عندما تقلّب صفحات التاريخ التي تتحدّث عن العصاميين العرب، تعثر على عدد غير قليل من الذبن يستحقّون منّك إنحناءة إحترام. ولكنّ قلّة قليلة منهم لا يكفيهم ذلك. ولعلّ من أبرزهم في التاريخ الحديث العصامي جرجي زيدان الذي قال عنه بعض النقاد أنّه "من أوائل من كتبوا روايات تاريخية مستمدة في اطارها العام من التاريخ الإسلامي" بل واعتبره الكثير منهم "رائدا للقصّة التاريخية الإسلامية في عالمنا العربي." ولكن من هو العصامي جرجي زيدان؟
لقد وجد جرجي زيدان نفسه، منذ الصغر، أمام متاعب وعقبات لا حدّ ولا حصر لها، فقرّر شق طريقه الى إكتناه عمق المعارف وإلى المجد، بالاعتماد على جهوده الفرديّة فقط، دون الاستناد إلى أحد غيره - بما في ذلك السند العائلي-؛ فوالده أمّي لا يقدّر فضل العلم لأنّه لا يملك ناصيته، وفقير يعوزه تسديد نفقات تعليم إبنه. وبهذا التمشّي(الإعتماد على الذات) يكون جرجي زيدان تفاعل تلقائيّا مع مقولة إبن الوردي – دون علم بها- :"لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنّما أصل الفتى ما قد حصل"
وكذا مع القول المشهورالمختلف على قائله1: إنّ الفتى من يقول هأنذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
فقد كانت نشأة هذا العصامي في أسرة لبنانيّة متواضعة سرعان ما تدحرجت، بعد غضب إحدى المتنفّذات على الأسرة، إلى مستوى الفقر، رغم كدحها المتواصل، وفي هذا يقول جرجي زيدان في مذكراته : "نشأت في صباي وأنا أرى والدي يخرج إلى دكانه في الفجر، ولا يعود إلّا في نحو منتصف الليل أو قبيله، وأرى والدتي لا تهدأ لحظة من الصباح إلى المساء ...لم تكن تذهب إلى الصلاة بالكنيسة إلّا نادرا، وإنّما همّها تدبير بيتها وتربية أولادها ... وقد شببت على ذلك والفته فغرس في ذهني أنّ الإنسان خلق ليشتغل وأن الجلوس بلا عمل عيب كبير"
إلّا أنّ الطفل اللَّمَّاح جرجي زيدان، بوعيه المبكّر، لم يعتبر لا الفقر ولا الصعوبات، حائلا جدّيّا بينه وبين النجاح والنبوغ، إن في النهل من العلم أو في مسيرته العمليّة والعلميّة. فهو من طينة النوابغ القلائل الذين لا يهزمهم الدهر ولا يستسلمون مطلقا للهزيمة. لذلك وطّد العزم على أن يبذل كل ما يملك من قوة وإرادة في سبيل تحقيق ذاته كذات مؤثرة في محيطها.
درس جرجي زيدان لمدة 6 سنوات بشكل متقطّع وفي ثلاث مدارس مختلفة، ورغم ذلك فقد تفتّحت شاهيته للمعرفة، كما لو كان على علم بمقولة الإمام الشافعي البليغة :
"ومن لم يذق مرّ التعلّم ساعــة .. تجرّع ذلّ الجهل طول حياته"
ولكن "تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن"، فقد اضطرّ لمساعدة والده في مطعمه الصغير في أحد أسواق بيروت. ولمّا كانت والدة جرجي زيدان تريد إعادته إلى المدرسة كان والده يردّ عليها "إنّه قد أتمّ دروسه ولا فائدة من كثرة الدروس، إلّا إذا كنت تنوين أن تجعليه كاتبا أو معلّما". و وعبارة كاتب في السياق الذي وردت فيه تفيد معناها التوظيفي لا الإبداعي بما هو التأليف والبحث.
لذلك وجّهه والداه في سنّ الثانية عشرة إلى تعلّم صناعة الأحذية، إلّا أنّها سبّبت له متاعب صحيّة فتركها بعد سنتين فقط، ليعود مجدّدا إلى مطعم والده. وفي الأثناء، وكان سنّه لا يتجاوز خمس عشرة سنة، تعلّم الإنجليزية على مدى خمسة أشهر لدى معلّم، كان يتردّد على المطعم، لقاء ما يتناوله من مأكولات.ورغم تأكيد المعلّم لجرجي زيدان أنّه أصبح يجيد هذه اللغة، فإنّه واصل تعلّمه لها بالاعتماد على نفسه حتّى أجادها فعلا وسبر أغوارها وفكّ رموزها وفتح مغاليقها، إلى درجة أنّه حاول وضع قاموس انجليزي عربي وشرع في الإشتغال عليه لكنّه لم ينهه.
ويروي جرجي زيدان أنّ أوّل كتاب رغب في مطالعته، ولم يقدر على اشترائه، إلّا مستعملا و بأقلّ من نصف ثمنه، أثار غضب أبيه لأنّه "يشري الورق بلا فائدة" ووبّخه بقوله : "أتبدّل الدراهم بورق"!
لكن فطنة العصامي الذي نعرض له، جعلته في سنّه المبكّرة، يستعين ببعض المعلّمين ممن يتردّدون على مطعم والده لمطالعة كتب الطبيعة والجغرافيا، فهو له ميل كبير لا للأدب فحسب، بل وكذلك للعلم. ثمّ تعلّم بعد ذلك حساب مسك الدفاتر ليكون كاتبا في أحد المخازن عسى أن يتخلّص من العمل في المطعم، وتفتح له آفاق جديدة في مساره لمزيد التحصيل في العلم والأدب، معتقدا أنّ العمل بالمخزن، كما جاء في القول الشعري :
هو المهرب المنجي لمن أحدقت به
مكاره دهر ليس عنهنّ مهرب
لكن جرت الرياح ثانية بما لا تشتهيه سفينته وخاب ظنّه، فتجربته بالمخزن لم تدم سوى نصف يوم، وعاد في مساء ذات اليوم إلى مطعم والده أين التقى في مرحلة لاحقة بلفيف نيّر من العلماء والكتاب والصحفيين الذين إستفاد منهم بمثل استفادته من مناقشاته مع الطلبة الذين كان يجتمع بهم وخاصة منهم طلبة الطبّ الذين أعجبوا بذكائه وأصبحوا أصدقاء له ويدعونه لزيارة الكليّة مما حفّز فيه رغبة تعلّم الطبّ، لاسيما بعد اطلاعه على كتاب "سرّ النجاح")2 (، وانخراطه في جمعيّة أدبيّة جلّ أعضائها من طلبة الطبّ. وقد استغرب أصدقاؤه هذه الرغبة لأنّ امتحان الدخول إلى الكليّة يفترض الإلمام بالهندسة والحساب والجبر ونحوها من المواد التي يجهلها. إلّا أنّ جرجي زيدان، وفي فترة العطلة الصيفية فحسب، أقبل على درس هذه المواد، بالليل والنهار، واستوعبها بفضل ذكائه الوقّاد ونباهته. وهو ما أفضى إلى نجاحه في الإمتحان، ليندهش أصدقاؤه ثانية. ولا غرابة في ذلك مطلقا،،فهم طلبة نمطيون يجهلون معنى العصامية التي تقرع الأبواب الموصدة فتنفتح لها- ولو بعد حين- بما يترتّب عنه حصول مفارقات عجيبة تشكّل عالما سرياليا ) (surréel أو ما يشبه روايات فنتازيا الخيال، بما هي معالجة إبداعية للواقع خارج دائرة المألوف.وهكذا دخل جرجي زيدان كليّة الطبّ ونجح بامتياز في السنة الأولى ولكّنه وفي بداية السنة الثانية حمل لواء " أول ثورة وإضراب للطلبة في الشرق" للمطالبة بالحريّة الفكريّة بالكليّة، فوقع رفته مع لفيف من زملائه. إلّا أنّه تدارك الأمر ودرس علوم الصيدلة بمفرده، ثمّ أجرى امتحانا أمام لجنة من كبار الدكاترة من لبنان وسورية شفع بمنحه شهادة الصيدلة. إثر ذلك غامر بالهجرة إلى مصر -وكانت سنّه لا تتجاوز إثنتين وعشرين سنة- لدراسة الطب البشري ولم يكن لديه المال الكافي لمتطلبات الهجرة فساعده أحد جيرانه باقراضه بعض المال. ولكنّه في مدرسة الطبّ المصرية إعتبر طول المدّة عائقا أمامه فاتّجه نحو الصحافة واشتغل لأكثر من سنة محرّرا في الجريدة اليومية الوحيدة بالقاهرة وهي "جريدة الزمان" ثم استقال منها للعمل في السودان كمترجم لحوالي سنة لاقى إثناءها بعض المتاعب تبعا لأهوال الحرب التي كانت قائمة آنذاك. ورغم نيله 3 أوسمة مصرية بعد عودته من السودان مكافاة له على الخدمات التي قدّمها هناك، فإنّه غادر مصر إلى بيروت، أين أصبح عضوا عاملا في المجمع العلمي الشرقي. وفي الاثناء درس اللغات الشرقية كالعبرانية والسريانية، بما مكّنه من وضع كتاب"الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" وكانت سنّه لا تتجاوز الخامسة والعشرين سنة.. !
وكان من فرط إعجاب أحد أصدقائه به في هذه المرحلة، أنّ ألف رواية وسمها ب" رواية البطلين" تطرّق فيها بالخصوص إلى عصامية جرجي زيدان، باعتباره أوّل بطلي الرواية، معدّدا انتصاراته العديدة في معركة الحياة.
ولمّا عاد جرجي زيدان مجدّدا إلى مصر، واعترافا بجهوده في صناعة الفكر والعلم، فقد عيّن مديرا عاما لمجلّة "المقتطف" التي كانت تعتبر حينذاك أهم وأشهر المجلاّت العلميّة في الشرق العربي لاستقطابها لأقلام العلماء والأدباء المرموقين. وكان هو نفسه قد ساهم فيها ببعض مقالاته الأدبيّة وبحوثه العلميّة. علما وأنّ أوّل مقالة له في بداياته في بيروت- ولم تحظ بالنشر- كان قد أرسلها إلى هذه المجلّة. وقد أجابه ، مدير المجلة، لمّا سأله جرجي زيدان عن ذلك عند لقائه به لاحقا في بيروت بالقول "إنّه يرجو أن تكون المقالة الثانية خيرا من الأولى !". إلّا أنّ العصامي الذي يقرع الأبواب حتّى تفتح له عن طواعية أصبح في هذه المرحلة المسؤول الأوّل عن المجلّة وباقتراح من أصحابها بعد نحو10 سنوات من ذلك . لكنّه بعد سنتين من العمل الدؤوب على متابعة كل الجزئيات في علاقة بتحرير المجلة و بشؤونها الادارية، ارتأى أنّ هذا الجهد يعوقه عن متابعة البحوث والتأليف، فقرّر أن يستقيل وينصرف من المجلّة ليصرف وقته بالكامل للتأليف وكان "تاريخ مصر الحديث" )في جزءين( أوّل منجز له في هذا المضمار خلال هذه المرحلة. ثمّ جاء كتاب تاريخ الماسونيّة العام فكتاب التاريخ العام. ورغم أنّ المدرسة العبيديّة الكبرى لطائفة الروم اللأرتودكس بمصر عيّنته ليتولّى إدارة التدريس العربي بها، فانّ ذلك لم يمنعه خلال السنتين اللتين قضاهما بها من تأليف أوّل رواية تاريخية له- وكانت سنّه لا تتجاوز ثمان وعشرين سنة- ؛ ألا وهي "المملوك الشارد" التي لاقت رواجا كبيرا ، حتّى أنّها طبعت طبعات عديدة. ولمّا قرر التفرّغ كلّيّا لأهمّ مشروع في حياته؛ وهو تأسيس "مجلّة الهلال" التي أكسبته شهرة واسعة وميّزته في المجال الصحفي - فضلا عن تأليفه ل 22 رواية تاريخيّة تسجل أحداثا من تاريخ العرب والمسلمين منذ عصر ما قبل الإسلام حتّى العصر الحديث- غادر المدرسة العبيديّة في عمر لم يتجاوز 31 سنة. وفي هذه المرحلة، فإنّه كعادته، لم يكتف بالتحرير فحسب، بل ألّف روايات تاريخ الإسلام وهي6 وكتاب "التمدّن الإسلامي" )في 5 أجزاء( وكناب "العرب قبل الإسلام" و"علم الفراسة الحديث" و"مشاهير الشرق" في )جزءين( و"تاريخ الآداب العربية" في 4 أجزاء و"أنساب العرب القدماء" و"طبقات الأمم" و"عجائب الخلق" و "تاريخ انقلترا 3 . أمّا رواياته في غير التاريخ الإسلامي فهي "المملوك الشارد" -وقد أسلفنا الأشارة إليها سابقا- و"أسير المتمهدي" و"استبداد المماليك" و"جهاد المحبّين"و ... ولا بد من التساؤل هنا كبف أمكن لهذا العصامي من تأليف هذا الكمّ الهائل من الروايات التاريخية في حيز زمني لا يتجاوز الإثنتين والعشرين سنة. وهي ذات المدة التي حرّر –وأدارأحيانا- أثناءها "مجلّة الهلال" التي صدّرها في أوّل أعدادها بمقذّمة قال فيها : "لا بد للمرء فيما يشرع فيه من فاتحة يستهل بها، وخطّة يسير عليها، وغاية يرمي إليها. أمّا فاتحتنا فحمدا لله...والتوسل إليه ان يلهمنا الصواب وفصل الخطاب. وأمّا خطّتنا فالإخلاص في غايتنا والصدق في لهجتنا والإجتهاد في وفاء حق خدمتنا(...). أمّا الغاية التي نرمي الوصول إليها، فاقبال السواد yلى مطالعة ما نكتبه، ورضاؤهم بما نحتسبه، وإغضاؤهم عمّا نرتكبه . فإذا اتيح لنا ذلك كنّا قد إستوفينا اجورنا.."
. لقد نال جرجي زيدان، لا فقط إعجاب العرب والمسلمين بعبقريتّه وتفرّده، بل حاز أيضا على إعجاب المستشرقين، فقد سأله أحد هم مستغربا :" أأنت جرجي زيدان؟" فأجابه :"نعم" فقال: "المستشرق "كنت انتظر أن ارى شيخا ذا لحية بيضاء، لأنّ من يطّلع على مؤلّفاتك، لا يقدّر عمرك باقلّ من ثمانين سنة." !
ولا غرابة في ذلك، فقد كانت حياته كلّها، رغم قصرها، عملا دؤوبا لتجاوز المعوقات؛ من فقر وجهل وشدائد وعقبات في سبيل بلوغ ما يرضي طموحه . وبذلك قفز من الفقر إلى الرخاء ومن الامّية إلى التعلّم؛ فأصبح متعدّد اللغات، يتردّد على فضاءات العلم .وبذلك أيضا إنتقل من العمل في مطبخ وفي صناعة الاحذية إلى العمل في صناعة الراي وإنتاج الفكر و العلم والأدب. وإستطاع، بالنتيجة، أن يشكّل حالة إبداعيّة مختلفة اثرت المكتبة العربية بإبداعات شكلت إضافة نوعية في تاريخ العرب والمسلمين وظلّت ولا تزال مصدر إلهام وثروة تنهل منها الأجيال وبقيت خالدة في الذاكرة والوجدان العربي بل والعالمي أيضا،وذلك بالنظر إلى ترجمة مؤلفاته إلى لغات عديدة. وهو ما يؤكّد مضي عزيمته وقوّة إرادته بما صح فيه قول أحمد شوقي :
وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
------------
المراجع:
1- كتاب عصاميون عظماء/ أحد كتب الهلال التي تتنزّل في إطار السلسلة الشهرية إلتي تصدرها دار الهلال (القاهرة)، العدد35/ فيفري1954.وهو في 268 صفحة باقلام نخبة من الكتّاب وإشراف محمّد فريد أبوحديد.
2- كتاب مذكرات جرجي زيدان في 107 صفحات/ تاليف جرجي زيدان / نشر دار الكتاب الجديد 1968
3-كتاب وقفة مع جرجي زيدان/ د. عبد الرحمان العشماوي (مقاربة أديان في 89 صفحة) الطبعة الأولى/ 1993
4.كتاب بانورما الرواية العربية الحديثة/ د.سيد حامد النساج/ الطبعة الاولى/بيروت (المركز العري للثقافة والعلوم)
الهوامش:
-(1)يقال أنّ المقولة للإمام الشافعي ويقال أنّها لغيره
-(2) كتاب )سرّ النجاح( يحكي سير رجال عظماء نالوا مجدهم وعظمتهم بالاعتماد على النفس)عصاميون(. وكان من بينهم من كان نجّارا أو حدّادا أو حلاقا. وقد ترجم الكتاب للعربية الدكتور يعقوب صروف