مراجعات في فكر هيغل - مصعب قاسم عزاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.
وُلِد جورج فلهلم فريدريك هيغل في شتوتغارت الألمانية عام 1770. كان نموذجاً لامعاً لأبناء الطبقات الوسطى الطموحين للترقي المادي والعملي. وفي سيرورة حياته كان رئيس تحرير صحيفة، ثم مدير مدرسة قبل أن يصبح أستاذاً أكاديمياً في حقل الفلسفة. ولقد كان شخصاً حروناً لا يمكن ترويضه وجعله تحت السيطرة أبداً. وعندما أصبح كبيراً في السن كان يحب الذهاب إلى الأوبرا. وكان مولعاً جداً بالشمبانيا الفرنسية. ومن الناحية السلوكية، فلقد كان مغامراً في حياته الداخلية غير المعلنة، ولكن في حياته الاجتماعية الظاهرية كان وقوراً وتقليدياً، وكان فخوراً بذلك التكوين المختلط لشخصيته. لقد صعد هيغل إلى قمة الشجرة الأكاديمية في عصره ووصل إلى أعلى المناصب فيها حينما عين كرئيس لجامعة برلين في العام 1830 (عندما كان عمره 60 عاماً)، ليتوفى فقط في السنة التالية في العام 1831.

لقد كان لهيغل تأثير مهول على الفلسفة والفلاسفة من بعده. وكان يكتب بشكل ثرٍّ. ولكنه كان مربكاً ومعقداً عندما ينبغي أن يكون واضحاً ومباشراً. لقد جعل الأمر يبدو كما لو أن السمة المتلازمة مع قراءة الفكر الفلسفي العميق هي أنه لا يمكن للمرء أن يفهم تماماً ما يقرأه كحد أدنى. وهذا قد جعل الفلسفة أوهن بكثير وأقل تأثيراً في العالم مما ينبغي أن تكون. ودفع العالم ثمناً باهظاً آخر لمشكلات هيغل في توصيل أفكاره واستعصاء فهمه. لقد جعل الأمر أكثر صعوبة لسماع الأشياء القيّمة التي ينبغي أن يقاربها الفلاسفة ويبسطونها جاعلينها في متناول الإنسان الاعتيادي. ولكن هناك عدد من نقاط المحورية في فلسفة هيغل يمكن سرد بعض منها فيما يلي:

1. أجزاء مهمة من أنفسنا يمكن العثور عليها في التاريخ

كان هيغل نادرة بين الفلاسفة في أخذ التاريخ على محمل الجد. في عصره، كانت الطريقة الأوروبية المعتادة للنظر إلى الماضي هي اعتباره "بدائياً"، في شعور مشهر بالفخر لمدى التقدم الذي تم إحرازه في العصر الحديث.

ولكن هيغل فضل الاعتقاد بأنه يمكن النظر إلى كل عصر كمستودع لنوع معين من الحكمة التي تظهر بوضوح نادر في بعض المواقف والأفكار المفيدة والثرية في قيمتها، والتي يمكن أن تصبح مع مرور الزمن عليها مغمورة، أو مغيبة، أو مشوشة. إننا بحاجة إلى العودة في الوقت المناسب لإنقاذ الأفكار القيمة من رحم التاريخ، حتى فيما يسمى بالعصر المتقدم.

لذلك - على سبيل المثال - قد نحتاج إلى استحضار تاريخ اليونان القديمة لفهم فكرة ما يمكن أن يكون عليه المجتمع الفاضل السوي؛ ويمكن أن تعلمنا العصور الوسطى - كما لا يمكن لأي عصر آخر - دور الشرف والمروءة في تعزيز بنيان المجتمع؛ وتوجد رؤية ملهمة لكيفية تثمين الفن عالياً مادياً ومعنوياً في فلورنس الإيطالية في القرن الرابع عشر.

وقد أكد هيغل أن التقدم التاريخي وصيرورة التاريخ ليست خطية أو مستقيمة أبداً. قد يكون الحاضر أفضل من بعض النواحي، ولكن من المرجح أن يكون أسوأ من الماضي في حالات أخرى. هناك حكمة تاريخية في كل مرحلة زمنية، الأمر الذي يقودنا إلى تلمس مهمة المؤرخ الاستثنائية في محوريتها المتمثلة في رصد تلك الحكمات التاريخية المضمرة لموازنة النقاط العمياء في وعينا للحاضر القائم أما أعيننا. وهذا يعني أن الحنين إلى الماضي وأفكاره من وجهة النظر الهيغلية قد يكون فيه جزء من تلك الحكمة التاريخية الواجبة إعادة الاستنهاض.

وكانت هناك أطروحة محورية قد قدمها هيغل في كتاب "علم ظواهر الروح"، والذي انتهى من كتابته في عام 1807، تمثلت بالرأي القائل بأن كل عصر يحتوي على رؤية مهمة تكون (للأسف) غارقة في مجموعة مشوشة من الأخطاء؛ لذلك - بالطبع - سيكون من المروع أن نعود إلى الوراء كتلياً وفي كل المناحي، ولكن الحنين إلى الماضي لا بد له أن يتشبث بما هو جيد ورصين ورفيع فيه، وهو ما زلنا بحاجة لتكشف طبيعته والاهتمام به في الوقت الحاضر. تخيل هيغل تاريخاً مثالياً يتم فيه تحرير جميع الجوانب الجيدة للماضي تدريجياً من الظواهر المؤسفة التي رافقته. وأن المستقبل الأفضل سوف يدمجها جميعاً وتدريجياً.

ويقول هيغل إن "تاريخ العالم" هو "سجل جهود العقل لفهم نفسه". وفي منعطفات مختلفة من التاريخ، تكون الجوانب المختلفة لذلك العقل المجتهد لفهم نفسه أكثر بروزاً. ويحدث الشيء نفسه على نطاق صغير في حياتنا. ففي مرحلة الطفولة، قد يكون العجب أو الثقة أكثر في المقدمة سلوكياً؛ وفي مرحلة الطفولة المتأخرة، قد يكون التوافق والرغبة في إرضاء أولئك الذين يعتقد أنهم متفوقون أو عارفون أكثر؛ وفي مرحلة المراهقة، قد يبزغ موضوع الشك بوضوح في كل أفكار ونزعات من حولنا. وفي وقت لاحق، قد تكون هناك حلقات من الذرائعية، أو الرشاد البرعمي، أو الخوف من الموت. في كل مرحلة من هذه المراحل، نتعلم تدريجياً المزيد عن أنفسنا، وعلينا أن نمر بها جميعاً لفهم هويتنا تماماً. إن الصورة المثالية للنضج سوف تكون في الحكمة المتراكمة لما تم تعلمه من جميع الأعمار والحقبات الزمنية التي مررنا بها.

2. تعلم من الأفكار التي لا تحبها

كان هيغل مؤمناً عظيماً بالتعلم من أعداء المرء الفكريين، ومن وجهات النظر المختلف معها أو التي نشعر بأنها غريبة. وذلك لأنه أكد أن أجزاء الحقيقة من المحتمل أن تكون منتشرة حتى في الأماكن غير الجذابة أو الغريبة، وأنه ينبغي لنا أن نستخلص الحقيقة بالتساؤل دائماً، كما كثفه بقوله "ما هي الشظية من العقل والفكر التي يمكن احتواؤها في ظواهر مخيفة أو أجنبية؟"

فالقومية - على سبيل المثال - كان لها العديد من المظاهر الرهيبة (حتى في يوم هيغل). ولكن مقاربة هيغل تمثلت في أن يسأل عن الفكرة الجيدة الكامنة أو الحاجة الهامة التي يمكن أن تختبئ في التاريخ الدموي للقومية، وهي موضوعة على شكل حاجة وضرورة تاريخية في انتظار الاعتراف بها وتفسيرها. لقد اقترح أنها الحاجة إلى وجود ناس يشعرون بالفخر من حيث أتوا، وأن يتماشوا مع شيء يتجاوز ببساطة إنجازاتهم الخاصة، وأن يربطوا هويتهم بما قد يستقيم تسميته الأنا الجمعية. إن هذا مطلب لا مفر منه ومثمر، كما اقترح هيغل، وهو أمر لا يزال ذا قيمة وقدرة تأثيرية ماحقة حتى بعدما استغلت بعض الحركات والسياسيين المريعين هذه الحاجة ودفعتها في اتجاهات كارثية.

إن هيغل يعدُّ بطل الأطروحة الثاقبة القائلة بأن الأفكار المهمة حقاً قد تكون في أيدي أشخاص دونيين من درك السافلين الأرذال الذين لا يستحقون إلا أعمق الاحتقار وأشده.

3. فوضوية التقدم

اعتقد هيغل أن العالم يحرز تقدماً، ولكن من خلال التنقل من تقاطب إلى آخر فحسب، حيث إنه يسعى إلى التعويض المفرط عن خطأ سابق. لقد اقترح أن ذاك التقدم يستغرق عادةً ثلاث خطوات قبل العثور على التوازن الصحيح في أي مسألة، وهي عملية قد أطلق عليها اسم "الجدلية" أو "الديالكتيك".

وفي خلال حياته الخاصة، أشار إلى أن الحكومات قد تحسنت، لكنها بعيدة كل البعد عن الشكل الأمثل. إن نظام الملكية التقليدية الموروث الذي كان معيباً وخانقاً وغير عادل، وهو ما قد تم إلغاؤه من قبل الثورة الفرنسية التي أراد آباؤها المؤسسون أن يقوموا بإعطاء صوت صحيح لغالبية الناس. لكن ما كان يجب أن يكون الميلاد السلمي للحكومة التمثيلية عقب الثورة الفرنسية قد انتهى به المطاف في فوضى واضطراب ما دعي بعصر الرعب الذي تلا الثورة الفرنسية، وهذا بدوره أدى إلى ظهور نابليون، الذي استعاد النظام والأمان، ولكنه أيضاً أصبح غاشماً عسكرياً، واستبد ببقية أوروبا وداس على الحرية التي كان يدعي أنه يحبها. في النهاية، ظهر "الدستور المتوازن" الحديث، وهو ترتيب يوازن بصورة أكثر عقلانية بين التمثيل الشعبي وحقوق الأقليات والسلطة المركزية الضرورية. لكن هذا التوازن استغرق ما لا يقل عن أربعين سنة وإراقة دماء لا حصر لها للوصول إليه عبر حركات جدلية التقدم التاريخي الثلاثية التي كان لا بد منها وفق النهج الهيغلي.

لقد رفع هيغل بعض الثقل عن كواهلنا عن طريق الإصرار على أن التقدم سيكون دائماً بطيئاً ومضطرباً، وأن ما يحدث في التاريخ الجمعي الكبير سوف يحدث في تاريخ حيوات الأفراد أيضاً. ويمكن أن يبدو هذا مؤلماً ومضنياً للكثير منا. ولكن هيغل يصر على أن الانتقال المؤلم من خطأ إلى خطأ أمر لا مفر منه، وهو أمر يجب أن نتوقعه ونتصالح معه عند التخطيط لحياتنا أو التفكير في الفوضى التي تعم التاريخ أو حتى في أخبار عالمنا المعاصر.

4. الفن له غرض سامٍ

يرفض هيغل فكرة "الفن من أجل الفن". في أكثر أعماله إثارة للإعجاب - المحاضرات التمهيدية حول الجماليات - يزعم أن الفنون جميعها كالرسم والموسيقى والهندسة المعمارية والأدب والتصميم وغيرها تقوم بوظيفة رئيسية تاريخياً وفكرياً. نحن في حاجة إلى كل الأنماط الفنية حتى تصبح الأفكار والمعرفة الفلسفية والحكمة الجوهرية المستخلصة من التاريخ مؤثرة وراسخة ومفيدة في حياتنا. فالفن هو "العرض الحسي للأفكار".

إن مجرد معرفة الحقيقة غالباً ما يتركنا غارقين في حيز المعرفة النظرية دون أمثلة محسوسة ترسخ تلك المعرفة وتجعلها جزءاً من منطقنا. وليس أفضل من نتاج الفنون الإبداعية لتمكننا من ممارسة المعروف نظرياً وتحويله إلى ملموس محسوس عملي راسخ. رأى هيغل بأن الهدف من الفنون كلها لا يكمن في طرح أفكار جديدة أو غريبة بشكل مذهل، بل تكثيف الأفكار الجيدة والمهمة والمفيدة التي غالباً ما نعرفها بالفعل وجعلها تلتصق في أذهاننا بشكل ملموس قابل للاستعادة وإعادة الإنتاج.

5. إننا بحاجة إلى مؤسسات جديدة

كانت رؤية هيغل إيجابية للغاية نحو المؤسسات ونحو السلطة التي يمكن أن تمارسها من موقعها السلطوي المهيمن. برأي هيغل قد تكون رؤية الفرد عميقة فلسفياً، ولكنها ستكون غير فعالة في إحداث التقدم التاريخي وعابرة ومنسية ما لم تتجسد في مؤسسة ذات قدرة سلطوية. فأفكار يسوع عن المعاناة والرحمة كانت بحاجة إلى الكنيسة الكاثوليكية لنقلها إلى العالم، على الرغم من الأخطاء المرعبة التي قامت بها تلك الكنيسة التي قد يكون أقلها محاكم التفتيش الوحشية وحروبها الدموية ضد من لم يعتقدوا بعقيدتها من المسيحيين وغيرهم.

النقطة المهمة بحسب هيغل هي أنه لكي تكون الأفكار نشطة وفعالة في العالم، فهناك حاجة إلى الكثير من المجتهدين المنتظمين في مؤسسات متشابكة في أهدافها لتحقيق سلطتها التأثيرية. كانت هذه نقطة أثارها هيغل مراراً وتكراراً بطرق مختلفة. من أجل أن تكون الفكرة مؤثرة في المجتمع، فإنها تحتاج إلى موظفين، ومبان، ومدربين، وقانونيين، وجباة، وشرطة، وعسكر، وأهم من ذلك لمؤسسات ذات سلطة ينتظم في عدادها كل أولئك للسماح بتحقيق مشروعات كبيرة لا يمكن لفرد واحد أو حتى مجموعة أفراد القيام بها مهما عظمت طاقاتهم واجتهاداتهم وطول أعمارهم.

الوظيفة الأساسية للمؤسسة برأي هيغل هي جعل الحقائق الرئيسية قوية وراسخة في المجتمع. لذا، بحسب هيغل عندما يتم تلمس احتياجات جديدة لمجتمع ما، ينبغي لتلك الحاجات - من الناحية المثالية - أن تؤدي إلى تشكيل مؤسسات جديدة تسعى لتحقيقها.

الخلاصة

وضع هيغل إصبعه على سمة مهمة للحياة الحديثة تتمثل في أننا نتوق إلى التقدم والتحسين، ومع ذلك فنحن نواجه باستمرار صراعاً مضنياً وطويلاً في سعينا لإدراك ذلك مع كثير من النكسات.

كانت رؤيته هي أن التقدم يتطلب تصادم الأفكار المتباينة وبالتالي سيكون أي تقدم مؤلماً وبطيئاً. ولكن بمجرد أن نعرف ذلك، لن نضطر إلى مضاعفة مشكلاتنا عن طريق النظر إليها على أنها غير طبيعية وشاذة، أو النظر إلى إخفاقاتنا المرحلية بأنها سمة ضعف وعوار فينا. يمنحنا هيغل رؤية أكثر دقة عن موقع الإرادة البشرية في نسق التاريخ، ويمنحنا مفاتيح أكثر ثراء لإدارة لأنفسنا، وصعوباتنا، وتكشف موقعنا في صيرورة التاريخ وحركيته.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟