حين نتطرق لماهية العلاقة القائمة بين الاتصال والتربية، أيمكننا أن نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة؟ حدودها، مجالها، ومكوناتها، بمعنى أن نبحث في مجال كلا الطرفين؟
أنحنُ أمام مجموعة من الممارسات التي تحدد أسس الاتصال والتربية أم أنَّ المشكل أكبر من ذلك؟ يتعلقُ بمجالين يهتمان بالفرد ومكوناته انطلاقا من أرضية واحدة.
ومن الثابت أننا حين نتكلم عن التربية، فإننا نتكلمُ عن علم قائم بذاته يستمد جذورهُ وقوَّتهُ من عدة علوم أخرى، والشيءُ نفسُهُ بالنسبة لعلم الاتصال، وإن كان هذا الأخير، ما يزالُ محلَّ نقاش وجدل حول أسسه المصدرية ومجالاته.
وإذا تجاوزنا كل هذه التساؤلات...أوحاولنا فهم العلاقة القائمة بين الاتصال والتربية، فإنه لابد من الاستعانة بتقنيات تستعملُ لهذا الغرض، وفهم أسسها القانونية، فبدون استيعاب المنهج، استيعاباً كاملاً لن نتمكن من فهم العلاقة القائمة بين المجالين.
فما مجال ووظائف الاتصال والتربية؟ وما هي الأسس التي تحدد العلاقة بينهما؟
إن مجال التربية يتحدد في تكوين الفرد، تكوينا يستمد أصوله من الأسس المصدرية للمجتمع على أن مجال الاتصال هو تسهيل العملية التربوية بكل تفرعاتها، تسهيلا يمكن من تحقيق الغرض المحدد.
إذن فالعلاقة بين المجالين، تتحدد في الفرد، فالتربية تعمل على تنشئته وتكوينه وتطويره، والاتصال يصطنع الأجواء الملائمة لذلك.
ولقد عمل كثير من المهتمين بتطوير هذا التصور من خلال البحث والدراسة في كل مجال على حدة..ثم من خلال القواسم المشتركة التي تجمع بين المجالين، في إطار علاقة وظيفية وتيمة العلاقة المشار إليها، حتى نتمكن من نتائج إيجابية في مضمار الاتصال والتربية.
وقد حددوا المهام الاجتماعية لكلا المجالين، على اعتبار أن لكل مجال طبيعته الخاصة يجب مراعاتها، فالتربية تعتبر إطارا صالحا لاصطناع وتنويع البرامج وتحديد مضمونها، وعلى هذا فلايمكن تلمس الآثار الإيجابية أو السلبية للعملية التربوية، ما لم يتم توسيع طاقاتها المؤثرة من خلال فهم واستيعاب جل الوسائل المستعملة في هذا الغرض.
وتأتي وسائل الاتصال – أهم هذه الوسائل- التي ينبغي مراعاتهم باعتبارها تساعد على دعم المواقف أو التأثير فيها، وعلى حفز وتعزيز ونشر الأنماط السلوكية وتحقيق التكامل الاجتماعي.
والملاحظ أن جل المنظرين ممن اهتموا بمجالات الاتصال يعتبرون أن مهمة وسائل الاتصال تتجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الانتقاء، وبين المرحلتين يتبلورُ النقاش حول أهمية المضمون وأهمية الوسيلة وفي سياق هذا الجدل برز الدور الكبير لمجال الاتصال، ووسائله في عملية اصطناع وتنمية أجواء تعليمية ملائمة لإنجاح العملية التربوية ولاكتساب نتائج متقدمة وإيجابية من خلالها ولذلك اعتبر الاتصال في مرحلة أخرى وسيلة وموضوعا للتعليم واعتبرت التربية أداة يمكنُ الاستفادة منها لتكوين الفرد.
ويأتي هذا الدور جزءاً من تأثيرات الاتصال على الفرد والمجتمع، كظاهرة أساسية تتحكم في الحياة الاجتماعية وتؤثر على جميع الأوضاع التي يوجد فيها الفرد، إن هذا التأثير المتعدد تأثير متبادل في عملية اصطناع وإنتاج المعلومات وتحديد الغرض منها، وبهذا الاتصال" علم التفاعلات بين الأفراد" التي من شأنها أن تحدث أثاراً سلوكية معينة.
والتأثير والتفاعل، عنصران متلازمان لترشيد العملية التواصلية واستخلاص النتائج المرجوة منها، وبالأخص على مستوى العملية التربوية.
وقد أكد عدد من المهتمين على أن الاتصال دورا فعالا وأساسيا في مجال نقل المعلومات، وتوفير المعرفة الانسانية تكاد كثير من المدارس العلمية المهتمة بتطوير الاتصال والرفع من طاقاته، وإمكاناته، أن نتفق على الدعوة إلى أن تصبح العلاقة بين الاتصال والتربية، علاقة اتصال بالدرجة الأولى، غير أننا قد لانصل إلى تطبيقات هذه الخلاصة إذا لم نتمكن من أن تسري العملية التواصلية داخل المجتمع بشكل طبيعي داخل المجتمع لاتعود فقط لنوعية الوسائل، وما تبته ولطبيعة الأرضية التي تنطلقُ منها، وإنما بالدرجة الأولى للتصور العام لما تريده أو ما تود تحقيقه من الاتصال، والنتائج التي نتوخى تحقيقها، ترتبطُ أساسا بخطط السلطة أي بالسياسة العامة للدولة.
وللوصول لمرحلة الربط بين السياسة التعليمية والسياسة الاتصالية، يتحتم دراسة طبيعة وسائل الاتصال، داخل وخارج النظام التعليمي، وبمعنى يفترض أن يكون لدينا تصور واضح للعلاقة القائمة بين الأطراف المعنية في العملية التواصلية...
هناك رأي يجزم بأن الانسياب الرأسي للمعلومات في العملية التواصلية أصبحَ يسودُ وبصفة تدريجية المصادر المعروفة للمعلومات المتاحة للفرد. وبالتالي نتعرف وعي أو لاوعي قائم على الاتصال، بأهمية استخدامه في التنشئة والتكوين والتطوير، وما تحمله من مضامين البرامج التعليمية، هي التي تحدد فعالية العملية التواصلية، وتأثيرها سلبا وإيجابا باعتبار أن بنى الاتصال ليست أكثر حياداً من الرسائل التي يتم بعثها.
ولقد أصبح من الواضح أنه على صعيد التركيب البنيوي للمجتمعات توجد هياكل تعمل على تأكيد الانسياب الرأسي للمعلومات لكون هذا النمط أصبح ينظرُ إليه وكأنه النمط الذي تصدر على أساسه القرارات، وهذا لايعني عدم وجود اختلافات في أنماط الاتصال على مستوى العلوم الاجتماعية.
ولعل هذا النمط أثَّرَ تأثيراً ظاهراً في العملية التعليمية، وأعطَى بالضرورة للإتصال دوراً، فإن المدرسةَ والأسرة والأشكال الأخرى تبقى الساحة التي تتبلورُ فيها طبيعة الاتصال لتترك بصمات معينة في الفرد على مختلف المراحل والمستويات، وقد تختلف الأشكال التي ترتقي فيها العملية التواصلية لكن صورة التعليم والتربية تبقى واحدة فقد تتم وفق أشكال تقليدية أي أن يقلد التلميذ أستاذه أو عن طريق الدوافع الذاتية هذه الأشكال الثلاثة تشكل جانبا من جوانب العملية التعليمية، وتكاد تكون أسسا متعارفا عليها عند جميع المدارس الفكرية والتربوية.
وتبقى مهمة الاتصال تعمل على تركيز معالم التحديث، وإبراز الإمكانية الاجتماعية التي لم يتم ارتباطها أو تطبيعها بعد، وتنبه بعض المهتمين بتوظيف الاتصال في العملية التعليمية إلى محدودية تأثير الرسائل الاتصالية في التنشئة والتكوين وذهبوا إلى أكثر من هذا منتبهين إلى أن جزءا من التأثير المتوقع قد يترك آثاراً سلبية، فالمعلومات المقدمة تعتبر ذات طبيعة مضطربة، وأن الأولوية تعطى لنشر الأخبار التافهة، وأن هناكَ تشويشاً متزايداً على حساب الحقيقة، ولهذا حذروا من التفاؤل الذي يأمله الإنسان بخصوص دور وسائل الاتصال ومن هذا يبرزون إحدى خصائص المدرسة التي توجد في الوسائل التقنية، من حيثُ أنها تقوم بمساعدة الأفراد في خضم تراكم عدد هائل من المعلومات على اختيار أنسبها،
إن نظام بث المعلومات والمعرفة في إطار المدرسة تبقى له فوائد أكثر مما في وسائل الاتصال، ولذلك اعتبر في نطاق مفهوم عام وشامل جزء من وسائل الاتصال في المجتمع، ومن ثمة يجب الفصل بين نوعين من الوظائف الاتصالية.
- الوظيفة التقليدية للاتصال في إطار المدرسة.
- الاتصال في وسائل الاتصال العامة.
مماسبق نستخلص أن مفهوم الاتصال والتربية يؤدي إلى غرض واحد وإلى بُعد واحد، وهو اصطناعُ تلاحم إنساني، يعتمدُ على التكوين، وهذا التلاحم والتكوين يرتكز على أسس واحدة تقوم على الاتصال، وعلى متطلبات علمية للتربية والتكوين، بمعنى أنه دون اتصال، لايمكن أن نلتقي بالفرد ونفهمه ونلقنه ما نريد، ومن ضمن الوظائف التي يقوم بها الاتصال والتربية، النهوض الثقافي، إضافة إلى التنشئة.
وبالرغم من شمولية هذه الوظائف، فإن هناك من دعا إلى إعادة النظر فيها بالقدر الذي ينسجمُ مع متطلبات التربية والتكوين، وبالمقابل يسمحُ لوسائل الاتصال بأن تكون بديلا مقنعا في بعض الظروف عن المدرسة، ففي بعض المجتمعات نلاحظُ مثلا ازديادا واضحا في النمو الديمغرافي مما أدى إلى ازدياد في عدد المواليد دون أن يصحب ذلك اكتفاء في عدد المدارس والمدرسين مع غياب الوسائل الأساسية المستعملة بمختلف المراحل التعليمية وبروز ظاهرة التسرب المدرسي، لذلك تمت المراهنة على وسائل الاتصال بغية اصطناع الشروط للحفاظ على التكامل الاجتماعي.
إن الدليل الذي نتكلم عنهُ يعني توظيف هذه الوسائل في أن تلعبَ دور المدرسة، فتمة ضروريات تفرضها الظروف الذاتية والموضوعية للكيانات الاجتماعية كما يتم هذا التوظيف بشكل يتماشى والقناعة التي تقرر بأن الاتصال الذي اكتسب طابعا مؤسسيا يمكن أن يستخدم في إعلام المواطنين أو السيطرة عليهم، أو التلاعب بهم، في حين يستغل الغموض عادة لمؤازرة الهوية الذاتية ويمكن أن يؤدي إلى تنميط المواقف والتطلعات.
والإلتجاء إلى استعمال وسائل الاتصال في الأغراض التعليمية ليسَ أمراً مرتبطاً باختيار معين يرى فيها شيئاً كَمالياً أو ترفيهياً، أو عُنصراً فاعلاً، وبصفة تجريبية لتجارب سابقة، ذلك أن الأمر أصبح ضرورياً ولامناص منه، ففي المجتمعات التي تفتقرُ إلى الأطر الكافية أو الإمكانات المادية لاستيعاب الأعداد الكبيرة من التلاميذ، والأعداد الكبيرة من الأميين، ضمن برامج محو الأمية، رأت في وسائل الاتصال عاملاً مُسَاعداً، قد يُعوضها عن النَّقْص الملمُوس في وسائل والأدوات وبالإضافة لهذا نجد المجتمعات المتقدمة التي لاتعاني أي نقص، نجد بأنها لجأت إلى وسائل الاتصال بهدف تلقين معارض عن طريقها على جميع المستويات التعليمية وأدخلته في برامجها ومناهجها وسعت إلى تربية أجيالها بأسلوب نقدي يتجه للاتصال، وهناك من التجارب بدرجات متفاوتة من النجاح في جميع أنحاء العالم وعلى كافة المستويات التعليمية نظما ووسائل.
إن هذا الإنتشار العام، في بعض المجتمعات، والجزئي في البعض الآخر لَيَعْكسُ وبصفة ملموسة قناعات الكثيرين بالمضمون العام للاتصال ومدلولاته، ومدى فعاليته في سباق الحركية المستمرة للفرد والمجتمع بالقدر الذي أصبح فيه شرطا ضروريا للعملية المحورية في حياة الانسان وهي التعليم.
فوجود الاتصال في كل مكان من المجتمعات الحديثة يعتبر علامة بارزة على ظهور إطار جديد للشخصية ويتسم بطابع تربوي.
وقد جسد إحدى علاقات هذا الطابع التربوي الطاغي في ما اصطلح عليه بظهور "الرجل الجديد" الذي بإمكانه وبمقدوره أن يكون نفسهُ على صعيد العادات والتفكير واتخاذ المواقف لذلك فإنه لمن الصعوبة بمكان إنكار هذا الأمر التربوي لوسائل الاتصال، وعلى هذا فالجدلُ لم يعد مقبولاً ولا مستساغا بخصوص فعالية أو لافعالية وسائل الاتصال في العملية التربوية وإنما أصبح الأمر يتعلق بإمكانية أن يحقق الاتصال النتائج القصوى في سياق تنمية المجتمع، ولن يتم هذا الأخير، مالم نركز على أهمية تطوير المناهج التعليمية التي ستساهم وسائل الاتصال في إيصالها، وحتى يمكن غرس قيم جديدة من شأنها تحقق التنمية المنشودة.
ويعتقد البعض بأن تعليم هذه القيم المستوحاة من مناهج جديدة ذات مضامين هادفة يأتي في أغلب الأحوال في السنوات الأولى.
وإذا كان للمدرسة الدور الرائد في زرع القيم الجديدة طبقا لمناهج محددة، فإن وسائل الاتصال قد جاءت لتنافس المدرسة في عملية الزرع هذه، إن الأمر قد يكون خطيراً إذا لم تكن المناهج الدراسية والبرامج التعليمية والتكوينية المبثوتة في وسائل الاتصال، تعي مدى تأثير هذه الوسائل، ذلك أن قيما حضارية مقابلة مقلدة تتسرب دون استئدان، والموضوعات ما تستدوعي مثيلا إذا لم يكن هناك ما يحولُ دونها، من ذلك العمل على توسيع مجال العملية التعليمية في وسائل الاتصال، ولا شك أنها قادرة على نقل مثل هذا العمل، ولذلك نلاحظ أن كثيرا من المجتمعات التي استعملت الاتصال في عملية التنشئة والتكوين حددت اتجاهين رئيسيين يعضدان مفهوم توسيع العملية التعليمية، الأول يرتبطُ باستعمال وسائل الإعلام في مختلف مراحل التعليم بديلا عن المدرسة، والثاني يدعو إلى الإستعانة بهذه الوسائل تعويضا عن النقص، وبالطبع فإن هذا الاتجاه الأخير لكي يتحقق فالعملية تتطلب تدريب جميع المشتغلين بالتدريس مما يتوافق والمتطلبات الجديدة مما يجعل العلاقة الجدلية بين المدرسين والإعلاميين تتطور بشكل توافقي، ولعل من علامات هذا الاهتمام هذا الاهتمام، الأعمال المشتركة لعلماء الاجتماع والنفس والاتصال والتربية، والتي أصبحت تركز أساسا عل إجراء بحوث علمية لقياس أثر استخدام الوسائل المختلفة في العملية التعليمية سواء بالنسبة للتعليم المدرسي، أوغير المدرسي أو ما يسمى في بعض الحالات بتعليم الكبار وآثار هذا الاستخدام خارج العملية التعليمية في مجالات تتصل بها كاللغة، وضمن هذا السياق تم التركيز على بحث أهمية تحديد العوامل القائمة والعوامل المؤثرة في العملية التعليمية، واعتبر هذا الاهتمام فهما نوعيا لحركية التنشئة والتكوين داخل المجتمع يتماشى ومتطلبات التنمية.
ومن هنا نصلُ إلى أن أهمية استخدام وسائل الاتصال في جميع مراحل التعليم قد اكتسب طابعا علميا وتجريبيا في مختلف المجتمعات يقوم أساسا على دراسات وأبحاث ميدانية نستمد أسسها المصدرية من منطلقات نظرية لها علاقة بعدة علوم كعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد...وكلما اهتمت بالدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في التأثير والتلقين مما يساعدُ على التطبيع والتنشئة الاجتماعية.
هامش المصادر والمراجع:
1- *وسائل الاعلام في مجال التربية"لمحمد آيت علو والأستاذة خديجة قرشي".
2- *د. حامد زهران، " علم النفس الاجتماعي" ص 299.
3- *زكي جابر- الإعلام والتنمية- مجلة الدراسات الاعلامية للسكان والتعليم-عدد27
4- *التربية الحديثة – صالح عبد العزيز – دار المعارف.
5- *قضايا تربوية"الشعور بالذات لدى المدرسين بين قلق التربية.."ذ. بنكريكش حسن..
6- *د.حسام الخطيب، لغة الثقافة ولغة الإعلام، مجلة الآداب العدد1مارس 1984.
7- *عالم المعرفة – عدد أكتوبر1985- النظام الاعلامي الجديد.
8* Patrice-pepel.se former pour enseigner.page39
9* G.Gusdorf.Pourquoi des professeures § page.18.