مذهب وحدة الوجود الفلسفي - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يذهب والتر ستيس وهو فيلسوف متصوف في كتابه الذي نناقش بعض أفكاره (التصوف والفلسفة) تقديم وترجمة امام عبد الفتاح امام، الى ان : المشكلة الأساسية في وحدة الوجود الصوفي تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والاختلاف ، هل الله والعالم متحدان في هويه واحدة ؟ ام انهما متمايزان تماما ؟ (1) كما يذهب له الادراك والتفكير الذهني العقلي واللاهوت الديني في مختلف الديانات السماوية وعديد من الديانات الأخرى من الذين لا يؤمنون بوحدة الوجود ويعتبرون ان الله والعالم متمايزان ومختلفان بالهوية والكيف والماهية ولا علاقة اتحاد بينهما في أي شكل من أشكال الترابط او الحلول الصوفي بينهما.

ولا بد من المرور برأي اسبينوزا في وحدة الوجود الذي قال به فلسفيا ان الله شأنه شان جميع الظواهر الطبيعية والموجودات يتكون من جوهر وصفات ، لذا نجده يتحدث عن الله والطبيعة او العالم والكون انهم جميعا مترادفات لمدلول ومعنى واحد، ولا يمكن الفصل بينها من حيث انها جميعا تعني معنى واحدا، ولا تفريق هوياتي مختلف متمايز ذاتيا من أي نوع بينهم. (كما لا يسلّم اسبينوزا باي وجود خالص خارج الطبيعة )2.

بمعنى اكثر وضوحا ان الله وجوده ملحوظ في توزع صفاته على الطبيعة والانسان والكوني وما عدا ذلك فلا وجود الهي خارج الطبيعة يمكننا ادراك وجوده خارج صفاته الموزعة التي تحتويها الطبيعة وخلقه لها التي نحيا بها ومعها، ومن الملاحظ  ان فيورباخ ذهب نفس المذهب في تاصيله نشأة الدين في علاقة الانسان بالطبيعة ولا وجود من أي نوع من المقدس عابر لهذه الحقيقة (ان عبادة الله تعتمد فقط على عبادة الانسان لنفسه) عبارة فيورباخ.

من الواضح ان اسبينوزا في فهمه وحدة الوجود يتأرجح بين الالحاد غير المعلن صراحة ، وبين الايمان الذي يعجزه البرهنة عليه ، فهو يطرح مسألة وحدة الوجود بتلاعب لفظي نجده نحن انه يفترض ان الطبيعة تلتقي ب (الله) بالصفات لا بالجوهر، وانهما الله والطبيعة كلاهما وجود بجوهر اختلافي لا علاقة جدلية تربطهما بل يوجد تحليل فلسفي فقط ، وهذا الجوهر أساسا ليس مفتقدا بالنسبة لظواهر الطبيعة،كظواهر وماهيات لا حصر لها،  لكنه مفتقد بالنسبة ل (الله) ، فالله بلا ماهية ولا جوهر وله صفات لاهوتية تجريدية غير صفاته المدركة حسّيا بالطبيعة وقوانينها، يقرّها الايمان و لا يقرّ بها العقل. ومحاولة اسبينوزا الربط بين الله والطبيعة والوجود الكوني بالجوهروصفاته، يؤكد لدينا نحن فقط ان صفات الله  بلا ماهية ولا جوهر، فهو ليس ذاتا ولا موضوعا يمكن وعي وادراك صفاته، بل هو ممكن ان تكون بعض صفاته ادراكية في الطبيعة والكوني فقط لا غير، ولكل شخص تفسيره لهذه الصفات وايمانه بها، بخلاف ان الطبيعة ظواهرها في اغلبها هي جواهر وظواهرمعا تحكمها قوانين الطبيعة المدركة منها وغير المدركة إنسانيا في فضائي الزمان والمكان المحكوم بهما الانسان .

الصفات الطبيعية في صوفية الاوبنشاد

وحدة الوجود التي تعتمدها الاوبنشاد الهندية التي يطلبها الصوفية في اقتفائهم تعاليم  المعبود براهمان، هي من منطلق اسباغ قدسية الصفات الطبيعية على المعبود براهما، ولا وجود لحياة أخرى فيها حساب وثواب، ويبدو ان هذا التعبير قريب من فهم اسبينوزا بانه لا وجود لخالق فوق مدركات صفاتنا الأرضية والكونية له ، ولنقرأ هذه الابيات الشعرية للاوبنشاد:

(انت النار والشمس والهواء/ وانت القمر/وانت الفلك المرصّع بالنجوم/ انت براهمان الأعلى /انت المياه/ (انت خالق كل شيء)/ انت الشاب والصبية والشيخ الذي يتوكأ على عصاه/ فثم وجهك في كل مكان/ انت الفراشة السوداء/ انت الببغاء ذو العينين الحمراوتين/ انت السحاب وانت الفصول وانت البحار/(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان) .3

Ali mohamed youssefعلي محمد اليوسفمن الواضح جدا ان وصف الاوبنشاد الصوفي هو وصف حسي ادراكي عقلي لظواهر الطبيعة والكون وهو توصيف لاهوتي مشترك في غالبية الأديان التوحيدية وبعض غير التوحيدية التي لا تؤمن بوجود إله بالسماء، ولا يوجد بهذه الصفات التي مررنا بها خرق لقوانين الطبيعة على شكل معجزات ايمانية مجردة الا في عبارة(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان) التي هي كسر لقوانين الطبيعة التي تحكم قدرات البشرالادراكية حسيا وعقليا في اللانهائي زمانا ومكانا، وبهذا الفارق نكون نحن بشر، ويكون الله الها يعبد.

هذا الإحساس الصوفي والتعلّق بالصفات الطبيعية المنسوبة للخالق على انها صفات خارقة لقوانين الطبيعة هي في حقيقتها ليست كذلك في القداسة المسبغة عليها، ولا تنسجم مع القول: (براهما انت خالق كل شيء)، وفي هذا لا نجد ميزة قدسية تنفرد بها صوفية براهما عن باقي الأديان التوحيدية التي لا تجمع بين ان تكون الطبيعة بصفاتها هي الخالق،في نفس ان تكون مخلوقة أيضا، كما تدعي الاوبنشاد انها مخلوقة من خالق أسبق عليها بمعنى (ان الكون خالق للكون)4ذاتيا ولنفسه فقط، والطبيعة مخلوقة بصفاتها من قبل خالق هو عدم وخواء وامتلاء في وقت واحد، صاحب الصفات في الطبيعة ، والخالق غير المدرك للبشر لا في ماهيته ولا في صوره وتجلياته وهو ما ينطبق على الفهم الديني واللاهوتي في مختلف الأديان التوحيدية في عجزها العقلي اثبات وجود الخالق او في اثبات عدم وجوده أيضا ولا في امكانية الاستدلال على صفاته غير الأرضية او الكونية التي يدعي الصوفية الاتحاد بها في الحال والاشراق في مدارج العرفان.

شيء عن صوفية zen البوذية

نبدا بالتساؤل الازلي والاشكالية المتقادمة زمنيا في مختلف العصور ومختلف الأديان هي كيف يمكن لما لا يمكن ان يقال عنه انه موجود او موضوعي، ان يكون علّة أولى لكل ما هو موجود، مخلوق من عدم او لاشيء ؟  4

من العبث اللامجدي ان نتدخل في حل إشكالية وفك رموز شفرة ليست عصيّة على الصوفية وحسب ، وانما عصية في محاولة سحبها على إشكالية اشبعت اجتهادا دونما نتيجة هي كيف يكون الخالق علة بلا معلول ، صانع وخالق كل شيء،وجود من غير عدم لا قبله ولا بعده؟ وهكذا ندخل في دوامة من التجاذبات التي لا نهاية لها، في ادراك المسار الازلي لخلق العالم من عدم.

من الخطأ ان يكون ما ذكرناه حجة كافية لاصحاب الاشراق الصوفي والاتحادي على انها إمكانية حقيقية، وان كانت لا تمتلك الاقناع العقلي بها لكنها كافية لديهم للتعايش مع إشكالية الأصل في عدم إمكانية تفسير الخالق بانه علة بلا معلول ، وأنه وجود ازلي واجب الوجود بالضرورة والحاجة البشرية له. فلماذا لا تكون التجربة الصوفية في مثل هذه الإشكالية العصّية على التفسير بمنطق او منهج فلسفي او لاهوت ديني تلتقي باشكالية الميتافيزيقا واختلافات التفسير اللاهوتي المنوعة.؟ التي لا تمتلك لحد الان حلولا مقبولة.

ان ما يجعل الشك وعدم الترجيح والتسليم في ان تكون التجربة الصوفية حقيقة وليست ذهانات خيالية تغذيها الجوانب النفسية الوجدانية التي يخلعها المتصوف على الخالق المتصور ، ويرتد فيها في تأكيد ذاتيته الاضطرابية مستعينا بنفس المعيار الاشكالي غير المحسوم في غالبية الإشكاليات اللاهوتية والفلسفية في معالجتها قضايا الميتافيزيقا التي يدخل ضمنها الصوفية من دون حل مرضي.

ترى البوذية التصوفية  zenردا على إشكالية عدم وجود المتعين وجودا بنفس معيارية عجزالعقل البشري في ادراك أي نوع من أنواع الصفات الإلهية او إمكانية الاتحاد بها في تجربة المتصوف في غير مجال الطبيعة والانسان والكوني، وهي وجهة نظر لا تبتعد كثيرا عن الدوران حول مركزية الإشكالية اللاهوتية في غالبية الأديان التي تجمع على ان وجود الله في تجلياته الطبيعية وصفاته المدركة عقليا وعاطفيا التي يتساوى في ادراكها  المتصوف وغير المتصوف، ولا تطرح البوذية معالجات جديدة يمكن الاعتداد والتسليم بمقبوليتها فتقول (طالما ان النرفانا هي الحقيقة النهائية التي هي بغير تمايز ولا اختلاف او ثنائيات ،وانه لا توجد تفرقة في الحقيقة النهائية بين النرفانا واللانرفانا،بين الحقيقة واللاحقيقة وبين التعاليم واللاتعاليم، لذا يعلن بوذا ان الوجود واللاوجود ينبغي رفضهما معا، لا على انه وجود ولا على انه لا وجود او عدم .

بضوء ما ذكرناه آنفا انه لمن المهم ان نعيد للذهن عدم إمكانية المتصوف تجاوز ذاتيته الصوفية التعبدية التي تعني التشتت واللانظام والكثرة بصفات (انسية) او لا بشرية تصوفية امام الواحدية الكلية الإلهية التي هي غير ذاتية ولا موضوعية، كي يستطيع الصوفي تنظيم وبرمجة مدركاته الحسية والتخييلية في امكانية الاتحاد الصوفي بها،فالواحدية الالهية هي اللامتعين اللانهائي غير المحدود زمانا ومكانا، ولا المختلف في واحديته ولا في هوية تمييزية له يمكن ادراكها باي وسيلة  تصورية ادراكية بشرية ، فهو الخالق بذاته وليس من اجل ذاته بعلاقته بالاخر فهو ليس بحاجة الى غيره وبعيد عن امكانية التشيؤ الحسي ولا التخييلي امام من يرغب ذلك من مريدي الاتحاد الصوفي.

كل هذه العلاقة غير السوية وغير المتكافئة بادنى شروط المعيارية المقارنة بين الله والانسان، انما تجعل المتصوف يسلك طريقا خاطئا، ولا يعود بحصيلة لتجربته يمكن الوثوق بها والتيقن منها، ليس كتجربة خارج ادراك الشخص غير المتصوف، ولا  كتجربة ذاتية تمتلك اقل الإمكانات الادراكية او المقومات غير المنظورة في إمكانية كسر قوانين الطبيعة الشغالة في حيزي الزمان والمكان ان جاز التعبيروتحقيق الاتحاد بالله صوفيا.

وحدة الوجود والأديان التوحيدية

يطرح والتر ستيبس إشكالية وحدة الوجود في الأديان السماوية بالتساؤل التالي:(ما الذي يحدث في لحظة الاتحاد الصوفي مع الله؟ هل تصبح روح الصوفي ببساطة متحدة بالله؟ ام تبقى وجودا متمايزا ومختلفا عن الله تماما؟ ام ينتج هنا هوية ثالثة في الاختلاف ).6 ص 281

من المبكر التأكيد بالقطع على ان المسيحية تفهم الاتحاد بالله انه يعني بالمطلق وحدة الوجود الذي تدينه كما في الإسلام عند الصوفية ولا تقر به.فالقديسة تيريزا تصف الاتحاد قولها ( واضح جدا ما الذي يعنيه الاتحاد، شيئان متمايزان يصبحان شيئا واحدا) 7 ص283. تفسير الاتحاد هنا يعني ان الشيئين كلاهما يحتفظان بكيفياتهما المتمايزة غير المشتركة بعد الاتحاد، فمثلا التقاء نهر مع نهر اخر يكونان نهرا ثالثا في كيفية واحدة جديدة ، لكنهما في حقيقتهما يلغيان خصوصيتهما كلا لوحده في الكيفية الجديدة التي اوجداها هما في دمج كيفياتهما المتمايزة وذوبانها في المجرى الثالث بلا رجعة، ربما هذا المثل يفيدنا في الاتحاد الطبيعي المادي بين شيئين ماديين بكيفيات معلومة محسوسة عقلانية لدينا ، لكن هذا النوع من الاتحاد في الصوفية  غير صحيح من حيث اذا ما حقق المتصوف  (كيفية ) متمايزة عن كيفية الخالق الاتحاد الصوفي المؤقت بالله ، فالنتيجة رجوع كل من الله والصوفي الى كيفياتهما الاصيلة قبل تحقيق اتحادهما ووضع المتصوف الطبيعي الخارج من تجربة الاتحاد الصوفي، قبل الاتحاد لكن يتعذر على أي من النهرين العودة الى كيفياتهما قبل اتحادهما وتكوين حالة كيفية جديدة ناشئة من اتحادهما. ولنطالع هذه العبارات لفيلسوف كبير في قضايا الصوفية تذهب لتاكيد ما ذهبنا له في العبارات السابقة ،يقول روز بروك:(كما ان النار لا تصبح حديدا، ولا يصبح الحديد نارا، فان المخلوق المتحد بالله لايكون الها، كما لا يصبح الله مخلوقا).8 ص284. وهذا مناقض تماما قول القديس يوحنا :(ان الاتحاد بالله اتحاد مشابهة يحدث عندما تتطابق ارادتان، إرادة الله وإرادة الروح معا،تلك الروح التي وصلت مرحلة التطابق الكامل والمماثلة فتتحد اتحادا تاما مع الله وتتحول الى الله على نحو يفوق الطبيعة ). 9 ص283

عند امعان النظر جيدا في عبارات يوحنا الرسول نفهم انه لا يتحدث عن الاتحاد الصوفي بالله في المسيحية، ولا يتحدث أيضا عن وحدة الوجود، بل يتحدث عن اتحاد اعجازي مستمد من تجربة المسيح في الصلب والقيامة،وفي خرقه نواميس الطبيعة في اعجاز لا يستطيعه البشر المتصوفة ولا الناس العاديين، عليه لا يترتب على مثل هذا النوع من الاتحاد مبدا التعميم الصوفي في مفهومة الاتحاد بالخالق. وهذا لا يمنح تفويضا لاهوتيا ان بمقدور كل صوفي تجربة ما مر به المسيح .فالمسيح يمتلك اعجازا ممنوحا له من قبل الخالق في تمكينه اجتراح المعجزات التي لايستطيعها أحدا من البشر في قيامه بخوارق الأفعال، وهو ما يعجز عنه الصوفي.

(بعبارة أخرى فان الله والروح من حيث الوجود هي موجودات متمايزة، واتحادهما هو اتحاد تشابه كيفي أي نوعي لارادتين متفقتين، ويمكن تسمية هذا النوع من الاتحاد بالاتحاد الكيفي كتمييز له عن الاتحاد في الوجود – وحدة الوجود – او في الجوهر او في الهوية).10

الهوامش

  • والتر ستيبس /التصوف والفلسفة/ ترجمة امام عبد الفتاح امام / ص262
  • نفس المصدر السابق ص 267
  • نفس المصدر السابق ص 269
  • نفس المصدر السابق ص 256
  • نفس المصدر السابق ص 270
  • نفس المصدر السابق ص 281
  • نفس المصدر السابق ص 282
  • نفس المصدر السابق ص 283
  • نفس المصدر السابق ص 285
  • نفس المصدر ص287

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟