مفهوم العقل عند محمد عابد الجابري: دراسة تحليلية - محمد الحاجي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة:
لا يمكن بأي حال أن ننكر المحاولات المتكررة لإنشاء "فلسفة مغاربية" قائمة بذاتها، حتى وإن بقي ذلك في مجرد طموحات فكرية يحركها الاجتهاد والرغبة في فهم جيد للعالم، بمنظور "عربي-إسلامي". وبما أن فهم العالم لا يستقيم إلا بفهم العقل المفكِّر، أو ربما المنشئ لهذا العالم، كان نقد العقل منطلقا أساسيا وأوليا لكل مشروع للنهضة[1]. فهذه الأخيرة بالنسبة للأستاذ الجابري، لا تستقيم إلا بعقل ناهض؛ عقل يقوم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه*[2]. هكذا كان مفهوم العقل بالنسبة للأستاذ الجابري يرتبط بالإشكالات الكبرى التي زاد الاهتمام بها بشكل واضح خلال الخمسين عام الأخيرة، إنها إشكالات تتعلق بعلاقة الإنسان (العربي) والأزمة التي يتخبط فيها، بثقافته وتراثه؛ أي هل التراث هو الأزمة أم أن التراث هو بداية الانطلاق نحو “النهضة"؟ وما طبيعة الانتظام داخل العلاقة مع تراثنا القديم وماضينا؟ هل نترك للتراث القديم أن يسير الحاضر ويتحكم في مصاره، أم أن التراث القديم ينبغي أن نقطع معه، ونعيد إنتاج ثقافتنا بما يؤدي إلى تغيير الواقع الاجتماعي؟ تلك إذن هي الأسئلة الكبرى والمركزية التي وجهت أعمال المفكرين العرب في تلك الفترة، فكان الجابري هو الآخر منشغلا بها (إشكالات الفكر العربي) في العديد من كتبه، خاصة منها كتابين أساسيين ينتميان إلى مشروعه الفكري الخاص بـ “نقد الفكر العربي"، وهما: "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي".

لن ندعي في هذه الورقة تقديم تحليل أو نقد لما كتبه الأستاذ الجابري، بل ما يهمنا هو تتبع بعض ملامح إحدى المفاهيم الرئيسة في مشروع أستاذنا والذي هو "مفهوم العقل". وذلك لا بالرجوع إلى ما قيل حول هذا المفهوم في فلسفة الجابري، ولا حتى التأويلات التي أعطيت له، بل سنكتفي بتحليل وصفي لمفهوم العقل كما حدده الجابري نفسه في كتبه، محاولين تتبع تصوره لهذا المفهوم، قصد بيان هل استطاع الأستاذ الجابري فعلا تحديد هذا العقل (العقل العربي) الذي هو في صدد نقده في مشروعه الفلسفي؟ وماهي الآليات والمفاهيم والتصورات التي يحلل من خلالها الجابري مفهوم العقل؟

أو لا: دلالة العقل العربي في مشروع الجابري:

يشير الأستاذ الجابري منذ مقدمة كتابه "تكوين العقل العربي" بالإفصاح عن الطموح الذي يوجه مشروعه هذا بالقول: "إن المهمة المضاعفة التي يطمح هذا المشروع إلى تدشين العمل فيها: استئناف النظر في تاريخ الثقافة الإسلامية من جهة أولى، وبدء النظر في كيان العقل العربي وآلياته من جهة ثانية. وهكذا انقسم المشروع إلى جزئيين منفصلين ولكن متكاملين: جزء يتناول "تكوين العقل العربي"، وجزء يتناول تحليل بنية العقل العربي. الأول يهيمن فيه التحليل التكويني والثاني يسود فيه التحليل البنيوي"[3]. هكذا يعفينا الأستاذ الجابري من هم التأويل والتضارب حول ما يهدف إليه من مشروعه الفكري هذا، كما يعفينا أيضا من هم البحث في متون المشروع بكامله، عن العدة المنهجية المتبعة، والتي تتحدد كما صرح الرجل في منهجين أساسيين؛ تارة المنهج التحليلي والأركيولوجي على الخصوص، وتارة المنهج البنيوي، حسب ما تقتضيه الضرورة العلمية. لذلك نراه (وهو ما صرح به الجابري نفسه) في "تكوين العقل العربي" يهيمن علين منهج التحليلي الأركيولوجي من خلال الحفر في أعماق الثقافة العربية، بينما في الجزء الخاص بـ “بنية العقل العربي" نجده يميل أكثر إلى المنهج البنيوي، من خلال البحث في بنيات العقل العربي ومكوناته والعلاقة الرابطة بين هذه البنيات. لكن هذا الأمر لا يمنع من إعادة تمحيص رباعية الأستاذ الجابري، والكشف عن مكنوناته الفكرية والعلمية والأيديولوجية، خاصة فيما يتصل بالمنهج، سيما وأن معظم الباحثين في فكر الجابري يؤكدون على صعوبة تحديد منهجه العلمي، نظرا لكونه يتأرجح بين مناهج متعددة في لحظات بعينها.

لكن قبل الخوض في مسألة المنهج (أو المناهج) التي اعتمدها الجابري في تحليل العقل العربي، يجب بدأً تحديد قدر الإمكان ما يقصده الرجل من مفهوم "العقل العربي". إذ لا يمكن لأي متصفح لمشروع الأستاذ الجابري منذ الكتاب الأول من رباعيته، إلا أن يتساءل حول دلالة ومقاصد القول بـ “العقل –العربي" وليس العقل الإسلامي أو العقل الغربي أو غيره. وبسؤال واضح: لماذا ربط الأستاذ الجابري مفهوم العقل الذي هو بصدد تحليله بـ “العربي" دون غيره من التحديدات التي يمكن أن تدل على ما يمكن أن نصطلح عليه بروح الثقافة العربية-الإسلامية؟ هل هذا يعني أن العقل الذي يقصده الجابري هو ذاك الذي تحدده مكونات الثقافة العربية، ولا يعنيه ما يتصل به من مكونات الثقافة الإسلامية؟ ثم من جهة أخرى، هل يمكن أن نفهم من عبارة "العقل العربي" غياب العقل عند الشعوب غير العربية، أم أن هذا العقل الذي يقصده الجابري هو وصفات خاصة تجعله يتمايز عن غيره؟ بمعنى آخر، هل يعني هذا الربط بين "العقل" و"العربي"، أن هناك عقل عربي وآخر غير عربي؟

للإجابة على هاته الأسئلة يمكننا أن نعود إلى القسم الأول من كتاب "تكوين العقل العربي" والذي عنونه الأستاذ الجابري بـ “العقل العربي...بأي معنى؟ مقاربات أولية"، لنلاحظ الرجل على وعي بما يمكن أن تثيره عبارة "عقل عربي" من تساؤلات لدى القارئ، مشيرا إلى أنه "كان يمكن تجاوز مثل هذه التساؤلات لواننا استعملنا كلمة (فكر) بدل كلمة (عقل)"[4]. فاستعمال كلمة "فكر" كعنوان للكتاب كما يقول كاتبهن من شأنها أن تحيل القارئ على ما لا يهدف إليه الكاتب من مشروعه ككل؛ فاقتران كلمة "فكر" بشعب معين كالقول "فكر عربي" أو "فكر فرنسي" كما هو شائع اليوم تحيل إلى مجموعة الأفكار والآراء التي يعبر بها شعب ما عن أفكاره ومعتقداته ... إلخ. وبالتالي ستتخذ هذه الكلمة معنى "الأيديولوجية"[5]. وهو الأمر الذي يشدد الجابري على تجاوزه، من خلال ربطه لـ “مفهوم العقل" ليس بالأفكار التي ينتجها، بل به هو ذاته كأداة لإنتاج هذه الأفكار[6].

هكذا يصبح العقل كما يراه الجابري ليس شيئا منفعلا (أي الأفكار)، بل هو أداة فاعلة، إنه أداة تفعل وتتشكل في محيطها الاجتماعي. لذلك فهذا العقل بالنبة للجابري لا يمكن أن يكون متعاليا عن وسطه وإنما هو محايثImmanent على الدوام للوسط الثقافي الذي يتعامل معه. على هذا الأساس يجد الأستاذ الجابري مبررا كافيا للتركيز على أهمية خصوصية المحيط الاجتماعي الثقافي في تكوين خصوصية الفكر[7]. فيكون بذلك القصد الأول من القول بـ"العقل العربي" تركيز النظر جعل هذا العقل لا يرتبط فقط بالتصورات والآراء التي تعكس الواقع العربي، بل تتجاوز ذلك إلى فهمه (العقل) باعتباره طريقة وأسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات، منها الواقع العربي ذاته بكل ما يحمله من خصوصيات[8]. الأمر الذي يدل على أن العقل العربي هنا لا يدل على عقل كوني بل يحيل إلى أداة فكرية ترتبط بثقافة معية، أي الثقافة العربية، والمجتمع العربي.

لنقل إذن بناء على ما تقدم أن عقل الأستاذ الجابري يرفض أن يكون عقلا كونيا، على الأقل حين يفكر في الثقافة العربية-الإسلامية. وما أدل على ذلك، هو رفضه لمقاربات المستشرقين* الذين تناولوا الثقافة العربية، فقط لأنهم يفكرون خارجها وبمرجعية مغايرة، وحجته في ذلك أن الفرابي عندما فكر في الثقافة اليونانية لم تغير في عروبته شيء، لأنه فكر فيها بواسطة الثقافة العربية ومن خلالها، وكذلك المستشرقون فهم سيظلون مستشرقين حتى وإن طلبوا الشرق وفكروا في ثقافته، وكذلك الشأن بالنسبة للمفكرين العرب الذين يتناولون قضايا إنجليزية أو فرنسية*، فهم سيضلون عربا ما داموا يفكرون فيها من داخل الثقافة العربية وبواسطتها[9].

هكذا يربط الأستاذ الجابري العقل ينظر إلى العقل بوصفه أداة للتفكير، ويربط عروبة هذا العقل بالثقافة التي ينتمي إليها. وهو في هذا السياق إنما يستعين بالتقسيم الذي وضعه أندري لالاند لمفهوم العقل، حين ميز العقل المكوِّن أو الفاعل La raison constituante والعقل المكوَّن أو السائد La raison constituée[10]، فالأول يقصد به "النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ. أو بعبار أخرى: إنه الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مبادئ كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس"[11] أما الثاني (العقل المكوَّن)، يضيف الأستاذ الجابري "فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا"[12]. وكأن الأستاذ الجابري هنا يطابق بين "العقل العربي" و"العقل المكوَّن"، الذي يتحدد في جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، أو لنقل: تفرضها عليهم كنظام معرفي[13]. فيكون مفهوم العقل العربي من هذا المنظور هو ذلك النظام الإبستيمي بلغة مشيل فوكو الذي يحدد خصوصيات الثقافة العربية. أما العقل المكوِّن، فهو ذلك العقل الكلي الذي يشمل الإنسانية في عمومها بشكل متساوي كما يقول ديكارت، أو لنقل إن العقل المكوِّن هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان أي (القوة العاقلة) باصطلاح القدماء[14].

بعد هذا التمييز الذي وضعه الجابري بين العقل الفاعل والعقل السائد، ينتقل إلى توضيح العلاقة التي تجمع بينهما، والتي هي بالنسبة له "علاقة التأثير والتأثر القائمة أبدا بينهما"[15]. فإذا كان العقل المكوِّن (العقل الفاعل) هو المسؤول عن إنشاء المبادئ والقواعد السائدة في فترة زمنية معينة، فإن العقل المكوَّن (العقل السائد) ليس شيئا آخر غير هذه المبادئ. وهو ما يعني أن العقل المنتِج لثقافة معية، هو ذاته منتَج لتلك الثقافة، أو بمعنى آخر: إن الثقافة هي التي تنتج العقل الذي ينتجها. فنكون أمام حلقة دائرية تحدد العلاقة بين العقل الفاعل والعقل السائد، باعتبارها علاقة الأثير وتأثر مستمر.

إن العقل بهذا المعنى لا يمكنه أن يتفاعل مع ما هو خارج عن دائرته، فالعقل العربي إذن لا يمكن فهمه إلا باعتباره ذلك العقل الذي أنتج داخل الثقافة العربية، بعد أن أنتجها عبر سيرورات معرفية طويلة. وهو ما نستشفه من قول الأستاذ الجابري: "إن العقل العربي، حتى في مظهره الفاعل، من نتاج الثقافة العربية، وكذلك الشأن بالنسبة لأي ثقافة أخرى والعقل المنتمي إليها"[16]. وبناء على هذا يخلص الجابري إلى أن القول بكونية العقل، لا يستقيم إلا في إطار ثقافة بعينها، وهو ما يعني بالنسبة للجابري أنه لا وجود لعقل كلي شمولي بل كل ما هنالك هي عقول كلية قياسا إلى ثقافتها، وجزئية قياسا إلى الثقافات الأخرى بتعددها. فالعقل كما يقول الأستاذ الجابري، "كوني ومبادئه كلية وضرورية... نعم. ولكن فقط داخل ثقافة معينة أو أنماط ثقافية متشابهة"[17] وكأن لكل ثقافة عقلها الكلي الخاص بها، أو روحها –إذا جاز لنا القول- بالمعنى الذي يحدده المفهو م الألمانيVolksgeist. لكن لا يجب أن نفهم هنا أن الجابري يحلل العقل العربي باعتباره جملة الأفكار والتصورات التي تسود الثقافة العربية، بل على العكس من ذلك، ما يهمه أساسا هو  تحليل العقل الذي أنتج هذه التصورات والمفاهيم التي توجه هذه التصورات والمبادئ والتي بدورها تحكم وتوجه رؤية الإنسان العربي، وهو ما يصرح به الأستاذ الجابري بقوله: "إن 'العقل العربي' الذي سنقوم بتحليلهن تحليلا نقديا[...] إنما نقصد به جملة المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو  تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله معها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها"[18].

هكذا يكون الأستاذ الجابري (أو على الأقل هي محاولة منه)، قد تعالى بمفهومه الرئيسي في مشروعه الفكري أن "العقل العربي"، عن المجال الأيديولوجي نحو مجال أكثر علمية وموضوعية، ألا وهو المجال الإيبستيمولوجي، مما ألزمه العودة إلى الأطر المرجعية التي تحرك العقل العربي، وينتج من خلالها معرفة بناء على أطره المفاهيمية وأدواته التحليلية، إنها مرحلة التشخيص التي تعتمد التفكيك مسلكا لها، من أجل إعادة بناء عقل عربي حديث. على ضوء هذا المعنى يمكننا فهم مقصل الأستاذ الجابري من قوله بـ “العقل العربي"، والذي سيكون هو الغاية المحورية لمشروعه الفكري، انطلاقا من تحليل النظم المعرفة لهذا العقل العربي.

ثانيا: النظم المعرفية للعقل العربي:

عندما ننتقل إلى الجزء الثاني من "نقد العقل العربي"، نجد صاحبه يضع له عنوان دال على ما يقصد إليه في هذا الباب، ألا وهو "بنية العقل العربي". وهو ما يمكننا أن نفهم منه مبدئيا أن الرجل سينتقل من تحديد مكونات العقل العربي، انطلاقا من تمييزه بين العقل الفاعل أو المكوِّن، والعقل السائد أو المكوَّن، بغية إجلاء الغموض الذي يمكن أن تصاحب عملية النقد التي هو مقبل عليها تجاه ما أسماه بـ “العقل العربي"، إذن سينتقل في الجزء الثاني إلى تحليل البنية العميقة التي تقوم عليها نظم العقل عربي، وهو ما يمكن لمسه في العنوان الجزئي الذي وضعه الأستاذ الجابري للجزء الثاني من كتابه، وهو "دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية". أما هذه النظم المعرفية التي تقوم عليها الثقافة العربية وبالتالي العقل العربي، فيحددها الجابري في ثلاثة: البيان؛ العرفان؛ والبرهان.

يضع الأستاذ الجابري تعريفات أولية لهذه الأنظمة المعرفية الثلاث على الشكل التالي:

  • البيان: إن البيان كفعل معرفي* بالنسبة للأستاذ الجابري هو "الظهور والإظهار والفهم والأفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه العلوم العربية الإسلامية "الخالصة"، علوم اللغة وعلوم الدين"[19]. فعالم المعرفة بالنسبة للجابري باعتباره ممارسة نظرية داخل البيان، يقوم أساسا على صياغة مقدمات عقلية تؤسس للخطاب القرآني، قصد جعل الخطاب الديني خطابا عقليا، أو لنقل يقوم على جملة مبادئ عقلية من قبيل الجدل والحجاج وغيره. على هذا الأساس يتشكل البيان ليس فقط كفعل معرفي نظري، بل كـ “نظام معرفي" يوجه تصورات الإنسان العربي حول عالمه الخاص. أو لنقل بأسلوب الأستاذ الجابري: "إن البيان كنظام معرفي هو جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تعطي لعالم المعرفة ذاك بنيته اللاشعورية: أعني المحددات والسلطات التي تحكم وتوجه المتلقي للمعرفة المنتج لها، داخل الحقل المعرفي البياني، دون أن يشعر بها، دون أن يختارها"[20]. يمكننا أن نقول إذن أن النظام الإبستيمي الأول للثقافة العربية، هو نظام من المعارف النظرية التي تتخذ من النص الديني الإسلامي نموذجا لها، بحيث تسود العقل العربي وتوجهه لا شعوريا، أو لنقل إنه البيان.
  • العرفان: أما العرفان فهو قريب من البيان من حيث هو فعل، وحقل، ونظام معرفي. إنه "كفعل معرفي [فيما] يسميه أصحابه بـ ‘الكشف' أو ‘العيان'. وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من عقائد وأساطير تتلون بلون الدين الذي تقوم على هامشه لتقدم له ما يعتقده العرفانيون أنه 'الحقيقة' الكامنة وراء ظاهر النص"[21]. هكذا يوضح الأستاذ الجابري أن الحقل المعرفي العرفاني في الإسلام، كان لازما عليه أن يتأسس في ارتباط وثيق بالنص الديني الذي يتفاعل مع الحقل السياسي انطلاقا من اللغة، أي لغة الشريعة الإسلامية التي هي اللغة العربة. فنكون بذلك أمام نظام معرفي عرفاني من حيث هو جملة مفاهيم ومبادئ وإجراءات، تفعل فعلها في الثقافة العربية بناء على قطبين أساسيين بالنسبة للأستاذ الجابري: "أحدهما يستثمر اللغة بتوظيف الزوج الظاهر/الباطن الذي يكافئ ويوازن الزوج اللفظ/المعنى في النظام البياني، والثاني يخدم السياسة ويستثمرها في نفس الوقت، صراحة أو ضمنا، وذلك بتوظيف الزوج الولاية/النبوة الذي يكافئ ويوازن الزوجين الأصل/الفرع، والجوهر/العرض في النظام البياني"[22].
  • البرهان: أما عندما ننتقل إلى النظام المعرفي بما هو نظام برهاني، فلا نجد له أي استمرارية للنظامين المعرفيين السابقين؛ البيان والعرفان. ودليلنا على ذلك ما قاله الأستاذ الجابري حول البرهان، "إنه (البرهان) كفعل معرفي فهو استدلال استنتاجي (مقدمات فنتائج تلزم عنها) وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفة العلمية المنحدر إلى الثقافة العربية عبر الترجمة، ترجمة كتب أرسطو خاصة"[23]. يمكننا أن نقول إذن أن البرهان جاء إلى الثقافة العربية ضدا على النظام المعرفي العرفاني، ونصرة إذا جاز لنا القول للنظام البياني. لذلك يلاحظ الأستاذ الجابري أن هناك علاقة معينة بين النظام البياني والنظام البرهاني، وهو ما ظهر بعد أن لزم الأمر ترتيب هذه العلاقة، في صيغة التقابل بين علم الكلام والفلسفة. أما هذا التقابل الذي بين النظام البياني والنظام العرفاني الذي طبع مرحلة النقل والتبيئة، فيرده الأستاذ الجابري إلى قطبين أساسيين: "أحدهما يخص المنهج ويوظف الزوج الألفاظ/المعقولات، الذي يكافئ ويوازن الزوج اللفظ/المعنى في النظام البياني، والآخر يخص الرؤية ويوظف الزوج الواجب/الممكن الذي يكافئ الزوجين البيانيين الأصل/الفرع والجوهر/العرض"[24].

بقي لنا أن نتساءل مع الأستاذ الجابري حل العلاقة الرابطة بين هذه النظم المعرفية الثلاث، بمعنى هل تمثل هذه النظم الثلاث (البيان، العرفان، البرهان) مرحلة مستقلة عن غيرها، أم هي تأتي في للحظة عينها لتأتت العقل العربي في كل مراحله؟ أو بمعنى آخر هل يشكل كل نظام معرفي عقلا مستقلا بذاته؟ هل نستطيع الحديث عن ثلاث عقول للثقافة العربية (العقل البياني، العقل العرفاني، ثم العقل البرهاني) أم أن الأمر يتعلق بعقل شامل لكل هذه النظم الثلاث؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، ولتوضيح العلاقة بين هذه النظم الثلاث، يضيف الأستاذ الجابري مفهوما آخر وهو ما يصطلح عليه بـ “البنية المحصلة"[25]؛ وهي "البنية التي تشكلت من تداخل الأزواج المعرفية التي كانت تقوم عليها تلك النظم"[26]. أو بمعنى أدق إن تلك المقولات الازدواجية التي تنتج عن كل نظام معرفي على حدة، يحصل أن تتداخل فيما بينها، لتنشأ بناء على ذلك كلية جديدة على شكل نظام معرفي يوجه العقل العربي في مراحل مختلة من لحظات تطوره، فذلك هو ما يصطلح عليه الأستاذ الجابري بالبنية المحصلة، التي نتجت عن عملية التداخل بين النظم الثلاث. إنها في حقيقة الأمر، عملية "تحصيل" التكافؤ الحاصل بين أزواج مقولات النظم المعرفية الثلاث: أي "بين اللفظ/المعنى، والظاهر/الباطن، والألفاظ/المقولات، وبين الأصل/الفرع والجوهر/العرض والولاية/النبوة، والواجب/الممكن"[27].

فهذه الأنظمة الثلاث بالنسبة للأستاذ الجابري، لم تكن متداخلة في بدايتها، بل كانت متصارعة حول السيطرة على العقل المعرفي والعلمي، لكن حصل أن بدأت تتداخل فيما بينها شيئا فشيئا في عصر التدوين، مما أدى بها إلى أزمة حقيقة. إذ يتتبع الجابري هذا التداخل منذ بدايته، فيقول: "لقد بدأ 'التداخل' بين البيان والعرفان مع الحارث المحاسبي، وبين البيان والبرهان مع الكندي، وبين البرهان والعرفان مع إخوان الصفا والفلاسفة الإسماعيليين"[28]. لكن هذا التداخل بالنسبة للأستاذ الجابري رغم أنه أحدث أزمة حقيقة في النظم المعرفية للعقل العربي إلا أنه لم يكن بتلك الحدة القصوى مقارنة بتداخل من نوع آخر من التداخل أطلق عليه "اسم التداخل التلفيقي"[29]، ويقصد به صاحبه ذلك "التداخل بين بنيات، لا بوصفها بنيات مستقلة بنفسها محصنة بقدرتها على استعادة توازنها الذاتي كلما دعت الحاجة إلى ذلك، بل بوصفها بنيات فقدت هذه القدرة وصارت مفككة أو قابلة للتفكيك عند أول محاولة"[30]. فهذا التداخل إذن لم يكن بين نظم متكاملة، بل حصل نتيجة تفتت هذه النظم وتشتتها إلى أجزاء متناثرة، اجتمعت بالنسبة للجابري بعد لحظة الأزمة في كل واحد من بنيات متصارعة، عند الغزالي. إن هذا الأخير حسب الجابري هو الذي مثل لحظة حقيقة للتداخل البنيوي(متصارع) بين أجزاء وعناصر النظم الثلاث، فانعكست في "الأزمة الروحية التي عانى منها(الغزالي)*، أزمة الشك اللاأدري(وليس المنهجي) وكانت نتيجة على صعيد الغزالي كإنتاج فكري هو ذلك 'التداخل التلفيقي' الذي نتحدث عنه"[31]. فالغزالي بالنسبة للجابري كان يناضل من أجل أن ينفتح البيان على آليات المنهج البرهاني(القياس) بدل القياس البياني؛ كما ناضل من أجل أن ينفتح البيان على العرفان الصوفي الذي جعل من الجانب السلوكي منه فقها للكشف؛ كما ناضل الغزالي أخيرا من أجل ضد الفلسفة، فلسفة ابن سينا أساسا، لأنها من جهة تلتقي في الجانب المشرقي منها مع الفلسفة الاسماعيلية، التي هي عدوة الدولة السلجوقية، ومن جهة أخرى، لأنها في الجانب الكلامي منها تريد احتواء علم الكلام وتقوم مقامه، بتبني قضاياه وصياغتها صياغة "برهانية"[32]، الشيء الذي جعل من لحظة الغزالي لحظة مفصلية في بالنسبة إلى مسار العقل العربي داخل الثقافة العربية العالِمة.

خلاصة:

زبدة قولنا، إن مفهوم العقل كما يتصوره الأستاذ الجابري، هو تلك الأداة[33] المفكِّرة التي تتخذ شكلها من ثقافتها الخاصة. إنه أداة لأنه لا يدل على مجموع التصورات التي ينتجها بل هو تلك الميكانيزمات والنظم المعرفية التي توجع عقل ما نحو تصورات ضرورية حول عالمه الخاص. لذلك لم يتحدث الجابري عن العقل الديكارتي باعتباره الشيء الكوني والأعدل قسمة بين الناس، بل جعل له (أي العقل) تصورا جزئيا يتخذ معالمه داخل كل ثقافة على حدة، دون التداخل مع الثقافات الأخرى.

على هذا الأساس سينتقل الجابري من مفهوم م العقل بشكل عام، إلى مفهوم م العقل العربي، باعتباره ما يتحدد داخل الثقافة العربية الإسلامية دون غيرها. أما عندما انصب تحليله على هذا العقل (العقل العربي)، كان لزاما عليه أن يقف على نظمه المعرفية التي تشكل بنيته اللاشعورية، فوجد أنها تتحدد في ثلاث: العقل البياني، والعقل العرفاني، ثم العقل البرهاني. فبالرغم من أن الجابري سيؤكد على الحفاظ على هذا الترتيب باعتباره حاصل تاريخي، إلا أن تحليله سيفضي به إلى القول بالتداخل بين هذه النظم المعرفية الثلاث، خاصة بعد الأزمة التي بدأت معالما تتضح منذ عصر التدوين، لتنتهي "بتداخل تلفيقي" مع الغزالي.

فبالرغم مما قدمه الأستاذ الجابري في أعمال جبارة فيما يتعلق بتحليل الثقافة العربية الإسلامية، والذي اكتمل مع مشروعه المتعلق بـ “نقد العقل العربي". إلا أن ذلك يضعه في موقف محرج عندما نسائله حول ما إن كان تحليله هذا ينتمي إلى العمل الفلسفي أم إلى مجالات غير فلسفية كالتاريخ والأنطروبولوجيا. فمعلوم أن التحليل الفلسفي إنما يشترط من بين ما يشترطه الموضوعية والتجريد والكونية على الخصوص. لكن هل يمكن اعتبار ما قدمه الأستاذ الجابري فكرا كونيا؟

واضح أن الجابري يربط العقل بثقافته ومحيطه الاجتماعي، لذلك كان لزاما عليه أن يتحدث عن "عقل خاص بالعربي"، وهو بذلك إنما يقصي العقول الأخرى عن التفاعل مع هذا العقل الذي سماه بـ “العربي". وبالتالي ما يمكن أن نخرج به هو حصول نوع من الانغلاق الفكري لهذا العقل، إذ ما دام لا يقبل التفاعل مع الآخر، ولا يريد أن يفهم ذاته إلا في إطار تاريخه وتراثه الماضي. وهو الأمر الذي يرفضه الفكر الفلسفي مبدئيا؛ فلابد لأي فكر أن يتصف بالكونية والشمولية الفكرية حتى يصح وصفه بالفلسفي. وهذا الأمر يمكننا أن نلمسه بشكل أكثر وضوحا مع الأستاذ محمد عزيز الحبابي، حين جعل من الشخصانية الإسلامية فكرا، ينطلق مما هو جزئي ثقافي، لينتهي إلى الكونية والشمولية الفكرية.

لائحة المصادر:

  • الجابري محمد عابد، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي، الجزء الأو ل، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 10، لبنان، 2009.
  • الجابري محمد عابد، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي، الجزء الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 10، لبنان، 2009.

 

[1]  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي، الجزء الأول، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 10، لبنان، 2009، ص:5.

*  يورد الأستاذ الجابري هذه الفكرة في كتابه "نقد العقل العربي" في صيغة سؤال إشكالي بقوله: "وهل يمكن بناء نهضة نعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟". ومفاد ذلك أن الرجل يقصد بذلك أن نقد العقل العربي لم يتم قبله، الأمر الذي يجسد بالنسبة له شرعية وأساس كتابته لـ"نقد العقل العربي". لكن بالعودة إلى تاريخ الفكر المغاربي يصعب قبول فكرة الأستاذ الجابري هاته، خاصة وأن نقد العقل العربي الاسلامي قد خاض فيه مفكرون آخرون بصيغتهم، أمثال الأستاذ محمد عزيز الحبابي، الذي نجده في كتابه "الشخصانية الإسلامية" وغيرها يقف على تحليل العقلية أو الروح الإسلامية بموضوعية وجدية كبيرة جدا، بل واستطاع أن يحلل هذه العقلية ويرصد مكوناتها بمنهج تحليلي فينومينولوجيPhénoménologique  يجعله يرقي إلى درجة الفيلسوف دون أن يبقى حبيس الجزئيات الثقافية والأيديولوجية.

[2]  المصدر نفسه، ص:5.  

[3]  المصدر ذاته، ص:6.

[4]  المصدر ذاته، ص:11.

[5]  المصدر ذاته، ص: 11.

[6]  المصدر ذاته، ص: 11.

[7]  المصدر ذاتهن ص:12.

[8]  المصدر ذاته، ص:12.

*  يحيل الاستاذ الجابري في هذا السياق على مقاربة كل من "مكسيم رودونسون" و"جاك بيرك" و"هملتون جيب" وغيرهم من المفكرين غير العرب الذين تناولوا القضايا العربية المعاصرة، أو قضايا الفكر العربي القديم بالدراسة والتحليل وإبداء الرأي. [مصدر سابق، ص:12.].

* يمكننا أن نستحضر هنا النقد الذي وجه إلى الأستاذ محمد عزيز الحبابي، كون فكره وفلسفته لا تدخل ضمن الفكر العربي المعاصر، لأنه ذو عدة فكرية غربية، وعندما يفكر في القضايا العربية، إنما تصدر بلغة غير العربية(الفرنسية)، وبالتالي يبقى فكره بعيدا عن اهتمامات الفكر العربي المعاصر. لكن يبدو أن أصحاب هذا النوع من النقد لهم رؤية جابرية (نسبة إلى الجابري) مغالية، تجعل كل من حاول الرقي إلى درجة التفلسف الحقيقي والخروج من قوقعة الذات وثقافتها، لتتضح الرؤية أكثر وأقرب إلى ما يهدف إليه الفكر التنويري، أي الوضوح والتجرؤ على استخدام العقل خارج وصايا الثقافة والدين، مآله الإقصاء والتهميش بلغة التكفير الفكري.

[9]  المصدر ذاته، ص:13.

[10]  أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت-باريس، ط 2، 2001، ص: 1168.

[11]  المصدر ذاته، ص: 15.

[12]  المصدر ذاته، ص: 15.

 [13] المصدر ذاته، ص: 15.  

14 المصدر نفسه، ص: 15.

15 المصدر ذاته، ص: 16.

16 المصدر ذاته، ص:16.

17 المصدر ذاته، ص:16.

18 المصدر ذاته، ص: 70.

*  يشير الأستاذ الجابري في هامش الصفحة 556، من كتابه "بنية العقل العربي"، إلى ضرورة الاحتفاظ بالترتيب الذي وضعه لبنيات العقل العربي أي "البيان؛ ثم العرفان؛ ثم البرهان"، باعتباره الترتيب التكويني التاريخي داخل الثقافة العربية الإسلامية.

 [19]  محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، نقد العقل العربي، الجزء الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 10، لبنان، 2009، ص:5.  

[20]  المصدر ذاته، ص: 556.

[21]  المصدر ذاته، ص:557.

[22]  المصدر ذاته، ص:557.

[23]  المصدر ذاته، ص: 557.

[24]  المصدر ذاته، ص: 557.

[25] يقصد الجابري بالبنية المحصلة، تلك الرؤية الإبستيمية الكلية التي تنتج عن النظم المعرفية الثلاث (البيان، العرفان، البرهان) لتؤسس في النهاية الفكر العربي في عمقه اللاشعوري وتعمل بالتالي على سيادته وتوجيهه. [بنية العقل العربي، ص:559].

[26]  المصدر ذاته، ص: 558.

[27]  المصدر ذاته، ص:558.  

[28]  المصدر ذاته، ص: 485-486.

[29]  المصدر، ذاته، ص:486.

[30]  المصدر ذاته، ص: 485.

*  القوسين هنا من عندنا.

[31]  المصدر ذاته، ص: 486.

[32]  المصدر ذاته، ص: 487.

[33]  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، نقد العقل العربي، الجزء الأول، سبق ذكره، ص:11.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟