" كل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته"[1]
ترتقي التربية بالانسان الى المراتب المعرفية والأنطولوجية العليا وتنمي استعداده الى الصلاح فتدفعه للابتعاد عن الشر والرذيلة واتيان العمل الخير والفضيلة، وتفلح التربية الجسم والنفس على السواء وتظهر ثمرتها في تحرير العقول من الجهل وتحمل الانسان مسؤولية الائتمان وتحتاج التربية الى التعليم والتمرن والاحتذاء والأسوة والقدوة والمحاكاة والاقتباس. وتتكون التربية من أصول وفروع ومن وسائل ومضامين ومقاصد ويلعب المربون دورا مركزيا في التربية وذلك لأنهم من يقود السفينة ومن يقدر على اخراج المتعلمين من بحر الظلمات الى شاطئ النور ومن موجات الشك والحيرة الى الأرض الصلبة للمعرفة واليقين.
كما تحتاج التربية الى العلوم والأديان والأخلاق الحميدة والشيم الاجتماعية والسياسات الشرعية الصالحة وتشترط تهيئة الظروف الاجتماعية ومواكبة المرء من زمن الطفولة الى زمن البلوغ والكهولة وتطلب العون من القوانين من أجل تنقية الأجواء في الحياة المدرسية ولا تكتفي بتربية الأسرة لأبنائها وتربية المجتمع للأفراد الذين يكونونه وإنما تنادي بأن يربي كل شخص نفسه بنفسه مهما كانت البيئة التي يعيش فيها معاكسة لشروط المناخ الملائم.
غير أن الاستبداد حينما يحل بالبلاد يورث السقم والفساد ويحول وجهة التربية من اصلاح وتهذيب الانسان الى طاعة السلطان وخدمة الأعيان ويفرض التعليم من مضمونه الأخلاقي ويبدل رسالة العلم من حسن التصرف في الكون والعمل بجد لغرض الاستخلاف والتعمير الى السيطرة على الطبيعة لغرض العزو والسيطرة على الانسان فيذهب السلم والتعاون ويهل النزاع والحرب والنفاق. ولذلك يشجع الاستبداد المتعلمين على الكذب والخوف واتيان الشر والعنف وينشر التكاسل والخمول ويترك الناس في حالة من الذعر والتشاؤم ويفض من قيمة المثل العليا والقيم السامية والمبادئ النبيلة ويرفع من قيمة حب المال والجاه والسلطة. ويصل حال الناس في ظل دولة الاستبداد الى حد العزوف عن مقاعد الدراسة والانقطاع المبكر عن التعليم والتوجه نحو طلب منافع الدنيا واللهث وراء مغريات الحياة الحقيرة دون تبصر أو تدبير ولا يشعرون بآلام الجهل وسذاجة آرائهم وخيبة استبدالهم النجاح بالفشل ووراثتهم التعاسة عوض السعادة. ربما خير مثال على ذلك هو أن" المعيشة في الادارات المستبدة فهي غنية عن التربية لأنها محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية"[2]. كما أن البعض من مفسدي النظام الاستبدادي يعتبرون " الاعتناء بالتربية حمقا مضاعفا. " إن التربية الصحيحة غير مقصودة ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا ما قد يكون بالتخويف من شر الظالمين وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس."[3]فكيف ينعكس التخلص من الاستبداد والاحتكام الى الديمقراطية على المنهجية التربوية؟
مسؤولية التربية الجيدة هي في يد الحكومات العادلة وعلى رقبة الأنظمة الديمقراطية وذلك لأن الانسان الذي يمتلك مواطنيته وحقوقه وسطك المجتمعات الحرة والسياسات الرشيدة " يعيش في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره وعلى الفكر سواد ليله"[4]. لذلك على الدولة أن تجلب المربين والعلماء وتفتح المدارس والمعاهد وتكون الأجيال وتنور الشعب وتثقف الجماهير وتشجع على تأليف الكتب وتقدير أهل العلم والمطالعة وتعتني بالمكتبات وتوصي في التربية بالربط بين العلم والعمل وبين المعرفة والأخلاق وأن توفر الأموال اللازمة لكي يواصل الناس تعليمهم وأن تزيد من معدل الانفاق على التربية.
غير أن أهم عامل لتطوير التربية وجعلها تتحول الى شرط ضروري للترقي الاجتماعي والحضاري هو الحرية وذلك يلزم رفع الخوف عن المعلمين والمتعلمين والجهاز الاداري وأن يكون الوسط التربوي مناخا من الحريات في الاعتقاد والتفكير وإبداء الرأي والتعبير وأن تساعد الطرق والبرامج والأساليب البيداغوجية المتبعة على تنمية هذه الحريات حتى يتزود المتعلم بفائض قيمة من المواطنة ويعود الى وسطه الاجتماعي ناقدا للرأي ومهذبا للذوق. الشرط الثاني لكي يصل النظام الديمقراطي الى تربية صحيحة هو بناء التعليم على الاقناع الى جانب الحرية والترغيب والطمع واللعب وبدل الترهيب والمعاقبة والتخويف. أما الشرط الثالث الذي يذكره عبد الرحمان الكواكبي فهو التنوير وذلك بإزالة المانع الضاغط على العقول وإحداث اليقظة في الذهن بعد التخلص من الحجب والغشاوة وإماطة اللثام عن قدرات المعرفة لدى الانسان. ان الغايات التي تسعى التربية الى غرسها في الناشئة هي تعويد السان على قول الخير وتدريب اليد على المهارة والإتقان والتفاني في العمل وتكبير النفس على الصغائر والتفاهات وإعداد الوجدان لنصرة الحق وحفظ الشرف وحماية الدين والوطن وتهذيب المرء على حسن التصرف في الوقت والمال وكسب الثروة بالطرق الحلال.
أما الأصول التي تسير عليها التربية الصحيحة فهي المبادىء التالية:
- اعداد العقل للتمييز بين الحق والباطل وبين الحسن والقبيح وبين الجيد والردىء.
- الحرص على التفهيم والإقناع في كل درس ومادة
- حسن القدوة والمثال والجلوس عند الأخيار من العلماء والعودة الى أمهات الكتب.
- الاكثار من التمرين والتعويد والمثابرة والمكابدة والصبر على مشقة التعلم.
- التحلي بالجدية والمواظبة والتمادي والتعمق في البحوث والتركيز على الطرافة والابتكار.
صفوة القول أن المنهج الديمقراطي الذي يجب أن تعتمده المنظومة التربوية والذي ينبغي على الحكومة أن تحترمه هو الذي يلخصه الكواكبي في المسلكية التالية: "الحكومة المنتظمة هي التي تتولى ملاحظة تربية الأمة من حين تكون في ظهور الآباء وذلك بان تسن قوانين النكاح ثم تعتني بوجود القابلات والملقحين والأطباء ثم تفتح بيوت الأيتام اللقطاء ثم المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري الى أعلى المراتب ثم تسهل الاجتماعات وتمهد المسارح وتحمي المنتديات وتجمع المكاتب والآثار وتقيم النصب المذكرات وتضع القوانين المحافظة على الحقوق وتسهر على حفظ العادات القومية وإنما الاحساسات المالية وتقوي الآمال وتيسر الأعمال وتؤمن العاجزين عن الكسب من الموت جوعا الى أن تقوم باحتفالات جنائز ذوي الفضل على الأمة"[5]
صفوة القول أن التربية الصحيحة لا تتأسس الا اذا شعر كل عنصر في المؤسسة التربوية أن الأكمة حريصة على توفير حياة راضية له. لكن اذا كانت التربية هي ضالة الأمم وفقدانها يورث الجهل والفقر والمرض والانحطاط فما العمل من أجل اصلاح ما أفسده الاستبداد وتمكين الأجيال الحالية واللاحقة من تدارك ما فوته زمن الجدب الحضاري؟
المرجع:
عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، الطبعة الأولى، بيروت، 1984.
كاتب فلسفي
[1] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار النفائس، الطبعة الأولى، بيروت، 1984.ص.99.
[2] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص.102.
[3] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد، ص.109.
[4] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد، ص.102.
[5] عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد،ص، ص101.102.