متداخلة هي ما يلاحق المدرسة المغربية من أسئلة تخص وقعها الوظيفي وقدرتها وحمولتها، وأمام تباين مؤشر أزمة الشأن نجد إشكال التكوين والتكوين المستمر كحلقة أساس في المنظومة التربوية، وفي حديث الباحث والفاعل والمهتم حول ما هو مهننة وتجويد وكفاية أطر. وقد يكون التكوين والتكوين المستمر مدخلين أساسيين لأي إصلاح بات بحديث عن إصلاحِ إصلاحْ، وأن كفايات المهننة هي من سبل تمكين الفاعلين من تنزيل أي اصلاح مؤثر وقادر على بلوغ المنشود من النتائج. الرهان الذي يتأسس ويتمحور حول ما هو موارد محركة للفعل التربوي لن يتحقق دون إطار تكوين وتكوين مستمر، بعيداً عما هو إعادة إنتاج وبأفق أكثر مِهَنية من خلال كفايات أساس ووضعيات مهنية للتجريب والإعداد والاكتساب.
وسؤال التكوين والتكوين المستمر يفرضه واقع تحكمه ثقافة تنافس وتغير سريع، ومن هنا ما توجد عليه المهمَّتين من تحديات لجعل الفرد أكثر تجاوباً مع متطلبات ومنشود النماء، ناهيك عن كون أية مكتسبات معرفية ومهارية تصبح مع الزمن بدون قدرة على مواكبة. ولعل هذا هو ما جعل الموارد بعناية وأولوية وحيوية لتطوير كفايتها ورفع أداءها كرهان لن يحصل إلا عبر تكوين وتكوين مستمر، لدرجة أن سؤال الباحثين والمعنيين لم يعد حول لماذا التكوين بل كيف ينبغي أن يتم الأمر كفعل رافع. ولاشك في أن الوعي بأهمية فِعْل التربية والتعليم والمدرسة والتكوين هو جوهر أي اصلاح وتجويد، وأن تحديد كفايات المدرسين المهنية انطلاقاً من الخصوصية من شأنه توفير شروط ملائمة من أجل فعل تعليمي تعلمي أكثر تناغماً مع حاجياته النفسية والاجتماعية. ولعل أنشطة التربويين عموماً هي مَن يشكل فعل التربية والتدريس والتأطير والمواكبة ويحدد تميزه عن غيره من المهن، وهي أيضاً ما ينبغي أن يقوم عليه أي برنامج تكوين أساسي كان أم مستمر، بل هي قاعدة تحديد ما يُراهن عليه من كفايات مهنية.
ولا شك أن المراكز الجهوية الحديثة العهد بتكوين الأطر التربوية هي بدور هام، رغم عدم اكتمال تنزيل مراسيمها المنظمة وفق ما جاء به القانون المحدث. وكيفما كانت رهانات اصلاح المنظومة التربوية وخيارات نظمها البيداغوجية، فهي لن تكتمل دون تكوين أساسي ناجع وآخر مستمر بعيد عما هو إخبار وتحسيس طبع حلقات السابق منها، لدرجة نوع من العشوائية والسطحية إن في علاقة العملية بما هو تخطيط وتدبير وتقويم، أو من حيث الاطار البشري التدبيري المشرف.(أثناء عملية التعريب، خيار بيداغوجيا الكفايات، بيداغوجيا الادماج..)
فأية منهجية ناجعة لتكوين مستمر بقيمة مضافة، خلافاً لتجارب بئيسة سابقة لم تكن غير مجرد حضور لجمع من مدعوين لفترة معينة من يوم الى يومين، مع استماع لعروض غارقة فيما هو نظري بقدر ما هي غير متحكم فيها علمياً بقدر ما هي بوقفات عملية محدودة القيمة جداً. هذا قبل تكوين مجموعات في أحسن الأحوال قيل عنها ورشات لتبادل رأي ومقترح حول قضايا ما تربوية وتعليمية، مع إعداد تقارير قبل إعلان نهاية المحطة التي تُحسب تكوينية لفائدة فاعلين تربويين مهنيين. وبقدر ما منهجية وخطوات أسلوب الاشتغال هذا لا يخلو من أهمية تواصلية، بقدر ما هو بعيوب عدة في مقدمتها هيمنة ما هو نظري وإلقائي تلقيني محدود التأسيس والبناء العلمي، مع موسمية هذه المواعد وعدم قاريتها اضافة لمحدودية تأثيرها على تطوير مهارات وتنمية كفايات. ولبلوغ تكوين مستمر هادف نعتقد أنه من المهم أن يتمحور حول تقديم خبراتٍ نِتاج دراسات باحثين، وأن يكون المستفيد مشاركاً فاعلا لاستثمار التجارب وتبادلها وإغناءها، مع استثمار ما ينبغي من بحث تربوي رافع للمنظومة ولمواردها البشرية، وهنا لابد من أهمية اعتماد روح تفاعل حقيقي بين مكوَّنين ومكوِّنين، عبر إنصات بيني من شأنه تدليل ما يمكن أن يقع من ردودٍ تجاه تغيير.
وحتى تكون المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين بجودة وتجويد في مهمة تكوين مستمر، لابد من شرطين أساسيين الأول منهما موضوعي مؤسسي تنظيمي، يقتضي توفير مناخ مناسب للاشتغال بتدبير وتسيير داعم ومعبئ مستثمر للموارد البشرية، وأما الثاني فهو ذاتي نفسي يتعلق بدرجة استعداد مستفيدين للانخراط في أوراش مستجدات، بانفتاحهم على تجارب لتطوير كفاياتهم المهنية وبالتالي اسهامهم في تحقيق تجويد بيداغوجي مهني. وتبقى هيئة التدريس عصب الحياة التعليمية والتربوية على أساس أنها الأقدر على خلق تميز المدرسة والمتمدرسين. وعليه فهي بحاجة لتكوين وتكوين مستمر وفق زمن كاف وتفاعل بين تأهيل في مسار تخصص، وإعداد للممارسة من خلال اكسابهم كفايات عملية ومهارات اجرائية.
والمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين هي من معالم نسق المنظومة، وربما الأهم لِما هي عليه من موارد علمية وخبرات ورهانات متداخلة (تكوين- تأهيل- بحث علمي..). ولعلها قاعدة تجويد فعل تعليم وتعلم من خلال تجويد الموارد، وفق نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أورد أن التعليم العالي يشمل الجامعات والمؤسسات والكليات المتخصصة التابعة لها، ومدارس المهندسين المسبوقة بالأقسام التحضيرية والمدارس والمعاهد العليا ومؤسسات تكوين الأطر البيداغوجية. وأن التعليم العالي يروم وظائف أخرى منها التكوين والتكوين المستمر، وإعداد الشباب للاندماج في الحياة المهنية الى جانب مهمة البحث العلمي ونشر المعرفة.
وإذا كان رهان النماء المحلي وورش الجهوية هو أمر جماعي يجمع بين التراب والمجتمع والموارد، ويروم تجميع قدرات وامكانات واسهامات وتدخلات بناء الثروة، عبر اشراك كل فاعل من المؤسسات في أفق ما هو جهوي كما بالنسبة للمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وما يعلق عليها من آمال تخص توجيه وتجويد الفعل التربوي. فإن من شأن هذه الأخيرة أن تكون بدور رائد في النماء الجهوي بل فاعلا متميزاً وشريكاً حقيقياً في هذا الورش، شريطة توفر ما يسمح ببلوغ الأهداف بما في ذلك الخاصة بالتكوين والتكوين المستمر، وما نص عليه الميثاق الوطني وأوصى به حول أهمية ملاءمة هذا النشاط بما هو نسيج اقتصادي واجتماعي ومقاولاتي.
فأية علاقة للتكوين المستمر بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وما علاقة المكونان معاً برهان التجويد والمهننة. للإجابة على هذا السؤال من المفيد الاشارة الى أن أي تكوين أساسي ذا صلة بحقل التربية والتعليم، لا يمكن أن يظل متجاوباً حاملا للقدرة ومنسجماً مع زمن تطبعه تغيرات مهنية عدة، تشمل المعارف والمفاهيم والمناهج والمقاربات والمهارات. وعليه، لتحقيق مواكبة الفاعل المهني التربوي فالأمر يقتضي عملية تكوين وتكوين مستمر كسباً للرهان وحفاظاً على التوازن. ويجمع خبراء المجال على أن التكوين المستمر هو بأهداف عدة، منها إغناء كفايات الأفراد المهنية والمعرفية وتطوير جودة أداءهم المهني وأقلمتهم مع ما يحصل من تطورات معرفية كانت أم تقنية نظرية كانت أم عملية، مع إعطاءهم فرصاً أوسع لتنويع كفاياتهم وتخصصاتهم من أجل انسجامهم مع كل وضعية جديدة ومهام مسندة اليهم.
وأي تكوين مستمر ذا صلة بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، لا يمكن أن يكون بنتائج مؤثرة داعمة لتجويد المدرسة، إذا لم يكن هناك بنك معطيات يخص حاجيات التكوين في ضوء مؤشرات ومعايير دقيقة. لمعرفة الدوافع الحقيقية للعملية وتحديد الأنشطة المنسجمة والمرغوب فيها، في علاقة هذا التكوين بالخيارات التربوية الكبرى ودرجة توفر الموارد الكافية المادية والبشرية، مع أهمية الاشارة الى أن اي تكوين مستمر هو تدبير للتغيير في أفق انسجام أفيد مع حاجيات وتحديات مستجدة.
ويبقى أي تكوين عموماً هو ذلك المستمر في الحياة المهنية في ارتباط بما هو ذاتي كتكوين ذاتي وعياً بحركية كل شيء وتغيره باستمرار، وكل عجز مسايرةٍ يكون بعلل عدة يحصل معها بعد وتباعد عن الركب. ومن أجل بلورة فاعلين مهنيين في مجال التربية والتعليم لا بد من معايير وحاجيات، يلتقي فيها ما هو نفسي ومعرفي ومنهجي وتربوي وتقني وقانوني..، وأول هذا الرهان حسنُ انتقاءٍ أولا ثم تكوينٍ ثانياً ثم وضعياتٍ ممهننةٍ ثالثاً ثم تكوينٍ مستمرٍ رابعاً.
وقبل عقود أثار المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن قضية التعليم ببلادنا، معتبراُ إياها مشكلا مزمناً ضمن إشكالات لم تجد بعد طريقها نحو معالجة جدية وحل سليم، مشيراً لِما حصل من اصلاح يلغي فيه لاحق سابق أو يعدله. والحديث عن تكوين وتكوين مستمر وتجويد ومهننة وغيرها من حلقات المنظومة، معناه وجود ثغرات إما أصلية أو جديدة مستحدثة من المفيد الانصات لها والانكباب عليها.
إن تجديد المدرسة عموماً رهين بجودة عمل الفاعلين فيها كل من موقعه، وهذه الجودة مرتبطة بجودة تكوين وتأهيل وتكوين مستمر فعال ومستدام، ولعله ما نصت عليه الوثيقة الاطار التي اندرجت ضمن إحداث المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين 2011. وكانت للوزارة الوصية نظرة واسعة منذ سنوات عندما تحدثت عن التكوين المستمر، كأحد المفاتيح الكبرى لعملية اصلاح المنظومة. والتي على إثر ما توجد عليه من تحولات في بنياتها وخياراتها ورهاناتها في علاقتها بما هو جهوي وتعاقد وتنافس وإعداد خريجين لسوق شغل..، هي مدعوة أكثر من أي وقت مضى لجدية تفكير في مسألة التكوين والتكوين المستمر، لِما يمكن أن يسهم به هذا المجال من أجل ضمان استمرارية نماء وفاعلية الموارد البشرية ويجعلها أكثر انسجاماً مع محيطها، مع أهمية استحضار قراءات لا تزال تحكم النظرة تجاه التكوين المستمر بكيفية خاصة من حيث الموقف منه وطريقة تدبيره. إن تحقيق التجويد والمهننة والعمل بالنتائج..هذا رهان واسع يتقاسم مسؤولياته جميع الفاعلين التربويين، وتبقى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين كمؤسسات للتعليم العالي قاطرة أساسية للورش التربوي ببلادنا، مدعوة لبلوة ما هو تجارب وتجويد في التكوين والتكوين المستمر، فضلا عما يمكن أن يسهم به ورش البحث العلمي بها، من تراكم وظيفي ونصوص حاملة لأجوبة شافية تخص جملة إشكالات تربوية وبيداغوجية ذات علاقة بالمدرسة المغربية.