مراجعات في فكر تيودور أدورنو - مصعب قاسم عزاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ولد تيودور ويسينغروند أدورنو في فرانكفورت عام 1903 في عائلة ثرية ومثقفة. كان والده - وهو تاجر نبيذ - من أصل يهودي لكنه تحول إلى الديانة البروتستانتية في الجامعة. كان تيدي (كما وصفه أصدقاؤه المقربين) عازف بيانو جيد للغاية منذ صغره. وحتى العشرينات من عمره، خطط للحصول على مهنة كملحن، لكنه ركز في النهاية على الفلسفة. وفي عام 1934، مُنع - لأسباب عرقية - من التدريس في ألمانيا. لذلك انتقل إلى أكسفورد، ثم إلى نيويورك، ثم لوس أنجلوس. بعد الحرب العالمية الثانية، عاد إلى ألمانيا الغربية، حيث توفي في عام 1969، عن عمر يناهز 65 عاماً.
اعتقد أدورنو أنه ينبغي على المثقفين أن يتحدوا معاً من أجل تغيير المجتمع، وكان على صلة وثيقة بالمعهد الرائد للبحوث الاجتماعية، الذي أسسه وموله صديقه فيلكس ويل. وكان هدف المعهد تطوير فهم نفسي للمشاكل التي أثارتها الرأسمالية الحديثة، ولم يركز كثيراً على الجوانب الاقتصادية الصعبة للحياة بقدر ما ركز على ثقافة وعقلية الرأسمالية.
لفت أدورنو الانتباه إلى ثلاث طرق مهمة تفسدنا بها الرأسمالية وتدمرنا:

1. وقت الفراغ يصبح ساماً
على الرغم من أن أدورنو لم يغفل قضايا مثل تشريعات العمل ومراجعة نظام الضرائب، فقد كان يعتقد أن التركيز الأساسي للفلاسفة التقدميين يجب أن يكون دراسة كيف تفكر وتشعر الطبقات العاملة والمتوسطة في الدول المتقدمة، وعلى وجه الخصوص، الطريقة التي يقضون بها أمسياتهم وعطلات نهاية الأسبوع.
كان لدى أدورنو وجهة نظر طموحة للغاية فيما يتعلق بما ينبغي أن يكون عليه وقت الفراغ. لم يكن للاسترخاء ولإفراغ عقل المرء من الأمور. وقد زعم أدورنو بأن أوقات الفراغ كان لها غرض كبير لتخدمه: وقت الفراغ - والأنشطة الثقافية التي قد نسعي لتحقيقها فيه - كان فرصتنا الأولى لتوسيع وتطوير أنفسنا، وللوصول إلى طبيعتنا الأفضل، واكتساب الأدوات التي سوف يتغير بها المجتمع. لقد كان وقتاً قد نشاهد فيه أفلاماً معينة من شأنها أن تساعدنا على فهم علاقاتنا بوضوح جديد، أو نقوم بقراءة كتب الفلسفة والتاريخ التي يمكن أن توفر لنا رؤى جديدة عن السياسة والمجتمع، أو نستمع إلى أنواع الموسيقى التي من شأنها أن تعطينا الشجاعة لإصلاح أنفسنا وحياتنا الجماعية.
ولكن في العالم المعاصر، تحسر أدورنو على أن أوقات الفراغ قد سقطت في أيدي آلة للترفيه منتشرة في كل مكان وخبيثة للغاية أطلق عليها "صناعة الثقافة"، وهي الصناعة التي احتلت نفس المكان الشيطاني الذي احتله الدين في فلسفة ماركس. بدا له أن الأفلام الحديثة والتلفزيون والإذاعة والمجلات ووسائل الإعلام الاجتماعية الآن مصممة لإبقائنا مشتتين، وغير قادرين على فهم أنفسنا، ودون إرادة لتغيير الواقع السياسي. وكان هذا أفيوناً جديداً وخطيراً على الجماهير.
على سبيل المثال، الأخبار – بينما هي تطلعنا على كل ما هو جديد "مهم" ظاهرياً لكنها -من وجهة نظر أدورنو – في تهدف لإمدادنا بمزيج من الهراء البذيء، والقصص السياسية اللافتة التي تشوش على أي إمكانية لفهم السجن الكبير المفتوح الذي نحن موجودون فيه. وسوف يزعم الصحفيون باستقامة طهرانية عن كونهم يقدمون لنا "الحقيقة"، لكنهم هم أنفسهم مشغولون للغاية، وخائفون للغاية من رؤسائهم، وعديمي التفكير كثيراً كي يكونوا في أي وضع يتيح لهم تقديم مثل هذا الإكسير بصورته الخالصة غير المشوبة بالسموم على طريقة دس السم في الدسم. وتثير الأفلام من جانبها المخاوف والرغبات المنفصلة كلياً عن التحديات الحقيقية التي نواجهها. قد نقضي ساعتين من حياتنا في متابعة فلم عن مغامرات الغزو الأجنبي لكوكبنا من كواكب أخرى في حين أن المصائب الحقيقية في عالمنا وكوكبنا تمر دون أي التفات منا. وتعرض المتاحف أعمالاً فنية دون أن تسمح لها بالتعبير عن احتياجات وتطلعات جماهيرها. إننا نتجول في صالات العرض، ونُعْجَب بصمت بما يسمى "التحف الفنية"، في حين أننا في بواطننا غير متأكدين من معانيها الحقيقية ولماذا يجب أن نهتم بها. إن صناعة الثقافة تحب أن تبقينا على هذا النحو: مشتتين، ومذعنين، ومرتبكين، وقلوقين. أما بالنسبة لموسيقى البوب، فهي تركز بلا هوادة على العواطف حول الحب الرومانسي والجنسي في كثير من الأحيان، مما يوحي لنا بأنانية أن السعادة لا يمكن أن تأتي إلا من مقابلة شخص مميز للغاية والولوج معه إلى غرفة النوم، بدلاً من إيقاظنا على ملذات المجتمع الأوسع، وإيقاظنا على تعاطف الإنسان مع أقرانه، ووسائل تحقيق رضا البشر الحقيقية عبر إيجادهم لمعنى وهدف حقيقيين في حيواتهم.
كان أدورنو صارماً للغاية بشأن الإنتاج الثقافي في عصره لأنه كان يؤمن بأن نتاج الثقافة لم يكن أقل من أداة علاجية لتقديم العزاء والبصيرة لكل البشر ورافعة التحول الاجتماعي. لا عجب أنه وصف - بشكل مدروس - والت ديزني بأنه أخطر رجل في أمريكا.

2. الرأسمالية لا تبيعنا الأشياء التي نحتاجها حقاً
بسبب المجموعة الضخمة من السلع الاستهلاكية المتاحة في الرأسمالية الحديثة، من الطبيعي أن نفترض أن كل شيء يمكن أن نرغب فيه لا بد يكون متاحاً. والمشكلة الوحيدة هي أننا لا نستطيع إيجاد ما نرغب به حقاً في لج الرأسمالية وسوقها الشاسعة.
وأشار أدورنو إلى أن رغباتنا الحقيقية معماة ومسربلة بعناية منا من قبل الصناعة الرأسمالية، بحيث ينتهي بنا الأمر إلى نسيان ما نحن بحاجة إليه حقاً ونستقر بدلاً من ذلك على الرغبات التي تصنعها لنا الشركات دون أي اهتمام برفاهيتنا الحقيقية. وعلى الرغم من أننا نعتقد أننا نعيش في عالم مليء بالوفرة، إلا أن ما نحتاج إليه حقاً للنمو من قبيل الحنان والتفاهم والهدوء والبصيرة هي في نقص شديد بشكل مؤلم ولا مكان لها في عجلة الاقتصاد الرأسمالي.
بدلاً من ذلك، تستغل أداة الرأسمالية الخاصة بالتلاعب الجماعي - الإعلان - شوقنا الحقيقي لتبيع لنا الأشياء التي ستجعلنا أكثر فقراً ونفاداً من الناحية النفسية على حد السواء. سوف يُظهر الإعلان مجموعة من الأصدقاء يمشون على طول الشاطئ ويتحدثون بصداقة، أو عائلة تنزه وتضحك معاً بحرارة. إنه يفعل هذا لأنه يعرف أننا نتوق للمجتمع والترابط. لكن الاقتصاد الصناعي لا يستهدف مساعدتنا في الحصول على هذه الأشياء؛ إنه في الواقع يفضل أن نبقى وحيدين كجزر معزولة ومستهلكين. لذا في نهاية الإعلان، سيُطلب منا شراء بضاعة ما قد لا نحتاجها فعلياً في حيواتنا اليومية.

3. هناك الكثير من الفاشيين المبتدئين في كل مكان
كان أدورنو يكتب في فجر عصر الاستبيان النفسي. وكان هذا يستخدم على نطاق واسع في الولايات المتحدة حيث يقومون بقياس مواقف المستهلكين والسلوك التجاري.
كان أدورنو مفتوناً بالمفهوم الأساسي للاستبيان، وكرس نفسه - مع زملائه - لتصميم نوع مختلف تماماً من الاستبيانات، ألا وهو استبيان مصمم على اكتشاف الفاشيين.
طلب الاستبيان من المشاركين فيه تقييم مستوى موافقتهم على عبارات مثل:
• الطاعة واحترام السلطة هما من أهم الفضائل التي يجب أن يتعلمها الأطفال.
• الشخص الذي لديه سلوكيات وعادات وتربية سيئة لا يكاد يتوقع أن يتماشى مع أشخاص محترمين.
• إذا كان الناس يتحدثون أقل ويعملون أكثر، فسيكون الجميع في وضع أفضل.
• عندما يعاني شخص ما من مشكلة أو قلق، فمن الأفضل له ألا يفكر في الأمر، بل أن ينشغل بأشياء أكثر مرحاً.
بعد سلسلة من هذه التحقيقات، شعر أدورنو بالثقة في أنه قادر على اكتشاف الفاشيين في بواطنهم في الجيل الجديد. وبالنظر إلى الصدمات التي مرت بها ألمانيا بالتمام، فليس من المستغرب أن يعطي أدورنو استبيانه - وما أسماه "مقياس فوجيتا" - مثل هذا الاهتمام.
لكن الدرس الأكثر قابلية للتطبيق على نطاق واسع والذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة يتعلق بالحاجة إلى تغيير السياسة ليس فقط من خلال التشريع والتنوير، ولكن أيضاً من خلال علم العقل والعلاج العقلي. قبل وقت طويل من أن يكون شخص ما عنصرياً أو فاشياً أو سلطوياً، فمن المحتمل أن يعاني –كما قد أشار أدورنو بمهارة - من هشاشة وجدانية وعدم نضج عقلي، وإنها مهمة المجتمع ككل أن يتحسن في الكشف عن مظاهر النقص والضعف هذه والاستجابة لها.
وبدلاً من هذا يتم ترك المشكلات لتتفاقم لفترة طويلة بحيث لا توجد طريقة في النهاية للتعامل معها بخلاف القوة (التي تمارسها الشرطة أو الجيش)، يجب أن نتعلم أن نفهم عقلية الجنون اليومي منذ اللحظات الأولى. أرسل أدورنو وفريقه مقياس فوجيتا إلى كل مدرسة في ألمانيا الغربية. لم يكن العلاج المعرفي والعلاج العقلي ترفاً برأيه. بالنسبة لأدورنو، العلاج المعرفي والعقلي يجب أن يأخذ مكانه في طليعة التحول الاجتماعي التدريجي.

الخلاصة
أدرك أدورنو - بشكل غير عادي - أن العقبات الرئيسية أمام التقدم الاجتماعي هي عقبات ثقافية وإدراكية وعقلية ونفسية ووجدانية، وليست سياسية واقتصادية فحسب. في الحقيقة، لدينا بالفعل المال والموارد والوقت والمهارات اللازمة للتأكد من أن جميع البشر ينامون في منزل مريح، وأن يتوقفوا عن تدمير الكوكب، وأن يحصلوا على لقمة عيش كريمة، وأن يشعروا بدعم المجتمع. والسبب الذي يجعلنا نستمر في المعاناة وإيذاء بعضنا البعض هو أولاً وقبل كل شيء لأن عقولنا مريضة. هذا هو الاستفزاز المستمر الذي يقدمه عمل تيودور أدورنو الساحر والغاضب بهدوء.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟