كلمة نيتشه: "مات الإله"- قراءة جيل دولوز وتأويل فتحي المسكيني - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"صيغة ’’الله مات’’ ذات طبيعة مختلفة تماما. إنها تجعل وجود الله يتبع تأليفا، تقوم بتأليف فكرة الله مع الزمن، مع الصيرورة، مع التاريخ، مع الإنسان"
جيل دولوز
"إن زرادشت نيتشه، النبي ما بعد الديني، يبدو لنا فجأة خيارا أخلاقيا مستحيلا"
فتحي المسكيني
تقديم
لازالت صيحة نيتشه "مات الإله" تثير ردودا ونقاشات وتوظيفات مختلفة، تدل على قوة فكر وحيوية فلسفة تمنح للعقول الحرة إمكانية التأسيس لحوار بين الاصدقاء حول قضايا العصر. إن التطورات التاريخية لمرحلة ما بين الحربين العالميتين، فرضت على مارتن هايدغر إثارة كلمة نيتشه:"مات الإله"(1)، كما دفعت عملية إعادة البناء ما بعد الحرب العالمية الثانية و"ما بعد التحرير" على جيل دولوز، البحث عن طريقة جديدة لاستئناف التفكير فيما وراء المدارس والتيارات الفلسفية (الوجودية والفينومينولوجية مثلا) والمشروع الرامي إلى أن تصير الفلسفة اللغة الرسمية لدولة خالصة(2). هكذا اهتم دولوز بفلاسفة ينفلتون كليا أو جزئيا من تاريخ الفلسفة أمثال سبينوزا، ونيتشه صاحب صرخة "مات الإله". أما تداعيات الحرب على "الخليفة الأخير" في بداية القرن الواحد والعشرين، فقد شجعت فتحي المسكيني على الزّج بتأويل "موت الإله" في النقاشات الدائرة حول مصير "الله الإسلامي" وأفق الملة أو الجماعة. وقد شكل الموقف من "الإرهاب" مدخلا لإضفاء مشروعية العودة إلى مُساءلة كلمة نيتشه: "مات الإله".

1-"مات الإله": تفعيل حكم سابق ضد الإنحطاط والعدمية
استشعر فريديريك نيتشه بحسّه التاريخي والجينيالوجي والفلسفي بداية سيادة الكائنات الحقيرة المُمثلة في "الإنسان الاخير" أطول البشر عمرا. لذلك أعلن عن "موت الإله"، وهو الموضوع المركزي والمثير في كتاب زرادشت، حيث يقول:" إنه لأمر مستغرب، ألا يسمع هذا الشيخ في غابة أن الإله قد مات؟"(3). مقابل ذلك، بشّر بمجيء "الإنسان الأعلى" قائلا: " أتيت لأخبركم بالإنسان الأعلى، جئت أحمل إليكم بشارة الإنسان الأعلى". إن الإنسان الأعلى هو الكائن الوحيد القادر على تجاوز العدمية التي خلفها الإعلان عن موت الإله الأخلاقي الفلسفي والمسيحي. وإنه لإنسان المستقبل الذي شأنه أن يُحرّر الناس من المثال، وأن يخرجهم من قرف إرادة العدم والعدمية، وأن يحرر الإرادة، ويعيد إلى الأرض بُغيتها وإلى الإنسان أمله. وإنه لقاهر المسيح والعدم، والمنتصر على إله الأخلاق المسيحي والعدم(4). راهن نيتشه على تجاوز "الإنسان الأخير"(5) الكائن المريض والهادي(الإنسان الطيب المسيحي والإنسان الحديث العدمي)، وتحويل القيم الموروثة عن عصور الإنحطاط، غاية في افتتاح عصر "الإنسان الأعلى" الكائن الأشد براءة وصلابة، وإبداع قيم جديدة لمستقبل قريب وعصر آت.
لم يكن فريديريك نيتشه أول من أعلن "موت الإله"، ولا أول من ألحق دراما الموت بالإله، فقد طرحت قبله مع الشاعر الألماني هنري هينه Henri Heine، حيث ورد في كتابه: - تاريخ الدين والفلسفة - ما يلي: "اسمعوا هذا الجرس الصغير، واركعوا، إننا نحمل على عاتقنا تقديسات جمة لإله ميت". والحال أن موت الإله قد ورد في زمن غابر في التلمود، معلنا بذلك التأسيس لإنسان قتل نفسه لصالح شيء آخر(...). هيغل نفسه في كتيبه "الإعتقاد والمعرفة" - وهو من أشد المدافعين عن المسيحية - يقول:"الإحساس الذي من خلاله تستريح ديانة الحقبة الجديدة، هو الإحساس الذي يعلن أن الإله نفسه قد مات" (...) . والحال أن فيلسوفا كبيرا من طينة باسكال قد قال فيما قال فيه نقلا عن بلوتارك نفس العبارة وإن كانت تحمل أكثر من تأويل le grand pan est mort(6).
2-جيل دولوز: "موت الإله" في ملتقى المعنى والإرادة والحياة
يعتبر جيل دولوز صيغة "مات الإله" قضية درامية بامتياز، وليست قضية نظرية. إن القضية الدرامية تأليفية، إذن تعددية، وتيبولوجية وتفاضلية من حيث الجوهر(7). ترتبط أولا فكرة الله بإرادة العدم وتمجيد الحياة الإرتكاسية، وتعبّر في الضمير اليهودي والمسيحي عن إرادة العدم، وعن الحط من قيمة الحياة، بل إنكارها وجعل مركز ثقل الحياة في الآخرة كما يؤكد نيتشه. في هذا السياق، يُحدّد دولوز أربع معاني ل"موت الإله":
-المعنى الأول: إن الله اليهودي يُميت ابنه لجعله مُستقلا عن ذاته، وعن الشعب اليهودي... . حتى ساتورن لم تكن له هذه الدقة في الدوافع، إن الضمير اليهودي يميت الله في شخص الإبن: يخترع إله محبة يتألم من الحقد، بدل أن يجد فيه مقدماته المنطقية ومبدأه. الضمير اليهودي يجعل الله في ابنه مستقلا عن المقدمات اليهودية بالذات. وإذا مات الله، وجد وسيلة جعل إلهه إلها شاملا "للجميع" وكوسموبوليتيا حق(8).
-المعنى الثاني: الله المسيحي هو إذا الله اليهودي، لكن الذي غدا كوسموبوليتيا، خلاصة مفصولة عن مقدماتها المنطقية. يكف الله، على الصليب، عن الظهور كيهودي. لأجل ذلك، إن من يموت على الصليب هو الله القديم، بينما يولد الله الجديد. يولد يتيما ويصنع لنفسه من جديد أبا على صورته ومثاله: إله محبة، لكن هذه المحبة هي أيضا محبة الحياة الإرتكاسية.... يموت الأب، فيصنع لنا الإبن إلها من جديد. يطلب الإبن منا فقط أن نؤمن به، ونحبه كما يحبنا، وأن نصير ارتكاسيين لتفادي الحقد. ومكان أب كان يخيفنا، يحل ابن يطلب قليلا من الثقة، قليلا من الإيمان. إن حب الحياة الإرتكاسية، المنفصل في الظاهر عن مقدماته الحاقدة، ينبغي أن تكون له قيمة بذاته، أن يصبح الحب الشامل بالنسبة للضمير المسيحي(9).
-المعنى الثالث: يستولي القديس بولس على هذا الموت، ويعطي تفسيرا له يشكل المسيحية. كانت الأناجيل قد بدأت، وقد دفع القديس بولس إلى درجة الكمال بعملية تزوير هائلة. فأولا مات المسيح في رأيه لأجل خطايانا ! ولقد قدم الدائن ابنه شخصيا، دفع لنفسه ابنه مستقلا، بل من أجلنا، وبسببنا. يرفع الله ابنه على الصليب بفعل المحبة؛ وسوف نرد على هذه المحبة بقدر ما سنحس بأنفسنا مذنبين بهذا الموت، وبقدرما نعوض من هذا الذنب عبر اتهام أنفسنا، ودفع فوائد الدين. وفي ظل محبة الله، والتضحية بابنه، تصبح الحياة ارتكاسية بكاملها. تموت الحياة، لكنها تبعث مجددا بوصفها ارتكاسية. إن الحياة الإرتكاسية هي مضمون البقاء على قيد الحياة بوصفه بقاء، مضمون الإنبعاث، وحدها اختارها الله، وحدها تحظى بالرعاية أمام الله، أمام إرادة العدم. الله المصلوب يبعث حيّا: هذا هو تزوير القديس بولس الآخر، قيامة المسيح وبقاؤه على قيد الحياة من أجلنا، وحدة المحبة والحياة الإرتكاسية. لم يعد الأب هو الذي قتل الإبن، ولم يعد الإبن هو من يقتل الأب: الأب يموت في الإبن، والإبن يبعث حيا في الأب، لأجلنا، وبسببنا(10).
-المعنى الرابع: إلى هنا يعني موت الله التأليف الذي يجمع في فكرة الله إرادة العدم والحياة الإرتكاسية. ولهذا التأليف نسب متنوعة. لكن بمقدار ما تصبح الحياة الإرتكاسية الشيء الجوهري، تقودنا المسيحية إلى مخرج غريب. تعلمنا أننا نحن الذين نميت الله إنها تُفرز بذلك إلحادها الخاص بها، إلحاد الإحساس بالخطإ والإضطغان. الحياة الإرتكاسية بدلا من الإرادة الإلهية، الإنسان الإرتكاسي بدلا من الله، الإنسان-الله وليس الله-الإنسان بعد الآن، الإنسان الأوربي . لقد قتل الإنسان الله، لكن من قتل الله؟ إنه الإنسان الإرتكاسي، "أقبح العالمين".لم تكن الإرادة الإلهية، إرادة العدم تتسامح مع حياة غير الحياة الإرتكاسية، وهذه الأخيرة لم تعد حتى تحتمل إلها، هي لا تحتمل إشفاق الله، وهي تقبل تضحيته على الفور، تخنقه في فخ رحمته. تحول بينه وبين القيامة، تجلس على الغطاء. لم تعد هنالك علاقة متبادلة بين الإرادة الإلهية والحياة الإرتكاسية، بل نقل الله، إحلال الإنسان الإرتكاسي محلّه... . يختنق الله حبا بالحياة الإرتكاسية، يخنقه ناكرا الجميل الذي يحبه كثيرا(11).
يعني إذن "موت الله" التأليف الذي يجمع في فكرة الله إرادة العدم والحياة الإرتكاسية. تبدأ الحكاية مع المسيح صاحب الرسالة الفرحة التي حملت "إلغاء فكرة الخطيئة" و"غياب كل اضطغان وكل روح انتقام" و"رفض كل حرب" و"القبول بالموت كدليل على مذهبه". كان المسيح يعلم الحياة الإرتكاسية أن تموت بهدوء، وتنطفئ بسلبية، وكان يبين الحياة الإرتكاسية مخرجها الحقيقي(12). وتستمر هذه الحكاية مع استيلاء القديس بولس على فكرة "موت الله" وما سيستتبعها من تزوير؛ "قيامة المسيح وبقاؤه على قيد الحياة من أجلنا، وحدة المحبة والحياة الإرتكاسية" (التحديد الثالث لفكرة ’’موت الله’’). وأخيرا، تُتوّج هذه المسيرة العدمية والإرتكاسية مع "الإصلاح الديني"، والفكر الحر، والإيديولوجية الديمقراطية والإشتراكية ، إلخ(13).
3- فتحي المسكيني: الموقف من فكرة نيتشه "موت الإله"
يركّز فتحي المسكيني على القسم الرابع من كتاب هكذا تكلم زرادشت، وعلى عنوان "خارج الخدمة" أو "العاطل"، الذي يدور حول التساؤل التالي: ما هو مصير "البابا الأخير" بعد أن شاع بأن "الإله القديم لم يعد حياّ، ذاك الذي كان العالم كله يؤمن به في ما مضى". يعلق المسكيني، أن نيتشه لم يقل هنا إنه "قد مات"، بل "لم يعد حيا"، إذ إن الأمر لا يتعلق بالإله بحد ذاته، بل بوعي المؤمنين به(14). لهذا يُنبّه بقوة إلى اختلاف موت الإله المسيحي في وعي الأوربيين منذ القرن التاسع عشر، واستمرار الإله الإسلامي على قيد الحياة في وعي المسلمين إلى اليوم، رغم تأكيده على الإنتماء المشترك للمسيحيين والمسلمين للإله التوحيدي الإبراهيمي.
يؤكد المسكيني على أن أطروحة "موت الإله" الأوربية لا تعنينا، ولا فائدة منها ولا دور لها في عملية التحرر من الموروث الديني أو بناء الدولة الحديثة. فإذا كان مشكل نيتشه ظل متعلقا بمصير الإله الأخلاقي في وعي الأوربيين المعاصرين، فإن مشكلتنا نحن هو بشكل أو بآخر متعلق بماهية "التدبير" المدني للحقيقة: إن زرادشت، النبي ما بعد الديني، يبدو لنا فجأة خيارا أخلاقيا مستحيلا. يتخوف المسكيني من توريط الدين في النزاع الدنيوي حول البحث على وسائط الإنتاج والسلطة، ويرى في الأمر تعبيرا عن موقف سياسي، وليس ركنا من أركان التقوى أو الإستعداد للآخرة. لذا يُنبّه إلى تزامن ُسقوط الأفق الروحي الذي يشد الإنسانية مع إعلان موت الإله خلال القرن التاسع عشر، وإلى ما يقع الآن مع "الإرهاب باسم الله". فحين يسقط أفق الروح -يقول المسكيني- ينقلب كل المؤمنين فجأة إلى يتامى ميتافيزيقيين وإلى عالة أخلاقية على ضمير البشر في كل مكان.
يثير المسكيني أيضا، فكرة "موت الإله" وأثرها على قضية الإيمان ووعي المؤمنين، والتي تسمح بإقحام ثنائية "الإيمان والإلحاد" العزيزة على علماء/فقهاء الملة. لهذا يسارع إلى الإعتراض بقوله: "لا يكفي أن تتبنى إلحادا منهجيا حتى تتحرر من الموروث الديني"، ويتساءل:"أليس التحرر من الآلهة مدعاة مرعبة للمرح ؟. تشكل اعتراضات المسكيني مدخلا آمنا للتأكيد على دور فكرة الله كشكل التعالي الذي جعل كل أنواع الحرية الإنسانية ممكنة، وعلى خصوصية الملة كجماعة روحية وحيدة حافظ فيها الله على صحة أخلاقية جيدة. الشيء الذي يجعل الإلحاد ليس حلا أخلاقيا مناسبا لنا -يقول المسكيني- وأن النبأ الذي لا نريد أن نسمعه هو أن شيئا مقدسا ومهيبا في تاريخ أنفسنا العميقة هو "لم يعد حيا". ربما هو فعلا لم يمت. ومن ثم أن أطروحة موت الإله الأوربية لا تعنينا(15).
أكيد أن "الإله المسيحي" نفسه لم يمت، وكلمة نيتشه "مات الإله" تعني فقط "أن العالم االمعقول افتقد مكانته وقيمته"، وأن الأمر يتعلق بقضية ميتافيزيقية حسب مارتن هايدغر، فلا ينبغي أن يفهم "موت الإله" في سياق الكف عن الإعتقاد في الإله. في حين تصوره جيل دولوز على أنه قضية درامية تأليفية، بمعنى أن الآلهة تموت دائما وفق طرق مختلفة(16).
لذلك، وجب التأكيد على أن الملة لازلت مُحتاجة، الآن وغدا، إلى استمرار حياة الله، كما أن الغرب محتاج هو الآخر إلى المقدس وإلى عودة الآلهة، والأمر منوط بفهم الكينونة وعدم نسيانها؛ ف"لن ينقدنا سوى الإله" يتدرّع مارتن هايدغر.
4- قراءة جيل دولوز لمصير"البابا الأخير" بعد "موت الإله"
يشير جيل دولوز إلى انتماء "البابا الأخير" إلى الناس المتفوقين ( الملكان، الأبشع بين البشر، إنسان العلقة، المتسول الطوعي، الساحر، الظل المسافر، العراف) الذين يعبرون عن المشروع نفسه: بعد موت الله، استبدال القيم الإلهية بقيم إنسانية. يمثلون إذن صيرورة الثقافة، أو الجهد لوضع الإنسان مكان الله(17)، فما مميزات شخصية "البابا الأخير"؟
يقول دولوز:" البابا الأخير: يعرف أن الله مات، لكنه يظن أن الله خنق نفسه بنفسه، خنق نفسه شفقة، لكونه لم يعد يتحمل حبه للناس. أصبح البابا الأخير من دون سيد، ومع ذلك ليس حرّا، يحيى على الذكريات(18). ومن العلامات التي تُميّزه، هي انتماؤه إلى العدمية، لا يعرف أن يضحك، أو يلعب، أو يرقص، يرغب في الحياة؛ لكنها حياة قريبة من الصفر، حياة ضعيفة، مريضة، وارتكاسية.
ترتبط قراءة دولوز لفكرة نيتشه "مات الإله" بقصة معنى الوجود ومفهوم الحياة؛ إنها القصة الأفلاطونية-المسيحية التي جعلت الوجود مذنبا واعتبرته "ظاهرة أخلاقية أو دينية". تميّز تاريخ هذه القصة بنمو الإضطغان/الحقد مع الكاهن اليهودي، ونمو الداخلية مع الإحساس بالخطإ، وانتصار المثل الأعلى الزهدي -الذي يعبّر عن قرابة مع القوى الإرتكاسية- مع العدمية في المسيحية. لم يعد الأمر متعلقا فقط بالحط من قيمة الحياة باسم القيم العليا، بل بات حطّا من قيمة القيم العليا ذاتها. ولم يعد الحط من القيمة يعني قيمة عدم تأخذها الحياة، بل عدم القيم، القيم العليا(19). مقابل هذا التصور الإرتكاسي للوجود والحياة، تؤكد القراءة الدولوزية على براءة الحياة وعدالتها بصورة جذرية، واعتبار الوجود ظاهرة جمالية(20). هكذا يترافق الإعلان عن "موت الإله" بضرورة تفعيل قوى الجسد وإسناد إرادة القوة إلى الإثبات(21)؛ إثبات الحياة والإنخراط في عملية تحويل القيم عن طريق تدمير القيم المعروفة وإبداع أخرى جديدة.
5- تأويل فتحي المسكيني ل"الخليفة الأخير" واستمرار حياة "الله الإسلامي"
يُنبّه فتحي المسكيني إلى أن "الخليفة الأخير" ليس فردا يمكن القبض عليه أو قتله: لا معنى لأن نقتل فكرة، تماما مثل الألوهة علينا أن نحترز من أية شخصنة لعدوّ يتجاوز مفهومه كلّ حياة خاصة(22). ومقابل "موت الإله" المسيحي، يؤكد المسكيني على استمرار الله الإسلامي على قيد الحياة في وعي المسلمين إلى اليوم. ويربط أفق الإله المسيحي بالكنيسة، بينما يجعل أفق الله الإسلامي هو الملة أو الجماعة؛ أي نمط الجماعة الروحية التي تتأسس على "الدين"، وأن "ما مات لدينا ليس الله بل الملة"(23). لكن وجب التأكيد على أن استمرار الله الإسلامي يجد أساسه في استمرار الملة، الشيء الذي لن يُوفّر أي سياق صحي لاختراع سياسة حقيقة تمكننا في الإنخراط الواجب في أفق الإنسانية الحالية، كما يأمل المسكيني.
يُسارع المسكيني إذن، إلى "التفكير ما بعد الملة" وليس مُساءلة أطروحة "موت الإله" التي يعتبرها تتويجا مرعبا لمغامرة التنوير. ويدعو "المسلم الأخير" إلى إعادة تجديد العلاقة بنفسه على نحو جذري، مادام هو المكلف بأن يضطلع بمهمة مخصوصة هي كونه "الخليفة الأخير" في رهطه الآيل إلى الإنقراض الأخلاقي على صعيد الإنسانية(24). وإذا كان "البابا الأخير" قد وجد نفسه "عاطلا" أو "خارج الخدمة" مع دعوة نيتشه لمصاحبته نحو مصيره الخاص، فإن أمام "المسلم الأخير" فرصة لتفعيل عملية "الإنتقاء" والنسيان المناسب؛ يهم هذه المرة الجانب الذي لم يعد صالحا للإستعمال (بات عاطلا أو خارج الخدمة)(25).
ينتهي التأويل المسكيني لحياة "الخليفة الاخير" ومآله بالتنبيه إلى ضرورة التمييز بين ما هو "حي" و"ما لم يعد حياة" في ثقافة الملة، وتحديد شكل الحياة الذي لا يزال قابلا للحياة؟، مع الإصرار على نصيحة زرادشت ل"البابا الأخير" الذي لم يحتمل أسئلته بشأن "موت الإله": "دعه يذهب"... . دعه، يقول فتحي المسكيني، تعني هنا اتركه لمصيره، دون أي حكم أو إدانة ضد أحد.
فهل الأمر يتعلق بانتقاء ولامبالاة، تجعل ذاك الذي يضطلع ب"التفكير/التأويل" يتجنُب العداوة ولا يخاطر بإزعاج أحد...؟.
خاتمة
ترتبط قراءة جيل دولوز لصيغة "مات الإله" بالتفكير في فكرة الله وفي علاقة الفكر بالحياة، والتساؤل عن الظروف التاريخية التي جلعت "الفكر يخدم الحياة" منذ سقراط، في حين كانت "الحياة تخدم الفكر لدى كل الفلاسفة السابقين" كما يؤكد نيتشه. إن المطلوب حسب دولوز، هو إبداع فكر يمضي إلى أقصى ما تستطيعه الحياة، واكتشاف إمكانات جديدة للحياة(26)، وهذا يعني تمجيد القوى الفاعلة القادرة على الإبداع والتشريع ووضع مركز ثقل الحياة في الحياة نفسها.
بالنسبة لتأويل فتحي المسكيني، فإن موت الإله المسيحي أدى فقط إلى موت الإنسان نفسه وغياب المعنى عن العالم، وترك الإنسان المعاصر بلا حماية من الآخرة. لذلك يدعو إلى الإنتماء بصدق إلى التراث الخاص(علوم شرعية، فقه، نحو...) وليس إلى الفلسفة !، وإلى الأفق الإبراهيمي كشكل وحيد ومناسب للإنتماء إلى النفس. ويقول، أن الإنسان الأخير/الإنسان المسلم يملك ثروة أخلاقية يمكن لأي شعب أن يشتق منها هويته العميقة. تتمثل هذه الهوية -بل تُختزل- حسب المسكيني في "القيم الدينية" و"الواجب الأخلاقي" الذي يفهمه كل أعضاء الملة دون تمييز والذي تم توزيعه "ديموقراطيا" منذ ذاك العصر المسمى ب"العصر الذهبي" ولمساته الميتافيزيقية الرائعة، والتي توفر الأجوبة المناسبة لكل الأسئلة الوجودية، دون مطالبة بتفعيل الإرادة والجهد أو حرق الأعصاب، بتعبير فتحي المسكيني(27). في نفس الوقت، يؤكد على مواصلة "الإله الإسلامي" حياته العادية بعد موت الإله الأخلاقي في أفق الإنسانية الأوربية، ويشيد بالصحة الجيدة للملة ومعنوياتها المرتفعة بقوله:"نحن نملك بنى ذاتية وسيرورات إنتاج ذاتي وهووي في صحة جيدة وتعمل بكامل سرعتها ومداها. وبالمقارنة مع "الإنسان الأخير" في الغرب، فإن "المسلم الأخير" يتحلى عندنا بمعنويات ميتافيزيقية عالية، فهو لا يعاني من أي أمراض عدمية(28).
الهوامش:
1- في سنة 1943، ناقش مارتن هايدغر "موت الإله"، في محاضرة بعنوان: "كلمة نيتشه، مات الإله" « Le mot de Nietzsche : Dieu est mort » ، والمحاضرة موجودة ضمن محتويات كتاب: "طرق لا تؤدي إلى أي مكان"،
-Martin Heidegger : Chemins qui ne mènent nulle part , traduit de l’allemand par Wolfgang Brokmeier ,Editions Gallimard, 1962.
2- جيل دولوز وكلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، المغرب-الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1999، ص23.
3- فريديريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، المكتبة الثقافية، بيروت-لبنان، ص32.
يقول نيتشه:
-"أما سمعتم بذلك الرجل الأخرق الذي، بعد أن أوقد فانوسه في وضح النهار، صار يجري في ساحة السوق ويصيح دون توقف:’’ أبحث عن الإله! إني أبحث عن الإله!’’...، أين الإله؟ صاح فيهم، أنا سأقوله لكم؟ لقد قتلناه – أنتم وأنا!...، مات الإله! [و] يظل الإله ميتا! ونحن هم الذين قتلناه! كيف سنعزي أنفسنا نحن أكبر القتلة؟ إن أقدس وأقوى ما ملك العالم إلى الآن قد نزف دمه بطعنات مُدانا – من سيمسح هذا الدم عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟ أية مراسيم تكفيرية، أية ألعاب مقدسة يجب علينا أن نبتكر؟ وعظم هذه الفعلة، أليس شيئا يفوق طاقتنا؟ ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة كي نبدو جديرين بهذه الفعلة؟ بفريديريك نيتشه: العلم المرح، شذرة 125 "الأخرق"، ص132.
-"يبدأ منذ الآن أكبر حدث حديث العهد في بسط ظله على أوربا- إذا علمنا أن ’’الإله قد مات’’، أن الإعتقاد المسيحي قد فُقدت فيه الثقة (...). في الواقع إننا نحن الفلاسفة، نحن ’’العقول الحرة’’ عند سماع خبر أن ’’الإله قد مات’’ نحس وكأن أشعة فجر جديد قد لمستنا"، فريديريك نيتشه: العلم المرح، الكتاب الخامس، شذة 343 "ما آل إليه مرحنا"، ص204.
-"بعد أن مات بوذا أُظهر ظله في مغارة طيلة قرون – [وكان] ظلا رهيبا ومخيفا. لقد مات الإله: لكن هاته هي طبيعة الناس بحيث ستكون هناك، ربما طيلة ألفيات، مغارات يعرض فيها ظله. – أما نحن – فيجب علينا أن نهزم ظله كذلك !، فريديريك نيتشه: العلم المرح، الكتاب الثالث، شذرة 108 "صراعات جديدة"، ترجمة وتقديم حسان بورقية-محمد الناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1993، ص122.
يُعدّد دولوز هذه المغارات التي يُعرض فيها ظل الإله قائلا:"لقد تشتت إلاه القرون الوسطى، لكنه لم يفقد من ذلك قوته ولا وحدته الشكلية العميقة: فالعلم، الطبقة العاملة، الحزب، التقدم، الأمان، الديمقراطية، الإشتراكية – وستطول القائمة – هي أشكال لتحولاته. لقد أخذت هذه المتعاليات مكانه وهذا يكفي للقول بأنه مازال هنا، كامل الحضور"، فهي تمارس بضراوة مهامها التنظيمية والتدميرية"، جيل دولوز: بيركليس وفردي: فلسفة فرانسوا شاتليه، ترجمة حسيت عجة، موقع الأوان، 11 مارس 2018.
4- محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر نينشه، ص695.
5- انظر مقالتي: ادريس شرود: نيتشه والإنسان الأخير: نحو تجاوز ممكن، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 24 يونيو 2016.
6- هادي معزوز: موت الإله في فلسفة نيتشه، موقع أنفاس للثقافة والإنسان، 07 أغسطس 2014.
يقول والتر كاوفمان:" سمع البحارة الإغريق ذات مرة في زمن تايبيريوس، وهم يمرون بجزيرة منعزلة، صيحة صاكة ’’لقد مات بان⃰ العظيم’’ "، والتر كوفمان: التراجيديا والفلسفة، ترجمة: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 1993، ص187.
⃰- بان: إله المراعي والقطعان في الميثولوجيا الإغريقية.
7- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص195.
8- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص196.
9- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص197.
10- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص197 و178.
11- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص198 و199.
يقول دولوز عن "أقبح العالمين":"الأبشع بين البشر: هو الذي قتل الله، لأنه لم يكن يتحمل شفقته. لكنه كان دائما الرجل العجوز، الأشد بشاعة أيضا: بدلا من الإحساس بالخطإ لإله مات على يده؛ بدلا من الشفقة الآتية من الله، يعرف الشفقة الآتية من الناس، شفقة الرعاع، الأكثر لاقابلية للتحمل. هو الذي يقود لازمة الحمار، ويحفز ال"نعم" الزائفة"، جيل دولوز: نيتشه، تعريب أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1998، ص52.
12- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص200.
13- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص195.
14- فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الأولى)، مؤمنون بلا حدود، 27 يونيو 2017.
15- فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الأولى)، مؤمنون بلا حدود، 27 يونيو 2017.
16- فوزية ضيف الله: كلمات نيتشه الأساسية ضمن القراءة الهيدغرية، دار الأمان، الرباط-المغرب، الطبعة الأولى، 2015، ص260.
17- جيل دولوز: نيتشه، ص51.
18- جيل دولوز: نيتشه، ص51.
19- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص190.
20- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص33.
21- يقول دولوز:" "إن الضحك واللعب والرقص، المسندة إلى زرادشت، هي مقدرات التحويل الإثباتية: يحوّل الرقص الثقيل إلى خفيف ويحول الضحك الألم إلى فرح، وتحول لعبة رمي (النرد) السافل إلى عال. لكن حين يُسند الرقص والضحك واللعب إلى ديونيزوس، تكون مقدرات العكس والإنماء الإثباتية. يثبت الرقص الصيرورة ووجود الصيرورة؛ ويثبت الضحك والقهقهات المتعدد وواحد المتعدد؛ ويثبت اللعب الصدفة وضرورة الصدفة"، جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص247.
22- فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الأولى)، مؤمنون بلا حدود، 27 يونيو 2017.
23- فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الأولى)، مؤمنون بلا حدود، 27 يونيو 2017.
24- فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الثانية)، مؤمنون بلا حدود، 03 أغسطس 2017.
25- يقول المسكيني:" من المرعب حقا كم نحافظ على أشياء لم نعد نستطيع استعمالها بأي وجه. ومنها ماضينا مثلا. و"الماضي" الكبير هو الهوية التي لم تعد صالحة للسكن" ويستدرك المسكيني قائلا:"لا يعني ذلك أن علينا أن ننتحر أخلاقيا ونعلن الإفلاس الميتافيزيقي، ونعتنق دينا آخر (كما يفعل المتسولون على عتبة أديان أخرى) أو نلتقي بانتمائنا العميق وكأنه عبء هووي علينا التخلص منه. لا يمكن أن نتسول هوية، بل فقط علينا أن نخترع أنفسنا من جديدة، ومن الداخل. كل اللحظات الفارقة في تاريخنا الطويل الأمد (منذ المعلقات إلى اليوم) هي تنتمي إلينا وننتمي إليها بلا رجعة"، فتحي المسكيني: الخليفة الأخير (الحلقة الثانية) ، 03 أغسطس 2017.
26- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص129.
27- ادريس شرود: في نقد الحكم الأخلاقي-أصل الأخلاق والحكم الأخلاق- (المقالة الأولى)، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 16 يوليو 2019 / موقع كوة، 09 أغسطس 2019.
28- ادريس شرود: فتحي المسكيني والإغريق، سؤال العلاقة مع الذات والآخر، موقع كوة، 12 سيبتمبر 2019 / موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 14 شتنبر 2019 –موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 14 شتنبر 2019.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟