1- مقدمـــة
راهنت المدرسة الحديثة على التخلص من أردية الشحن والتلقين والإلقاء، لتؤكد على مركزية المتعلم وإيجابيته في الموقف التدريسي، نابذة الممارسات التربوية التقليدية التي كان المدرس يحتل فيها قطب الرحى في العملية التعلمية، تخطيطا وإلقاء، تقويما وهندسة لعدته، صار التعلم هنا يعتمد على البحث والاستقصاء والاكتشاف، (لا يركز على الحفظ والتلقين وإنما على تنمية التفكير والقدرة على حل المشكلات وعلى العمل الجماعي والتعلم التعاوني)[1].
فتفعيل المتعلم يتم من خلال تجاوز مرحلة التلقي السلبي ومجرد الاستهلاك نحو تنمية التفكير الإبداعي لديه، وجعله شريكا وبانيا للدرس عبر توفير الشروط الكفيلة بذلك. ولا تتأتى هذه المشاركة إلا من خلال إعداد قبلي من المتعلم وبواسطة تشغيله.
ولعلنا حين الحديث عن مرحلة الإعداد القبلي نلفي أنفسنا أمام موقفين مختلفين ، أحدهما يؤكد على أهميتها ومفصليتها في بناء الدرس، أما وجهة النظر الثانية فتذهب إلى لا جدوى ذلك خصوصا في مكون القراءة ومع تبني القراءة المنهجية ، مادمنا نتحدث عن توقع المعنى وفرضيات القراءة اللتين تنطلقان من كون القارئ يصطدم لأول وهلة بالنص، وينسج معه علاقات تقبل، ودهشة لا تتأتى والتحضير القبلي للدرس. فيما يذهب رأي ثالث، وهو المتعلق بالآباء والتلاميذ، إلى اعتباره عبئا إضافيا يثقل كاهل المتعلم ويقيد حريته، فضلا عن كثرة المواد المطلوب منه إعدادها. فيستحيل الواجب المنزلي إلى عقوبة يؤديها المتعلم دون رغبة منه أو تفاعل.
تأسيسا على ما سبق، تتبلور أمامنا إشكالية مؤداها كيف يتم الاضطلاع بالإعداد القبلي حتى يخدم الدرس ويستحث عقول المتعلمين ويحفزهم على التفكير والتأمل والتعلم الذاتي؟ وما هي الإستراتيجية القمينة بجعلهم شركاء في الموقف التعليمي، يشاركون بحرية ووعي وإيجابية انطلاقا مما أنجزوه من إعداد قبلي؟؟
يتفرع هذان السؤالان إلى مجموعة أسئلة فرعية: ما هو الإعداد القبلي؟؟ ما هي وظيفته؟؟ وما هي الأخلال التي يعاني منها اليوم داخل فصولنا الدراسية؟؟
2- مفهوم الإعـــــــــــداد القبلــــــي
الإعداد القبلي أو الواجب المنزلي هو مجموعة من الأنشطة والإجراءات التي يكلف بها المدرس تلامذته تهييئا للدرس الجديد، وتحفيزا لهم على المشاركة في بنائه. إنه (إستراتيجية قبلية للتعلم الذاتي من خلال أنشطة منزلية... تحفز ذات التلميذ الفاعلة على البحث والاكتشاف والاشتغال في موضوع المعرفة، فيحصل التفاعل بين الذات الفاعلة للتعلم وموضوع التعلم. فيكتسب بذلك معارف ومواقف ومهارات تؤهله للانخراط في سيرورة الفعل التعليمي/ التعلمي داخل الفصل وخارجه[1])، والإعداد القبلي وسيلة من وسائل تفريد التعلم إذ يتركز على احترام فوارق المتعلمين وخصوصياتهم. فالفصل الدراسي ليس منسجما، بل مجموعة من العضويات المختلفة، تتمايز قدراتها ومؤهلاتها وكفاءاتها الإدراكية تماشيا مع المقاربات الحديثة التي استدلت على هذه الاختلافات والتمايزات نذكر من بينها ذكاءات كاردنر المتعددة، نظريات التعلم الحديثة، فارقية التعلم وغيرها.
وبالمدرسة المغربية يستمد الإعداد القبلي مشروعيته من مجموعة من المرجعيات أهمها ميثاق التربية والتكوين خصوصا في المادة السادسة منه حيث يؤكد على أن الإصلاح ينطلق من (جعل المتعلم بوجه عام، والطفل على الأخص في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية، وذلك بتوفير الشروط وفتح السبل أمام أطفال المغرب ليصقلوا ملكاتهم، ويكونون متفتحين، مؤهلين وقادرين على التعلم مدى الحياة)[2].
أما البرنامج الاستعجالي باعتباره نفسا جديدا للإصلاح فقد (ارتكز على مبدأ جوهري موجه يقوم على جعل المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين، وتسخير باقي الدعامات الأخرى لخدمته)[3].
في حين يؤكد منهاج اللغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي في أسسه التربوية على أن المتعلم يشكل محورا مركزيا داخل العملية التعلمية باعتباره الغاية التي ينبغي أن تنتهي عندها الأهداف العامة المتوافق عليها اجتماعيا وتربويا ، ومن ثمة ضرورة الانتقال من التعليم إلى التعلم عبر ترسيخ مبدأ التعلم الذاتي الذي يمكن المتعلم من الوعي بمسؤوليته في العملية التعلمية انطلاقا من ثنائية تعزيز المكتسب و الحافزية الذاتية لتحصيل المستجد[4].
ولعل الناظر في الأدبيات التربوية التي اهتمت بعملية الإعداد القبلي سيفاجأ بندرة البحوث وقلتها باستثناء الدراسة التي أعدها الباحث محمد بن عبد الوهاب تحت عنوان : " الإعداد القبلي للمتعلم،دعم لشروط التعلم الذاتي،الصادرة عن إفريقيا الشرق سنة 2004 ، فضلا عن بعض الإشارات المتفرقة في بعض المراجع الأخرى .
3- الأخلال التي تعترض الإعداد القبلي
شفت معاينتي خلال الزيارات الصفية الأخيرة عن مجموعة من الاختلالات التي تشوب الإعداد القبلي، ذلك أن أغلب المدرسين ينتهجون في عملية إعداد الدرس نمطا خطيا واحدا مكروراً، لا يسمح بإبراز ذكاءات المتعلمين ولا يحترم خصوصياتهم وحاجياتهم، إذ يتم الاستناد غالبا على الأسئلة المدونة بالكتب المدرسية خصوصا فيما يتعلق بأسئلة القواعد والتطبيقات، أما النصوص القرائية فيتم إعداد أسئلة تستجلي عتبات النص وخارجياته والتقاط فرضيات لقراءة المعنى، وفي أحسن الأحوال تستهدف استخراج الفكرة العامة أو القضايا المتناولة، فيصير الدرس داخل الفصل رتيبا، مجرد استنتاج لما تم إنجازه خارج الفصل، عديم الحياة، يثبط عزيمة المتعلم ويدفعه أحيانا إلى اللجوء إلى كراسات سابقيه.
وهكذا صار الإعداد القبلي عبئا إضافيا على كاهل التلميذ، ومبعث شكوى من الآباء وأولياء الأمور، أما جل المدرسين فيرون فيه مضيعة للوقت مما يستدعي وقفة حقيقية وتفكيرا عميقا في سبل الاضطلاع بتجويده وإيجاد صيغ كفيلة بجعله عاملا أساسيا في بزوغ ذات المتعلم، ودفعه للانخراط في بناء تمفصلات الدرس، والانفتاح من ثمة على محيطه وواقعه، بشكل يجعل كل تعلماته ذات دلالة بالنسبة إليه. سعيا نحو جعل المتعلم مركز الاهتمام. فتتغير بذلك (وظائف المدرسة من مدرسة التلقين والتلمذة السلبية، وبيداغوجيا التخزين والشحن والإلقاء والعرض والاستظهار، إلى مدرسة البناء والتفاعل والتنشيط والمشاركة، والانفتاح على الذات والمحيط القريب والبعيد، والغاية من ذلك أن المعرفة المدرسية لها نفعيتها الخاصة بالنسبة للمتعلم ونفعيتها العامة بالنسبة للمجتمع[5]).
4- وظيفة الإعــــــــداد القبلي
يمكن رصد مجموعة من الوظائف التي يضطلع بها الإعداد القبلي، من ذلك:
-إثارة ذخيرة المتعلمين، وحفز تمثلاتهم لاستقبال الدرس الجديد وتهييئهم للمشاركة والانخراط في بنائه.
_تمهير المتعلمين وتدريبهم على مهارات البحث والاكتشاف وتربيتهم على الاختيار من خلال تكليفهم بمهام سواء فرديا أو في مجموعات. فضلا عن إشاعة روح المسؤولية وتنمية الشعور بالاستقلالية.
-حفز المتعلمين على التأمل في أفكارهم ومكتسباتهم وقياس درجة نجاعتها عبر التقويم الذاتي.
_فسح المجال أمام المتعلم لتعبئة موارده ومعارفه واستثارتها لمواجهة الوضعيات التعلمية المستجدة حتى يستطيع تطبيق ما تعلمه ونقله إلى الواقع المعيش.
_تشجيعه على المبادرة واتخاذ القرار بدل الانكفاء على ذاته والاقتصار على التلقي وشحن الذهن بمعارف جامدة بعيدة عن محيطه، لا تثير فيه سوى مزيد من السخط وتثبيط العزيمة.
-حفزه على التعلم الذاتي وشحذ همته لتتجه نحو الاستكشاف والملاحظة والاستقصاء.
وهذه الأهداف تبقى غير ناجعة ما لم يُراع المدرس عند وضع أسئلة الإعداد القبلي الفوارق بين المتعلمين مستهدفا تلبية حاجاتهم معرفيا ووجدانيا وحس حركيا لذلك ينبغي (تفريد العمل التربوي وإعطاؤه في صيغة وصفات فردية تناسب خصائص كل فئة من التلاميذ داخل القسم)[6].
ومن المواصفات التي ينبغي احترامها عند تهيئ أسئلة الإعداد القبلي أن تكون واضحة مختصرة، متنوعة، تتدرج من السهل إلى الصعب، مناسبة لمستوى المتعلمين، محفزة لعقولهم، مستثيرة جوانب الفضول عندهم، مبتعدة ما أمكن عما تحتويه الكتب المدرسية مراهنة على أنشطة التدريب والتمهير، والتعبير الشخصي درءاً لكل لجوء إلى إعادة القول أو استنساخ الانجازات السابقة التي تحبل بها كراسات التلاميذ القدامى (انظر الإعداد القبلي للمتعلم، محمد بن عبد الوهاب،2004،ص:40_41)
5- نحو إستراتيجية بديلة لبناء إعداد قبلي فعال
مادامت المقاربات التربوية الحديثة تتبنى التعلم الذاتي والنشط، وتبوئ المتعلم مكانة كبرى جاعلة منه مركز العملية التعليمية، فإن على المدرس أن يفسح المجال لمتعلميه كي يبزغوا، وينخرطوا في بناء تعلماتهم، ينبغي عليه أن يضعهم أمام وضعيات/ مسائل تستفزهم وتخلخل أفق انتظاراتهم، لها ارتباط بواقعهم، وبمعيشتهم منتصرا لنهج التعاقد والتفاوض وذلك بإقناعهم بالوعي بمهنتهم بتعبير روجرز، وضرورة التعلم بشكل مغاير يجعل منهم شركاء نشيطين ومبدعين.
ومن الاقتراحات في هذا الصدد، أسوق مجموعة من الأنشطة:
-وضعهم أمام مشكلات حقيقية تحيل على الواقع
-إنجاز مقابلات واستجوابات حول ظواهر معينة
-القيام بأبحاث ميدانية
-جمع ملفات ووثائق لها علاقة بالدرس.
-تشخيص الأدوار عبر محاكاة وضعيات عايشها المتعلم أو عاينها، وذات صلة بالمجال الدراسي أو الموقف التعليمي.
-التعلم في إطار مجموعة عمل
-التدريب على مهارات معينة (التقرير، التلخيص، كتابة رسالة، المقارنة...)
أما تحفيز المتعلم في مكون القراءة فعادة ما يعتمد على إجراءات نذكر من بينها:
-تقديم لغز وتقسيم المتعلمين إلى مجموعات مصغرة لاقتراح حلول أولية لهذا اللغز[7].
-توزيع صور ومطالبة المتعلمين بالتعليق عليها، وإبراز مكوناتها مع الوقوف عند دلالة الألوان...
-اعتماد شبكة عند تفكيك العنوان
العنوان
طبيعته بنيته التركيبية بنيته المعجمية الدلالة علاقته بالنص تجسيد مشهد معين؛
-تحويل نص من نمط إلى آخر؛
-ملء الفراغ أو ترتيب فقرات؛
-إنجاز حوار مع خبرات؛
-اقتراح مشاريع شخصية للمتعلمين؛
-اعتماد جدول في الشرح اللغوي يلقي الضوء على الكلمات المفاتيح.
الكلمة طبيعتها المجال الذي تنتمي إليه مرادفها الضد الاشتقاق التركيب في جمل
-اعتماد شبكات للقراءة؛
-اعتماد بطاقات خصوصا عند الحديث عن الكاتب، مصدر النص؛
-تحديد مقاطع النصوص والتدليل على مؤشرات ذلك، وتحديد العلاقات بين الفقر من خلال جدول واصف.
وفي الدرس اللغوي، تكتسي التمارين البنيوية أهمية كبرى، في تشغيل المتعلمين وتحميسهم، وإكسابهم القدرة على التعبير الشفهي اعتمادا على تقنيات كثيرة لعل أهمها تقنية التكرار، الاستبدال، التحويل، تقنية السؤال.
6 خلاصـــة وتركيب
الإعداد القبلي مرحلة مفصلية لبناء الدرس، وإستراتيجية حقيقية للتعلم الذاتي تنظر إلى المتعلم كذات حرة مسؤولة، مبادرة متحمسة للتعلم، ومستمتعة به. وكل عملية تربوية تنزع إلى التمركز حول المتعلم، تطمح حتما إلى أن تكون فارقية، متنوعة، ومخططا لها بدقة ووضوح.
هوامش الدراسة
1-تنويع التدريس في الفصل-دليل المعلم لتحسين طرق التعليم والتعلم في مدارس الوطن العربي. مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية-بيروت، مجموعة من الباحثين، 2008م.
2_الإعداد القبلي للمتعلم،دعم لشروط التعلم الذاتي،محمد بن عبد الوهاب ،افريقيا الشرق ،2004 ، ص 18
3_الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المادة 6، ص 10.
4_التقرير التركيبي للبرنامج الاستعجالي 2009-2012، ص 7.
5-البرامج والتوجيهات التربوية الخاصة بمادة اللغة العربية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، ص 10.
6_الدليل البيداغوجي للتعليم الابتدائي،وزارة التربية الوطنية، إصدار 12 دجنبر 2008، ص 9.
7_تحضير الدرس وتخطيط عمليات التعليم والتعلم، عبد اللطيف الفارابي، ص 110
8-تدريس القراءة الكفايات والاستراتيجيات –دليل عملي- عبد اللطيف الجابري وآخرون، ص 30.
الإعداد القبلي مدخل من مداخل التعلم الذاتي - إسماعيل بنهنية
أدوات
شكل العرض
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- نسخ كوفي مدى عارف مرزا
- شكل القراءة