كتب فونتنيل** في فترة شبابه رواية طوباوية تحمل عنوان «جمهورية الفلاسفة La République des Philosophes»، أبدى فيها تشريعات وقوانين ذات نظام ديمقراطي يقوم على الاختيار، لكن شريطة أن يتحكم في تسييره فلاسفة ماديون. ثم بعد ذلك كتب مقالا ساخرا عن الصراع بين المذهَبَين الكاثوليكي والبروتستنتي. في هذين المؤلَّفَين يبدو وكأن فونتنيل خرج عن دائرة المعتاد والقول المألوف في الصراعات الدينية التي كانت تنحصر داخل أصوار الكنائس.
إن الخروج عن المعتاد والمألوف هو ما جعل فونتنل حالة استثنائية في عصره الذي كان يمجّد الحكم الملكي المطلق للويس الرابع عشر، ويعيش صراعاً دموياً بين المذاهب الدينية. من المواقف المهمة لفونتنيل أيضاً دعمه لنظرية التطور الفكري في مؤلفه «استطراد حول القدماء والمحدثين» Digression sur les Anciens et les Modernes عام (1688). أما في كتابه «محادثات حول تعددية العوالم» Entretiens sur la pluralité des mondes – وهو موضوع دراستنا- الذي نشره عام (1686) فقد حاول تبسيط العلوم ووضعها في متناول الجميع، تماماً كما فعل حين حاول تبسيط اللاهوت في كتاب «تاريخ الكهنة العرافين» Histoire des Oracles عام (1687) الذي سخر فيه من الذين يعتقدون بالنبوءات التي ليست في رأيه سوى اختراع من الكهنة المشعوذين. أثار هذا الكتاب ضده عاصفة من النقد، لكن ذلك لم يمنع من انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية سنة 1691، ثم سنة 1697 في أكاديمية العلوم التي صار أمين سرها الدائم حتى 1740.
كان فونتنيل أوّل من تحدث عن العلاقة الوثيقة بين العلوم، وعن ثبات قوانين الطبيعة، وعن ضرورة انفتاح الإنسان على فروع العلم المتنوعة؛ لا بل إنه في آخر حياته كتب مؤَلَّفاً بعنوان «شذرات Fragments» طرح فيه أفكاراً متعددة تناولت إحداها تنظيم العقل البشري وكيفية تشكل اللغة والصور فيه. لذلك لا يستقيم الحديث إلا بقول: إن فونتنيل من العلماء والفلاسفة الكبار، الذين سبقوا عصرهم، وذلك بأفكاره الجريئة المتحرّرة وبإيمانه بالعلم والعقل، وبمواقفه النقدية من التقاليد والسلطة وكلّ المنظومات الجامدة التي ترفض استقراء الدروس من التاريخ، وبذلك يكون من الذين تميّزوا بفكر موسوعي فتح الطريق ومهد لعصر الأنوار، عن طريق تقديم جرعات من الفكر التنويري مغلفة بفن الأداب، محاولا تقريب فكر كوبرنيك إلى الأذهان وجعله في متناول الناس.
إن مقال "محادثات حول تعدد العوالم" هو عبارة عن مقابلات مسائية بين "برنار لو بوڤييه ده فونتنل"( Bernard le Bovier de Fontenelle) والسيدة "madame la marquis "، ينصب موضوعهما حول مجموعة من القضايا الفلسفية التي حاول "فونتنل" أن يتناولها بطريقة غير فلسفية كما يقول مثل : المجرات، العوالم، العواصف، الطبيعة، الدين، الحكمة، الجمال...
لقد وضع فونتنيل داخل هذه المطارحات امرأة من صنيعه تدعى madame la marquise والتي لم يسبق لها أن سمعت بمثل هذه الأشياء، يعتقد فونتنيل أن هذه الشخصية المتخيلة خدمته كثيرا، وجعلت كتابه أكثر مقبولية، وشجعت السيدات من خلال إدراج مثال هذه المرأة التي لم تخرج أبدا عن حدود الشخصية التي لم تتشبع بالعلم، ولا تستمع لما نقوله لها، هذا النموذج من النساء الذي وظفه فونتنل جعلته يقدم أفكارا عن نشأة الآله في حرص شديد، خوفا من وطأة الرقابة والمتابعة التي كانت آنذاك في عصره، وهو ما جعل فونتنل يستدعي في حواراته العقول البسيطة لتجسيد هذه الأفكار مثل السيدة لا ماركيز التي ترجع كل الحوادث والأشياء إلى ما هو ميتافيزيقي. لكن ما الذي يجعل النساء يستسلمن لمثل هذه الطبقة المتخيلة والتي لا تدرك إلا ما هو مستعصي عن الإدراك؟.
من الواضح أن أفكار هذا الكتاب هي أقل ألفة بالنسبة إلى معظم النساء من تلك الأفكار التي تقدمها أمير كليف parisiens cluve ، ولكنها أيضا ليست أكثر غموضا.
حيث إن المنهج الذي استخدمه صاحب الكتاب في هذه المقالات يقوم على مجموعة من التعقلات المرتبطة بمجال الفيزياء، وذلك حتى لا يضع نسقا كهذا في الهواء، وحتى يكون نسقه مؤسس على أسس متينة، لكن الغريب في الأمر هو أن هذه الأفكار التي تنتمي إلى مجال الفيزياء تسخر من نفسها، وأنها في الوقت الذي تقنع فيه العقل تمنح للخيال مشهدا يرضيه.
يعترف فونتنيل لقرّاء هذا المقال، وخاصة للذين لهم بعض المعرفة بالفيزياء أنه لا يهدف إلى تعلميهم أية معرفة، عكس الذين ليست لهم معرفة بالفيزياء أو الطبيعة( الإنسان العامي)، فإن فونتنيل يقدم لهم هذا الكتاب أو المقال بهدف تعلميهم وإمتاعهم في نفس الوقت، بحيث يقول: «إن القراء الذين يعرفون جيدا بالفيزياء سيكنون ضدا على موقفي إن هم بحثوا عن الفائدة، أما أولائك الذين ليست لهم أي معرفة بالفيزياء، فسوف يرفضون موقفي فقط حينما يبحثون عن التوافق معه»[1].
إن فونتنيل لا يجد أي متعة في القول إنه اختار الحديث عن تعدد العوالم، بل يعتبر تعدد العوالم من بين المواد الفلسفية المادة الأكثر إثارة للفضول وطرح الأسئلة، إذ لا شيء يبدو بالنسبة إليه أكثر إثارة من للاهتمام من هذا العالم الذي نسكن فيه، وهل هناك عوالم أخرى متشابهة له يسكنها أناس آخرون؟.
إن هذا الإشكال يقودونا إلى الحديث عن مفارقة بين ما يدعوه فونتونيل في مقاله هذا وبين التزمت والتعصب الديني الذي كان آنذاك سائدا في أوروبا، وهو ما جعل صاحب المقال يتحدث عن نمط من الشخصيات يسميهم ب les gens scrupuleux الذين يتخيلون أن هناك خطرا في علاقتنا بالدين، والذين يستطيعون طرد السكان خارج الأرض، كما أن فونتنيل يحترم إلى أبعد الحدود الواقعة التي تقول إننا جبلنا على الدين، لكن سرعان ما يفاجئنا هذا الكاتب الفرنسي ويخبرنا بشيء منافٍ للدين وهو تعدد العوالم. فعندما يخبرنا فونتنيل مثلا أن القمر آهل بالسكان، نتمثل أناس مثلنا، ثم نواجه صعوبات عديدة في تقبل هذه الفكرة إذا كنا نعتقد شيء ما في الدين. وهو ما جعل فونتنيل يبرر كتاباته بقول، «لقد رسمت صورة أناس لا صله لهم بالبشر ولكن من هؤلاء؟ أنا لم أراهم ولم أستطيع أن أراهم وأنا لا أتحدث عنهم من أجل رأيتهم»[2].
إن الفكرة الأساسية التي يدافع عنها الكتاب بل وكتبه الأخرى تتمثل في التعدد اللامتناهي للعوالم، هذه الفكرة لا يستطيع أي فيلسوف ربما أن يلاحظها كما يقول فونتنيل. بكونه يحاول أن يعالج موضوع الفلسفة بطريقة غير فلسفية كما يقول، بمعنى آخر أن يقود الفلسفة إلى نقطة تكون فيها غير جافة بالنسبة إلى الناس، وجادة بالنسبة للعلماء.
إن المقال عبارة عن محادثات مسائية حول تعدد العوالم، ففي الليلة الأولى تناول فونتنيل مع السيدة لاماركيز madame la marquis فكرة أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، باعتقاده أن الأرض يمكن أن تكون مجرة، وأن المجرات تحتوي على عدد هائل من الأرضي، وأن كل نجوم هي شموس تضيء العوالم.
والفلسفة بالنسبة إلى لفونتيل Fontenelle تقوم على شيئين فقط: أولا الروح الفضولية والنظرات السيئة، لأنه حينما نمتلك عيونا أو نظرات جيدة، فإننا نكتشف ما إذا كانت النجوم شموسا تضيء العوالم أو إذا ما كانت غير كذلك، ومن جهة أخرى، فإننا حين نكون أقل فضولا لن يكون لدينا أي اهتمام بالمعرفة، ولكن بما أننا نريد أن نعرف أكثر مما لا نراه، وهذه هي الصعوبة. بالإضافة إلى ذلك فإذا كان ما نراه نراه جيدا سيكون دائما معروفا، لكننا نراه بطريقة مختلفة عن الطريقة التي يوجد بها.
هكذا قضى الفلاسفة الحقيقيين حياتهم كما يعتقد فونتنيل، غير معتقدين بما يرونه، وحاولوا أن يتنبئوا بما لا يرونه. غير أن هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء لا يحسد الفلاسفة عليها كثيرا. ومنه يرى فونتنيل من هذه الفكرة أن الطبيعة هي استعراض ضخم أو كبير يشبه المسرحيات التي تعرض في الأوبيرا opéra ، حيث حينما نكون في الأوبيرا فنحن لا نرى المسرح كما هو؛ توضع الديكورات والأكسيسوارات والآلات لتشعرنا بحدث مبهر واستثنائي، في حين تخفى عن أنظارنا العجلات والأثقال المسؤولة عن إحداث الحركات.
إننا لا نشعر بالإحراج حين نمتنع عن البحث عن كيف تتم هذه اللعبة: ربما لا وجود لآلة على الأرض تشعر بالقلق من بساط سحري، والذي يريد أن ينفك عنها كما هو شأن هذا البساط.
إن بيت القصيد من هذا الكلام هو أن فونتنيل يحاول أن يبرر أن نشأة علم الفلك لم تكن مع اليونان، وإنما مع الكنعانيين القدماء، كما أنه يعتقد بأن نشأة الهندسة كانت في مصر القديمة، حيث فكَر المصريون القدماء في طريقة لمنع فيضانات نهر النيل من أن تقضي على حقولهم الزراعية، حيث يقول فونتنيل في هذا الصدد:« هكذا إذن كان علم الفلك وليد الحاجة إلى معرفة السماء، والهندسة ابنة المصلحة، والشعر ابن الحب»[3].
يعتبر فونتنيل أن تصور الفلاسفة اليونان للطبيعة تصور ساذج لا يقوم على أسس علمية ومنطقية، بكون أن الفيلسوف اليوناني يعتقد أن الطبيعة مسخرة لخدمتنا، وعندما نطلب من هذا الفيلسوف أن يجيبنا على السؤال التالي: ما هي فائدة هذا العدد الهائل من النجوم الثوابت (الثابتة) المعلقة في سماء الأخيرة، والتي يكفي جزء منها للقيام بكل ما يقومون به، يجبون ببرودة أنها تمتع النظر وتسعده.
لذلك يهاجم فونتنيل التصور القائل بأن الأرض توجد في مركز الكون وأن الكواكب الأخرى تدور حولها في حركة دائرية (هذه الكواكب صنعت من أجل الأرض وليس العكس) لكي تضيئها. فالتصور الكوسمولوجي القديم عند اليونان يقوم على أن الأرض ثابتة وسط الكون، يعلوها القمر ثم المشتري ثم الزهرة، الشمس، المريخ، ...ثم باقي الكواكب، وفوق كل هذه الأشياء توجد السماء الأخيرة حيث توجد النجوم الثوابت.
يستحضر فونتنيل حججه ودعائمه على مثال ما قاله ملك "قشتالة"[4] من أجل تفنيد التصور الكوسمولوجي القديم وإحراجه، حيث قال الملك: «لو أن الله استشارني قبل أن يخلق العالم لأشرت إليه بنظام فلكي أفضل من نظام بطليموس وأرسطو»[5] .
يجد فونتنيل في هذا التصور رغم فجوريته شيئا مقبولا بعض الشيء، وهو أن هذا النظام الفلكي الذي تصوره بطليموس وقبله أرسطو كان نتيجة لخطأ الإله، لأنه مليء بالتعقيدات والتناقضات، ما رغب هذا الملك في اقتراحه على الإله لو أنه استشاره قبل أن يخلق العالم هو أن يحذف الدوائر الكثيرة التي تخلقها الكواكب أثناء دورانها حول الأرض وأن يحذف كذلك ثلاثة سموات زائدة التي وصفها التصور القديم فوق النجوم الثابتة. فالقدماء كانوا يفسرون أن حركات الأجرام السماوية التي تحدث فوق السماء الأخيرة بوجود سماء من الكريستال تطبع هذه الحركة على الأجرام السماوية السفلية.
يتبين في الملاحظات الفلكية للقرون الأخيرة أن كوكب الزهرة وكوكب عطارد يدورون حول الشمس وليس حول الأرض وهذه الملاحظة تضرب بعمق في جوهر النظام القديم، وعلى إثرها انمحى أثر النظام الفلكي القديم مع رجل ألماني اسمه كوبيرنيك، سيطر على كل الحركات المختلفة وعلى كل السماوات التي تصورها القدماء. لقد خرب بعضها وعدل البعض الأخر، وأخذ الأرض وأرسلها بعيدا من مركز الكون، ليضع مكانها مركزية الشمس.
لم تعد الأجرام السماوية تدور حول الأرض، ولم تعد هذه الأجرام منحصرة داخل الدوائر التي ترسمها، بل إن كل الكواكب أصبحت تدور حول الشمس، والأرض تدور حول نفسها عقابا لها على الراحة الطويلة التي ظلت فيها مع النظام الفلكي القديم، حيث حملها كوبيرنيك جميع الحركات التي تقوم بها الأجرام والسماوات، أما القمر فقد جعله كوبيرنيك يدور حول الأرض.
وهنا تتدخل الأنيسة مدام لماركيز madame la marquis التي تجسد شخصية المرأة الفيلسوفة وقاطعت حديث فونتنيل عن النظام الفلكي الحديث قائلاتا: « إذا سلمنا بأن الشمس هي مركز الكون، ثابتة في وسط، فما الذي يتلو الشمس»[6].
يجب فونتنيل بقوله « إن عطارد يدور حول الشمس، حيث تكون الشمس قريبة إلى مركز الدائرة التي يرسمها هذا الكوكب (عطارد) أثناء دورانه. وفوق عطارد يوجد كوكب الزهرة الذي يدور بدوره حول الشمس، بعد ذلك يأتي المريخ، المشتري، زحل، الذي يرسم هذا الأخير حول الشمس دائرة أكبر من تلك التي ترسمها الشمس حول جميع الكواكب الأخرى. أما القمر فيدور حول الأرض ولا يتركها أبدا، ولكن كما أن الأرض تتقدم دائما وسط الدائرة التي ترسها حول الشمس، يتبعها القمر الذي يدور دائما حول الشمس، وإذا كان القمر يدور حول الشمس فقط لأنه لا يريد أن يخترق الأرض»[7].
رغم ذلك فإن السيدة مدام لماركيز تقاطع فونتنيل ولم تقتنع بحججه وتحاول أن تدافع عن فكرة القدماء قائلاتا: أن كوبيرنيك لم يتولى عناية كبرى بالأرض وبالإنسان في نظامه الفلكي، وهي بذلك تدافع عن التصور القديم الذي يعتقد بأن الإله اختار الأرض كأفضل العوالم الممكنة وجعل الإنسان داخلها تمجيدا لقيمته، بل وجعل الكواكب الأخرى تدور حوله ولذلك كان الثبات فكرة مقدسة.
يرد فونتنيل عن هذا القول بتأكيده على أن الفيلسوف شبيه بالشخص الذي يميل إلى أن يحظى بالمكانة الأكثر أهمية وقيمة في مناسبة معينة، فكل فيلسوف يحاول أن يضع نفسه في مركز العالم إذا استطاع ذلك، فيرضيه أن يضع كل شيء لأجله وهو لا يتخلى عن الاهتمام بأي قضية تحتاج إلى تأمل خالص.
لما كانت الشمس ثابتة، والأرض تتحرك حولها، قد بدأت تنفرد بنفسها، لكن من المدهش والعجيب أن نسمع اليوم أن القمر هو أرض شبيهة بأرضنا، وأنها أرض أهلة بالسكان. عكس ذلك لم تتقبل السيدة لَمَاركيز أن الحديث عن كون القمر أرض مسكونة، وتعتقد هذا النوع من الحديث هو ضرب من الجنون والحمق.
ففكرة سكان القمر تتبنى موقفين متعرضين ومتناقضين حول القضية المتعلقة بفكرة هل القمر مسكون كالأرض أم أنه غير مسكون؟.
يدافع فونتنيل عن موقف الذي يرى بأن القمر مسكون، في حين ترفض الأنيسة لماركيز هذا التصور بكونها تعتبره نوع من الخرافة ولا أساس له من الصحة. لذلك يستعمل وظيفة الخيال من أجل محاولة إقناعها بقوله: « لنفترض أنه ليس هناك وجود لعلاقة تجارية بين باريس وسانت دينيس، وأن البورجوازي الباريسي الذي لم يخرج عن مدينته قط، وجد فوق أبراج الكنيسة الباريسية فجئتاً ورأى سانت دينيس من بعيد، سنطلب من هذا البورجوازي إن هو يعتقد سانت دينيس مسكون كباريس سيجيبنا بالنفي، وسيقول بأنه يرى فقط سكان باريس فقط ولا يرى أبدا سكان سانت دينيس، وأنه لم يسمع عنهم أبدا من قبل، ولنفترض أن شخصا ما ظهر ليخبر هذا البورجوازي الباريسي بالحقيقة، والتي تقول بأننا لا نرى سكان سانت دينيس من أعلى البرج بفعل البعد، وأن كل ما نستطيع أن نراه في سانت دينيس يشبه كثيرا ما يوجد في باريس، وأن سانت دينيس توجد فيها أيضا ساعات وجدران وسكان...وأنها أيضا عامرة بالسكان كباريس. كل هذا لن يجدي نفعا مع هذا البورجوازي الباريسي الذي سيدافع باستمرار عن كون سانت دينيس غير مسكونة لأنه لا يرى فيها أحداً»[8].
يعطي فونتنيل من خلال هذا الافتراض لمدينة سانت دينيس صفة القمر وصفة البورجوازي الباريسي الذي لم يسبق له أن خرج عن مدينته لكل واحد منهما من أجل محاولة إقناع السيدة لماركيز بأنه ما يقوله صحيح ، لكن مع ذلك تعترض السيدة madame la marquis على هذا الأمر وتقول بأن في ذلك مبالغة كبيرة.
إن تجسيد الحوار في الليلة الثانية حول فكرة أن القمر آهل بالسكان أم لا، فإن السيدة la marquise كرمز للمرأة المثقفة فلسفيا تدافع عن الفكرة القائلة بأن القمر كوكب غير مسكون، وأن الدفاع عن هذه الفكرة محض ضرب من الحمق والجنون. بينما يدعم fontenelle تصورا مفاده أن كوكب القمر مليء بالسكان لأنه لما كانت الشمس حسب النظام الفلكي الحديث ثابتة وسط الكون، ولما كانت الأرض التي تدور حولها لم تعد هي الكوكب الوحيد، فلن يكون مفاجئا أن نقول أن القمر هو أرض كأرضنا، وأنه آهل بالسكان. وما دام القمر بعيد عنا، فإننا لا نراه إلا كجسم مضيء، و نجهل أنه كتلة ضخمة شبيهة بالأرض. فلا ينبغي علينا أن نعتقد بأننا سكان العالم الوحيدين، وإنما ينبغي علينا أن ننظر إلى العالم كمن ينظر إلى عرض مسرحي.
لقد حاول فونتنل بهذا الكلام أن يتجاوز التصور الكوسموثيولوجي الذي يعتقد بأن الأرض كوكب مقدس، وأنه أشرف الكواكب التي اختارها الإله لأشرف الكائنات من جهة، والموقف الذي يرى بأن القمر جرم مضيء شريف لا حياة فيه من جهة أخرى.
يقول فونتنل: «ما هو الشيء الذي يجعلنا نقول بأن القمر آهل بالسكان؟ و أن القمر شبيه بالأرض؟»[9]. ليجيب بأن العلماء المحدثين يخبروننا من خلال ملاحظاتهم الدقيقة أن هناك أراضي، و بحار وأنهار، وجبال، وفجوات عميقة...
معطيا في ذلك مثال ما اكتشف السيد cassin المشهور، أنه يوجد على القمر شيء ينقسم إلى قسمين، ويتوحد بعد ذلك، ثم يختفي داخل أشياء شبيهة بالآبار، فظهر بعد ذلك أن هذا الشيء شبيه بالبحيرة.
لكن إذا كان فونتنيل يعتقد بوجود سكان فوق القمر فهل هؤلاء السكان يشبهون البشر أم أنهم مختلفون عنهم؟.
يجيب فونتنيل بقوله:إنه «كما أن الطبيعة على الأرض جعلت أجناس مختلفة من البشر، وعقولا مختلفة، وعادات متباينة، فإن سكان القمر سيكونون مختلفين كثيرا عن سكان الأرض لا محال عنهم سيكونون حيوانات بالدرجة الأولى، غير كاملة، ولكنها تمتلك شيئا من سمات البشر دون شك»[10].
عادة ما يرفض البشر، بل ويصفون بالجنون من يتخيل وجود سكان على القمر، لكن لما نقول بأننا لو كنا نسكن القمر لتخيلنا أي نوع من المخلوقات القذرة التي تسمى بشرا، كيف تم خلق هذه الأشياء التي لها عواطف مجنونة وتفكير حكيم، حياة قصيرة ونظر ممتد، كثيرا من العلم بأمور غير نافعة، وكثيرا من الجهل بأمور هامة، رغبة جامعة في السعادة وعدم قدرة على الوجود؟. لربما كانت الآلهة ثَمِلَة عندما خلقت هؤلاء البشر، وعندما أتت لتنظر إلى صنيعنا لم يوقفها شيء من الضحك ؟، ربما تكون مخلوقات القمر أفضل منا بكثير، كما يقول فونتنل.
يعتقد فونتنل أنه في يوم ما، ورغم ما قد يظهره هذا التصور من سخافة، سيكون بيننا وبين القمر مبادلات تجارية. فكما كان سكان أمريكا قبل أن يكتشفها كريستوف كولومبس يعشون في جهل مطلق، بعدين عن المعرفة والعلم والفن...ولما كانوا عراة ولم تكن لهم أسلحة سوى السهام، ولما كانوا غير قادرين على مواجهة البحر والسماء إلا حين فكروا في بناء سفينة يقطعون بها البحار، ليصل من نجا منهم من التيارات الجارفة إلى أراضي أخرى لم يسبق له أن رأى شيئا، فينكشف له ستار العالم، ويتبين له أن البحار كانت عائقا أمام التواصل بين الشعوب، فإن البشر قد يستطيعون يوما ما أن يتواصلوا مع سكان القمر ويزيلوا كل العوائق التي كانت تمنعهم من ذلك سابقا، وخاصة لو علموا أنهم يمتلكون سلاحا لم يتوفر عليه السابقون وهو العلم.
ويختم فونتنيل حديثه هذا بعبارة ممتعة تحاول أن تجر ذهنية المتلقي إلى الإبحار في الخيال من أجل إحراج العقل الفلسفي واستنارته، حيث يقول: «كان غرضي من وراء كل ما قلته أن أبين أننا نستطيع أحيانا أن نستخدم الخيال لنحرج العقل الفلسفي ولكن ليس لنقنعه، فهو لا يقتنع إلا بالحقيقة ولو أن هذه الأخيرة لا تظهر بحججها الكاملة »[11].
خلاصة لما سبق، تناول فونتنيل في هذا المقال مجموعة من الأمسيات التي تصور أنه يناقشه مع السيدة مركيزة madame la marquiseمليحة يتحرك شكلها-غير مرئي ولكنه محسوس-أثناء الحوار بصورة مغرية فاتنة، لأن الجمال إذا اتخذ لقب البطولة أمكنه أن يكسف النجوم. وكانت "المحادثات" الست أمسيات. وكان المشهد في حديقة قصر المركيزة بالقرب من روان. وكان الهدف من ذلك هو أن يفهم الناس في فرنسا-أو على الأقل سيدات المجتمع-حركة الأرض وتعاقب دوراتها، ونظرية ديكارت في الدوامات. وزيادة في الإغراء أثار فونتنيل مسألة أخرى: هل القمر وسائر الكواكب مسكونة؟. و كان ميالاً إلى أن يعتقد هذا. ولكنه تذكر أن بعض القراء قد تزعجهم فكرة أن في العالم نساء ورجالاً لم ينحدروا من آدم وحواء، ومن ثم أوضح في حزم ولباقة أن سكان القمر والكواكب لم يكونوا بشراً حقيقيين. ومهما يكن من أمر فإنه أوحى بأنه قد يكون لهم حواس أخرى، ربما كانت أدق من حواسنا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم قد يرون الأشياء مختلفة عما نراها نحن، فهلا تكون الحقيقة عندئذ نسبية؟. وقد يقلب هذا كل شيء رأساً على عقب، حتى أكثر مما فعل كوبرنيكس. وأنقذ فونتنيل الموقف بالإشارة إلى جمال الكون ونظامه، مقارناً إياه بساعة، مستدلاً بميكانيكية الكون على صانع بارع ذي ذكاء خارق.
* Bernard le Bovier de Fontenelle, Entretiens sur la pluralité des mondes
** برنار لو بوڤييه ده فونتنل Bernard le Bovier de Fontenelle (1657 - 1757) ويسمى أيضاً برنار لو بوييه ده فونتنل Bernard le Bouyer de Fontenelle، كاتباً فرنسي ولد في مدينة روان وتُوفِّي في باريس. كان لخاله توماس كورني Thomas Corneille دور في تربيته وتوجيهه نحو الآدب. خالط الصالونات الباريسية، وتميّز بفصاحته وفكره المتوقد، لكن أعماله المسرحية لم تلقَ نجاحاً كبيراً، ومنها أوبرا«پسيشه» Psyché عام (1678) و«بليروفون» Bellérephon عام (1679)، والمسرحية التراجيدية «آسپار» Aspar عام (1680)، وبعض الأعمال الكوميدية (الملهاة).
[1] - fontenelle, entreteins sur la pluralité des mondes, nouvelle édition a lyon , de l’imprimerie d’ amable leroy 1804 , p 01
[2] - lbid , p. 01
[3] Lbid, p. 05
[4] - مملكة قشتالة هي إحدى أجزاء مملكة ليون في الشمال الغربي لشبه الجزيرة الاسبانية. وقد حدث في مملكة كاستيا سنة 1970 م حرب أهلية فانقسمت على نفسها إلى قسمين، قسم غربي وهو مملكة ليون نفسها وقسم شرقي سمي مملكة قشتالة. وكلمة قشتالة هي تحريف لكلمة كاستولة يعني castle يعني قلعة. بدأت مملكة قشتالة تكبر نسبيا في أول عهد ملوك الطوائف .فبرزت عندما استقل بها فرنان غونزاليزfernan gonzalez عام 961م وتوسعت فيما ححولها وأصبحت قادرة على منازلة الملوك الطوائف بسهولة وفرضت على بعضهم الجزية واشتهر من ملوك قشتالة ألفونسو السادس الذي استولى على طليطلة عام 1085م مما دعا عرب الأندلس إلى الاستغاثة بالمرابطين ثم الموحدين في شمال إفريقيا.
[5] - ilbid, p .06
[6] - p , 06
[7] - libid , pp.06-07
[8] Lbid , p. 08
[9] - lbid , p.11
[10] -lbid, p. 13
[11] - lbid, p. 17