مراجعات في فكر ماثيو أرنولد - مصعب قاسم عزاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

قد يستقيم القول بأن ماثيو أرنولد كان أهم مصلح تعليمي في القرن التاسع عشر. لقد أدرك أن التعليم في العالم الحديث سيكون أحد مفاتيح المجتمع الناهض. لكن يجب أن يكون التعليم من نوع خاص، وليس تعليماً بالمعنى التقليدي للتعليم، فبدلاً من القول إن المدارس يجب أن تدرس المزيد من علم المثلثات، أو تحسن معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة في النسب المئوية الاجتماعية والاقتصادية، فقد دافع أرنولد عن خارطة طريق غريب وسليم وضروري للغاية. يجب على المدارس أن تعزز - كما قالها - "الحلاوة والنور". لقد كانت توليفة تم حسابها بدقة لتهيج معاصريه، واستحوذت على ما كان يحاول القيام به بدقة، وصارت مصدر إلهام لنا للمحاولة بدورنا.
في حياته، كان أرنولد مصدر تندر لبعض صحف بريطانيا. كلما حدث إضراب أو أعمال شغب، تخيلوا أن أرنولد يخبر الناس بجدية بعدم الاحتجاج على الكثير من الأمور المبتذلة والعملية مثل البطالة أو الأجور المنخفضة، وبدلاً من ذلك يرفعون عقولهم إلى المثل العليا ويركزون على الحلاوة والضوء. لقد كان نقداً غير عادل إلى حد كبير (كما سوف نرى)، لكن كان هناك ما يكفي من شخصية أرنولد لجعله عصياً على الكسر.
ولد ماثيو أرنولد في عام 1822. وكان والده - توماس أرنولد - من المشاهير الفكريين العظماء في عصره: مدير مدرسة رجبي العامة الذي كان لا يكل، ونشيطاً على نحو هائل وصارم.

كان ماثيو مخيباً للآمال ولغزاً بالنسبة لوالده. وكان يحب القراءة في السرير في الصباح، وكان يستمتع بالتجول في الغابات والمروج، وكتب الشعر، وأهمل دراساته، ونشر - إلى لامبالاة العالم - بضع مجلدات ضئيلة من الشعر النثري. وفي النهاية، وقع في حب امرأة تدعى "فرانسيس لوسي وايتمان" - وكان اسمه المفضل لها هو "فلو" - ابنة لقاضي. لكن لكي يتزوج فقد احتاج إلى مهنة قوية، لذا شغل منصباً كبيراً في وزارة التعليم كمفتش للمدارس. ولسنوات، سافر بطول واتساع إنجلترا الفيكتورية، ليتحقق في أثناء ذلك مما إذا كان يتم تعليم الأطفال بشكل صحيح. لقد حصل على راتب محترم للغاية؛ ونمت الأسرة، وذهبوا في عطلات ممتعة، وعاشوا براحة وسعادة في ويست إند في لندن.
لم يكتب أرنولد الكثير من الشعر في هذه السنوات، لكن سحره (والعديد من أصدقاء والده الراحل المؤثرين) جعلوه ينتخب لهذا المنصب الرفيع المستوى كأستاذ لمادة الشعر في أكسفورد. لم يكن هناك أي أموال مرتبطة بالدور، لكن هذا كان يعني أنه يجب عليه تقديم سلسلة من المحاضرات كل عام لأصحاب الرأي في الأمة. وبفضل منصبه نضج ليصبح ناقداً اجتماعياً عميقاً. وقد تم جمع أفضل محاضراته في كتابه الأكثر أهمية وتأثيراً، الثقافة والفوضى (1869).
كان هناك الكثير من الأمور التي أزعجت أرنولد حول العالم الحديث لخصها في فكرة واحدة: الفوضى، والتي لم تكن تعني برأيه أولئك الأشخاص الذين يرتدون أقنعة سوداء ويكسرون نوافذ المتاجر. بالأحرى كانت تعني شيئاً مألوفاً أكثر وأقرب إلى المألوف: نوع من الحرية السمية السرابية. كان يعني مجتمعاً تسيطر فيه قوى السوق على الأمة؛ وحيث ترسم وسائل الإعلام التجارية توجهات المجتمع و البشر؛ وحيث الشركات بالكاد تردع عن هدر البيئة؛ وحيث يتم التعامل مع البشر كأدوات يتم التقاطها ونبذها حسب الرغبة؛ حيث لا يوجد المزيد من الرعاية للضعفاء في المجتمع، و غياب صارخ للشعور الثمين بقيمة المجتمع؛ وحيث تعالج المستشفيات الجسم ولكن لا أحد يعالج الروح؛ وحيث لم يعد أحد يعرف جيرانه بعد الآن؛ وحيث يُنظر إلى الحب الرومانسي على أنه السند الوحيد الذي يستحق السعي لإدراكه، وحيث لا يوجد مكان يلجأ إليه في أوقات الشدة الحادة والأزمات الداخلية. إنه عالمنا المعاصر الذي خبره كل منا جيداً.
اعتقد أرنولد أن قوى الفوضى أصبحت ساحقة في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وسادت الشركات على المجتمع، وحكمته بعقلية ربحية لكسب المال. وكان تداول الصحف المملوكة من الأثرياء ينمو بشكل كبير. وكانت السياسة تهيمن عليها الحزبية والصراع والتضليل.
في الماضي، ربما يكون الدين الفطري الشعبي قد ساهم في السيطرة على هذه الاتجاهات الفوضوية. ولكن في أفضل قصيدة له - شاطئ دوفر - وصف أرنولد كيف أن "بحر الإيمان" قد انحسر، مثل المد من الشاطئ، ولم يتبق سوى "الحزن وهدير طويل ومتقهقر".
ما الذي يمكن أن يحل محل الوظيفة التي لعبها الدين في المجتمع فيما مضى؟ ما هي القوى التي يمكن أن تقيد الفوضى، وتُقلم الحضارة، وتوجهها، وتلهمها، وتضفي طابع الإنسانية بدلاً من ذلك؟ أرنولد اقترح حل مدوياً واحداً: الثقافة. لقد أشار إلى إنه يجب أن تكون الثقافة هي الترياق الذي لا بد منه، و هي التي من شأنها التغلب على قوى الفوضى التي أطلقتها الرأسمالية والديمقراطية الشكلية عن قصد أو غير قصد.
ولكن من أجل القيام بهذا الدور، من خلال الثقافة لا يمكن للمرء ببساطة أن يستمر في التعبير عن معنى الثقافة بالشكل الاعتيادي الذي يفهمه الكثير من الناس من الثقافة (كما هو الحال اليوم) من خلال المصطلح من قبيل الاهتمام بالذهاب إلى المعارض الفنية في الإجازة، ومشاهدة مسرحية عرضية، وكتابة بعض المقالات التعبيرية هنا وهناك. حول جين أوستن في المدرسة.
من خلال الثقافة، كان أرنولد يعني قوة من شأنها أن توجه وتعلم وتضبط وتُدرِّس؛ باختصار - بأعلى معنى - وسيلة علاجية فكرية وروحية. لم يتم التفكير في الأعمال الفنية العظيمة على أنها مجرد تسلية، فقد احتوت عندما يتم تفسيرها وعرضها بشكل صحيح مجموعة من الاقتراحات حول أفضل طريقة من الطرق التي قد نعيش بها ونموت، ونحكم مجتمعاتنا وفقا لأعلى إمكانياتنا.
وقد كان هدف أرنولد هو محاولة تغيير الطريقة التي تقوم بها مؤسسات النخبة (المتاحف والجامعات والمدارس والمجتمعات المتعلمة) بتدريس أعمال الثقافة، بحيث يمكن أن تصبح ما أحسّ أرنولد بأنه في وسعها أن تكزن عليه: حصناً مناسباً ضد الفوضى الحديثة، والوكلاء لتقديم جرعات مناسبة من تلك الصفتين المهمتين؛ أي: الحلاوة والنور.
وبعبارة "النور"، كان أرنولد يعني "الفهم". إن الأعمال الثقافية العظيمة في وسعها القدرة على إزالة الالتباس العقلي، فهي تعطينا كلمات لأشياء قد شعرنا بها لكننا لم نفهمها من قبل؛ أنها تحل محل العبارات المبتذلة مع بصيرة. نظراً لإمكانات الأعمال الثقافية، اعتقد أرنولد أن المدارس ووسائل الإعلام تتحمل مسؤولية مساعدتنا في التعرف على أكبر عدد ممكن من هذه الأعمال المليئة بالنور. لقد أراد المنهج الذي يعلم الجميع بشكل منهجي على أرض الواقع: "أفضل ما تم التفكير به وقيل في العالم"، حتى نتمكن من خلال هذه المعرفة من تحويل "مجموعة من الأفكار الجديدة والحرة وفقاً لأفكار مخزون وعادات الأمم."
لكن أرنولد كان مدركاً لكيفية أن تدريس أعمال الثقافة في الواقع يهمشها ويفقدها الكثير من قراتها التأثيرية. فالتعليق الأكاديمي ينمو مثل نبات اللبلاب حول روائع الأعمال الثقافية، ويخنق عظمة واهتمام رسالتهم لنا. والمتاحف من جانبها تجعل الفن يبدو معقداً للغاية، مجرداً وغريباً. أما بالنسبة للأفكار الكبيرة والبصيرة التي قد تكمن في الفلسفة، فقد تم صياغتها بشكل متكرر بطرق تجعل من الصعب فهمها ورؤية أهميتها الشخصية، و الأكاديميون كانوا مشاركين في عملية تعقيد الفلسفة وجعلها عصية على الفهم، ونظر بعين الريبة إلى رائد الفلسفة في عصره هيغل لكونه المثال الصارخ عن ذاك التعقيد المضر. لذا، قد حاول أرنولد أن يقنع معاصريه الفكريين بمشروع ما زال عاجلاً حتى يومنا هذا: وهو "تنقية: أفضل المعرفة وأفضل الأفكار في عصرهم؛ عبر تجريد المعرفة من كل ما كان قاسياً، ووقحاً، وصعباً، ومجرداً، ومهنياً، وحصرياً؛ لإضفاء الطابع الإنساني عليها، وجعلها فعالة وميسرة ومفهومة للإنسان العادي خارج زمرة المثقف والمتعلم."
لقد أدرك أنه في مجتمع نخبوي يحركه السوق، لم يكن من المفيد للإنسان العادي الاحتفاظ بالثقافة للقلة، الذين يكتبون كتباً لم يستطع فهمها سوى مائة شخص. وكانت المهمة الحقيقية هي معرفة كيفية التعميم الثقافي والمعرفي. إذا كانت الثقافة لتكون قوية بشكل صحيح، فسيتعين عليها أن تتعلم أن تكون شعبية أولاً.
وبعبارة "حلاوة"، كان أرنولد يعني أنه يريد عرض أعمال الثقافة على الجمهور بطرق حلوة مبسطة ميسرة. لقد رأى ضرورة مطلقة للأشياء التي تُطلى بالبساطة لجعلها سهلة الهضم فكرياً. وبعبارة حلاوة، أرنولد كان يعني أيضاً اللطف والتعاطف. لقد أراد عالماً يكون فيه الناس - في المجال العام - أكثر لطفاً تجاه بعضهم البعض. لقد نلنا ما يكفي من وحشية وقسوة صحيفة ديلي تلغراف وما كان على شاكلتها من صحف ومنابر، وهي مطبوعة كانت تسعد كل يوم بإطلاق النار على ضحايا جدد وتحويل المآسي الشخصية إلى أشياء يُستهزئ بها. لقد تمنى أن تساعد الثقافة في تعزيز روح الاستفسار الودي، والاستعداد لافتراض أن الشخص الآخر قد يكون لديه وجهة نظر ما، حتى لو لم يرها أحد بعد. لقد أراد تعزيز التعاطف تجاه إخفاقات الناس ونقاط ضعفهم. لقد رأى الحلاوة على إنها عنصر أساسي في مجتمع إنساني جيد.

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟