فلسفة الدين عند فويرباخ - بوشعيب بن ايجا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

إن الله هو الموضوع الاول و الاسمى و الجدير بكل دراسة من قبل فلسفة الدين، فالله هو الموضوع الرئيسي للأديان جميعها ، باستثناء بعض الديانات الوضعية مثل البوذية و الطاوية و الكونفوشيوسية التي لا تعتقد بالألوهية ، و حيث إن فكرة  الله هي فكرة ذات قبول عام عند مختلف الامم و الجماعات على مر الازمنة و العصور ، و كلما زاد وعي الإنسان زاد اهتمامه بمشكلة الألوهية[1] ، فالبشرية بدأت بالتوحيد و معرفة الله الحق ، لكن الإنسان بابتعاده عن هذه الحقيقة ظل في تصور إلهه و معرفة خالقه ، فعبد من دونه كل شيء. و لذلك اهتمت الفلسفة بالتدليل على وجود الله ذلك المفارق المتعالي المنزه عن كل صفات البشر بطريقة عقلانية خالصة ، فتعددت البراهين و الادلة التي تؤكد على وجود الله ، و يمكن تصنيفها بصفة عامة إلى مجموعتين :

  • الاولى : أدلة و براهين تعتمد على الطابع العام لنظام الطبيعة
  • الثانية : أدلة و براهين قبلية تعتمد على مبادئ عقلية يقال إنها واضحة بذاتها[2]

وهكذا تتناول فلسفة الدين وجود الله ، فتارة تثبته عقليا ، و تارة أخرى تنكره عقليا لتقره إيمانيا ، و تارة ثالثة تنكره عقليا لتقره قلبيا ، و رابعا تنكره عقليا و إيمانيا و هو ما يعرف بالإلحاد الذي يعد أحد مباحث فلسفة الدين ، و هو الامر الذي يؤكد اختلاف فلسفة الدين عن اللاهوت و علم الكلام و الفلسفة الدينية. تلك المباحث التي تبدأ من نقطة محددة هي التسليم بوجود الله أو التدليل على إثبات وجوده لتدعيم الايمان به أو مناقشة وجوده مناقشة عقلية إنطلاقا من فكرة مسبقة[3] ،و هكذا تختلف رؤية كل فيلسوف في تصوره لمعنى الدين حسب طبيعة اتجاهه و نسقه المعرفي ، كما يتضح لنا أن حقيقة الدين لا يكفي في تحديدها فكرة الاعتقاد في الكائن المطلق أو فكرة الخضوع له فقط ، بل تحتاج إلى تحديدات أخرى لإبراز عناصرها الجوهرية ، و من أهم المنظرين لفلسفة الدين نجد الفيلسوف و عالم الاجتماع فويرباخ ، هذا الأخير الذي إهتم بالدين عموما ، و فكرة الإله خصوصا ، حيث انطلق من النقطة التي توقف عندها أستاذه هيغل فبنى عليها فلسفته الدينية ، فإذا كان هيغل انتهى إلى جعل الدين إنسانيا ، فإن فويرباخ قد أرجع اللاهوت إلى الإنسان ، و رأى أن اللاهوت اختراع إنساني  و هو الامر الذي حاول البرهنة عليه في مختلف مؤلفاته مثل جوهر المسيحية و محاضرات في جوهر الدين ، فالإنسان هو الخالق الفعلي للأديان جميعا ، تلك الفكرة التي سوف تتبلور و تتطور مع تلميذه كارل ماركس الذي سيعلن أن الإنسان هو الذي خلق الله لا العكس ( تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا) ، فقد عمل فويرباخ من خلال فلسفته في الدين على إزالة إله المسيحية و تدمير مطلق هيغل ، و بالتالي فإن الدين عند فويرباخ قد تحول إلى قضية أنثروبولوجية حاول أن يقف فيها على العلاقة بين الدين و الاغتراب، الدين و العلاقات الإنسانية ، فالإنسان هو الموضوع الأول للفلسفة ، و يؤكد فويرباخ دائما على أن الإنسان باعتباره أنه أساس الفلسفة ، و قد إهتم فويرباخ اهتماما كبيرا بالدين و اللاهوت أكثر من غالبية معاصريه ، و يؤكد كارل بارث قضايا ثلاث هامة بخصوص موقف فويرباخ من الدين :

  • أنه لا يوجد واحد من الفلاسفة المحدثين قد شغل نفسه بمشكلة اللاهوت مثلما فعل فويرباخ
  • أن اهتماماته الدينية تضعه في مرتبة أعلى من معظم الفلاسفة المحدثين
  • لم يتعمق فيلسوف من الفلاسفة في الوضع الحالي و بنفس الفاعلية كما تعمق فويرباخ

bouchib ben ijja بوشعيب بن ايجاإن فويرباخ فيلسوف الإنسان و الأنثروبولوجيا الفلسفية قد أمكنه أن يؤكد أن فلسفته كلها فلسفة دين ، و هو كما يقول فوجل كان في مناقشته للاهوت أكثر لاهوتية من العديد من اللاهوتيين أنفسهم ، و يرجع ذلك إلى أن اهتمام فويرباخ الاساسي هو الدين الذي يظهر محورا جوهريا يمثل صلب كتاباته جميعها ، يقول في أولى محاضراته في ماهية الدين " أن كل كتاباتي تهدف إلى دراسة الدين و اللاهوت، و ما يتصل بهما، و  يضيف قائلا لقد كان شغلي دائما و قبل كل شيء أن أنير المناطق الظلمة للدين بمصابيح العقل حتى يمكن للإنسان أن لا يقع ضحية للقوى المادية التي تستفيد من غموض الدين لتقهر الجنس البشري" ، إن الفهم الاساسي و الاولي للدين عند فويرباخ يتلخص في أن الأنثروبولوجي هو سر و حقيقة الثيولوجي ، فالدين له مضمون خاص في ذاته ، فمعرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته ، فالدين هو الوعي الاول و غير المباشر للإنسان ، أي الوسيلة التي يتخذها الإنسان للبحث عن نفسه ، فكل صفات الجوهر الإلهي هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها ، و قد حاول العديد من الباحثين التقريب بين هيغل و فويرباخ خاصة فيما يتعلق بالدين ، ففي الفصل الخامس من كتابه عن هيغل يتحدث زكريا إبراهيم عن الروح الموضوعي مبينا التشابه بين نصوص هيغل في نقد الدين ، و بين ما كتبه فويرباخ في ماهية المسيحية ، و حين يقرر هيغل أن الإيمان الديني وعي نائم مقابل فلسفة التنوير باعتبارها وعيا مستيقظا تقابلنا عبارة فويرباخ أن الدين هو حلم العقل البشري ، و من هنا فإن قول هيغل بأن الطبيعة البشرية لا تكاد تختلف عن الطبيعة الإلهية ، لا يساوى مطلقا قول فويرباخ أن الإنسان حين يتحدث عن الله فإنه في الحقيقة لا يتحدث إلا عن نفسه

  • مراحل تفكير فويرباخ في الدين

نحاول في هذه الفقرة رصد و تحديد أهم المفاهيم التي ظهرت في مختلف مراحل تطور فكر فويرباخ الديني أكثر مما نسعى إلى بيان كتابات فويرباخ الدينية ، و ترتيبها تاريخيا ، و يمكن أن نلمح أربعة مفاهيم أساسية للدين تمثل أربع مراحل متتالية تعبر عن فهم فويرباخ لماهية الدين الانساني[4]  ،و قد تمثل مفهومه الاول في ماهية المسيحية ، حيث قدم تصورا للدين في نطاق الديانة المسيحية اتبعه بماهية الإيمان عند مارتن لوثر الذي يعد مرحلة انتقالية بين ماهية المسيحية و كتابي ماهية الدين ، و محاضرات في ماهية الدين ، بينما المرحلة الرابعة و الاخيرة نجدها في كتاب أنساب الآلهة الذي كثيرا ما يغفل الشراح عند الحديث عن الدين عند فويرباخ ، و يمكن تلخيص هذه المراحل على النحو التالي :

  • المرحلة الاولى : ماهية المسيحية

في هذه المرحلة تصور فويرباخ الله على أنه نتيجة لتجريد الإنسان من سمات البشرية خاصة و من مميزات الجنس البشري ككل ، فقد حاول البشر كما يقول تحقيق مثلهم العليا و صفات الكمال فيهم ، و رغبة في تجسيد هذه المثل خلق البشر الله ، و يظهر هذا التصور في أول إبداعاته "تأملات حول الموت و الخلود" ، و فيه عرض فكرة المرآة و هي تعني عند فويرباخ أن الله مرآة تنعكس فيها صفات النوع البشري يقول " حتى لو لم تكن عندك أية فكرة عن الله فأنت لا تجهل أنه الوجود بلا حدود " فالله كالسطح الاملس الذي يعكس الذات الإنسانية للذات الإنسانية ، فنحن نصل إلى الإنسان عبر نظرية المعرفة ، حيث لا يوجد شيء في العقل لم يكن في الطبيعة، و يبين برديائيف في كتاب الإلهي و الإنساني أت فكرة فويرباخ بأن الإنسان ينسب إلى الله طبيعته السامية ليست جدلا بهدف إنكار الله ، بل هي توضح أن هناك توافق و اكتمالا بين الله و بين الإنسان ذي الروح الحرة فالإنسان قد خلق إلها لنفسه على صورته يحمل ملامحه تماما ، و وضعه في عالم متسام ، و بالتالي فإن سر الدين هو الأنثروبولوجي، و ماهية المسيحية الذي كتبه فويرباخ نجد فيه أسلوب كتب التصوف ، فتأليهه للإنسان هو تأليه الجنس البشري و المجتمع و ليس تأليها للإنسان الفرد أو الشخصية ، و يمكن التقريب هنا بين تصور فويرباخ للصفات الإنسانية التي يخلعها المرء على الذات أي ذات مغايرة مفارقة ، و بين تصور بعض علماء الكلام المسلمين للعلاقة بين الذات و الصفات ، و يفترض فويرباخ أن إعطاء صفات الإنسان لكيان مغاير في كائن مفارق موقف مغترب[5] ، و قراءة لبعض كتب علماء الكلام خاصة مقالات الإسلاميين تعطي لنا صورة أخرى تدور في إطار قضية الحقيقة و المجاز في الفكر الكلامي المعتزلي .

  • المرحلة الثانية : ماهية الإيمان

و هذه المرحلة نجدها في كتاب ماهية الإيمان عند مارتن لوثر ، و هي تمثل انتقالا من ماهية المسيحية إلى ماهية الدين ، فالدين يتجه نحو الإنسان ، بغية تحقيق سعادته ، و يمكن أن نجد لفلسفة فويرباخ الدينية إمتداد لدى سيغموند فرويد أي إمتداد لهذا الموقف السيكولوجي و إستمرار له ، حيث يستخدم التحليل النفسي لتحليل و تعميق أفكار فويرباخ و الانثروبولوجيا الدينية ، و يقترب فرويد من فويرباخ في تحديده للدين بأنه أمان قلبية ، إن ملاحظة فويرباخ أن الثيولوجي ما هو إلا باثولوجي ( علم الأمراض) ملاحظة ذات أهمية كبيرة  و منها يبدأ العلاج ، فالإنسان حين يجسد صفاته البشرية في صورة إلهه فإنه ينكر على نفسه الإشباع الحقيقي ، و ينغمس بدلا من ذلك في إشباع خيالي ، و يعتقد فويرباخ أن العقيدة الدينية و الاحلام متشابهان ، فالحلم مفتاح أسرار الدين ، لهذا يقول ه.أكتون في كتابه وهم العصر " أنه لا يمكن لأي إنسان على معرفة بتفسير فرويد للدين في كتابه مستقبل الوهم إلا أن يمتلكه الاعجاب الشديد بينه و بين آراء فويرباخ"[6]

  • المرحلة الثالثة : ماهية الدين

إذا كان الدين في المرحلة الاولى و الثانية مستمدا من الخصائص البشرية فإنه هنا يقوم على الموضوعات الموجودة في العالم الطبيعي يقول " الله هو الطبيعة مجردة و الطبيعة بالمعنى الحقيقي لا المجازي هي الطبيعة المحسوسة الواقعية التي تظهره لنا الحواس "

  • المرحلة الرابعة : الثيوجونيا

هي المرحلة الاخيرة في تفكير فويرباخ الديني ، و يظهر فيها الارتباط بين الدين و الأخلاق ، فقد ادعى الإنسان أن رغباته يمكن الحصول عليها و لكي يجعل هذا الافتراض صحيحا نظر البشر إلى ألهتهم على أنهم المكملون و الضامنون للرغبات البشرية ، و يرى أرفون أن فويرباخ نشر كتابه أنساب الآلهة من أجل إيجاد توافق بين إنسانية ماهية المسيحية و طبيعية ماهية الدين ، لقد حاول فويرباخ أن يعثر في مفهوم الله على العناصر الإنسانية و الطبيعة، و يؤكد الفيلسوف الوجودي نيقولا برديائيف في كتابه العزلة و المجتمع الذي يؤكد فيه على الناحية الوجودية في فلسفة فويرباخ، لأنه يجعل من الإنسان الفكرة المسيطرة على حياته و يضيف برديائيف أن التعرض للإنسان معناه التعرض لله و هذه هي المسألة الأساسية ، و يرى إنجلز في كتابه فويرباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية أن موقف فويرباخ من الدين واضح و صريح فهو يبقى عليه ، و هدفه هو الوصول إلى أسمى درجات الكمال بالدين ، و يمكن أن نستشهد بقول فويرباخ " أن الله هو تفكيري الاول ، و العقل تفكيري الثاني ، و الإنسان تفكيري الثالث " أي أن إنسانية فويرباخ لم تتخلى عن أصلها الديني ، و يمكن القول أن هناك نوعين من الملحدين ، ملحد يعاني و ملحد يحقد ، مع استبعاد الملحد الذي لا يتمتع بكامل قواه العقلية ذلك الذي صوره دوستويفسكي في الجريمة و العقاب ؛ فنيتشه من النوع الذي يعاني ، و هناك بعض الملحدين الحاقدين الذين يشعرون بالرضا عن أنفسهم ، و الأنثروبولوجيا الفلسفية تجعل من الشعور أساس الدين و التحليل النهائي للدين  إلى مصدر سيكولوجي و هو ما يطلق عليه فويرباخ الشعور بالتبعية .

  • تعريف الدين بالخوف

أول التفسيرات لمصدر الدين هو الخوف ، فقد جعل الكثير من القدماء و المحدثين من الخوف أساس الدين ، فالخوف في مبدأ الأمر خلق الآلهة في العالم ، و عند الرومان كانت كلمة الخوف تعني و تحمل معنى الدين ، فاليوم الديني يعني يوما غير مأمون و يخافه الناس ، و تفسير الدين بالخوف تؤكده حقيقة أن البدائيين كانوا يخشون بعض جوانب الطبيعة ، و هذا نفس ما اشار إليه فرويد في تفسيره للدين في كتاب مستقبل وهم ، و قد حرص الرومان على القيام باحتفالات دينية أعطوها اسم أورلون و الكارثة ، و من الواضح أن هذه العبادات ليس لها دافع أخر سوى الخوف ، و يرتبط الدين أيضا بالخوف من الموت ، أو ما يطلق عليه فويرباخ اسم شعور الإنسان بالتناهي و المحدودية أي وعيه بأنه سوف ينتهي يوما ما ، أي موته ، فلولا الموت لما كان هناك وجود لفكرة الله ، فلولا الموت لعاش الإنسان أبديا و لما كان هناك تفكير في الإله يقول فويرباخ " إن المقبرة التي تمثل نهاية الإنسان تمثل موضع ميلاد الآلهة " يقول سينيكا في خطاباته " و في حالة الإنسان الفاني فإنه يكون أكثر شعورا بالتدين عندما يفكر في فنائه ، و يعلم أن الإنسان ولد ليموت يوما " ففكرة الموت فكرة دينية لأن فيها مواجهة مع محدوديتي ، يقول فويرباخ " إذا كان من الواضح أنه بغير الموت ليس هناك دين فإنه من الواضح أيضا أن الشعور بالتبعية هو التعبير الأكثر تمييزا في مجال الدين ، إن الذي يؤثر في بقوة و بحدة أكثر من الموت هو شعوري بأنني لا أستطيع الإعتماد على نفسي وحدي " و بالتالي فإن الشعور بالتبعية هو أساس الدين .

  • الشعور بالتبعية كمصدر للدين

لا يجعل فويرباخ أساس الدين في الخوف أو السعادة و المحبة فقط ، و لكن يبحث عن الصيغة الشاملة التي تضم هذين الوجهين و هي الشعور بالتبعية ، الإفتقار ، الخوف مرتبط بالموت و السعادة مرتبطة بالحياة و لكن الاثنان يجتمعان في شيء واحد هو الدين ، فالتعريف العام الذي توصل إليه فويرباخ هو أن الشعور بالتبعية الحقيقي الشمولي هو المفهوم الذي يفسر الاساس السيكولوجي للدين ، فالدين الحقيقي هو جوهر الإنسان[7] يقول إميل برييه " لا يهدف فويرباخ إلى تحطيم المسيحية ، بل يعمل على تحقيقها و إكمالها و هو يعتقد أن مذهبه ترجمة عقلانية واضحة للدين المسيحي من اللغة الميتة للإشباع إلى لغة إنسانية "

لقد أحدث فويرباخ ثورة نقدية انقلابية في الدين حين جعل الإنسان علة لوجود الله ، مبينا أن الله هو الجوهر الإنساني مفصولا عن الإنسان و مقاما في المطلق ، لقد ركز فويرباخ في دراسته الفلسفية للدين على المسيحية بشكل خاص لأن المسيحية تنطلق من فكرة الله إنسانا أي المسيح ، فالدين حسب فويرباخ يشكل علاقة الإنسان بماهيته النوعية فالدين يمثل اغتراب الإنسان عن نفسه و عن عالمه ، فالإنسان يعبد نفسه و يقدس صفاته في صورة جوهر متوهم مفارق ، و يرجع هذا الاغتراب إلى شعور الإنسان بالعجز أمام القوى الطبيعية و الاجتماعية ، فالفيلسوف فويرباخ عكس المعادلة ، و جعل الإنسان علة الإله فلا وجود عنده لكائن متعال بل مجرد أوهام ، فقلب بذلك العلاقة الميتافيزيقية حيث اعتبر أنه مجرد خلق بشري ، حيث جعل الأنثروبولوجي أصل للماورائي ، فهدف فويرباخ ليس هو العقائد و الطقوس و القواعد الحرفية الصارمة بل هو الدين الانساني ، فالدين هو وعي الذات بنفسها فالدين هو الذي يحدد صفات الإنسان نفسه ، فهدف فلسفة فويرباخ في النهاية هو تحويل الدين إلى سياسة و الإنسان ( الأنا و الانت ) أي المجتمع هو أساس هذا التحول عنده فالإنسان هو جوهر الثيولوجي ، و يبين فويرباخ موقفه في ثالث محاضرات في ماهية الدين  قائلا : " إن السبب الرئيسي في اهتمامي بالدين هو أنه كان دائما أساس الحياة البشرية أساس علم الأخلاق و السياسة " فالكائن الذي يضعه الإنسان فوقه و الذي يتسم بصفات التعالي و التسامي ليس إلا جوهر خاص للإنسان ، و تتخذ اهتمامات فويرباخ الدينية طابعا سياسيا و أكد في أولى محاضراته حول الدين ضرورة الإهتمام بالسياسة التي تحتوي على كل الاهتمامات الاخرى يقول فويرباخ " بمجرد أن يعتنق الإنسان مبدأ سياسيا من الكائن الخير المحسوس أو بصفة عامة من كائن يميز نفسه عن الطبيعة فإن الإنسان يركز نفسه في داخله كما يتغير الإله الذي يعبده من إله طبيعي إلى كائن سياسي يختلف تماما عن الطبيعة[8] فالدين أو على الأقل المسيحية هي سلوك الإنسان تجاه ذاته ، فمعرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته هي المعرفة التي لم تعي ذاتها بعد فالدين هو الوعي الأول و غير المباشر للإنسان أي الوسيلة التي يتخذها الموجود البشري في البحث عن نفسه فكل صفات الجوهر الإلهي هي صفات جوهر الإنسان في أقصى درجات كمالها[9] ، الله صورة الإنسان اعتماد الإنسان على الطبيعة المصدر الوحيد و الأخير للدين ، إن هذا الكائن الذي يختلف عن الإنسان و يعتبر مستقلا عنه أو هو نفس الشيء بالنسبة لله كما هو مقدم في جوهر المسيحية ، و الكائن الذي ليس له طبيعة بشرية ، و ليس له صفات بشرية و بدون فردية بشرية ليس شيئا إلا الطبيعة ، فجوهر المسيحية هو الله في الإنسان[10] يريد فويرباخ بذلك أن يقلب الدين رأسا على عقب و أن يسحب بذلك إلى دائرة الضوء ما يعتبر في رأيه المضمون المخفي يقول في الفصل الأخير من كتابه " لقد أثبتنا  أن مضمون و موضوع الدين إنساني بالتأكيد ، و أثبتنا أن سر علم اللاهوت هو علم السلالات و الاجناس و أن سر الجوهر الإلهي هو جوهر الإنسان " لقد أراد فويرباخ ان يكشف بمثال المسيحية الجوهر الحقيقي للدين ، حيث إعتبر نفسه صاحب ثورة تنويرية و متمما لأفكار مارتن لوثر الإصلاحية ، فالذي يحتل مكان الصدارة في الدين ليس الله المعنوي المجرد ، و إنما الإنسان الواقعي من لحم و دم[11] ، و بهذا يمكن القول أن كتاب جوهر المسيحية ، بالإضافة إلى أصل الدين من أهم الكتب الرائدة في مجال النقد الديني ، و تظهر الخاصية البشرية للدين بصورة خاصة في رأي فويرباخ في نوع التواصل الذي يقيمه الإنسان مع الله ، فالإنسان يخاطب الله في الصلاة بأنت و يتعامل معه كمقابل إنساني فالحديث في الدين هو حديث عن الإنسان ، فالدين في نظرية فويرباخ هو الرؤية المتطابقة مع جوهر الإنسان و من جوهر العالم و الإنسان ، إن من يقرأ كتاب فويرباخ الهام على أنه نقد ديني تنويري ليس إلا فإنه ربما سيرتبك في اللغة المسبوغة بالمجاز و الأسلوب البياني الديني ، فبهذا الأسلوب المجازي يحتفي فويرباخ بالإنسان الطبيعي الحسي الذي وجد طريقه إلى نفسه مرة أخرى ، و يحتاج الإنسان كما يوضح فويرباخ فقط إلى كسر المسار التقليدي المعتاد للأشياء ليأخذ العام أهمية خاصة و لتصبح الحياة كلها أهمية دينية[12] فالنقد الديني عند فويرباخ يفهم على أنه علم نفس او كما يسميه هو علم الامراض النفسية إستنادا إلى تقسيم كانط لكتابه نقد العقل الخالص إلى نظرية العناصر المتسامية ، و قد قسم فويرباخ كتابه إلى قسمين يتناول القسم الاول الجوهر الحقيقي أي السلالي الوصفي للدين ؛ و هو إثبات أن وراء تصوراتنا الدينية تكمن تصورات بشرية ، و يتناول القسم الثاني الجوهر غير الحقيقي للدين ، أي اللاهوتي ، و نجد أن القسم الثاني هو الذي يشمل جوهر الفلسفة الدينية عند فويرباخ ، يقول فويرباخ : " لقد هجرت اللاهوت لا عبثا ، و لا إستهثار و لا كرها ، و لكن لأنه لا يشبعني لا يعطيني ما أحتاج إليه و لا أستطيع الإستغناء عنه أود أن أضم الطبيعة إلى قلبي تلك التي يرتد من أعماقها رجال اللاهوت الجبناء ، أود أن أعانق الإنسان في كماله" .

ختاما يمكن القول أن فلسفة فويرباخ الدينية تقوم على إصلاح الفلسفة و تأسيس الدين لصالح البشر ، و يمكن أن نميز ثلاثة محاور أساسية يدور حولها فكر فويرباخ و تنتهي إليها موضوعات فلسفته و هذه المحاور هي : نقد و إصلاح الفلسفة ، نقد الدين ، و الاهتمام بالإنسان أو الأنثروبولوجيا.

  • نقد و إصلاح الفلسفة: يظهر من خلال عناوين كتابات فويرباخ الاهتمام الشديد بالفلسفة كأعلى صورة من صور الوعي الإنساني ، و يتجلى هذا الاصلاح في بداية الفلسفة ، و قضايا أولية لإصلاح الفلسفة و مبادئ فلسفة المستقبل ، و من خلال هذا المحور نجد قضايا شغل بها فويرباخ مثل العلاقة بين الفلسفة و الدين التي شغلت معظم l ، بينما شغلته المشكلة الهيغيلية (المطلق) أو اللامتناهي مما أحدث صراعا وجوديا في تفكيره بين اللامتناهي و المتناهي .
  • نقد الدين : يظهر في كتبه ماهية المسيحية ، أصل الدين ، حيث يتجاوز العرض و الرصد التاريخي إلى التحليل السيكولوجي و التناول الفلسفي ، فهو يريد جعل الدين الموضوع الاول للفلسفة بل تحويل الدين إلى سياسة ، و يرتبط نقد فويرباخ للدين بنقده للفلسفة التأملية .
  • الإهتمام بالإنسان و تأسيس الأنثروبولوجيا الفلسفية : لقد كان فويرباخ ضد الموقف المثالي النظري للاهوت و الفلسفة التأملية و ضد التجريد و المطلق .

فلا بد من إقامة حوار يساعد في دراسة الفلسفة العربية الإسلامية دراسة معاصرة ، أي تحويل دراسة فويرباخ و الفكر الغربي بأصوله اليونانية من هدف في ذاته إلى أداة من أجل فهم و دراسة الفكر العربي و الإسلامي ، بل و جعل ذلك وسيلة لرؤية شاملة لواقعنا الحالي  و صياغة رؤاه المستقبلية[13].

 

قائمة المصادر و المراجع:

  • فلسفة الدين ، المصطلح من الارهاصات إلى التكوين العلمي الراهن ، علي غيضان السيد.
  • مدخل إلى الميتافيزيقا مع ترجمة كاملة لكتاب الميتافيزيقا لأرسطو ، إمام عبد الفتاح إمام .
  • فويرباخ ، ماهية الدين قضايا أولية لإصلاح الفلسفة و نصوص أخرى، أحمد عبد الحليم عطية .
  • أصل الدين ، لودفيغ فويرباخ ، دراسة و ترجمة أحمد عبد الحليم عطية .
  • روبرت تسيمر ، في صحبة الفلاسفة ، مدخل لأعمالهم الفلسفية الرائدة ، الجزء الثاني .

[1] علي غيضان السيد ، فلسفة الدين ، المصطلح من الإرهاصات إلى التكوين العلمي الراهن ، الطبعة الأولى ، لبنان _ بيروت ، العتبة العباسية المقدسة ، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ، 2019 ، ص 97

[2] إمام عبد الفتاح إمام ، مدخل إلى الميتافيزيقا مع ترجمة كاملة لكتاب الميتافيزيقا ، أرسطو ، دار نهضة مصر ، الطبعة الثالثة ، 2009 ، ص 221

[3] علي غيضان السيد ، فلسفة الدين ، المصطلح من الارهاصات إلى التكوين العلمي الراهن ، ص 106

[4] أحمد عبد الحليم عطية ، فويرباخ ، ماهية الدين ، قضايا أولية لإصلاح الفلسفة و نصوص أخرى ، دار الثقافة العربية للطباعة و النشر ، القاهرة ، 2007 ، ص 158

[5] نفس المرجع ، ص 160

[6] نفس المرجع ، ص 164

[7] أحمد عبد الحليم عطية ، فويرباخ ، ماهية الدين قضايا أولية لإصلاح الفلسفة و نصوص أخرى ، دار الثقافة العربية للطباعة و النشر ، القاهرة 2007 ، ص 173

[8] فويرباخ ، أصل الدين ، دراسة و ترجمة أحمد عبد الحليم عطية ، الطبعة الأولى ، 1991 ، ص 83

[9] نفس المرجع ، ص 11

[10] نفس المرجع ، ص 41

[11] روبرت تسيمر، في صحبة الفلاسفة مدخل لأعمالهم الفلسفية الرائدة الجزء الثاني ، دار الحكمة لندن ، الطبعة الأولى 2016 ، ص 182

[12] نفس المرجع ، ص  193

[13] أحمد عبد الحليم عطية ، فويرباخ ، ماهية الدين قضايا أولية لإصلاح الفلسفة و نصوص أخرى ، دار الثقافة العربية ، إصدارات أوراق فلسفية ، القاهرة 2007 ، ص 217

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟