لعل الهاجس الذي يسيطر علينا و نحن نتناول تمثلات المتعلمين باعتبارها ذات أهمية في بناء المفاهيم الفلسفية، و كذلك الطرق الكفيلة بالكشف عنها و معالجتها و تجاوزها نحو تأسيس تمثلات عالمة، سواء على مستوى بناء المفاهيم كنواة أساسية داخل الدرس الفلسفي، أو تعلق الأمر بتحقيق إقبال على الدرس الفلسفي في مرتبة متوسطة، و التمكن من تحصيل دعم للفكر الفلسفي عامة ومادة الفلسفة خاصة، هو هاجس ضمان رغبة المتعلمين في التفلسف، هذه الرغبة التي إذا ما تحصلت يكون رهاننا الذي نراهن عليه- و الذي قررناه آنفا- قد تحقق، لأن تلك الرغبة من شأنها تكسير المقاومة الشرسة التي يتحلى بها كل متعلم يلج درس الفلسفة وجعله ينخرط انخراطا فعالا في بناء المفاهيم و منها إلى بناء الدرس الفلسفي.
إذن، مرة أخرى، نعود و نؤكد على أن تمثلات المتعلمين لها أهمية لا يستهان بها في تناول أي درس فلسفي. لكن السؤال الذي نجد أنفسنا مضطرين لطرحه في هذه النقطة، هو كيف يمكن للمناولة الأفقية أن تمكننا من الكشف عن التمثلات المعيقة، و تجاوزها نحو التمثلات الارتكازية حسب تعبير ميشيل طوزي؟
انتهينا مع الطريقة الأولى إلى ما معناه أن تلك المناولة لا تمكننا من الكشف عن التمثلات، و بالأحرى معالجتها و استبدالها، بقدر ما قد تزيد من تقوية حدة المقاومة و تغذية التمثلات المعيقة، و ذلك لما في تلك الطريقة من تدعيم لما كان يعتقده المتعلم مما يجعل الباب مسدودا أمام الرهان الذي نراهن عليه. الشيء الذي يجعلنا مضطرين إلى طرق باب المناولة الثانية، أي المناولة المعتمدة على الحوار الأفقي، التشاركي، محاولين الإجابة عن السؤال الذي طرحناه قبل قليل (كيف يمكن للمناولة الأفقية أن تمكننا من الكشف عن التمثلات المعيقة و تجاوزها نحو التمثلات الارتكازية؟). في هذه النقطة لا يسعنا إلا أن نذهب إلى ما ذهـب إليه "ميشيـل طــوزي" ومن معه في كتاب Apprendre à philosopher dans les lycées d’aujourd’hui حيث يقول "نميل إذن إلى الموقف الذي يسهل سبل الانتقال من تمثل أساسي إلى تمثل أخر يكون أشد تعقيدا و أكثر دقة، عوض العمل من الخطوة الأولى على مواجهة التمثل الأصلي للتلميذ "بالفكر المكون و المكون"لكبار الفلاسفة، بحيث تكون الاستمرارية مضمونة بفضل تماسك العدد الديداكتيكية المتعاقبة التي نوظفها مع أن كل واحدة على حدة، تعمل جادة بمفردها على إقحام "قطيعة ميكروسكوبية في نسق تمثلات التلميذ. و لكن علينا دائما، ونحن نحاول أن نثبت هذا المسار الفكري في مكانه أن نحرص على تحقيق الغاية التي تعطيه معناه ألا وهي "الدراية بالتفلسف" ([1]). يتبين إذن أن معالجة التمثلات في هذه الطريقة، تنحوا منحى غير الذي رأيناه مع الطريقة الأولى ، فبدل القطع المباغت للتمثل يتم التعامل معه بشكل تدريجي، من تمثل أساسي إلى تمثل أعقد و أكثر دقة، هذا الأمر الذي يجد تبريره في كون التمثل أو التمثلات تحتوي من التعقيد و التركيب ما يمكنها من أن تكون صعبة المنال بشكل مباشر و حاسم، وإنما يستدعي تعقدها وتريبها المناولة ميكروسكوبية يتم الانتقال خلالها بين طبقات التمثل بطريقة تدريجية و حذرة، و كأنك تصعد درجا منتهاه تخليص المتعلم من التمثلات المعيقة و تأسيس تمثلات ارتكازية، من تمثلات تعيق انخراط المتعلم و مشاركته و استدماجه للمفاهيم الفلسفية، و تحقيق مشاركة فعالة داخل الدرس و خلق روابط حميمية مع التفكير الفلسفي، نحو إقبال بكل ذاتية و طواعية عن ممارسة التفكير الذاتي.
إن هذه الطريقة تمتاز إلى جانب ذلك بمجموعة من المميزات نذكر من بينها:
- هناك أولا و قبل كل شيء وعي - من طرف الذي يتبناها- بأهمية التمثلات و ما لها من مكانة في بناء المفاهيم الفلسفية و الدرس الفلسفي بشكل عام.
- الإحساس بمكانة المتعلم ضمن العملية التعليمية التعلمية.
- تجعل من المتعلم مركز البناء المفاهمي للدرس.
- تمكن المتعلم من المشاركة الفعالة و عدم الجمود و الانتظارية.
- تمكن من بناء المفاهيم بذل إعطائها و تقديمها جاهزة.
- تحقق لذا المتعلم ارتياحا و إقبالا على المادة المدرسية (الفلسفة)، و إبداء مواقف ايجابية اتجاه الفكر الفلسفي بشكل عام.
- تمنح للدرس الفلسفي حيوية و دينامية، عوضا عن الروتين الذي كان سائدا مع المناولة الأولى.
- تحقيق الانسجام و التكامل بين أطراف التعاقد الديداكتيكي.
- تحقيق رهانات مادة الفلسفة داخل المؤسسات التعليمية.
- التمكين للفكر الفلسفي شخصيا و مجتمعيا.
- تكسير المقاومة التي يتمتع بها المتعلم و هو آت إلى درس الفلسفة.
وخلاصة القول، يمكن القول، إن هذه المناولة تمكن من تحقيق ما يسميه ميشيل طوزي ب "التوبة الفكرية" ([2]). وعقد تصالح لا مشروط مع مادة الفلسفة، و الفكر الفلسفي عامة، هذا التصالح الذي ينعكس على تفاعله (المتعلم)، و إنتاجه و عطائه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
من هنا، و بناءا على اعتماد القطائع الميكروسكوبية، نكون قد أقمنا حواجز أمام عودة تلك التمثلات المعيقة، و الرافضة أحيانا كثيرة لمادة الفلسفة و الفكر الفلسفي بشكل عام. و التي غالبا ما تتجلى لنا في تعبيرات التلاميذ الكتابية و الشفوية. إن تبني القطيعة الميكروسكوبية للتمثلات أشبه ما يكون بعملية تحليل نفسي، فإذا كان المحلل النفسي يعمل كل ما في جهده و بطرق تدريجية( عبر حصص علاجية) لاجتثاث المرض من أصله، عوض الاقتصار على الأعراض الظاهرة، التي تخفي أصل وجوهر المرض. فكذلك تعمل القطائع الميكروسكوبية للتمثل على اجتثاث التمثل من أصله، و ذلك، طبعا، بطريقة تدريجية شبيهة بجلسات التحليل النفسي، هذه الجلسات، التي قد تطول و تطول، و لا يلجأ إلى المواجهة المباشرة للمرض، أو اليأس و التخلص من المريض بدعوى أنه مرض لا يرجى شفاءه، تلك المواجهة التي قد تزيد من تفاقم المرض.
لكن نود الإشارة إلى أنه في بعض الأحيان لا يستلزم الأمر اتخاذ كل تلك الاحتياطات، " حيث يكون التلميذ منذ البداية على علاقة ايجابية بالفلسفة، أو بالمدرس، أو المعرفة الفلسفية... كما يمكن أن يكون بعضهم قد اكتسب عادة أو مهارة مواجهة تمثلاته و وضعها موضع مساءلة، الشيء الذي يجعل المقاومة أضعف" ([3]) . لكن هذا لا يمنع من اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب "الارتدادية الفكرية" للمتعلم. وذلك لأنه في غياب تلك الاحتياطات يجعل التلميذ يستغل أضعف فرصة "للارتداد" نحو تمثلاته الأصلية، و التي تكون في غالب الأحيان معادية و أحيانا رافضة للانفراط في الدرس الفلسفي و الإقبال على التفكير الفلسفي.
ومن جهة أخرى، نشير إلى أن هذه المناولة ليست من السهولة بماكان بالنسبة للأستاذ، وخصوصا إذا كان ممن يعتقدون أن "إعطاء الكلمة للتلميذ مجرد خدعة ديماغوجية يمكن للمدرس أن ينزل بمقتضاها إلى مستوى التلاميذ..."([4]). إن هذه المناولة تتطلب من الأستاذ أن يتنازل عن موقعه بين الفينة و الأخرى لصالح للمتعلمين. و لا يعتبر ذلك تنقيصا من مكانته المعرفية أو التربوية، و إنما العكس من ذلك، فتمكين المتعلم من التفكير الذاتي أسمى و أجدى من مجرد الشحن و التلقين، فالأمر في الحقيقة ليس تنازلا و إنما تبادل مستمر بين المدرس و المتعلم على زمن التفكير، ليبقى في آخر المطاف تمكين المتعلم من التفلسف و التفكير الذاتي أولى من مجرد التنازل أو التناوب أو التبادل.
لا يسعنا إلا أن نقول، انطلاقا مما تقدم، و كإجابة مؤقتة على السؤال الذي طرحنه بصدد هذه النقطة، إن هذه المناولة كفيلة بتمكيننا من الكشف عن التمثلات المعيقة ومعالجتها و تأسيس تمثلات ارتكازية لذا المتعلمين. فالمواجهة المباشرة و الحاسمة مع التمثل تبقى قاصرة عن الكشف، أو الانبثاق و المعالجة لما فيها من قلة اعتبار للتمثلات سواء من طرف المدرس أو المتعلم، و كذلك لما يتم خلالها من تغييب لذاتية التلميذ و إبداعه. و بالتالي فإن الرهان الذي نراهن عليه، إن كان له من تحقق فم داخل هذه المناولة (المناولة الميكروسكوبية ) لما فيها من اعتبار و اعتراف بذاتية و مكانة المتعلم أولا، و كذلك الوعي بمكانة التمثلات و ما لها من أهمية في بناء المفاهيم الفلسفية و الدرس الفلسفي بشكل عام، من طرف المدرس، و كذلك لما تحققه من مرد ودية و تفاعلية لذا المتعلم، سواء على المستوى الخاص ( بناء المفاهيم، الإقبال على الدرس الفلسفي، الانخراط و ممارسة هذا التفكير....)، أو على المستوى الاستراتيجي، الدعوة إلى ممارسته (التفكير الفلسفي).
نخلص إذن، إلى أن التمثلات (تمثلات التلاميذ المقبلين على الدرس الفلسفي) لها أهمية قصوى، إذ أن إهمالها و تجاهلها من شأنه أن يحول دون تحقيق أهداف الدرس الفلسفي، والتي يشكل المفهمة ضمنه هدف من الأهداف النواتية للتفكير الفلسفي. لذلك فإن المدرس، و من أجل بناء مفاهيمي، و كذلك من أجل أن يحقق الدرس الفلسفي أهدافه القريبة و البعيدة، مدعو و بإلحاح إلى التركيز على تمثلات التلاميذ و عدم اعتبارها شيء يعيق مسار الدرس، و ذلك بالكشف عنها أولا، و اتخاذ الوسائل الديداكتيكية الكفيلة بمعالجتها و استبدالها ثانيا، و بين الكشف و المعالجة عمل لابد للأستاذ أن يجتهد في إتقانه من أجل إنجاح درسه، و تحقيق ما يصبوا إليه من كفايات في الدرس الفلسفي، هذا العمل الذي يمكن اختزاله في الصيغة التالية: أيُّ وسيلة لأيّ تمثل؟
[1] ) نفسه، ص، 64.
[2] ) ميشيل طوزي ( ومن معه)، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة. ترجمة، حسن أحجيج. منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى 2005، ص.64.
[3] ) نفسه،ص، 65.
Michel Tozzi…. Apprendre à philosophe dans les lycées d’aujourd’hui p.64. ([4]