"مع أن الذّاكرة والتفكير المنطقي مَلَكَتَان متمايزتان، فإن كُلاّ منهما لا ينمو سوى في ارتباطٍ بالآخر"
ج.ج.روسو،إميل أو التربية،الكتاب2،ص193.
يجزم كثيرون بأن البناء الذاتي للمعرفة هو،ولوحده،الوصفة السّحرية لسؤال التعلّم،دليلهم في ذلك ما قدمته نظريات التربية الحديثة من تصورات ونتائج،ويزداد رفضهم لأساليب النقل والتلقي المباشرين للمعارف من طرف الذات المتعلمة. مفارقة النقلtransmettre والبناء construction ما تزال مصدرا لتجاذبات في صفوف المختصين والمعنيين بالتربية والتكوين،وإذا كان التعلّم لا يتم ولا يُنجَز بموجب قرار رسمي[1] فقط ، وحيث أن تُخوم التداخل والترابط بين فعل النقل وآليات البناء ليست قطعية،ألم يحن الوقت،إذن،لِ"إقامة سلام دائم على قاعدة تقدير عادل لعلاقة القوة بين الحقلين معا"[2]؟ خاصة وأن المسافة بين خلاصات العلوم وتطبيقاتها العملية تظل نسبية، والبحث العلمي لا يصنع واقع الفصل الدراسي la recherche scientifique ne fait pas la classe [3] !
هنا نصّ ترجمة لمقال ضد التيّار : الحفظ عن ظهر قلب،انبثاقٌ جديد...
الحفظ الحرفي تعلم أبله ومصدر إساءة ! نمط تعرض للتّبخيس فترة السبعينات.
هذا الأسلوب غير المرغوب فيه يعود اليوم تحت تأثير العلوم المعرفية .
يتعرض حقل التربية للتحوّل تحت اندفاع رياح العلوم العصبية،وقد اختار وزير التربية "جون ميشيل بلانكي" تكليف "ستانيسلاس دُوهاين "Stanislas Dehaene- الأستاذ(في Collège de France ) والمتخصص في العلوم المعرفية- لرئاسة المجلس الاستشاري العلمي للتربية الوطنية[4] (CSEN)،وقيادة السياسة التربوية، فالوزير يعلن أن "العلوم المعرفية،ورغم عدم الاعتقاد بأنها تمثل ألف باء التربية،فهي تقدم لنا بشكل مؤكد شيئا له أهميته،ومن الجنون عدم الاهتمام بها" .
في وضع مفارق،فإن هذه المقاربة التي يزداد الإقبال عليها تُعيد مَنح التقدير لممارسة تنتمي للماضي:التّعلم بالحِفظ عن ظهر قلب.
وهي ممارسة يطالب بها ج.م.بلانكي المدرسين،وبشكل خاص عند تدريس جداول الحساب في التعليم الابتدائي. تجد هذه المقاربة مرجعيتها في المرونة الكبيرةplasticité (لدونة ومُطاوَعَة) التي تميز الدماغ عند الطفل .
تظل هذه الطريقة مصدر سِجال مستمر بحكم طابعها الميكانيكي المبني على التّكرار وسلبية التلقي. وحينما تمّ اعتمادها طيلة قرون مضت فقد كانت تؤدي إلى خزن وتذكّر حجم من المعطيات طيلة فترة التمدرس.
يشير الباحث في علوم التربية بجامعة جنيف "أوليفييه موليني" إلى أن"المقارنة بين البرامج الدراسية في هذا الشأن مثيرة،طالما أن برامج بداية القرن العشرين كانت تدعو،مثلا،التلاميذ
لمعرفة أعداد كبيرة من أسماء الأنهار الرئيسية في بلادهم،بينما تلاميذ الخمسينات هم مطالبون بمعرفة عشرات منها فقط، ولكنها معزّزة بمفاهيم من حقل الهيدروغرافيا:الّرافد / الضفة اليُمنى / الضفة اليُسرى/ العالية/ السافلة، في حين أن تلاميذ اليوم يستهدفون كفاية ممتدة،وغير مقتصرة على النّسخ المطابق للأصل،من قبيل "دراسة الخصائص الطبيعية لإقليم معين من خلال استعمال قاموس مفاهيمي خاص".
توارى التعلم القائم على الحفظ الحرفي إلى الخلف انطلاقا من فترة السبعينات، وتم نسيانه تحت تأثير البيداغوجيا الحديثة .فاختارت،لذلك،التربية الوطنية التركيز على تعلّم الطريقة والمنهج بدل الاقتصار على الذاكرة فحسب،وصارت الأولوية لاكتساب مقاربات مفيدة في "تعلم التعلم" (من خلال محاولات تجريبية أو تبادلات جماعية مثلا) بدل مبدأ خزن المعارف والاحتفاظ بها .
التعلم بالحفظ عن ظهر قلب عاد للظهور في النصوص الرسمية خلال الثمانينات،لكن دون فصله عن المعنى. أما برامج مرحلة الابتدائي سنة 2008 فهي لم تتردد في استعادة ذاك النموذج من التعلم في شكله الميكانيكي الخالص عبر إعادة إقراره(مثلا المحفوظات في الفرنسية)وتظهر دراسة استطلاعية سنة 2011 شملت أربعة وثلاثين مدرسا في الابتدائي تعميم وانتشار طريقة الحفظ عن ظهر قلب: ليس أقل من 97في المائة من بين تلك الفئة أعلنوا استعمال طريقة الحفظ بما فيها في اللغة الفرنسية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا(بنسب تتراوح بين 70.6في المائة و26.5في المائة).
ويبدو،اليوم،أن العلوم العصبية–البيولوجية تمنح المشروعية لعودة طريقة الحفظ عن ظهر قلب،فلماذا ذلك؟
تؤكد بيولوجيا الذاكرة الدور الأساسي للتعلم بالتّكرار(الإعادة) "نعرف أن التّكرار يفضي إلى ترابُطيات ثابتة بين خلايا الدماغ(عبر نقاط الاشتباك العصبي )وبتيسير كبير للتواصل(عبر الناقلات العصبية)" كما يفسر ذلك الباحث في علم النفس المعرفيAlain Lieury (توفي سنة 2015).
يشكل،بالتالي، تكرار(إعادة) ما تمّ خزنه "ميكانيزما" حيويا لا مَحيد عنه بالنسبة للمستوى البيولوجي في الذاكرة.
ويضيف الباحث "أ. ليوري" أنه " على الرغم من أن التعلم- في بلاد ديكارت- عن طريق الحفظ عن ظهر قلب يحظى بسمعة سيئة ينبغي إعادة تثمينه " ومع ذلك فإن الشّحن المُكثّفَ دون استهداف تكوين الفكر هو فعلٌ لا يُنصَحُ به، إذ لا يتعلق الأمر بتعلّم كمّ هائل من المعطيات في زمن محدود، بل ينبغي أن تكون لحظات التذكّر (والحفظ) منتظمة وتدريجية،مع الحفاظ على مساحات وفترات من الراحة .
وحتى يكون للحفظ عن ظهر قلب امتداد فعلي،من الضروري أن تتمكن المعلومات المحتفَظ بها من المرور من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة، لأن"خاصيةَ ما تحتفظ به الذاكرة القصيرة هي الضعف،والمرونة، ومن الممكن أن يتحول أو ينمحي بسهولة" كما يؤكد ذلك المحلل النفسيMarc Schwob.
يبين التصوير الدماغي الوظيفي أن منطقة الفصّ الجَبهي (مقدمة الدماغ) في الدماغ هي التي تنشط أولا خلال التعلم بالحفظ عن ظهر قلب،بعد ذلك،ومع الممارسة وتكرار ما تمّ حفظه يأتي دور الجزء الخلفي في الدماغ ودور المناطق الموجودة تحت قشرة الدماغ(تحت لِحائه).ويبدو أن "الهايبُوثلاموس/ تحت المهاد"(يقع في الفصّ الصدغي الوسطي للدماغ)يلعب دورا محوريا في خزن مستديم للمعارف .
إن عملية الاحتفاظ هذه في الذاكرة تظل،وبشكل وثيق، مرتبطة بالفهم،وهو ضروري جدا لأجل التمكّن من القيام بالمقارنة بين المعلومات، وتعبئة معارف، ثم إعطاء معنى للتعلمات. غير أنه من أجل القدرة على الاستدلال ينبغي أيضا معرفة تصحيح الأخطاء وكبح التلقائية المكتسبة،ويشير في هذا الصدد الباحث O.Houdé إلى أن " تصوير الدماغ سَمحَ بالكشف عن التغيير الذي يطرأ في دماغنا حينما نمرّ خلال نفس المهمة من الاستدلال،وبتأثير من تعلّم ما،من نمطٍ إدراكي سَهلٍ وتلقائي لكنه أيضا مغلوط،إلى نمط منطقي صعب ودقيق" كما أن النتائج المحققة في هذا الأمر تكشف ميلا واضحا للأنشطة الدماغية من الجزء الخلفي نحو منطقة الفصّ الجَبهي الأمامية،وهي دينامية معكوسة للتلقائية على مستوى الدماغ.
تدعو هذه السيرورة إلى شيء من الخيال، والقدرة على تغيير الإستراتيجية،ويمكن للحفظ عن ظهر قلب،حتى فيما يتعلق بالمواد الأكثر تجريدا،أن يُجسّد حليفا مهما:في الرياضيات مثلا تطالب مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنوع من الاستدلال المنطقي انطلاقا من عناصر ملموسة،أو التخفيف من قلق التلاميذ بتقديم مجموعة بسيطة من الوقائع والقواعد والإجراءات.
يمكن،إذن،للحفظ عن ظهر قلب التدخل الدّاعم من أجل تَملّكٍ تدريجي للمعارف.
على الهامش: لماذا نستعمل عبارة"الحفظ عن ظهر قلب"؟
التذكّر قضية قلب؟ هو ما كان يعتقده بعض فلاسفة اليونان القديمة مثل" أرسطو".فقد كانوا يرون أن مكان الذاكرة والأحاسيس هو القلب، ومن هنا جاءت عبارة"المعرفة عن ظهر قلب" والتي انتشرت مع "رابلي" خلال القرن16م..
فلاسفة آخرون مثل "أفلاطون" تصوروا أن الدماغ هو الذي يحكم ذاكرتنا وأفكارنا...غير أنه كان من اللازم انتظار القرن17م وخلاله ستبدأ دراسة الوظائف العصبية بفضل التشريح.وفي يومنا ازداد الاهتمام بالدماغ مع تطور العلوم العصبية-المعرفية وما تحقق من تقدم في تقنيات تصوير الدماغ.
التحدي؟ فهم كيفية اشتغال الدماغ البشري.
المقال الأصلي:
Le retour en grâce du par cœur
Diane Galbaud.
Sciences Humaines .N°.307- octobre 2018.
[1] F.Mierieu,2004,L’école mode d’emploi.
[2] M.Gauchet et Autres,2014.Transmettre Apprendre.
[3] Voir F.Mierieu dans son livre :Riposte.2018.( (ورد المرجع والمقولة ضمن مقال آخر بنفس العدد من المجلة
[4] Jean-Michel Blanquer تأسيس هذا المجلس الاستشاري بفرنسا كان في يناير 2018 من طرف الوزير