الوجودية في تاريخ الفكر - مراد العبدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

من خلال قراءة في كتاب الأديب والمفكر والقانوني المصري محمد سعيد العشماوي بعنوان "تاريخ الوجودية في الفكر البشري"، سنقف على بعض دلالات مفهوم الوجودية في تاريخ الفكر البشري عموما وتجلياته في مختلف الثقافات. نستهل القراءة بكون الوجود هو الواقع، وكل فكر يهتم بالواقع الإنساني هو فكر وجودي، وما عداه مما يهتم بالفكر في ذاته هو فكر تجريدي. لفظ الوجود شحنة التعبير ورمز الفكرة، إنه يحمل معنى الخروج من الشيء، ولغة معنى الكينونة كوجود عام، والوجود الخاص الذي نعنيه هو موضوع الفلسفات الوجودية الحديثة باعتباره الشعور بالوجود شعورا حيا وتحقيق ما فيه. له كذلك معنى الحضور لينقل اللفظ إلى معنى الكون أو العالم، ثم نقل اللفظ إلى الفرد بفعل الحضور الدائم للإنسان في الفكر البشري، من حيث إثبات وجوده. يمكن أن نلخص كون الوجود العام دلالة على الكون والوجود الخاص دلالة على عالم الفرد. لغويا الفرق بين لفظ الوجود في اللغات الأوربية والعربية هو أنه في الأولى يعني الخروج من الذات إلى العالم وفي الثانية يعني الحضور أمام الغير.

أما عن الكينونة والوجود، فالكينونة تعني الخروج إلى الكون عند الولادة في ذات تتفاعل مع الكون. وقد تعني القوة الذاتية الكاملة التي فاض عنها الوجود المطلق الذي لا يتفاعل مع غيره. وعن الوجود والإنية فبينهما ما بين المبدإ وتطبيقه، فالإنية تعني الذات في تميزها وتفيد معنى تحقيق الوجود في مرتبة ذاتية تعكس شخصية الفرد التي تتحقق في تفاعلها مع الوجود. إن الوجود تعبير الحياة، فالوجود هو ما يميز الإنسان عن غيره، لما يثيره من تفاعل إيجابي يعكس وعي الفرد وتعبيره الجديد المتفرد عن الحياة، تعبير إما بطريقة نفسية تنتهجها الفنون المختلفة، وإما بطريقة عقلية يهيمن عليها الفكر. فالإنسان يحيا معبرا عن ذاته وغيره يعيش منفعلا.

لقد اختلفت دلالات الوجود عبر الثقافات، فهو في الحضارة المصرية وجود واقعي، الوحدة التجريبية سمته المميزة له وما يجعله وجودا يظهر من خلال الواقع، فلا يمكن تصور مثال للإنسان منعزل في السماء بعيدا عن مجاله الطبيعي، ذلك أن الوجود وجود بالفعل، ولعله سبب اعتقادهم تعدد الآلهة، "المصري لا يعتقد ولكنه يمسك بيديه"، لم ير إلها مجردا بل آلهة واقعية. أما في الفكر الهندي فيرتكز على فكرة وحدة الوجود من جهة وفكرة تناسخ الأرواح من جهة ثانية، وحدة الوجود التي تجعل الإنسان جزءا من كل مختلط، والكون ظهور للوجود الحقيقي الأساسي. بهذا الفهم يعبد الهندي كل شيء، يدرك نفسه في الكائنات ويدرك الكائنات في نفسه، فيذوب كيان الفرد كوجود فردي في الكون كوجود عام، إنها "النرفانا" التي تعني صفاء الروح بتعبير الهنود، ومنه الزهد للتخلص من دنيا المادة إلى عالم الروح. عند الإغريق يخضع الوجود كما توحي إلياذة هومروس إلى جبرية لازمة. كما أثار قصيد هيزيود مسألة شبه الآلهة بالبشر غير أنها تتميز بخلود الجسد. أما الإنسان فيلتقي بالحياة من خلال الجسد، وجوده محدود بداية بالميلاد ونهاية بالوفاة، وجوده جزيرة يحيط بها العدم من كل جانب.

لقد أشار الكتاب تأثير مجموعة من الأطياف الفكرية والثقافية على الفكر البشري من قبيل ما أشار إليه من كون السوفسطائية وضعت خبرة الإنسان في مقابل القوى الكونية بدل التضرع لها، وعليه جعل "بروتاغوراس" الإنسان مقياس كل الأشياء. كما جعل "انكساغوراس" العقل الإنساني محل آلهة الأولمب، استقلال العقل هذا كان من حسنات السفسطائية التي انتهت بالجدل العقيم الذي سقطت فيه، والذي تصدى له سقراط. كذلك جاء أفلاطون ليصف الفلسفة "إنها التشبه بالله قدر طاقة البشرية" مركزا على الماهيات والميتافيزيقا. كما عدد الكاتب وصمات عشر للفكر الإغريقي على الحضارة الغربية: لا وحدانية في عقيدة التثليث المسيحية، سقوط الآلهة إلى منزلة البشر في الحركة العلمية، فصام الذات بين الإنسان والإله، بين الشكل والصورة، الوجود والماهية، الخطيئة والخلاص في اللاهوت المسيحي حيث الوجود بني على الخطيئة والحياة مجرد خلاص والجسد سجن للروح حتى توف العقوبة مع اللجوء إلى التناسخ إن لم يكف الجسد الواحد، الحياة جسد فالإنسان يعرف الحياة من خلال الجسد فقبل الميلاد وبعد الوفاة لا شيء، الجبر والاختيار، فالإنسان بذلك خاضع لقدر أعمى لآلهة ترسم المصائر، النظر والعمل، فقد بطل العمل عند الإغريق لأنه لا يغير محتوما، فصار العمل للعبيد والنظر للأسياد، تقديس العقل في النهضة العلمية الحديثة، فالعقل وحده طريق الكمال، بطلان الحياة، باعتبارها خطيئة وأي عمل فيها بلا معنى ما دام الفناء أفقا عاما، وأخيرا انغلاق الوجود على الإنسان. أما الحضارة الرومانية فكانت مجالا للتشريع والجندية أكثر منها مجالا للفكر والتأمل. كذلك ساد اعتقاد كون الآلهة أشباحا لا نبل فيها قد تنزل إلى الأرض، كما أنه يؤله كل إنسان له قدرات غير اعتيادية فيصعد إلى السماء، فنكون أمام آلهة مؤنسة وإنسان مؤله. الفكر الإسرائيلي، بناء على ما طبعه من مركب نقص، جعل بعض الأفكار تطفو على سطحه من قبيل فكرة شعب الله المختار والأرض الموعودة بمعنى اختيار التشريف لا التكليف، وإلحاق صفات الإنسان بالله في استعاضة بالخيال عن الواقع، فتم إسقاط الإله إلى الأرض بدل الارتفاع بالنفس إلى مستواه. كذلك الوجود الفردي محدود بالعيش فلا حياة بعد الموت باعتباره نوما عميقا، والأجزية عاجلة في الدنيا لأن الوجود محدود بالموت. كذلك حلت شيوعية الواجبات وفردية الحقوق فغدا الفرد أحرص على حياته، الفرد جزيرة نائية والمجتمع هيكل بلا روح. أما المسيحية فكانت رد فعل على المظهر المادي الذي خلفته الحضارة الهلينية وإعادة الاعتبار لمكون الإيمان في الوجود، هذا الوجود الذي كان تحت رحمة مزاج الحاكم وليس الإصلاح الصادق. فمعظم الحركات الإصلاحية فشلت لأن الغرض منها كان السلطة وليس الفكر إلى أن جاءت رسالة المسيح ثائرة على الوجود المغلق، فأصبح الوجود الفردي يضاهي وجود الكون، كما جاءت الدعوة إلى الإيمان على حساب الأعمال، فكان بولس الرسول يرى البر إيمان فحسب. ومن جهته الفكر الإسلامي أعاد إلى الواجهة فكرة التجربة، فالحياة سرمد والوجود الفردي بلاء والتجربة أحد مظاهرها ومعبر إلى حياة أخرى. الفكر الإسلامي دعوة إلى الفكر الوجودي بداية ثم إلى فكر الماهية. ولعل الصوفية نموذج قائم على الذاتية، فعن طريق الذات يتم استشعار الكون ويحل الوجود الفردي محل الوجود الكوني. وربما نتحدث بهذا الصدد عن "وحدة الوجود" اتحادا بين المخلوق والخالق، وهو ما ظهر في قول "الحلاج": "أنا من أهوى ومن أهوى أنا // نحن روحان حللنا بدنا". وهكذا فالتصوف في أعلى درجاته يسقط حواجز المادة والمكان والزمان ونظم الكون أمام إرادة الذات البشرية.

هكذا قد انتهى العصر الوسيط إلى فصام بين الفكر والعمل، فكر انغمس في الفروض الجدلية للعقل التجريدي وعمل يراكم التجارب والخبرات الحسية. أمر سيحاول الفكر الحديث تجاوزه من خلال هيجل وشطاحة العقل، حيث افترض مطابقة الواقع للفكر فكل ما هو عقلي عنده هو واقعي وكل ما هم واقعي هو عقلي، آخذا الواقع بمعايير العقل، وكل الأمور على قاعدة واحدة تبدأ بالفرض ثم ظهور النقيض ثم اندماج الفرض ونقيضه في فرض أكمل يظهر نقيضه بعد ذلك. وقياسا عليه فالحياة تبدو على شكل معين (الفرض) ثم تنكشف معايب ذلك الشكل (النقيض) ثم تجري الحياة على شكل معدل (تركيب الفرض ونقيضه) هو بذاته فرض آخر. المبالغة في تقديس العقل انتهت مع كانط وبرغسون بعده. وكذلك مع كيركجارد ونصرة الإنسان، فهو أول من انتقد الفلسفة الهيجلية مستبدلا الفكر الموضوعي كعدم وانسحاب من الوجود بفكر ذاتي تنبع فيه الحقيقة من الذات انطلاقا من تجاربها الشخصية وهي نقطة البداية في الفلسفة الحديثة، ومنه جاءت الوجودية باعتبار الوجود هو تفرد واختيار وصيرورة وشعور بالخطيئة، ثم هو في النهاية وجود أمام الله. هوسرل كذلك جسد الوجودية وهي تتصيد منهجا، فقد اهتم بوضع منهاج خاص عن فلسفة الظواهر التقى مع الفكر الوجودي، حيث اعتمد الدراسة الوصفية انطلاقا من صميم شعورنا الذي يربط الذات بالموضوع، فكل شعور هو في الحقيقة شعور بشيء، حيث الشعور هو ما يمنح المعنى للوجود. منهج طور الفلسفة وجعلها علما وصفيا لا أثر فيه للاستدلالات العقلية. المهم في الفلسفتين الوجودية والظاهراتية هو الاهتمام بالذات الفردية والشعور الخاص. ومحل الاختلاف كون هوسر وضع الوجود بموضوعاته بين قوسين والشعور هو الذي يمنحه المعنى، في حين أزالت الوجودية القوسين فالشعور بغير الموضوعات عدم والعكس صحيح. الفرنسي غابرييل مارسيل هو أول من استعمل منهاج هوسرل فكانت تأملاته الفلسفية نتاج تجربة ذاتية نفسية، ونقطة البداية كانت الجسد البشري الوسيط بين الذات والأشياء. فالوجود ليس حقيقة أو واقعة قائمة بذاتها بل عمل واكتساب ومسؤولية. كما أن الألماني كارل ياسبرز تحول بالفكر الوجودي إلى تفكير عقلي منظم يرى في الوجود الإنساني ذلك الفعل الإرادي للذات. يميز في الوجود بين الوجود الطبيعي قبل أي جهد وهو محض كينونة، والوجود الحقيقي كأحد الممكنات المنبثقة من الوجود الطبيعي، حيث تظهر الصفات الشخصية من خلال تفاعل عوامل موروثة بظروف محيطة ومواقف متجددة. من جهته اهتم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر بالبحث في فلسفة الوجود العام دون فلسفة الوجود الإنساني. الوجود عنده خاصية إنسانية فالحيوانات تحيا والموضوعات تظل ومظاهر الطبيعة تتجلى. الوجود إذن واقعة زمانية يجتاز خلالها الإنسان المسافة بينه وبين ذاته تحت تهديد فكرة الموت كواقعة عدم لا تنفصل عن فعل الوجود تورث القلق، وجود بهذا الشكل يجعل الإنسان مسؤولا عن حريته بعيدا عن الوجود الزائف الذي يجعل الفرد ينصهر في المجموع. الإنسان موجود غير كامل قد يكتمل عبر القلق والإحساس بالعدم. أما سارتر فقد جسد ختام الفكر الوجودي، ميز بين الموجود في ذاته كموجود كامل ليس فيه ثغرة كامن في ذاته كامل بها، وموجود لذاته كمشروع وجود يسعى لتجاوز ماضيه وتحقيق ذاته بحرية مطلقة.
إن قصدية الوجود قسمت العصر الحديث إلى ثلاثة اتجاهات؛ النظرة الآلية التي تستمد حركات التقدم من دفع الماضي حيث الحياة تكيف حتمي صارم مع الظروف الخارجية، والنظرة الغائية التي تعتمد على جاذبية المستقبل حيث تطور الحياة له قصد معين سلفا، ثم الاتجاه الثالث الرافض للأول والمعدل للثاني وهو التطور الخالق كما يسميه برغسون. الوجود إذن هو الطريقة الإنسانية في الحياة والأسلوب الذاتي في الكينونة الذي يعكس سيلان الوعي في سعي الذات لتحقيق هدف شحنت به. حياة راقية تتغلف بالفكر فتسمى فلسفة وبالإحساس فتسمى فنا وبالمعاناة فتسمى تصوفا.
فالحياة تعبير الخالق... والوجود تعبير الحياة ... والإبداع تعبير الوجود...

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟