وقْفةٌ مع المنهاج:
مُصطَلحُ المَناهجِ الحديثة يُحيل إلى البرامج والتوجيهات البيداغوجية والديدكتيكية الحديثة التي تجعل المتعلم في صلب العملية التعليمية التعلمية.
المتعلم في تلك المناهج نواة وقطب رحى تدور حوله كُلُّ العمليات التربوية (من السياسات التعليمية حتى تصميم الطاولات وشكل الحدائق داخل فضاء المؤسسة).
تأتي المناهج الحديثةُ في مقابلةِ الطُّرق والاستراتيجيات القديمة؛ فِي هندسة المواد وترتيب المناهج؛ التي تعتبر المُعلم مِحورا للعمليةِ التعليميةِ التعلمية، والمتعلم مُجرد متلق للمادة.
يعني نحن أمام منهجين: قديمٌ وحديثٌ. وبناء على هذين التَّصورين اختلفت تصاميم وهندسيات المنظومة التربوية.
ومصطلحُ المناهج أوسع من المُقررات (والبرامج) أو الكتب المدرسية، فهي جزء منه. ويتناغم البرنامج المقرر مع توجهات المنهاج، ولا يختلف عنه، ولا يناقضه.
هناكَ فرق بين المقرر والمنهاج - إذن:
المُقرَّرُ يشملُ الدُّروس المبرمجة في الكتاب وبعض الأنشطة التعليمية التعلمية.
المنهاجُ أوسعُ منْ المُقرر، يشمل المحتوى والوسائل والطرائق والأطر المرجعية الناظمة للمفاهيم والمهارات، وضوابط التخطيط والتقويم (...) يَمتدُّ من المُدْخلات مُرُورًا بالعَمَليَاتِ ثُم المُخْرَجَات.
وتَدخل ضمن البرامج والمناهج كل الوثائق المنظمة للمدرسة إن بيداغوجيا أو ديدكتيكيا أو قانونيا (...)
إن المنهاج الدراسي بهذا المعنى (يَقصد هنا المعنى الجديد للمفهوم) مفهوم واسع يشمل عدة بنيات العملية التعليمية التعلمية (الطرق - البيداغوجيا- الأهداف - التقييم - الموارد التعليمية - الكتب - إعداد المدرسين - الأدوات الديدكتيكية... إلخ)[1]
ونقصدُ بالمَناهج - كذلكم - السِّياساتِ التّعليميةَ الحديثةَ، التي جادَ بها القرن العشرون. لأنَّنَا لا نَعزِلُ السياسة عن التربية والتعليم. وهَذا حاصلٌ في كلُّ دول العالم.
فالسياسةُ هي التي تُحدِّدُ المَلامِحَ والصّوَى والضوابط والمَرَامِي والغايات الكبرَى لحَقْل التربية، وتشكيلة المُواطن المَنْشُود.قدْ يكون الظاهِرُ أنَّ خبراءَ التَّربية هم الذين تُسند لهم عمليات التغيير والبناء والتشكيل، ولكن وراءهم رجال السياسة مَحليًا ودوليًا.
يختلف الأمر من دولة لأخرى، فالتدخلُ حاصلٌ في كليهما، ولكنْ تختلف حدته [2]وحيثياته ونوعياته وتفاصيله. الفَرقُ عندما يترك الهَامش الواسع لخبراء التربية في مكان ما هنالك، ويحجر على الخِبرة هنا ويقزَّم تَدَخُّلها، بل يحاصر، فيكونَ الخَبير أو مُصمم هندسات التعلم والتعليم بمثابة مُوظف، ينفذُ دفتر التحملات المُدقق، ولا ينحصر الأمْر هنا، بل هو ملزمٌ بالدفاع عنه في وسائل الإعلام المحلية والدولية، ولا ينبغي له أن يُصرِّح بخلاف المراد، وعندما تَفشل السّياسة فالخبرة والمنفذون هم المُتّهمون.
لماذا وسَّعْتُ إطار المناهج والبرامج لتشمل السياسات التعليمية وما يتربط بها؟
لأن أي إقصاء لها سيكون بمثابة الحديث عن النتائج، وإهمال الأسباب، في حقل متشابك مُترابط، يعدُّ بحق ردة فعل للسياسات ومقاصدها الاستراتيجية. لأن المذكرة الوزارية - مثلا - التي تحث أو تمنع أو تحذر (...) إنما هي من صميم المنهاج - شئنا أو أبينا.
ونُقِرُ فِي مَطلَع هذا النقد أنّ الدُّول تختلفُ في درجةِ تَنزيلها للمناهج الحديثة، فَمَا زال المغربُ مثلا مُرتبكا، عاقِدًا العزمَ عَلَى تجاوز القديم من طرائق وأدوات وتحيين وتكوين للموارد البشرية حتى تكون حديثة في ممارساتها التربوية.
يمكن القول إن نية التحديث موجودةٌ، تعكسها الوثائق والندوات، ولكنها تكاد تغيب على أرض الواقع، ولا تتوافر وسائل وأدوات تنزيلها.
ولا ننسى أنْ نشير إلى جدلية العلاقة بين المدرسة والمحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي والفكري (...) فما يجري في المدراس إنَّما هو انعكاس ورجعُ صدى، كما أن مكانة المدرسة مُهمة في عمليات التنشئة الاجتماعية، ولا أرى إمكانية الاستغناء عنها، كما نادى بذلك (إيفان ايلتش) - وغيره - في كتابه (مجتمع بلا مدرسة)، بداعٍ أيديولوجي. وقد أتفق مع بورديو (في إعادة إنتاج المدرسة للوضع القائم) خصوصا عندما تجد ذوي الإمكانيات يرتقون في سلم المدارس المحلية والدولية لنيل أعلى المناصب، وتظل المناصب المَتدنية لأبناء الفقراء، إلا من شذ منهم.
إن العملية التعليمة التعلمية معقدة، تتفاعل فيها عومل متشعبة وتنصهر فيها متغيرات شديدة التباين، وتعد المتغيرات التي استطاع الباحثون حصرها بالمئات، كما يتفقون على أن الأبحاث لم تتمكن لحد الآن من التعرف على كل مكونات الظاهرة ومختلف جوانبها.[3]
من ملامح المناهج الحديثة:
- المُعلم في المناهج الحديثة مُجرد مُنشط قائد لجماعة القسم.
- المتعلم أصل ورُكن وجوهَر العملية التعليمية التعلمية.
- المُحتوى المدرسي مناسب للمراحل العمرية المختلفة، غَني بالأنشطة.
- الوسائل التعليمية التعلمية ليست مُجدر معينات ديدكتيكية، بل دعائم يرتكز عليها السيناريو البيداغوجي، ومن مقتضيات عصرنة التعليم.
- المَدرسة في خدمة المُتعلم وحريصةٌ على نشاطه داخل الفصل وخارجه، وعبر الأندية التربوية والخرجات (...)
- الديداكتيك مُتشرب بالمَنهج العلمي والبحوث الحديثة، خرج من مُجرد ارتجال؛ في الخطوات والمراحل؛ إلى عملية علمية مُعقلنة.
- المِنهاجُ متمركز حول المتعلم متكامل يُركزُ على الامتدادات والتقاطعات بين الدروس والوحدات؛ داخل المادة وخارجها.
- القوانين ترجح مصلحة المتعلم وتجعلها فوق أيّ اعتبار، ولو على حساب الاستهتار بقيمة المدرسة.
- الاحتفاظ بالمتعلم في المدرسة درء للهدر المدرسي - إجبارية التعليم.
من إيجابيات المناهج والبرامج التعليمية الحديثة:
لكل أمر إيجابيات وسلبيات طبعا، فمن باب الموضوعية أن نشير لبعض إيجابيات المناهج والبرامج الحديثة:
* استطاعتْ تلك المناهج أن تستقطبَ أفواجًا من المُتعلمينَ والمتعلمات، وخففت من نسب الهدر المدرسي الذي يُعد بحق إهدارًا للمال العام، والجدير بالذكر أن الرأسمال البشري أصْلُ كل ثروة.
* استطاعتْ المَناهجُ والبَرامجُ الحديثة أنْ تجعلَ للطِّفل مكانًا فِي المَدرسةِ فأصَّلت حقه في التعليم والتعلم، ومنعتْ كلَّ أشكال استغلاله واستفزازه أو احتقاره أو إهانته، بعدما كان الطفل عبدا من عبيد مؤسسة المدرسة، يخضع لأهواء وشهوات العاملين فيها.
المنظومَةُ التشريعية اليوم واضحة بما فيه الكفاية، تحدّد الحقوق والواجبات، وبدت التَّجاوزات واضحةً منكشفة بعدما كانت مُستأثرا بعلمها قبلُ.
* أصبحَ الطّفلُ في صلب كـل العمليات، فهو قُطْبُ الرَّحى الذي تدُور حوله المناهج والبرامج والتوجيهات، وهذا أكثر جلاء في الدول التي تعرفُ ازدهارًا وتطورًا في حقل التربية والتعليم، بينما ما زالت دولٌ كثيرةٌ تترنح مكانَها، رجلٌ هُنا ورجل هناك.
* تَحسنت وضعيات التعليم والتعلم مقارنة بالمَاضي، وأصبحت المَناهج أكثر حرفية وانسجامًا معَ مناهجِ التفكيرِ العلمي، وما جادت به بحوث علوم التربية وعلم النفس (...).
من سلبيات المناهج والتوجيهات التربية التعليمية الحديثة:
* لمْ تستطعْ تلك المَناهج ضبط الطفل والتحكم فيه (تربويا): فجعلت منه طفلا مُتحررا من كل شيء، قابلا للثوران والفوران على نفسه وغيره. فَعل في جسده وثيابه الأفاعيل، وبات يبخس أغلى ما وهبهُ الله، فإذا هاج فليس لهيجانه حدودٌ.
وتلك الجُرعَة الزَّائدة من الحُرية صاحبتها ودعمتها ثورة تكنولوجية ورقمية وقنوات وفضاءات للتواصل الافتراضي الجماعي، جعلت السيطرة عليه شبه مستحيلة. إذا كان الأب قادرا على تتبع خطواته في الأزقة والشوارع، فإنه غير قادر على مجاراته في العالم الافتراضي.
* أقصَتْ المَنَاهِجُ التَّربويَّة الحديثَةُ كلَّ السلط بمَا فيهَا سُلطة المُعلم والأسْرَة. فتحول الأمر إلى صراع ظاهر ومضمر بين الأسرة والمدرسة. الأسرة تتهم المدرسة بالتَّقصير في التربية. والمدرسة تلقي باللائمة على الأسرة، وكلاهما يوجه سهام الاتهام للإعلام.
هذا التشابك في العلاقات والمسؤوليات في عالم مُعقد (فوضوي) جعل الطِّفل ينعم بالتحرر الزائد.
فإذا كانت التربية التقليدية تمنحُ الصلاحية لكل أفراد المجتمع بالمساهمة في التربية والتوعية والنهي عن المنكر والتدخل، فإنّ المناهج الحديثة تضع الحدود لكل المتدخلين، حدَّت للأفراد والجيران والمدرسين حدودا، لا ينبغي أن يعتدوها.
* جدلية المدرسة والمجتمع: إن فكّ الارتباط بين المدرسة والمجتمع أمرٌ عسيرٌ، والظاهر أن المجتمع أكثر تأثيرًا من المدرسة، فهل هو انفتاحٌ أو تلاشي لدور المدرسة في ظل مجتمع تدعِّمه قنوات التنشئة الاجتماعية الأخرى أو يمكن اعتبار ذلك انفتاحا للمؤسسات على فضاء الشارع المحلي والدولي؟
ولا ينبغي إغفال مكانة المدرسة في صناعة نموذج المواطن المطلوب. فالمدرسة بمناهجها وبرامجها وسياساتها تُدجِّن الإنسان وتُؤلِّفه وتمكنه من رموز وأدوات الانخراط في المجتمع. تنقله من إنسان إلى مواطن، يفعل وينفعل، وتخضعه لقانونه، ويهضم ويتشرب المفاهيم ونسق نظام المجتمع الذي تريده السياسات.
إنَّ مُهندسي السياسات العامة يُسطرون برامج وسياسات لمختلف المجالات، تنشق عنها الأهداف التربوية، وتُكرِّسُ عن طريق الكتب المُقررة ونظام المؤسسات التربوية. فالمدرسة مَدخلٌ لتصريف السياسات بمنظور يكتسي أبعادا تربوية تعليمية مدرسية. أعني إن الوعي الذي تقدمه المدرسة وعيٌ مغلفٌ، ولكنهُ ضروري.
* لم تُمكّن مَناهج التربية الحديثة الطفلَ من منهج نقدي رصين، وجعلته عرضةً لنموذج فكري ثقافي أحادي، يسوقه يمنة ويسرة، يرفعه ويهوي به، هو كالريشة في مهب الرياح. إنه التوجُّه الحداثي وما بعده، يا سادة، هبت به رياح العولمة ورفع الحواجز الجمركية.
إن المَناهج التربوية الحالية الوافدة إلى العالم العربي مثلا، رغم ما يمكن أن يقال: إنها تنمي ملكة كذا وكذا، فإنها جعلت الطفل يغرق في ثقافة الآخر وينصهر فيها بليونة.
ففقد الشخص ملامح هويته وما يميزه عن الأغيار. أصبح همه كلّ همه أن يكون نسخة للاعب الفلاني أو المغني الفلاني أو الصيحة الحالية. إنه الاستلاب في أبشع مظاهره. تلك السموم تمرر عبر البرامج والمناهج التربوية الحديثة.
* تُوهِمُ المناهجُ، المسماةُ بالفعالة والحديثة، باحترام الطفل وتقدير شخصه، ولكنها تشيِّئه وتعامله معاملة الأرقام. إنّ إغفالها للجوانب القيمية وتركز اختياراتها على المنطق النظري، بصرف النظر عن التربية الخلقية، جعلت فصاما واضحا بين ما يلقن في المدرسة والحياة العملية. إننا لا نريدها (أمانة) نظرية نتفلسف فيها، ونقسمها إلى أبواب وفصول ومباحث، إنما نريدها واقعا وممارسة فعلية.
نتفق إن المدرسة لن تقوم مقام الأسرة. ونوقن أن المدرسة والأسرة معًا قطعة من منهاج شمولي وفلسفة واختيار مجتمعي.
* حاربت المناهج والتوجيهات التربية الحديثة التلقين، وهي في أصلها تلقين، ولكنه مقنع. فما نقوله اليوم ونتحدث به أو نناقشه، إنَّمَا هو في الأصل حفظ إما صريح مباشر، أو غير صريح. والعجيب الغريب أن التلقين الذي حاربته المناهج الحديثة - كما هو في المدرسة المغربية - تجده حاضرا في الاختبارات المحلية والجهوية (...) فلا نكادُ نَفهم المقصود من الذم المتكرر للتلقين والتحفيظ. الاختبارات الحالية استرجاعية بطبعها - بضاعتنا تُرَدُّ إلينا.
* غموض بعض المقاربات المعتمدة في التدريس مثل المقاربة بالكفايات - كما في المغرب - تلك المقاربة التي اعتبرت امتدادا للتدريس بالأهداف. والجديرُ بالذكر أنَّ هناك كلاما كثيرا ومدادا غزيرا سال في (حدث) الكفايات، إلى حد التخبط، وأصدقكم القولَ إنَّه ما زال مفهوما غامضا إن ممارسة أو تنظيرا. فلا يغرنك كثرة ما كتب فيها أو ما سطر في الكتب المدرسية. إذا كنت في ريب مما أقول فاسأل من تظنه عليما بها، أن يصوغ لك كفاية من المنهاج، الغالب سيصوغ هدفا أو مجموعة من الأهداف المشتتة.
الكفايات كما لا يخفى عليك مفهوم من مورد اقتصادي، وكذلك كثير من المفاهيم التربوية، تجد طريقها إلى علوم التربية، وتتموضع في سياقات مختلفة. ليس هنا الإشكال، الإشكال في التشويه وسوء الفهم والتنزيل للمفاهيم التربوية في بيئة مختلفة بشروط مختلفة.
* جعلت المناهجُ الحديثة في التربية والتعليم الطفلَ خادما للآلات الاقتصادية، وترسًا من تُروسها.
فالطفل اليوم في ضوء هذه المناهج الحديثة فرد اقتصادي بامتياز، الهدف منه أن ينخرط في المجتمع الاقتصادي، وأن يُربط التعليم بسوق الشغل، ومن تم ظهر الحديث عن مواد تدعو الضرورة لدراستها، كالمواد العلمية والتقنية، ومواد أخرى لا تدعو لها حاجة كالآداب وتخصصات أخرى.
فهل تخلت المدارس عن صناعة الإنسان بالمعنى الفلسفي والقيمي للكلمة إلى صناعة الأجير في السوق الاقتصادية؟
* حرمت المناهج والتوجيهات التربية الحديثة الطفل من اللعب الحر وعكّرت الآلات صفو نشاطه، فهو مُضايق حيثمَا حل وارتحل. انقرضت لعب حرة كثيرة، وبرزت في الساحة لعب حديثة مرتبطة بالتطورات التكنولوجية والتغيرات في البُنَى الاجتماعية، عطلت من حركات الإنسان، وجعلته يُعاني في دوامة الإدمان والتشيئ، وأغرقته في بحر الذاتية والأنانية.
إنَّ تغيرات الواقع وتطور ثقافته كان دافعا رئيسا لإحداث تعديل على ممارسات كثيرة. ليسنا هنا بصدد التنازع مع الحتمية التغييرية، إنما نذكر بأنه لا ينبغي للبشر أن يغرق وينسى إنسانيته أو تُفقده الحداثة هويته وما يليق بإنسانيته.
أعني يجب أن تَعودَ زمام القيادة للعقل لا للحتميات الاجتماعية المختلفة.
* تكلمتْ المناهج الحديثة في التدريس عن المقاربة الفارقية والتطبيقات العملية لنظرية هاورد غاردنر في الذكاءات المتعددة.
وإننا لا نَجد صدًى حقيقيا لهذه المقاربة، وغيرها، على أرض الواقع، وفي مختلف المقررات والمناهج الرسمية على المستوى الممارساتي داخل حجرات الدراسة.
وتعدد المقررات (الكتب المدرسية) لم يحقق الغرض الذي من أجله أنشئ.
يَستحيل أن نتحدثُ عن تنزيل سليم لمقاربات التدريس الحديثة بوسائل وأدوات وعقليات ومعيقات وغياب للصلاحيات وتخبّط واضح في النموذج الوظيفي للمدرسة. إلا إذا كنا نقصد بالتنزيل ما نخْدَع به بعضنا في إطار ممارسات استعراضية ظرفية، نلوك فيها الكلام، نُوهِمُ بعضنا بالإمكانية، من باب التفاؤل اللامنطقي.
* كرّست المناهج والتوجيهات التربية الحديثة التمييز بين أبناء الفُقراء والأغنياء، وزادت في الشرخ والبون بينهما؛ بين من يتلقى تعليما قريبا من منطق السوق، ومن يتلقى تعليما بعيدا عنه، الأمر الذي يجعل الأول مُتحكمًا في مستقبل الثاني، هنا نشير إلى اللاتكافؤ بين الأطفال.
ونشيرُ في السياق نفسه إلى بروز المدارس الخصوصية التي استقطبت أبناء القادرين على دفع ثمن تدريس أبنائهم، بعدما أعطت الدولة الإشارة للقطاع الخصوصي ليدخل غمار سوق مربحة، فاختلط الحابل بالنابل، وتحولت العملية التربوية إلى عملية قراءة كفِّ سُوقِ العمل والمؤسسات ذات الاستقطاب المحدود.
قد يقول القائل إنّ مُؤسسات التدريس العمومية ما زالت تنتج، بفضل كفاءة أطرها وعطائهم. فنقول: إن العدل واجبٌ بين أبناء من يدفع ومن لا يَدفع، ونطالب بإلغاء نقط المراقبة المستمرة في انتقاءات المباريات. ورغم ذلك فما يزال مشكل الحيف والظلم قائما واضحا. فكم فقير هدر المدرسة وغادرها؛ في ريْعان طفولته؛ لأن منطق وظروف المؤسسات العمومية غير الخصوصية.
* مع التربية الحديثة التي طبلنا لنا زاد العُنف والعدوان في مدارسنا ومؤسساتنا. العنف في المدارس تحصيل حاصل - ونخص بالذكر هنا العنف المُسلط على المدارس والمدرسين والتلاميذ - إن اعتماد مُقاربة (المُتعلم مِحور العملية التعليمية التعلمية) بالشكل الساذج الفارغ من المعنى والعُمق العلمي اللازم، جرَّ الويلات على المدارس، فأدرك المتعلم أنه خارج نطاق السيطرة، وبعيد عن أي مساءلة عميقة وفعالة، وأقصى ما يمكن أن يعاقب به - إذا كسر أو أتلف أو شوش على مدرسه في الفصل ... - هو أن يكلف بمهام البستنة أو بعض الخدمات داخل المؤسسة، كما في المذكرة الأخير - المذكرة الوزارية عدد 867/14. (وزارة التربية الوطنية والتكوين المِهْني المغرب).
كما فشلت المدارس والمؤسسات التربوية في التأثير في الواقع (الحياة)، وعجزت عن كبح جماح العنف، ولا نكاد نميز متمدرسا عن غيره في ممارسة العنف.
نعني أن القيمة التربوية المضافة للمدرسة غير ظاهرةٍ في الواقع. ولا ننفي أن المدرسة ليست القناة الوحيدة للتنشئة الاجتماعية، ولكن طموحنا - المنتظر - جامحٌ أن يكون لها الأثرُ الفعال، بالنظر لحصة الوقت المُهمة التي يقضيها الطفل فيها. ولكن المدارس انهزمت أمام السيل العَرم من قنوات التنشئة الأخرى.
* إن البرامج والتوجيهات الحديثة برغماتيةٌ نفعيةٌ عمليةٌ في صياغتها وفلسفاتها همشت القيم والوجدانيات بشكل واضح، وجعلت الإنسان غارقًا في مادية تُهدِّد استقرار حياته في كافة المجالات، وجعلت البيئة والجمال في آخر مراقي سلمها.
* يمكن القول إن تضخم المحتوى كان السمة البارزة في المناهج القديمة، تدركها بمجرد أن تتصفح مُقررًا منها، فكانت تلك البرامج قادرة على إنتاج مثقف مُلِم ومحيط. وكانت هناك توجيهات في المغرب للتخفيف من المحتويات، وما زال الطلب قائما لتقليص المحتوى ليتناسب والغلافَ الزمني المخصص للحصص، ولعل ضيق الزمن من أبرز أسباب دعاوى المطالبة بالتقليص.أقصد أن داعي التقليص لم يكن بيداغوجيا صرفا.
وفي هذا السياق قلصت ساعات تدريس بعض المواد كالفرنسية والرياضيات والهدف كما تعلمون هو توفير الموارد البشرية بدل توظيفِ مدرسين جدد.
ويجدر بنا أن نذكر أن محفظة المتعلم مازالت عامرةً ثقيلةً، لا يكادُ المتعلم يطيقُ حملها. هذا في زمن التكنولوجيات والوسائط المختلفة للأسف الشديد.
التعليم والتكنولوجيات
عندما نتكلم عن المناهج والبرامج الحديثة لا ينبغي أن ننسى الحديث عن التكنولوجيات في التعليم، بوصفها مقومات أساسية في المنظومات التدريسية الحديثة.
إدمَاجُ التّكنولوجيا في التَّعليم بما تتيحُه من تقنيات ووسائل ومساعدات على تمرير التَّعلمات ونقلها (النقل الديدكتيكي)، بل إن الوسائل اليوم تجاوزت مفهوم الوسيلة بالمعنى التقليدي للكلمة إلى وسائل (بمثابة) ركائز في العملية التعليمية التعليمية، وكل وزارات التعليم في العالم تنشد هذا الإدماج، بما في ذلك وزارة التربية الوطنية في المغرب، ومن الدول من بلغ مراتب مهمة في هذا الإدماج.
وفي المغرب يأتي برنامج جيني في هذا الإطار 2005، وقبله تفعيل القاعات المتعددة الوسائل 2002. وفي هذا السياق، تم كذلك إطلاق برنامج "نافذة" من قبل مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين لتمكين المدرسات والمدرسين من حواسيب محمولة مع الربط بالأنترنيت، وبأثمنة تفضيلية ...
كما تم في إطار البرنامج الاستعجالي تزويد مديرات ومديري المؤسسات التعليمية بمعدات معلوماتية تضم حاسوباً محمولا وطابعة وبرمجيات لتحسين تدبير المؤسسات التعليمية.ولقد ظل ذلك دون المقصودِ، ولم يحقق ما طمح له، وسطر على الورق.
إدماج التكنولوجيات في التعليم ذُو بال ومهم في تقريب المعنى وتيسير التعليم وربح الوقت واختصار المسافات والتوصيل بالصوت والصورة والحركة والتجريب وإمكانيات عديدة تتحيها، كالتغيير والإضافة والتحويل والتوقيف...
تلميذُ اليوم كما أقولها مرارا تلميذ رقمي، يعيش عصر الصورة، وما ينبغي أن نعامله بالأسلوب التواصلي القديم، يوم كان الارتجال والكلام الطويل المستغرق في التفاصيل (موضة).
إنَّ التكنولوجيات ليست غايةً في حد ذاتها، ولا (موضة) جوفاء، بل هي هبة ربانية مفيدةٌ تيسر العملية التعليمية التعليمة، وتجعلُها عملية واضحة منظمة خاضعة لنسق.
ولا نتخيل أن الاستغناء عن المدرسين (البشر)، ممكن رغم ما تتيحه من إمكانيات متعددة، على الأقل، لأنه قائد لتلك التكنولوجيات، فهو كائن قصدي مَرِنٌ يضفي على العملية التعليمية التعلمية رونقها وجمالها.
إن إدماج التكنولوجيا في التعليم مُهِمٌّ أي أَهميَّة - لقد انتقلت هذه التكنولوجيات مِنْ مُجرَّد وسائلَ مساعدة إلى أسس ودعامات بيداغوجية وديدكتيكية لتصريف المِنْهَاج.
ومازال المغرب متعثرًا ومُرتبكًا فِي مَجال الإدْمَاج، لم يوفر لها البنية التحتية والبشرية. والتكوينات التي تلقاها المدرسون والإداريون وغيرهم في هذا الإطار تكوينات غارقة في الشكلية لم تحقق القصد منها غالبا، مادامت المدرسة المغربية لم تنخرط في عالم التكنولوجيات التعليمية التعليمية بالصورة التي نريدها.
كلمة أخيرة:
تناولت في هذه الصفحات نقدا ببيان بعض إيجابيات وسلبيات المناهج والبرامج الدراسية الحديثة. وتركيزي على السلبيات لا يعني أن الإيجابيات قليلة، بل هي كثيرة. وسردي لبعض السلبيات لا ينفي وجود أخرى كثيرة. فالإحاطة بناء على مجهود فردي مستحيلة، والمادة في المجال أحسبها قليلة، والله الموفق للصواب. والجدير بالملاحظة أني أخرجت المناهج والبرامج من مفهومها الضيق لتشمل السياسات التعليمية، منها ما هو ديدكتيكي وبيداغوجي وتربوي وتشريعي (...)
[1] أحمد وزي: المنهاج الدراسي وحاجات الطفل - مجلة علوم التربية - دورية مغربية نصف سنوية - ع 5 السنة 3 أكتوبر 1993 ص: 11
[3] محمد الدريج: تحليل العملية التعليمية التعلمية - مطبعة المعارف الجديدة - منشورة مجلة الدراسات النفسية والتربوية الطبعة الثانية - 1986 ص 16