإسراع ببلورة  مشروع تربوي متكامل , يوازن بين الاندماج في مجتمع المعرفة الحديث و شرط الحفاظ على الهوية و القيم و الثوابت لتمكين ناشئتنا من التفاعل الإيجابي مع .. حضارة الصورة !

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟