الجوهر في المادة و الميتافزيقيا - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تمهيد
في البدء نصطدم مباشرة بتساؤل جوهري مهم, هل تمتلك المادة والطبيعة جوهرا متلازما مع الكينونة الموجودية لاشياء الطبيعة غير صفاتها الخارجية؟ هل يمكننا الفصل بين جواهر الاشياء غير المدركة عن ظواهرها الصفاتية الخارجية المدركة؟ هل الافتراض غير المتحقق في البرهنة على الجوهر داخل الاشياء الطبيعية والمادة, هو نفسه الجوهر الملازم لكينونة الانسان صفات وماهية؟ هل الجوهر معطى طبيعي يخلعه الله على الانسان وموجودات الطبيعة على السواء ام هو تصنيع عند الانسان ولا امكانية تصنيعه عند الكائنات الطبيعية الاخرى وانه لا جوهر موجود بالاشياء والكائنات خارج صفاتها؟ وبماذا يختلف جوهر الاشياء الافتراضي عن جوهر الانسان الحقيقي.؟ هل الجوهر محتجب كماهية خلف الصفات الخارجية للاشياء, أم هو افتراض غير موجود حقيقة بالاشياء؟

ديكارت والجوهر

يعرف ديكارت الجوهر "انه ما لا يعتمد في وجوده على غيره", وهو تعريف لا يحيط به غير الله. الله هو الكائن الميتافيزيقي الوحيد الذي يفي بشرط ديكارت. وهو ما استنتجه اسبينوزا في تعريف ديكارت للجوهر..

الله جوهر ازلي قائم بذاته لا علة في وجوده ولا في ادراكه. والعقل والمادة حسب ديكارت جوهران لا يعتمدان على شيء سوى الله. بهذا المعنى ديكارت يقر ضمنيا انه لا وجود لجوهر يمكن التحقق منه سواء في المادة او الله. فالجوهر المادي هو حالة افتراض لوجود هو الاحتجاب السلبي خارج الصفات المدركة, لا يمكننا ادراكه ولا يمكننا نفي عدم وجوده.

اسبينوزا والجوهر

Ali youssefعلي محمد اليوسفقصب السبق الحقيقي الذي يحسب لسبينوزا انه قال بعكس الفلاسفة الماديين والفلاسفة المثاليين على السواء اننا ندرك الوجود بدلالة الجوهر, ولا ندرك الجوهر بدلالة الوجود. الفلسفة الماركسية انكرت وجود جواهر في الاشياء والكائنات وقالت كينونة الموجودات تحددها الصفات الخارجية فقط. والوجود بذاته هراء فلسفي. وليس مهما معرفة جوهر او ماهية تحتجب خلف الصفات الخارجية المدركة للاشياء.
كانط كان سبق الفلسفة الوجودية قوله الوجود اولا ثم يليه الجوهر. كانط اقر ان الوجود بذاته (النومين) لا قابلية للعقل البشري ادراكه. لكنه لم يحسم هل المادة تمتلك جوهرا ام لا تمتلك. وترك المسالة عالقة على مشجب الشك الادراكي للجوهر وليس على مشجب حسم التاكد من وجود الجوهر بالاشياء اوعدم وجوده بها.
المسالة التي بقيت متارجحة يتقاذفها الفلاسفة هي ان الجوهر لا يدرك في حالتي التحقق من وجوده او المفترض وجوده خلف الصفات الخارجية للمدركات التي يدركها العقل ولا يدرك الجوهر بغير دلالتها ايضا.
ما يؤخذ على اسبينوزا انه بالوقت الذي جعل من الجوهر مبحثا ميتافيزيقيا صرفا يجسده الله كما فعل ديكارت باعتباره جوهرا كليا مكتفيا ذاتيا بنفسه ولا يحتاج علة من غيره في اثبات التحقق من وجوده. اعتبر اسبينوزا في مذهبه وحدة الوجود ان كل شيء موجود طبيعي مادي فيه سمة من جوهر الهي لا ندركه بل نحدسه بدلالة نظام الطبيعة. اسبينوزا في رؤيته الميتافيزيقية للجوهر وقد ذكرت ذلك في اكثر من مقال لي انه اقام مذهب وحدة الوجود على صوفية تاملية ترتكز على :

  • الله جوهر كلي شامل خالق لا يسبقه غيره بالوجود, وهذا الجوهرالالهي غير مدرك من عقولنا, وتتوزع الجزء اليسير منه موجودات الطبيعة جواهر لها.
  • الجوهر يسبق الوجود وليس العكس نفتش عن الجوهر بدلالة الوجود.
  • جوهر كل شيء هو جوهر غير مدرك لتحقيق وجود كل الاشياء وليس وسيلة التحقق من وجود جوهر للخالق بدلالته الشمولية تعرف جواهر الاشياء بالطبيعة. ما يوجد ما يثبت لنا ان الجوهر الالهي غير المدرك تتوزعه الطبيعة في جميع كائناتها ومكوناتها.

الاشكالية التي اثارها اسبينوزا لا تقتصر فقط على قوله اننا بدلالة الجوهر نتحقق من كينونة الموجود . وانما اعتباره ان كلا الادراكين : جوهر المادة وجوهر الخالق جوهران لا يمكن ادراكهما عقليا, لذا احدث اسبينوزا ثغرة طعن في مذهب وحدة الوجود هي استحالة اعتماد دلالة الجوهر الجزئي في موجودات الطبيعة مظهرا كافيا متحققا به ومن خلاله نستدل على جوهر الخالق الشمولي الذي لا يدرك.

لماذا ربط اسبينوزا تلازم عجز الادراك لجوهرالمادة مع عجز الادراك للجوهر الالهي؟ السبب اراد اسبينوزا مصادرة منح التسويغ الفلسفي لنفسه في عجز العقل ادراك الجوهر سواء في تجليات افتراضه بالمادة كما في عجز العقل ادراك الجوهر الالهي على السواء. لو نحن اتحنا لانفسنا قابلية الادراك العقلي لجوهر المادة الذي هو جزء مرتبط بجوهر الخالق لتيسر لنا ادراك الجوهر الازلي اللامادي غير المحدود للخالق بدلالة ادراكنا الجزء منه في موجودات الطبيعة والاشياء وهو مناف للعقل.

لايبنتيز والجوهر

يلتقي لايبنتيزمع اسبينوزا في مسالة الايمان الديني بالخالق الالهي الموجد لغيره والذي لاعلة مدركة عقليا في تحققه الوجودي. لكنه يفترق عن اسبينوزا في مقولته انه بدلالة الجوهر الازلي اللانهائي ندرك وجود الاشياء لا جواهرها.
في مسالة الجوهر يحدث لايبنتيز ثغرة في مذهب وحدة الوجود الاسبينوزي التصوفي. ففي الوقت الذي قال فيه اسبينوزا وجود الله جوهر ازلي واحد غير محدود لا يمكن ادراكه, وبدلالة هذا الجوهر نفهم موجودات الطبيعة وعالم الاشياء لا في جواهرها بل في تحقق موجوديتها الكينونية الادراكية.
امام هذا الطرح قال لايبنتيز يوجد جواهر بعدد لاحصر له . حسب فهمي هنا لايبنتيز لا يعتبر الجواهر في الاشياء مونادات حقيقية بل يعتبر موجودات الاشياء غير حقيقية نوعا ما بالنسبة لحقيقة وجود المونادات الموزعة في كل شيء خارج مدركاتنا العقلية وتمتلك كامل الاستقلالية . هنا نجد لايبنتيز يرجع اثبات حقيقة الشيء من زيفه الى احتكام المونادات, ولكن لا تكتسب المونادات وجودها التخارجي مع الاشياء بل الاشياء تكتسب تحققها الموجودي بالعلاقة معها . العالم جوهر من المونادات التي بضوئها نفهم حقائق الاشياء. واطلق لا يبنتيز عبارته المنودات هي مرآة العالم.

الجواهر الموزعة في المادة والاجسام والظواهر في الطبيعة المدركة لنا, هي ايضا كما يصورها اسبينوزا جواهر(افتراضية) وليست حقيقية والسبب هو في انعدام وسيلة التحقق منها ادراكيا. وبخلاف اسبينوزا يعتبر لايبنتيز هذه الجواهر لا تستمد موجوديتها وليس جوهرها فقط من تعالقها الحدسي الذي ندرك به وجود جوهر الهي يحتوي كل شيء في عالمنا ولا يمكننا ادراك منه اي شيء. هذا الجوهر الالهي هو كما يعبر عنه ديكارت انه الذي لا يعتمد على غيره في تحقق وجوده.
نجد من المهم الاشارة الى ان الجوهر الالهي غير المتناهي الذي قال به اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود هو ذلك الجوهر الطبيعي الذي يضم بما لا يحصى من الجواهر الموزعة في الطبيعة التي لا ندركها جواهرمستقلة بدلالة جوهر شمولي خالق لها غير مخلوق مقولة ليست صحيحة, كون جواهر تلك الموجودات ليست مستمدة من جوهر خالقها, بل هي بدلالة جوهر الخالق غير المدرك نفهم وجود الموجودات ولا ندرك اذا ما كانت تحمل جواهرا ام لا؟
ثبت عجز الفلسفة اثباتها اليقين الدامغ ان موجودات الطبيعة واشياء العالم الخارجي تمتلك جوهرا ام لا تمتلك؟ فكيف يكون الحال معنا اعتبارها جواهر موجودة بدلالة الجوهر الخالق. لا يمكننا حسم وجود جوهر في الاشياء هي غير صفاتها الخارجية فقط. بمعنى اوضح المادة والاشياء ومكونات الطبيعة ما عدا الانسان لا تمتلك جوهرا هي غير صفاتها الخارجية.

سارتروالجوهر

لا اعتقد بعد خروجنا بحصيلة ان الجوهر الالهي الخالق وجواهر الاشياء الافتراضية الموزعة بالطبيعة كلاهما لا يدركهما العقل, لذا يكون من الصعب الاستدلال بالجزء في معرفة الكل.
سارتر في الوقت الذي تماهى مع الماركسية في عدم وجود ماهية أو جوهرا في الاشياء إلا أنه استثنى الانسان من هذا التعميم في إعتباره الانسان من بين جميع كائنات الطبيعة  يمتلك كينونة موجودية مادية تدخر جوهرا نوعيا خاصا يحتازه الانسان النوعي الفرد وحده. وإعتبر سارتر جوهر الانسان ليس معطى وجوديا يلازم صفات الانسان الموروثة بالولادة بل جوهر الانسان هو تصنيع فردي في تنمية الذات وبنائها مدى الحياة من قبل الانسان الفرد. وجوهر الفرد ليس مشابها جوهر المجموع فلكل فرد جوهره الخاص به من صنع يديه. وجوهر الفرد لا يكون موضوعا مدركا من غير صاحبه.

وأضاف سارتر إننا بدلالة أسبقية كينونة الانسان الوجودية على الجوهر نعي امتلاك الفرد جوهرا مختلفا عن باقي جوهر الافراد من نوعه كبشر. وفي هذا الطرح تجاوز سارتر كلا من رأي اسبينوزا في ذهابه أن الجوهر الانساني وفي موجودات الطبيعة يسبق الكينونة الموجودية التي تحددها الصفات الخارجية للانسان والاشياء. وأخطر من ذلك أن اسبينوزا إعتبر معرفة وجود الانسان يتم بدلالة الجوهرالذي لا يدرك ولا يتم معرفته بدلالة وجوده كما يذهب له سارتر ومن بعده ما لا يحصى من فلاسفة. اسبينوزا على خلاف الوجودية يرى الجوهر يسبق الكينونة.ولعل الاخطر في ذلك ذهاب اسبينوزا أن جواهر الاشياء في الانسان وموجودات الطبيعة لا يمكننا ادراكها لأنها جواهر مستمدة من جوهر خالق لها يحتويها جميعا لا ندركه بمحدودية العقل الادراكي لنا ذلك هو الجوهر الازلي الله.
وعلل إسبينوزا عدم إمكانية الانسان إدراك جواهر الاشياء لأنها موزعة في صفات الموجودات الخارجية, وهذه المعلومة الفلسفية إعتمدها كانط قوله الجوهر هو الوجود بذاته الذي لا يمكننا إدراكه بالعقل المجرد المحدود لذا يكون السعي لأدراكه ومن ثم معرفته تبديد جهود بما لاطائل منه.

موجودات الطبيعة والجوهر

العبارة التي وقفت عندها متأملا هي مقولة سارتر ) جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر)  وأعود تثبيت ما قلته لاهميته من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها, ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسه.
وكي نناقش تناقض العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا, لكن متى يكون الانسان فاقدا جوهره ومتى يكون مالكا له؟ وهل الجوهر خاصيّة ثابتة لا تتغير أم خاصية وهمية زائلة؟ وهل الجوهر الانساني يحكمه الزمن أم لا؟ وهل الجوهر يستبق الكينونة ام بالعكس كما تذهب له الوجودية.؟
هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف على موقفه النفسي الصحّي, فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر,  فالطفل يولد وعقله صفحة بيضاء بتعبير جون لوك .والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فهو يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.  على خلاف من فوكو وهيدجر ونيتشة من قبلهما في إعتبارهم ادراكات الجنون للوجود هي اسمى من ادراكاتنا لوجودنا الزائف بالحياة. لكن حتى في حال اقرارنا هذه الفرضية الفلسفية الخاطئة فهذا لا يمنح المجنون جوهرا فوق /اسمى من جوهر الانسان السوي الطبيعي.
تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركيزتين الاولى أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم طبيعي ومجتمعي والثاني الانسان يعي مدركاته الخارجية   والعالم من حوله  بنوع من المسؤولية المجتمعية  التي تتطلب قدرة إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب. والجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي والمجتمعي وتتجلى في صورة سلوك  هادف بالحياة.

 ولتوضيح أكثر نجد:

  • الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا خفيا, يتوارى خلف صفاته الخارجية فالانسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد.
  • يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوين شخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية كفرد.
  • الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايزعنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط,و,إمتلاكه لغة تواصلية معرفية, شعوره بالزمن, إدراكه أن الطبيعة تحكمها قوانين عامة ثابتة, كما أن الانسان يعي حاجته للطبيعة ولا تعي الطبيعة حاجتها للانسان. وغيرذلك مما تفتقده الطبيعة ويمتلكه الانسان مثل الوعي, المخيّلة, العواطف, الاحساسات , والمشاعر, الذاكرة , الخيال, الضمير, الاخلاق الخ.
  • سارتر يقر أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ماهيته الجوهرية بقواه الذاتية النوعية مدى الحياة, والجوهر ليس معطى فطريا يلازم الانسان بالولادة, فكل المفردات التي يتشكل منها الجوهر الانساني الذي يتم تصنيعه من قبل الانسان الفرد لوحده مثل الضمير , الاخلاق, الحب, العواطف, القيم وقابلية التديّن وغيرها عديد التي بمجملها تشكل السلوك الانساني بالحياة وتحدد مواقفه منها, لا تمثل صفات خارجية مدركة للفرد, بل يدركها هو ذاتيا انفراديا كجوهر لا يشاركه به أحد.

أصبحت لدينا مقولة سارتر أن جوهر الانسان الحقيقي  بلا جوهر, صحيحة تحمل إمكانية تخطئتها كما مر بنا توضيحه.  وفي منطق الفلسفة لاتكون العبارة اللغوية تحمل صفتي الصواب والخطأ معا والثالث المرفوع بينهما حاضر بقوة بمعنى لا يجوز قولنا الانسان يمتلك جوهرا والانسان بلا جوهرفي وقت واحد. وتوضيحي الاجتهادي غير القاطع تجريد سارتر الانسان من الجوهر يمثّل حقيقته الوجودية لسببين :
الاول الجوهر الانساني خاصية انفرادية خارج النوع في الطبيعة وداخل النوع في الجنس البشري ولا يتكرر في المشابهة لدى المجموع. وهو مدرك من الانسان صاحبه الذي قام بتصنيعه ولا يدرك من آخرين غيره. الثاني أننا حسب الفهم السارتري بعيدا عن عبارته الحدّية حقيقة الانسان أنه بلا جوهر يجعلنا الذهاب الاخذ بالجوهر الانساني تصنيع من السيرورة التطورية المتنامية في الذات لا تتوقف مدى الحياة.فالجوهر يصبح نوعا من الحركة والتغيير بملازمة زمنية يتعذر علينا إدراك ثباتها.
لذا لايمكننا الحكم على جوهر هو حالة من الحركة والتغيير المستمر مدى الحياة. أما في حال ذهابنا الاخذ بالنص الحرفي للعبارة فالانسان لا يمتلك جوهرا في حياة لا معنى لها في الفلسفة الوجودية والجوهر واللاجوهر كلاهما يستقيان من حياة لا حاجة ضرورية للانسان فيها إمتلاكه جوهرا غير صفاته الخارجية. فالانسان كينونة وجودية هي نزوة لا جدوى منها في كل الاحوال.

يطرح لايبنتيز مقولة من منطلق الجوهر موجود مدرك في الاشياء قائلا:( الجوهر لا يساوي مجموع كيفياته واحواله) هذه المقولة تجعل من الجوهر مدركا عقليا وليس افتراضا ميتافيزيقيا. وكيف لا يكون جوهر الانسان مثلا هو مجموع كيفياته واحواله؟ فجوهر الانسان حسب سارتر هو تصنيع ذاتي متغير على الدوام يدرك من حامله فقط وليس حتى من نوعه. وجوهره يحمل جميع كيفياته وتحولاته كونه سيرورة بنيوية نسقية ليست مدركة من غير ذاتيتها, مصنعة طوال الوقت. هنا يكون جوهر الانسان هو الضمير الانساني أي ماهية الانسان غير المنظورة بنوع من الادراك خارج خاصيتها الذاتية..

الحيوان والجوهر

والآن نعود طرح تساؤل يخّص موضوعة وحدة الوجود لدى اسبينوزا, ما علاقة مذهب وحدة الوجود بالطبيعة من غير الانسان.؟  وما  هو الجوهر في مذهب وحدة الوجود؟ مذهب وحدة الوجود هو نزوع صوفي ديني ليس لإثبات الوجود الانساني وإنما لإثبات وجود الخالق كموجود لايدركه الانسان بذاته ولكن يمكن إدراك وجوده من خلال تقصّي وجوده كجوهر  يحكم نظام الطبيعة وموجوداتها .جميع الكائنات من موجودات الطبيعة الحيوان, والنبات والجماد هي موجودات بلا جوهر يحتجب خلف صفاتها.وصفاتها الخارجية هي جواهرها.
لنأخذ مثلا هل الحيوان يمتلك جوهرا؟ أم لا يمتلك جوهرا وكيف؟ الحيوان لا يمتلك جوهرا متمايزا عن صفاته الخارجية لا في داخله ولا في سلوكه خارج صفاته. والقول في منطق وحدة الوجود حسب فلسفة اسبينوزا أن جميع الكائنات في الطبيعة من ضمنها الانسان تمتلك جواهرا مستمدة من جوهر مطلق خالق لها غير مخلوق هو فوق إدراك العقل, جوهر يستطيع الانسان إدراكه في مخلوقاته ولا يستطيع إدراكه في خالقه الجوهر الكلي المهيمن على كل موجود, هو نوع من المنهج الذي يصادر برهان تحققه.من قبل اسبينوزا  .
بمعنى النظام الطبيعي الإعجازي في قوانين الطبيعة الثابتة, يمتلك من القدرة والإمكانية ما هو فوق عقلي, وهذا النظام الإعجازي بالطبيعة لا يعني إمتلاك مكوناته لجوهر دفين موزّعا عليها يشير لوجود خالق عظيم ولا يشير لإثبات وجود موجودات لوجودها في الطبيعة كمظهر وجوهر متكاملين.. هذا التكامل من قبيل الحدس الايماني لا أكثر,. إذ هل من المتاح لإدراك عقل الانسان إدراك جواهر الاشياء خارج صفاتها في موجوداتها؟ الجواب لا يمكن ذلك لأن تلك الموجودات والكائنات عدا الانسان  بلا جواهر خارج صفاتها.

نعود لمثال الحيوان الذي هو أعلى مرتبة بيولوجية من النباتات والجمادات, فهو موجود بلا جوهر ولا ماهية. لماذا وكيف؟

  • الحيوان لا يعي ذاته ولا يدرك الطبيعة ويفتقد اللغة وشعوره بالزمن من حوله إلا على نطاق ضيق جدا يتحدد في إشباعه لغرائزه الاكل والتكاثر ودفع الاخطار المحدقة عنه وعن نوعه. الطبيعة هي التي تعطي الحيوان صفاته الخارجية هي مجموع كينونته المنفردة كحيوان.
  • الحيوان لا يمتلك ميزات إنفرادية نوعية كما هي عند الانسان مثل الذكاء العقلي , الوعي الذاتي, إمتلاك اللغة, الإحساس بالزمن وغيرها من صفات.
  • الحيوان يكتسب صفاته الخارجية من خلال إذعانه المتكيّف بما تمليه عليه الطبيعة من غير إرادتها ولا وعي منها. عدم وعي العلاقة الحيوانية – الطبيعية من كليهما المشّكلين لها هو سبب إمتلاك الحيوان قدرات التكيّف الطبيعي البيئي كي يبقى حيا. وانثربولوجيا تاريخ الحيوان تؤشر لنا إنقراض العديد من السلالات البشرية والحيوانية على السواء لفقدانها قدرة التكيّف مع ظواهر طبيعية شديدة القسوة مثل الانهيارات الجليدية والفياضانات, والزلازل , والبراكين, وقلة الغذاء وهكذا.
  • التكيّف الطبيعي يمتلكه الانسان والحيوان على السواء لكن بإختلافات جوهرية هامة. إذن علاقة التكّيف الحيواني بالطبيعة يجري بين قطبين هما الطبيعة والحيوان وكلاهما لا يتبادلان الوعي الادراكي بهذه العلاقة بينهما. فالطبيعة لا تدرك معنى تكّيف الحيوان في إستمرار بقائه, ولا الحيوان يدرك أن تكيّفه مع الطبيعة لا تعيه الطبيعة ولا تدركه.
  • كذا نفس الحال يتكرر مع النباتات في علاقتها بالطبيعة فكلاهما لا يتبادلان الادراك المشترك بينهما. وليس مهما تفتيش الانسان عن جوهر يمتلكه النبات أكثر من إعتبار الانسان للنبات وسيلة الطبيعة في توفير إحتياجاته من الغذاء.وصفات النبات الخارجية هي جوهره ايضا.
  • أما الجمّاد الطبيعي غير المصنوع وجوده في الطبيعة من قبل الانسان فلا جوهر له خارج صفاته. وتختلف عن الجمادات التي يصنعها الانسان فهي لسد رغبته بالحاجة لها في تأمين خدمته. فالقلم يحمل ماهية إستخدامه من قبل الانسان قبل تحقق وجوده المادي كقلم, وكذا مع جهاز التلفاز أو مع أي شيء آخر مادي يصنعه الانسان لسد حاجته له, فهو يمتلك ماهية وجوهر وجوده بذهن الانسان صانعه قبل إمتلاك وجوده المادي حينما يكون فكرة صناعية في تفكير الانسان حاجته لها أن يقوم بصنعها فهو يعرف ماهيتها الإستعمالية قبل وجودها المصنوع.

هل يمكننا إستخلاص أن مفهوم الجوهر في وحدة الوجود الذي يفهمه اسبينوزا وسيلة ميتافيزيقية لتدعيم إيمان ديني بوجود الخالق, ويفهمه هيجل مطلق متعيّن في هيمنة العقل على كل شيء يمكن إدراكه لا وجود له هو فوق متعال عقلي يدركه العقل ولا يدرك هو العقل؟ فكرة المطلق عند هيجل إدراك عقلي, وفكرة الجوهر لا إدراك عقلي يطاله.
كلا المفهومين فكرة المطلق الذي لا يفهم بدلالة الجوهر, ولا الجوهر يقبل الإستدلال العاجز التعريف به... يصبح معنا كلا المفهومين الفكرة المطلقة والجوهرالتام الشامل الذي لا يدرك هما تجريد فلسفي عاجز عن الوصول للمادة وإحتوائها كوجود.

   علي محمد اليوسف /الموصل

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟