.5. هل يمكن للجمال في الفلسفة أن يكون بديلاً مقبولاً للحق؟ (1)
يترتب على ما قلناه للتو أنه يجب علينا أن نميز بوضوح بين مسألة ما إذا كانت الفلسفة يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف الحقائق التي تنتمي إليها بشكل صحيح أم لا، ومسألة معرفة ما إذا كان يمكن أن يكون هناك أم لا، في تاريخ هذه الاكتشافات، مكان لفكرة التقدم. يعتقد دوميت، كما رأينا، أن الفلسفة ستفقد جزءً كبيرا من اهتمامها إذا كانت الإجابة على السؤال الثاني سلبية. لا يطعن بطبيعة الحال في أننا إذا تبنينا نموذج برينتانو، فبوسعنا أن نتوقع حدوث مراحل من التقدم. وبرينتانو مقتنع بوضوح، من جانبه، بأن تلك التي يأمل أن يكون المبادر إليها ستكون واحدة من بينها، لأنه منذ اللحظة التي توافق فيها الفلسفة على اعتماد منهج مماثل لمنهج العلوم الطبيعية، فإنها تكون قادرة على إحراز تقدم من نفس النوع الذي أحرزته. إن ما يأسف عليه دوميت، في نموذج برينتانو، هو غياب الاتجاه العام للتقدم. ليس هناك ما يضمن أن مرحلة من التقدم سوف تستمر إلى أجل غير مسمى أو حتى تستمر لفترة طويلة. ومن المرجح دائما أن تنطلق عملية الانحطاط مرة أخرى في مرحلة ما، وأن يؤول التقدم المحرز إلى لا شيء تقريبا.
ذكرت، انطلاقا من آلان، الميل المميز لدينا، وخاصة في فترات عدم اليقين، إلى الحكم على الإنتاجات الفلسفية وفقا للمعايير الجمالية. وكما أعطت الفلسفة الفرنسية عن ذلك أمثلة ملحوظة في الفترة الأخيرة، فإن إضفاء الطابع الأدبي الكامل على الفلسفة يمكن أن يسير بسهولة جنبا إلى جنب مع التسييس المنهجي، الذي يشكل واحدة من أكثر الطرق النموذجية التي يمكن أن تنتهي بها الفائدة العملية إلى أن تحل بشكل كامل تقريبا محل الفائدة النظرية. إن إضفاء الجمال على شيء يمكن تفسيره بسهولة، لأنه حتى عندما لا تقدم أعمال الفلاسفة الكثير مما هو فلسفي حقا يستحق الإعجاب، فغالبا ما يظل من الممكن الإعجاب بها على الأقل بسبب ميزاتها الأدبية، وهي كذلك فعليا في كثير من الحالات، قبل كل شيء، لهذا السبب، وليس لميزاتها التفكيرية والبرهانية. وغني عن القول أنه، من وجهة نظر برينتانو، يمكن أيضا أن يكون الميل إلى استبدال وجهة نظر النظرية والمناقشة النظرية بوجهة نظر التقييم الجمالي أحد أعراض الانحطاط، وأكثرها إثارة للقلق.
ويبدو لي أنه من المفيد أن أذكر في هذا الصدد ما قاله الفرنسي المعاصر لبرينتانو، شارل رينوفييه (1815-1903)، في كتابه "Esquisse d’une classification des doctrines philosophiques" (مخطط أجمالي لتصنيف المذاهب الفلسفية) الصادر عام 1885، حول الاتجاه الكارثي الذي نتبعه، في الفلسفة، نحو استبدال مسألة الحق بمسألة الجمال. لا يعتبر رينوفييه النموذج الهيجلي للتقدم من خلال التجاوز والتكامل على الإطلاق نموذجا للتقدم، بل كنسخة بسيطة وأكثر نظرية وأكثر ادعاءً للانتقائية. أحد الانتقادات الرئيسية التي وجهها للنسخة الكوزانية (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان، المترجم) من الانتقائية هو أنها تحل في النهاية محل المعايير المنطقية للتقدير في الفلسفة بمعايير جمالية بشكل أساسي. ما يهم ليس ما إذا كان ما يقال صحيحا، بل ما إذا كان جميلا بما فيه الكفاية. بعد اقتباس مقتطف من الكلمات الأخيرة التي نطق بها فيكتور كوزان في جامعة السوربون - الذي، كما يقول، يجمع بين شكلين من الانتقائية يضعهما متقابلين دون أن يربط بينهما: "شكل الروح الهيجلي، والشكل التجريبي (الموجود) في متناول معظم المستمعين المبتذلين" - يدلي بالتعليق التالي:
"من الغريب أن نجد، في مثل هذا الاعتراف عن قناعة والقصير جدا، شكلين، متقابلين ببساطة، لفكرة الانتقائية: شكل الروح الهيجلي، والشكل التجريبي (الموجود) في متناول أكثر المستمعين ابتذالًا.في الجمل الأخيرة من هذه القطعة الصغيرة، من الواضح أن الأمر لا يتعلق، بالنسبة إلى الفيلسوف، سوى بإجراء عملية سحب. ولكن في الإسهاب الرسمي للجمل الأولى، إذا تمكنا من فك التشابك واستخلاص فكرة محددة، فهي كما يلي: أن تناقضات الفلسفات لا تعني شيئًا في حد ذاتها، ولا تتعلق بقضايا بعضها بالضرورة كاذب إذا كان البعض الآخر صادقا، والعكس صحيح، بحيث يكون على الفيلسوف أن يختار بينهما؛ لكن هذه القضايا المتناقضة نفسها يجب أن تعتبر عناصر الفلسفة التي في تنوعها وحدتها. في هذه الحالة، يتعلق الأمر ببناء التركيبة الواسعة من التناقضات التي تشكل الكل المتناغم بشكل عميق؛ وتقدم الدوغمائية المتطورة لهيجل نفسها مع هذا العمل المنجز. أو، إذا لم تكن لدينا كل الشجاعة التي نحتاجها لاحتضان هذه الأخيرة، فلا يزال بإمكاننا التحدث، مثل فكتور كوزان، عن “روح فلسفية متفوقة على جميع الأنساق”؛ فقدان الاهتمام بضرورة المنطق من أجل الحسم، من الآن فصاعدا، بين المذاهب غير القابلة للتوفيق؛ عقد الأمل على المستقبل لاختزالها إلى الوحدة، واستبدال الفلسفة، أثناء الانتظار، بنوع من فلسفة-الفلسفة."
يمكننا أن نشعر، بوضوح، بأننا مضطرون إلى حب المعرفة أو الحكمة. ولكن ليس من الواضح تماما ما الذي يمكن أن يجبر الإنسان على حب المعرفة أو الحكمة، التي يقصد بها الفلسفة، إذا كان هذا الأخير في جوهره غير قادر على التحول إلى معرفة أو حكمة حقيقية. هيغل، من جانبه، مقتنع بحق بأن الفلسفة قد وصلت إلى مرحلة من تاريخها حيث يمكنها تقديم نفسها بشكل مشروع ليس كمعرفة فحسب، بل حتى كمعرفة علمية:
"إن الشكل الحقيقي الذي توجد فيه الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون النسق العلمي لهذه الحقيقة. المساهمة في تقريب الفلسفة من شكل العلم - حتى تتمكن من ترسيخ اسمها في حب المعرفة وتصبح معرفة فعالة - ذلك ما شرعت في القيام به. إن الضرورة الداخلية للمعرفة لتكون علماً ترجع إلى طبيعتها؛ والتفسير المرضي لهذه النقطة ليس شيئا آخر غير تقديم الفلسفة. الضرورة الخارجية، إذا تصورناها بطريقة كونية، من خلال تحاهل عرضية الشخص والظروف الفردية، تمتزج بالضرورة الداخلية وفقا للشكل الذي يمثل فيه الزمن الوجود-هنا للحظاته. إن إثبات أن الوقت قد حان للارتقاء بالفلسفة إلى مرتبة العلم، سيكون بالتالي هو التبرير الحقيقي للمحاولات التي تقترح هذه الغاية - قد يظهر ذلك ضرورة هذه الغاية وقد يحققها في نفس الوقت."
سيكون من الخطإ الاعتقاد بأن المواجهة بين رينوفييه وكوزان اليوم ليس لها سوى فائدة تاريخية. وفي الواقع، ليس من المؤكد على الإطلاق أن الفلسفة خرجت منها. في الخطاب الترافعي المعتاد الذي من المفترض أن يهدف إلى الدفاع عن الفلسفة ضد منتقديها وأعدائها، يتم استبدال الفلسفة، في الواقع، في أغلب الأحيان بنوع من فلسفة-الفلسفة. ما تم اقتراحه ليس مرافعة عقلانية لصالح الفلسفة، بل هو تحريض على حب الفلسفة وإدانة أخلاقية إلى حد ما لـ "كراهية الفلسفة" المفترضة، والتي تعتبر في النهاية التفسير الوحيد الممكن للحفظات والمقاومات التي تصطدم بها أنشطة ونتاجات الفلاسفة. في محاولته الخاصة لتصنيف الأنساق الفلسفية، يضع فويلمان نفسه بوضوح إلى جانب رينوفييه، ضد كوزان وضد ادعاءات "العلم" الهيغلي تحقيق نوع من التوليف الذي قد يسمح بحل المشكلة الني يطرحها، في الفلسفة، ووجود تعددية من الخيارات التي يجب قبولها باعتبارها غير متوافقة حقا في ما بينها. والنتيجة الحاسمة من ذلك، والتي قد تكون محبطة للغاية، هي أن الفلسفة ستقدم لنا حتى النهاية "إمكانات للحقيقة" مختلفة، لكنها لن تنجح أبدا في قيادتنا إلى الحقيقة نفسها.
بقدر ما أعي به وفق مستطاعي، لم يُذكر رينوفييه أبدا في الكتابات التي كرّسها فويلمان لتطوير تصنيفه الخاص للأنساق الفلسفية. لكن كان من الممكن أن يكون الأمر كذلك، وهناك على الأقل نقطة مشتركة مهمة بينهما، وهي الإصرار على واقع المتضادات والرفض القاطع للانتقائية بكل أشكالها. يدينها رينوفييه باعتبارها شكلاً من أشكال التراخي ذي الطبيعة الأخلاقية في نهاية المطاف:
"التعارض أخلاقي، لأن انتقائية هيجل الدغمائية والمتعالية، والانتقائية غير المؤكدة والبسيطة لـفكتور كوزان، تعفيان المفكر من مهمة وجهد التأكيدات القوية والإنكارات الصريحة المطابقة، التي تنطلق دائما من مبدإ أخلاقي جيد أو سيئ التوجيه. فكره المنومين الفلسفيين هي أن الخلاف ليس له سبب لوجوده وبقائه عميقا، في طبيعة المشكلة المطروحة على الإنسان، والموارد التي يجدها ليجرب حلولها في ذهنه؛ أنه يجب أن يستنفد نفسه بشكل طبيعي؛ أنه من خلال الشرح لأنفسنا، سينتهي بنا الأمر إلى التوصل إلى اتفاق، بل أننا في العمق، دون أن نعرف ذلك، كنا دائما متحدين في تركيبة معينة من الأفكار التي لا يتعلق الأمر سوى ببنائها. أنا أؤيد، على العكس من ذلك، الفرضية المنطقية والحقيقة التاريخية المتمثلة في وجود التناقضات غير القابلة للاختزال بين التأكيدات المطلقة، والتي تستمر دون قصور، حول النقاط الرئيسية والمميزة للمذاهب المتنافسة في كل العصور."
ويصر فويلمان من جانبه على أن الإمكانات المختلفة المقترحة على الفيلسوف في التنافس بين الأنساق يجب استكشافها حتى النهاية ومواجهتها بجدية مع بعضها البعض، مما يعني أنه علينا أن نبدأ بالاختيار، وليس بالتأكيد بمحاولة التنسيق والتوليف."العقل الفلسفي، كما يكتب، يولد ويعيش من النقاش ( التنافس )" ويجب ألا نرغب في الخروج من هذا الأخير حتى قبل الدخول إليه:
"يعرف المؤرخ غريزيا أن عدو الفلسفة ليس السفسطة التي تتحدى العقل، بقدر ما هو الانتقائية التي تنومه. وفي الواقع، بينما تحاكي الانتقائية لغة الفلسفة، فإنها تتناقض مع خصائصها الأساسية الثلاثة. إنها تعارض ازدهار الروح النسقية بتكثير الكائنات وكسر وحدة الأسلوب. إنها تتعارض مع وضوح الترابط المنطقي من خلال فرض مبادئ غير قابلة للقياس، ويكون كسب الثراء واضحا، حيث تنعدم العلامات التي تجعلنا نفترض التماسك. إنها، أخيرا، تتعارض مع التخصص الذي يخضع له الفيلسوف عندما يريد قياس كيف وإلى أي مدى يسمح له نسقه بإعادة بناء الظواهر ومحاكاتها. فكيف يمكننا معرفة كيفية تحديد ما يمكننا إنقاذه عندما تكون الوسائل التحليلية للقيام بذلك غير محددة بدقة؟"
يتحدث كل من رينوفييه وفويلمان، كما نرى، في ما يخص إغراء الانتقائية، عن تنويم العقل الذي يجب علينا قبل كل شيء ألا نستسلم له. لا يمكن أن يكون هناك شك في تجنب جهد الاختيار من خلال محاولة التوفيق بين الأضداد. لكن في الواقع، ليس هذا أيضا هو ما تم اقتراحه حقا نظرا لأن كوزان يتحدث فقط عن ربط الأنساق المتنافسة في ما بينها من خلال الاحتفاظ من كل منها بما هو صادق فقط، وليس فيه تناقض حقيقي بين التأكيدات التي بها يمكن أن يكون كل منها و يتم التعرف عليه في الواقع على أنه صادق. ولتحقيق السلام، يجب علينا أن نجد طريقة لتحقيق العدالة لكل نسق من خلال الاعتراف بنصيبه من الصدق وفي الوقت نفسه جعله يعترف بالنصيب الكاذب المسؤول عن عدم كفايته. وعلى العكس من ذلك، بالنسبة لرينوفييه وفويلمان، يجب علينا بالفعل الاختيار بين الأنساق نفسها، وليس الاختيار في كل منها. وهذا يؤدي بالتأكيد إلى إدامة حالة الصراع التي قد تطول إلى أجل غير مسمى. لكن ليس بالضرورة أن تكون لها جوانب سلبية فحسب، إذ المواجهة مع (الأنساق) الأخرى يمكن أن تكون، بالنسبة إلى كل منها، فرصة لإعادة تقييم إمكانياتها وتحسين فرصها. ويبدو أن المواجهة من الممكن أن تظل سلمية نسبياً إذا كان من الممكن إقناع كل من الأطراف المتحاربة بعدم وجود احتمال لتحقيق النصر النهائي لأي منها. لذلك، ربما، في هذه النقطة، لسنا في نهاية المطاف بعيدين عما قد نتوقعه من فكرة كوزان القائلة بأن عظمة الفلسفة لا تكمن في النصر المأمول لأحد الأنساق التي تتصارع في ما بينها، ولكن في المواجهة. الذي توجد بينها، أي أن “تقدمها ومجدها هو تحسنها المتبادل من خلال نضالها السلمي”.
المشكلة التي تنشأ حتما، في هذه الظروف، في ما يتعلق بنوع التقدم الذي يمكن أن نتوقعه في الفلسفة هي ما يلي: هل من المشروع الحديث عن التقدم، طالما أننا لا نزال في مواجهة بين خيارات متنافسة، ربما صيغت أحسن فأحسن وتمت البرهنة عليها، ولكن لا يزال من المستحيل اتخاذ قرار بشأنها؟ بعبارة أخرى، أليس التقدم الوحيد الذي يستحق هذا الاسم هو بالضبط ما من شأنه أن يؤدي إلى اتخاذ قرار بشأن هذه النقطة؟ من المؤكد أن إحدى أبرز خصائص تمشي فويلمان هي إصراره (في كتابه: ما هي الأنساق الفلسفية؟ المترجم) على واقعة أن تعددية الخيارات في الفلسفة ليست عرضية ولا مؤقتة: بل لا يمكن أن تكون إلا تأسيسية وجوهرية. ذلك، كما يعتقد، شيء تم التقليل من أهميته للأسف في معظم الأوقات في الفلسفة المعاصرة. دون الخوض في التفاصيل، بما أنني قد فعلت ذلك بإسهاب في ظروف أخرى، يمكننا القول أن هذه هي النقطة التي على أساسهما تتميز الفلسفة عن العلم بشكل أساسي، رغم الاستخدام المشترك الذي يقومان به للمنهج الأكسيومي:
" بين المبادئ الواضحة التي يوصي بها الحس المشترك أيضا رغم أنها غير متسقة في ما بينها، يُفرض على الفلسفة خيار، وهو ما يفسر انقساماتها. في نهاية المطاف، الفلسفة تشبه الأكسيوماتبك في أن كليهما يبحث عن الحقيقة. ولكن بخلاف الحقيقة العلمية، فإن اعتبار الفلسفة للأنطولوجيا يقودها إلى تعميم معارضة ذات أهمية محلية وثانوية فقط في العلم. تكافح الأنساق الفلسفية المتنافسة من أجل حدود معترف بها، إن لم تكن ثابتة، بين المظهر والواقع."
إحدى النتائج المهمة الناتجة عن ذلك، بالنسبة لفويلمان، هي أننا ربما يجب أن نتخلى عن تطبيق مفهوم الحقيقة على الفلسفة، على الأقل الحقيقة بمعنى قريب بما فيه الكفاية من المعنى المعتاد:
"أخيرا، عندما أتطرق في الفصل الأخير إلى مسألة الحقيقة الفلسفية، أخيب أمل زملائي الفلاسفة وأترك الأمر لهم للذهاب إلى أبعد مما أفعل. وبينما يجادلون من أجل خطاطة وحيدة للحقيقة الفلسفية، أشعر بالرضى لأن أقول ما هي كل هذه الإمكانات للحقيقة. […] في ما يخص الحقيقة الفلسفية، من الواضح أن تعدد الفلسفات، إذا كان حذري مبررا، يجعل مفهوم الحقيقة الفلسفية غير كاف وغير مناسب، على الأقل إذا استخدمت كلمة الحقيقة بمعناها العادي. ومع ذلك، لم أتمكن من معالجة هذه المسألة الأساسية؛ بل لم أطرحها بشكل صريح. وفي النهاية ليس لدي ما أقدمه للقارئ سوى الحذر المليء بالمخاطر وعلامات الاستفهام الإضافية."
هذه على الأقل نقطة واحدة كان من الممكن أن يوافق عليها برينتانو، بلا شك، فويلمان. لا توجد حقيقة إذا كان هناك العديد من الحقائق المتناقضة التي يستحيل الاختيار بينها: “حيثما توجد معرفة، هناك بالضرورة حقيقة؛ وحيثما توجد حقيقة توجد الوحدة ( Einigkeit )؛ ذلك أن ثمة أخطاء كثيرة ولكن هناك حقيقة واحدة."
الطريقة التي يصف بها فويلمان الوضع هي مع ذلك مثيرة للدهشة تماما للسبب التالي. إذا كانت هناك إمكانات مختلفة للحقيقة، وهي بالفعل إمكانات للحقيقة، ولكننا سنكون وسنظل غير قادرين على الحسم في ما بينها إلى ما لا نهاية، لا نرى تماما لماذا يجب أن نستخلص من هذا الاستنتاج (الذي مفاده) أنه يجب علينا أن نتخلى، في هذه الحالة، عن تطبيق فكرة الحقيقة، وليس مجرد المطالبة بأن تكون الحقيقة قابلة للتقرير أو على الأقل الأمل في أن تكون كذلك. ويمكن ملاحظة أنه حتى الآن هناك فلاسفة لم يتخلوا، من أجل القضايا الفلسفية، عن الحقيقة ولا حتى عن القابلية للتقرير. وهذا هو حال دوميت، مثلا، الذي أبدى تفاؤلاً مدهشاً بشأن هذه النقطة. إنه مقتنع بأنه حتى القصية الأساسية والمتنازع عليها مثل تلك التي تؤكد وجود الله يمكن أن يتم البت فيها في النهاية، إذا تم تناول المسألة بمنهجية سليمة، ويمكن حتى أن يتم البت فيها بسرعة كبيرة:
"العديد من فلاسفة الغرب لا يؤمنون حاليا بالله، رغم أن العكس كان صحيحا حتى قبل مائة وخمسين عاما. والحجة الوحيدة المقنعة التي تقول بعدم إمكانية إثبات وجود الله هي عدم وجوده؛ من وجهة نظر حدسية، هذان الأمرين هما شيء واحد. وعلى العكس من ذلك، فإن الحجة المقنعة الوحيدة التي تدعم إمكانية إثبات وجود الله تثبت وجوده. هذا لا يعني أنه إذا تم حل المسألة بشكل سلبي، فإن جميع الفلاسفة المؤمنين سيصبحون ملحدين على الفور، أو أنه إذا تم حل المسألة بشكل إيجابي، فإن جميع الفلاسفة غير المؤمنين سيصبحون على الفور مؤمنين: لا توجد حجة فلسفية مقنعة إلى هذه الدرجة. ولا شك أن إثبات وجود الله أو نفيه يرتكز على مقدمات معينة يمكن الخلاف عليها، بطريقة مفهومة، ولو بشكل غير معقول."
من الواضح أن هناك مشكلتين تنشآن هنا على الفور. الأولى، فلسفية بشكل بارز أولى لها دوميت اهتماما خاصا، بل متميزا في فلسفته، وهي معرفة ما هو المنطق "الجيد" هنا، الذي يجب تطبيقه في هذه الحالة: هل هو المنطق الكلاسيكي أم منطق آخر منافس له، مثل المنطق الحدسي؟ والمشكلة الثانية، تلك التي تطرح الطريقة المختلفة تماما التي تكون بها نفس الحجج قادرة على التأثير على عقول مختلفة، بما في ذلك عندما تكون لفلاسفة ويفترض أنهم عقلانيون بنفس القدر. ليس فقط، كما يقول آلان، أننا لا نعجب بنفس المفكرين ونفس الأعمال، ولكننا أيضا غير مقتنعين بنفس الحجج، بما في ذلك تلك التي قد تبدو الأكثر حسما ومن شأنها أن تُفرض دون تمييز على الجميع. يمكننا أن نعتقد، هذا صحيح، أن المهم هو أن يتم البت في الأسئلة. ومن الواضح أن مسألة قبول القرار أم لا، بمجرد الحصول عليه، هي مسألة أخرى. لكن هذا يثير مسألة الدور الذي من المحتمل أن تلعبه العوامل غير الفلسفية والتي تكون ذات طبيعة شخصية إلى حد ما في الاختيار الذي يتخذه الفيلسوف بين الخيارات المختلفة المتاحة.
إن الموقف الذي توصل إليه رينوفييه أخيرا بشأن هذه المسألة واضح بما فيه الكفاية: فهو يرى أن تاريخ الفلسفة هو، في الأساس، تاريخ الاختيارات الشخصية التي اتخذها الفلاسفة بحرية، لأسباب كانت أيضا، إلى حد كبير، شخصية، بين المذاهب. والتي تكون دائما تقريبا هي نفسها والتي من المستحيل فصلها بشكل موضوعي. ويشير إلى أن كل نسق فلسفي “هو العمل الشخصي، أو على الأقل التأكيد الشخصي للمفكر، الواقع تحت تأثير مزاج فكري وعاطفي معين، وتربية معينة، وبيئة معينة، ومنقاد بالدراسة والتفكير إلى وجهة نظر محددة يقرر أن يظل متشبثل بها". وهذا لا يعني بالضرورة أن اختيار مؤلف النسق واختيار الفلاسفة الذين يقررون بحرية الالتزام به لا يمكن إلا أن يكون غير عقلاني. لكن هذا يتضمن شيئا مهما واحدا على الأقل؛ ألا وهو الالتزام بالاعتراف بأن "العقل هو أمر شخصي في قراراته".
وهذه على وجه التحديد هي الخاصية التي يتردد الفلاسفة بشكل خاص في الاعتراف بها، لأنهم حريصون، أكثر من العلماء مرة أخرى، بمجرد أن يسمحوا لأنفسهم بالاقتناع بالالتزام برأي أو عقيدة ما، على أن يكونوا قادرين حتى النهاية على الاحتفاظ باليقين بعدم الاقتناع بأي شيء آخر سوى بأسباب غير شخصية وموضوعية. من قبيل الوهم، بحسب رينوفييه، أن يكون من الضروري القتال بأكبر قدر من الطاقة. يجب على أي مفكر يستحق هذا الاسم، بمجرد أن يتخذ قراره بشأن قضية ما، أن يحتفظ بالقدرة على "البقاء في متناول الحقيقة أخلاقياً"، وبعبارة أخرى، أن يظل قادرا، عندما يواجه فكرة تتناقض مع القناعة التي اكتسبها، إن لم يكن على قبول الفكرة المطروحة، فعلى الأقل فهمها. لكن هذا ليس على الإطلاق ما يحدث عموما في الفلسفة، حيث الدوغمائية، التي تعتمد على وجه التحديد على الجهل المتعمد لما يمكن أن تكون عليه القناعة، في مجال مثل المجال المعني، كونها ذاتية وشخصية، تشكل ميلا طبيعيا لا يقاوم تقريبا وتمثل القاعدة وليس الاستثناء:
"كل مفكر دوغمائي، بفضل خيال مخدوع به واعتاد عليه الجمهور، يتحدث ويعلم ويصدر أحكاما، متفاخرا بسلطة العقل غير الشخصي وإدراك للحق لا يقبل الشك، كما لو أن التجربة لم تعلمنا أن هذا العقل الدعي يناقض نفسه من فيلسوف إلى آخر، وأنه بقدر ما يكون الاتجاه الأخلاقي والفكري للشخص كذلك يكون الفكر لا أكثر ولا أقل."
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل "سوء الأخلاق الفكري"، الذي لم ينج منه العلم التجريبي نفسه، يهدد الفلسفة بشكل أكبر يكمن على وجه التحديد في العمى الذي يمنعنا من معرفة وفهم الطريقة التي نتبعها ونشرح بها الاختيارات:
هذا النوع من سوء الأخلاق الفكري لا ينقذ الفلسفة بشكل أقل، لأن الفلاسفة ليس لديهم في خدمتهم طريقة معترف بها عالميا لحل خلافاتهم؛ أنهم ملزمون بأن يدرجوا في تأكيداتهم الأساسية، في مبادئهم، شيئا من حريتهم وجاذبيتهم، وأنهم في النهاية لا يريدون حتى، بشكل عام، الاعتراف بهذا الالتزام، وبالتالي يجدون أنفسهم مجبرين على التأثير على العقلانية المطلقة ويدعون بداهات يفقدونها.
في أساس الباقي كله، في الفلسفة وفي مجال المعرفة بشكل عام، يوجد فعل الحرية الذي كان وسيظل فرديا بشكل غير قابل للاختزال. رينوفييه، الذي يتناول في هذه النقطة أفكار ولغة جول لوكييه، يلخص على النحو التالي الاستنتاج الذي ينتج عن ذلك والذي يلزمنا باعتبار الحرية تشكل حرفيا، مرة أخرى بفضل خيار لا يمكن أن يكون، هو الآخر، إلا حرا، فرديا، وفي نهاية المطاف، من طبيعة أخلاقية بطبيعتها، ليس شرطا لا غنى عنه فحسب، بل وسيلة للمعرفة كذلك:
"بالتأكيد، هناك فرضيتان: الحرية أو الضرورة. الاختيار بين أحدهما أو الآخر، عن طريق أحدهما أو الآخر. أفضل أن أؤكد الحرية وأؤكد أنني أؤكدها عن طريق الحرية. ولذلك أنكر تقليد الذين يريدون إثبات الشيء الذي يجبرهم على إثباته. أنكر الاستمرار في العمل بعلم ليس لي. أنا أحتضن اليقين الذي أنا مؤلفه.
وجدت الحقيقة الأولى التي كنت أبحث عنها. فإذا اعتبرت العلم في مبدئه، في المبدإ الأول لنظرياته مهما كانت، فإنني أعلن أن الحرية شرط إيجابي للمعرفة، ووسيلة للمعرفة.
نحن لا نعرف كثيرا، لنقول الحقيقة، ما إذا كان ينبغي لنا أن نتحدث، في هذه الحالة، عن حقيقة تم العثور عليها، وليس بالأحرى عن حقيقة تم "إعلانها" على وجه التحديد، بمعنى آخر، تم تقريرها. ولكن ما لا يمكن الشك فيه على أية حال هو أن النقد، في رواية رينوفييه، يكرس، بطريقة أكثر جذرية مما كانت عليه في نقد كانط، إخضاع العقل النظري للعقل العملي، وهو ما يمثل، بالنسبة لبرينتانو، مبدأ الخضوع للعقل النظري. السمة المميزة لمرحلة الانحطاط. حتى الاعتراف بالمبادئ الأساسية للمنطق يظل، في الواقع، يعتمد بشكل جوهري على فعل الحرية الذي يقرره: “لا يمكن للمرء أن يُخضع بالمنطق شخصا يرفض مبدأ التناقض. لم يعد المنطق هو الذي يؤكد نفسه، بل الحرية، ولا يمكن حل صراعات العقل الخالص إلا من خلال أوامر العقل العملي. «إن الرد 'الشخصاني' الذي يقدمه رينوفييه على مسألة الاختيار بين المذاهب، له ميزة طرح سؤال علني حول العوامل التي من المحتمل أن تصنع الفرق في نهاية المطاف، من خلال التأكيد، من ناحية، على أنها في نهاية المطاف عملية وفردية بطبيعتها، وليست نظرية وعامة، ومن ناحية أخرى، فإن الفلاسفة محكوم عليهم بطريقة ما، بحكم طبيعة تخصصهم، بتقديم مقاومة خاصة لهذه الفكرة.
يرى جيرو أن ما يجعل تاريخ الفلسفة أكثر إثارة للاهتمام من تاريخ العلم هو حقيقة أنه ليس تاريخا للأخطاء التي تم التعرف عليها وتصحيحها، بل تاريخا للحلول التي تم اقتراحها والتي تظل، اليوم كما بالأمس، ممكنة:
"إن الاهتمام بتاريخ الفلسفة يفوق بكثير الاهتمام بتاريخ العلم، لأن الأمر معه لا يتعلق بالأخطاء المثبتة بقدر ما يتعلق بالحلول الممكنة. في حين أن مشاكل العلوم الماضية (المرادفة للعلم الذي عفا عليه الزمن) قد تم حلها أو إلغاؤها في الغالب، فإن مشاكل الفلسفة الماضية لا تزال تنتظر الحل."
هذا المقطع وحده يلخص الصعوبة تماما. إن تاريخ الفلسفة، بمعنى ما، ليس سوى إعادة الكشف التي تستمر إلى ما لا نهاية، بشكل يمكن أن يؤدي، إذا لزم الأمر، إلى تعديلات وتحسينات نسبية، إلى الحلول الممكنة المدرجة في تصنيف المذاهب أو الأنساق. ولكن بما أنه لا توجد وجهة نظر عبر نسقية من شأنها أن تجعل من الممكن المقارنة، بطريقة موضوعية ومحايدة، بين الأنساق الفلسفية المتنافسة المقترحة لحل المشاكل وتأسيس، بطريقة لا جدال فيها، واحد منها على كل الانساق الأخرى، فذلك لا معنى واقعي للحديث عن مشكلات، على عكس مشكلات العلم، التي يتم حلها أو رفضها، من وقت لآخر على الأقل، تظل في الوقت الحالي (وربما إلى الأبد) تنتظر الحل الخاص بها. على الأقل هذا ما يتعين علينا أن نقوله لأنفسنا طالما بقينا مقتنعين بأن الحل لا يمكن أن يتمثل إلا في انتصار أحد الأنساق واعتراف الأخرى بواقعة أن الحل المحتمل الذي يمثله كان أيضا الحل الواقعي. ولكن، من ناحية أخرى، يبدو من الطبيعي والمشروع اعتبار أنه بالنسبة لشخص اختار نسقا محددا - وهي عملية تنطوي، من وجهة نظر جيرو نفسه، بالإضافة إلى الذكاء، على الإرادة - فإن النسق المختار لا يشكل حلاً ممكناً فحسب، بل الحل الواقعي بالفعل. ويظل هذا صحيحا حتى لو نجح في تجنب الدوغمائية والبقاء، كما يقول رينوفييه، "متاحا أخلاقيا للوصول إلى الحقيقة"، فسيتعين عليه أن يسلم في الوقت نفسه بأن الحلول الأخرى ممكنة ويمكن اختيارها لأسباب وجيهة بواسطة آخرين.
من الواضح أن مؤرخي الفلسفة مثل فويلمان وجيرو، في هذه النقطة، بعيدون كل البعد عن قبول استنتاجات مثل تلك التي استخلصها رينوفييه من الفلسفة الوضعية. ولكن، في الوقت نفسه، يمكننا أن نأسف لأنه، بعد إصرار كليهما على حقيقة أن الاختيار لا يمكن أن يرتكز كليا على أسباب نظرية أو حتى مجرد أسباب فكرية، فإنهما في النهاية لا يقولان سوى القليل عن الطريقة التي يكون بها الأمر حقا، وعلى وجه الخصوص، عن الدور الذي من المحتمل أن يؤدي - والذي لديه كل الفرص لأن يصبح أكثر أهمية، في "الجاذبيات" (إذا اردنا التحدث مثل رينوفييه) والتفضيلات - للعوامل ذات الطبيعة الفوق فلسفية وكذلك، إلى حد كبير، الفوق عقلانية. وبقولي هذا، أنا، بالطبع، لا أقترح بأي حال من الأحوال التشكيك بطريقة مباشرة ومتعمقة في طبيعة الأسباب التي من المحتمل أن تدفع هذا الفيلسوف أو ذاك إلى اختيار نسق فلسفي معين بدلاً من الآخر، دون أن ننسى تلك، إن وجدت، التي هي من النوع الأكثر شخصية، يمكن أن تستغني عن الجهد الذي يجب بذله في المقام الأول لفهم النسق نفسه وبالتأكيد لا يمكن لأكثر من هذا النوع من دوافع التساؤل، على هذا النحو، أن تشكل الوسائل المناسبة للتقييم الفلسفي لمزايا ونقاط ضعف النسق المعني.
غالبا ما يتم الاستشهاد بتصريح مشهور لـفيخته مأخوذ من "المقدمة الأولى للعلوم"
(1797) مفاده أنه "في هذا النوع من الفلسفة التي نختارها يتوقف على نوع الإنسان الذي نكونه. ولكن من الواضح أن هذا لا يخبرنا إلى أي مدى من المحتمل أن تصل علاقة الاعتماد بين الفلسفة والشخص. وهنا مرة أخرى، لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن الإجابات المقدمة على سؤال المؤلفين، عندما تكون موجودة، متباينة للغاية. وهي تتراوح بين فكرة أن الفلسفة يجب أن تسعى إلى تزويدنا بشكل من أشكال المعرفة التي تكون تقريبا غير شخصية وموضوعية كما يفترض أن يكون العلم، إلى التأكيد على أن الفلسفة ليست في الأساس أي شيء آخر سوى نوع من الاعتراف الشخصي، في معظم الأحيان بشكل لا إرادي وغير واع، لمؤلفها. لاحظ نيتشه، في ملاحظة عام 1882، أن «الأنساق الفلسفية هي الشكل الأكثر تواضعا الذي يمكننا أن نتحدث به عن أنفسنا - وهو شكل غامض ومتلعثم من المذكرات". في كتاب "ما وراء الخير والشر"، نجد تقريبا نفس الملاحظة: «لقد اكتشفت تدريجيا أن كل فلسفة عظيمة حتى يومنا هذا كانت بمثابة اعتراف مؤلفها، وأنها (سواء أراد ذلك أم لا) تشكل مذكراته». النسق الفلسفي هو طريقة متواضعة لإخبار النفس عن نفسها، لأنه إذا تحدثنا حقا عن أنفسنا، ولو بشكل أساسي، فإننا نفعل، بوعي أو بغير وعي، ما هو ضروري للنجاح في إعطاء الانطباع بأننا نتحدث عن أشياء أخرى.
يقدم نيتشه، في هذه النقطة، كما هو الحال معه في كثير من الأحيان، توضيحا شخصيا رائعا إلى حد ما لاتجاه عام يؤكد هو نفسه على طابعه التلقائي الذي لا يقاوم تقريبًا: “لا يتم نقل المواقف المتطرفة من خلال المواقف المعتدلة، ولكن مرة أخرى من خلال مواقف متطرفة، ولكنها معكوسة. وهكذا يكون الإيمان باللاأخلاقية المطلقة للطبيعة هو التأثير النفسي الضروري عندما لا يعود بالإمكان الدفاع عن الإيمان بالله وبنظام أخلاقي أساسي.» هكذا أيضا استقبل المتطرفون فكرة الفلاسفة، التي بموجبها لا تتحدث بنياتهم النظرية أبدا عن أنفسهم، عن مزاجهم الفكري والعاطفي، عن نقاط القوة والضعف في شخصياتهم، عن فضائلهم ورذائلهم، ودوافعهم وعواطفهم، عن تفضيلاتهم النفسية والأخلاقية الشخصية، وما إلى ذلك، ولكن دائما فقط في ما يتعلق بالأشياء التي لها معنى ونطاق أكثر عمومية، يمكن استبدالها بقناعة متطرفة أخرى، والتي لا تكاد تكون أكثر معقولية، والتي بموجبها على العكس من ذلك يتحدثون دائما عن هذا أولا شيء آخر. ومع ذلك، أود أن أشير إلى أن هناك مجالا كبيرا لموقف أكثر اعتدالا بين نفي واقعة أنه عندما يتحدث عن أشياء أخرى، فإن مؤلف الفلسفة يتحدث إلينا أيضا عن نفسه والتأكيد على أنه من خلال القيام بذلك يحدثننا فقط عن نفسه.
6. تاريخ الفلسفة كما يراه برتراند راسل وفويلمان
منظورا إليه من وجهة نظر نشأته وتطوره، فإن التصور الذي يدافع عنه فويلمان حول ما يمكن أن نسميه، بالرجوع إلى عنوان كتاب جيرو، "فلسفة تاريخ الفلسفة"، له جانب مثير للاهتمام ومقلق في نفس الوقت. . في محاضرة بعنوان “هل لا يزال بإمكان الفرنسي أن يفهم فلاسفة ما وراء بحر المانش؟”، الذي تم تقديمها عام 1966 أو 1967 في أكسفورد، ربط فويلمان، بطريقة مدهشة على أقل تقدير، أسمي مارسيال جيرو وبرتراند راسل أحدهما بالآخر، وأوضح أنه حاول أن يصنع ب"مبادئ الرياضيات" (1903)، شيئا كان في الأساس مشابها تماما لما صنعه راسل نفسه بلايبنتز في "العرض النقدي لفلسفة لايبنتز" (1900):
"حاولت تحليل هذا الكتاب [المبادئ ] بتطبيق الطريقة التي تعلمتها من السيد جيرو. لقد تمكنت من عزل ستة مبادئ لا يعد استقلالها صارما ولكنه يظهر كلما كان من الممكن بناء فلسفات حيث يتم الاحتفاظ بخمسة منها دون السادس، وبمعنى ما، يمكننا أن ننظر إلى تطور راسل باعتباره تحقيقا لبعض من هذه الفلسفات."
إن ما حدث في كلتي الحالتين يمكن فهمه، بحسب فويلمان، على أنه توضيح لما يسمى، بالنسبة لجيرو، تطبيق التمشي والمنهج "البنيويين" على تاريخ الفلسفة.
يقول فويلمان: "قدمت أعمال السيد جيرو – عن فيخته، ولايبنيز، ديكارت، مالبرانش – مثالاً لمنهجية أصلية تسمح لنا برؤية كيف يولد بناء الفلسفة. وبشكل عام، يقوم المؤرخون بتحديد أفكار الفيلسوف، وتحليل ارتباطاتها بالأفكار الأخرى وتطورها تحت ضغط الأحداث والحوارات. يضعنا جيرو في قلب الفلسفة من خلال شرح الأنواع المختلفة من الروابط الشكلية بين الأفكار."
صحيح أن هذا التقارب لم يؤد إلى أي تقارب حقيقي حول مسألة إمكانية وجود تقدم في الفلسفة. واعتبر راسل والمدافعون عن فكرة “الفلسفة العلمية” أنه من الممكن للفلسفة نفسها أن تكون شكلا من أشكال التقدم لا يختلف جوهريا عن تقدم العلم. وبقدر ما كان مهتما بإعادة تأسيس وتعزيز الروابط بين الفلسفة والعلوم، والتي أصبحت شبه معدومة في الفلسفة الفرنسية في ذلك الوقت، لم يفكر فويلمان بالطبع في وجود تشابه من هذا النوع بين الأولى والثانية.
إن الشخص الذي اعتاد على الطريقة التي حدثت بها الأمور في معظم الأوقات في المواجهات بين ممثلي التقليد التحليلي وممثلي التقليد القاري، لا يمكن إلا أن يتفاجأ بالتفاهم الجيد الذي يبدو أنه قد تم تأسيسه بين فويلمان، كمؤرخ حقيقي وتلميذ لجيرو، وراسل مؤلف "العرض النقدي لفلسفة لايبنتز (1900). فمن ناحية، وكما يشير العنوان، ليس عمل راسل تاريخيا فحسب، بل نقديا كذلك، وهو لا يمتنع بأي حال من الأحوال عن إصدار أحكام تقييمية حول ما يمكن الدفاع عنه وما لا يمكن الدفاع عنه في البناء اللايبنيزي، الشيء الذي من المفترض من حيث المبدأ أن يتجنبه مؤرخ الفلسفة الذي يطبق قواعد المهنة بدقة. من ناحية أخرى، يمكن للمرء أن يتوقع أن التمييز الذي أقامه راسل بين الطريقة "الفلسفية" و"التاريخية" في ممارسة تاريخ الفلسفة من شأنه أن يثير، من جانب فويلمان، احتجاجا ساخطا للمؤرخ في مواجهة موقف يمكن انتقاده وكثيرا ما تم انتقاده لكونه غير تاريخي للغاية.
لاحظ مايكل آيرز في هذا الصدد ما يلي:
"إن فكرة الموقف "الفلسفي المحض" تجاه تاريخ الفلسفة هي فكرة قديمة، ولكنها مناسبة بشكل خاص لتصور الفيلسوف التحليلي عن الفلسفة باعتبارها "منطقية" ومتميزة إلى أقصى حد عن الوقائع العرضية لعلم النفس وعلم التاريخ المرتبطين بالعصر. وليس من قبيل الصدفة أن يجد هذا الموقف تعبيرا مؤكدا في الملاحظات المؤثرة الموجودة في بداية أول كتاب لراسل عن لايبنتز.
يبدأ راسل بالتمييز بين اهتمامه بالحقيقة واتساق المذاهب وبين الاهتمام الذي يوليه الآخرون الأسئلة حول "تأثير العصر والفلاسفة الآخرين" التي "يتطلب الجواب عليها معرفة كبيرة بالتعليم السائد، وبالجمهور الذي كان من الضروري بالنسبة إليه اللجوء إلى الأحداث العلمية والسياسية في الفترة المعنية." ومن الغريب أنه يبدو في بعض الأحيان أنه كان يعتقد أنه من الممكن متابعة هذه الأسئلة الأخيرة في غياب معرفة واضحة بما يعتقده الفيلسوف قيد النظر بالفعل: "يمكن إثبات تأثير هوية التعبير، دون أي فهم للأنساق التي تكون علاقاتها السببية قيد المناقشة. لذلك قد نشك في أن الدافع وراء "الموقف الفلسفي المحض" لراسل هو الرغبة في الانفصال عن نوع من "تاريخ الفلسفة" يؤيده عدد قليل من الناس بوعي. ومع ذلك فإن الزعم بأن أنواعا معينة من المعرفة التاريخية لا علاقة لها من حيث المبدأ بمشروعه الخاص يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير."
يميز راسل من حيث المبدأ بين ثلاث مراحل في عمل الشارح: تلك التي تتكون من تقديم وصف منظم للمذهب، وتلك التي تتمثل من إزالة الشوائب التي لم تكن ذات أهمية لمؤلفها، وأخيرا تلك الخاصة بتقييم النتيجة. المرحلة الأولى وصفها راسل نفسه بأنها تاريخية، ويتوجب على المرحلة الثانية" في ما يبدو، أن تكون كذلك لأنها تستدعي فرضيات حول سيكولوجية المؤلف وسيكولوجية ذلك العصر. لكن راسل يعتقد أنه في كلتي الحالتين، لا يلزم أن تكون المعرفة التاريخية المطلوبة ذات أهمية كبيرة. في الواقع، يتمثل الجزء الأساسي من العمل في الفصل بين ما قاله لايبنتز علنا وما يفضل الاحتفاظ به لنفسه، من باب الحذر عموما؛ وليس من الصعب جدا القيام بما يلي:
"حتى في حالة لايبنتز، يعزو راسل صعوبة العرض إلى تحفظ لايبنتز العلني، بحيث يمكن التغلب على العقبة ببساطة من خلال قراءة الكتابات الباطنية ورؤية الروابط المنطقية بين الآراء المعبر عنها علنا وتلك التي تتم على انفراد. من المفترض أنه لا يوجد مثل هذا الحاجز "في حالة معظم الفلاسفة" ويتم رسم التناقض مع النظام الهندسي الواضح للأخلاق.
إن الاتجاه السائد في كل مناقشات راسل للمنهجية هو التقليل إلى حد كبير من صعوبة، أو على الأقل من الطابع الشاق، للأجزاء "التاريخية" من مهمة الشارح. إن فهم العمل الفلسفي يستلزم فهم القوى والأهداف الفكرية المتجسدة فيه، وستكون هناك فرصة ضئيلة لفهم ما يجعل من المحتمل أن يكون ما أنجزه سبينوزا غامضا للغاية لو أنه جاء إلينا من عصر نحن به جاهلون."
يبدو للوهلة الأولى أن التردد والاعتراضات من نفس النوع التي عبر عنها آيرز وكذلك جوناثان ري في ما يتعلق بمنهجية راسل يمكن أن تنشأ بشكل طبيعي تماما في ذهن فويلمان. ولكن يبدو أن هذا لم يكن الحال. وربما يمكن تفسير ذلك بسهولة تامة إذا ركزنا هنا ليس على الحجج المتبادلة، في المناقشة، بين المدافعين عن المقاربة التحليلية والمدافعين عن المقاربة القارية، ولكن الانقسام المهم الموجود، داخل معسكر مؤرخي الفلسفة القاريين أنفسهم. يدافع جيرو وتلميذه فويلمان، بخصوص فيلسوف مثل ديكارت، عن تصور لتاريخ الفلسفة يختلف تماما عن المقاربة الأكثر تقليدانية لأشخاص مثل ألكيه، وغوهييه، جنيفيف، روديس لويس وآخرين. لم يترك فويلمان، على الأقل بمفرده، أي مجال للشك في ذلك الوقت حول واقعة أنه كان هناك بالفعل، في نظره، ديكارت الذي يمكن اعتباره حقيقيا وأنه كان هو ديكارت جيرو. وعندما يتعلق الأمر بفهم الفيلسوف، وهذا ما يسعى المؤرخ إلى القيام به في المقام الأول، فإن المنهج البنيوي، في رأيه، له ميزة حاسمة بالنظر إلى المناهج الأخرى. ومع ذلك، فهو لا يختلف فقط عن المقاربة التقليدية، التي تتمحور حول البحث عن الروابط والصلات. كما أنه يظهر قربا معينا من أعمال راسل، بمعنى أنه لا يتردد في التمييز بوضوح، في بعض الحالات، بين ما يتجه نحو المستقبل في أعمال فيلسوف مثل ديكارت، وبالتالي يتجه نحو المستقبل ويسير بالتالي في اتجاه التقدم الذي، على العكس من ذلك، يبقى أسيراً للماضي. هذا هو الحال، على وجه الخصوص، عندما يتعلق الأمر بالقيود المشكوك فيها والمؤسفة التي يعتقد ديكارت أنه ملزم، لأسباب ليست علمية، بل فلسفية، بفرضها على الهندسة التحليلية.
ديكارت، إذا وضعنا البصريات جانبا، بنى نظاما للطبيعة يقال غالبا إنه يشبه في النهاية رواية أكثر من كونه أطروحة في الفيزياء. كيف نفسر هذا؟ نحصل، وفقا لفويلمان، على الإجابة المطلوبة إذا تمكنا من التعرف على وجود حكم فلسفي مسبق لديه، أو على أي حال، قرار فلسفي أولي، يحددان الباقي. إن برنامجه، في الواقع، برنامج حدسي، بالمعنى الذي يعطيه فويلمان للكلمة، ووفقا له، “فذلك لأن ديكارت، في الرياضيات كما في الميتافيزيقا، يعترف بمبدأ حدسي أعلى حبس نفسه فيه. مثل هذا التصور الضيق لماهية المنحنى التحليلي، وبالتالي، لم يتمكن من بناء فيزياء رياضية. وهنا تكمن أهمية النسق، الذي بدونه لا يوجد تفسير موضوعاتي". بشكل ملموس، يكمن السبب وراء فشل برنامج الفيزياء الرياضية الذي صممه ديكارت في تصوره الضيق للغاية عن الدوال الرياضية كنسب دقيقة، أي كمنحنيات جبرية: "جميع المنحنيات المتعالية، إلى الحد الذي يمكن تطويرها كسلاسل، تقع خارج نطاق فهمنا كملكة للأفكار الواضحة والمتميزة: إنها لا تنتمي إلى الهندسة". وهذا الاستبعاد ليس علمياً بل فلسفياً. وفي ما يتعلق بمسألة من هذا النوع، فإن مؤرخ الفلسفة، إذا كان في نفس الوقت، كما هو الحال مع فويلمان، مؤرخ علوم، يمكن أن يسمح لنفسه، على الأقل في حالات معينة، باستخدام المستقبل لتقييم مزايا الماضي.
في الوقت الذي كتب فيه محاضرة أكسفورد، وجه فويلمان لوما لاذعا للفلسفة الفرنسية، وقد انصب على لامبالاتها تقريبا بمسألة التحقق والتفنيد، وبعبارة أخرى، رفض كل مواجهة جدية مع الواقع. ومن الواضح أن هذا الموقف يمكن ربطه برفض أي شكل من أشكال التجريبية، الذي هو سمة معتادة بل وشبه تأسيسية للفلسفة الفرنسية.
"في الظروف الحالية، تخضع معارضة التجريبية لمبدأ عام وواع: أن كل ما هو من قبيل التجربة أو يمكن التحقق منه أو تزييفه بأي شكل من الأشكال، لا ينتمي إلى المجال الفلسفي. ليس لأن التجريبية مذهب زائف. لأنها مذهب خال من المعنى. في بعض النواحي، يقبل هذا الموقف انتقادات الوضعيين، ولكن من أجل الاستنتاج بأن المعنى والقيمة، من الموضوعات الخاصة بالفلسفة، هما أبعد من أي إمكانية للتجربة، وأنهما يشكلان موضوع معرفة خالصة، وأن هذه المعرفة لا يجب أن تمر عبر منعطفات التحليل، التي هي غريبة عن كل العلوم الدقيقة، عندما لا تكون عدوا لها ولا ترى فيها سوى انعكاسات للفعل، وأشكال من العبودية والاغتراب. من الواضح أن موضوع هذه الفلسفة هو المطلق. يُطلق عليه أسماء مختلفة، كما كان الحال دائما: فهو التاريخ، أو اللوغوس، أو البنية، أو أحيانا الله. غالبا ما يستعمل هذا القول المأثور: الحقيقة هي الكل في محاربة التحليل المدمر للحياة والحقيقة."
ومع ذلك، في هذه النقطة: رفض فكرة المعرفة دون التحقق، والتي من المفترض أن تقوم عليها الفلسفة، يجد فويلمان نفسه على وجه التحديد في نفس الجانب مع راسل:
العلم ممكن فقط إذا كانت هناك معايير للحقيقة لا تتضمن التأكيد على أن الحقيقة هي الكل، باختصار، إذا كان من الممكن تطبيق النظرية الذرية المنطقية إلى حد ما: يبدو لي أن النقد الذي يوجهه راسل إلى هيجل ينطبق حرفيا على أساسيات الفلسفة الفرنسية الحالية. هل يجب أن أضيف أن أحد الدوافع التي أكدت دراستي لراسل كان هذا النقد الذاتي المستمر الذي اكتشفته في عمله؟ فكانت هناك أسباب وأحداث زيف فلسفة ما! وهكذا مع نظرية أينشتاين. وعلى النقيض تماما من برجسون، تخلى راسل في
"الديمومة والتزامن"، عن المفهوم الذي طوره سابقا للمكان وفقا لنموذج هيلمهولتز-لي والصورة المطلقة للمكان والزمان والحركة التي أنتهى بها كتاب المبادئ".
أمر ذودلالة كون فويلمان أصبح في ما بعد أكثر تحفظا بشأن مسألة ما إذا كان من شأن التغيير في العلوم أن "يزيف" الفلسفة أم لا. الإجابة التي يقدمها عن هذا السؤال بعد مرور عشرين عاما على محاضرة أكسفورد، في كتابه "ما هي الأنساق الفلسفية؟"، هي في الواقع سلبية. قد نعتقد أنه حتى لو كان تطور العلم لن يسمح لنا أبدا باستنتاج حقيقة نسق فلسفي معين، فإنه يمكن أن يجعل من الممكن، على الأقل في حالات معينة، دحض نسق أو كل الأنساق التي تنتمي إلى فئة معينة.. ولكن وفقا لفويلمان، فإن هذا ليس هو الحال. بالفعل، يزخر تاريخ الفلسفة بأمثلة عن المذاهب التي ربما ظهرت في لحظة معينة وتم دحضها واعتبارها كاذبة، بل وحتى سخيفة في بعض الأحيان، ولكن يبدو أنها أصبحت ذات صلة ومعقولة ومثمرة مرة أخرى بسبب التعديل الذي "تم إنتاجه لاحقا في العلوم". إن حادثة مثل تلك الحوادث التي تمت مناقشتها هنا يمكن أن تجعل الدفاع عن موقف فلسفي، على الأقل لبعض الوقت، أكثر صعوبة؛ ومع ذلك، فإنها لا تجعل من المستحيل:
"أن الأنساق وفئات الأنساق الفلسفية
لا يمكن دحضها بشكل إيجابي من خلال الأخبار العلمية. وعندما اكتسبت الميكانيكا الكلاسيكية مكانة مرموقة، سخر لايبنتز من "الرجل الطيب أبيقور". لم يتم الدفاع عن الذرية بعد ذلك إلا في الشكل المحترم لنسختها الكلاسيكية التي قدمها ليوكيبوس وديموقريطوس، والتي بموجبها "توجد جميع أنواع أبعاد الذرات وجميع أنواع الأشكال الذرية في الطبيعة". أحدثت ميكانيكا الكم انقلابا لصالح الكلينامين (الانحراف)، ومن الصعب أن نتخيل أنه قبل ذلك كان من الممكن أن يكتب أحد الشارحين، مادحا أبيقور، أن "الذرات تتكون بطريقة تظهر فيها الاختلافات في الأطوال الذرية كمضاعفات صحيحة فقط لأصغر طول ذري". وهذا يبين كيف يمكن للاكتشافات العلمية أن تحيي المفاهيم الفلسفية المتعبة وكيف تؤثر النظريات الجديدة على تفسير الأنساق الفلسفية."
هناك شيء واحد نود بوضوح أن نعرف المزيد عنه وهو ما الذي كان يمكن أن يدفع فويلمان، في منتصف الستينيات، إلى اعتبار أن النقد الذي صاغه برتراند راسل ضد هيغل، وخاصة ضد فكرة أن الحقيقة لا تكمن سوى في الكل، يمكن تطبيقه على الفلسفة الفرنسية في تلك الحقبة ككل. ذلك أن هذا أمر يبدو أقل وضوحا، على أقل تقدير، رغم وجود نقاط مشتركة مهمة بالتأكيد بين ما يؤاخذه راسل على هيجل، أو ربما بشكل أكثر دقة على الهيجليين البريطانيين مثل برادلي، الذين يجادل ضدهم، وبين ما يؤاخذه فويلمان على الفلاسفة الفرنسيسن الذين احتلوا، في وقت كتابته، طليعة المشهد. يمكننا أن نذكر على وجه الخصوص الميل إلى التعبير بعبارات غير دقيقة وغير واضحة، ضعف الحجة أو غيابها الكامل إلى حد ما، جهل الرياضيات والمنطق، ازدراء التجريبية والغياب شبه الكامل لأخذ المنهج التجريبي نفسه في الاعتبار، التقليل من قيمة الحقيقة الواقعية ببساطة والحقيقة العلمية نفسها لصالح شكل أكثر اكتمالا وأعلى من الحقيقة التي من المفترض أن تكون الفلسفة وحدها قادرة على بلوغها، الانفصال الكامل إلى حد ما عن فكرة المعرفة، عن فكرة التحقق، والفلسفة التي يمكن اعتبارها في كثير من النواحي شكلا متميزا للمعرفة دون تحقق، إلخ..
من الواضح أننا نستطيع أن نجد، لعدد لا بأس به من هذه العناصر، مبررات مباشرة إلى حد ما أو على أية حال تشجيعات في النصوص الهيغلية. وفي ما يتعلق بمسألة الحجاج، مثلا، يعطي هيغل، في مقدمة كتابه "فينومينولوجيا الروح"، فكرة واضحة جدا عن الدور الثانوي على الأقل الذي يجب أن يُنسب إليه. بكل تأكيد، ليس الحجاج بالنسبة إليه هو الذي يشكل الطريق الملكي للوصول إلى الحقيقة الفلسفية، أو حتى إلى الحقيقة بشكل عام. إنه بالأحرى شيء يجب أن يُترك لهذا الشكل من “المعرفة المعيبة ( mangelhaftes Erkennen ) التي تشكلها الرياضيات، وبأسلوب أكثر حرية، للحياة العادية:
"ليس من الصعب أن نرى أن طريقة تقديم القضية، وادعاء العلل لصالحها، وكذلك دحض القضية المعارضة بالعلل، ليست هي الصورة التي يمكن أن تظهر بها الحقيقة. الحقيقة هي حركة نفسها داخل نفسها ( die Bewegung ihrer an ihr selbst )، في حين أن هذه الطريقة هي المعرفة الخارجية للمادة.
لكن من المؤكد أنه سيتعين علينا أن نتحمل المزيد من المتاعب أكثر مما فعل فويلمان لتبرير العلاقة التي يبدو أنه يقيمها بين الهيغلية نفسها، من ناحية، والخيارات الأكثر إثارة للشكوك وأوجه القصور الأكثر تميزًا في انتقاده للفلسفة الفرنسية، من ناحية أخرى.
يمكننا أن نعترف بأن كل ما يذكره في هذا الصدد له علاقة بلا شك بالإشارة إلى المطلق، مهما كانت صيغته المختارة وأيا كان الاسم الذي يطلق عليه. ويذكر من بين الخيارات الممكنة: التاريخ، البنية، اللوجوس، الكل بالطبع، وأخيراً الله نفسه. ويشير، في ما يتعلق بالأخير، إلى أن الإشارة إلى مطلق من نوع معين، وهو معيار للنجاح الفلسفي في فرنسا، "يكشف بوضوح عن المضامين الدينية الخفية لتخصص
يرفض، في أغلب الأحيان، حتى الأشكال الخارجية للخطوات الخاصة بالمعرفة الموضوعية". نظرًا للمكانة المهيمنة التي من المفترض أن تحتلها خطوات المعرفة الموضوعية في مجتمع مثل مجتمعنا، فهي على أية حال مناسبة تماما لتحتل مكانا بارزا في قائمة الأشياء التي يجب على الفيلسوف الجدير بهذا الاسم أن يعتبر نفسه، أكثر أو أقل، ملزما برفضها من حيث المبدأ. كما يلاحظ فويلمان:
"يجد الفيلسوف جمهورا أوسع كلما زاد رفضه للمجتمع والعالم الذي يعيش فيه بشكل جذري. من الكراهية إلى النبوة هناك خطوة واحدة فقط. صحيح أن كل الفلسفة انتقادية وحتى جدلية بطبيعتها. لكن يجب أن نميز بين الخلافات التي يمكن صياغتها بنفس اللغة، وبالتالي انطلاقا من نفس الإطار المرجعي، من نفس الشفرة المقبولة من الجميع، والخلافات التي تدعو إلى التشكيك في الشفرة نفسها. نفس الشيء يقع في الفلسفة كما في السياسة. إن أي نظام ديمقراطي يشهد صدامات، ولكن عندما تدعو هذه الصدامات إلى التشكيك في مبدأ الديمقراطية ـ كما هو الحال في كل الديمقراطيات الغربية تقريباً ـ فإن الوضع يختلف تماماً عما هو عليه عندما يتم احتواؤها ضمن الحدود المتفق عليها."
من الواضح أن عددا لا بأس به من الفلاسفة يعترضون على أن أهم شيء يمكن أن تفعله الفلسفة للمجتمع وللإنسانية بشكل عام ليس مواصلة المناقشة ضمن لغة مشتركة يقبلها الجميع، بل بالأحرى السعي لتحقيق تغيير أقل أو أكثر جذرية في اللغة. شيء آخر يجب ملاحظته هو أن الفترة التي يشير إليها فويلمان لم تتميز فقط بعبادة المطلقات بمختلف أنواعها، ولكن أيضا بمحاولات التفكيك الجذري لكل شيء يثير أفكارا مثل أفكار المطلق والعالمي. يقول فويلمان، في مجمل سيرته الذاتية، عن المشروع الذي تصوره في نهاية الحرب العالمية الثانية: «لقد حددت لنفسي مهمة توضيح ما بقي من العقلانية عندما تم استبعاد المطلق عن أسسه.
ذلك اختيار يمكننا أن نقول، بأثر رجعي إنه، بكل المقاييس، حكم عليه حتماً بأن يحتل، في الفلسفة الفرنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، موقعاً منعزلاً جداً وهامشياً على الأكثر، لأن لا اختيار العقلانية، ولا قرار الاعتراف للعلم بأهمية خاصة لفائدة الفلسفة (بشكل عام وخاصة في عصر مثل عصرنا، والذي، باستخدام عنوان المجلة التي أنشأها فويلمان لاحقا مع جرانجر، يستحق أن يطلق عليه "عصر العلم")، ولا الاهتمام الذي يظهر في المسعى وفتوحات المعرفة الموضوعية بشكل عام تتوافق مع المسار الذي سلكه ممثلوها الذين احتلوا مركز الصدارة وكان لهم التأثير الأقوى.
يقدم جورج كريسل، في نص الدرس التي قدمه عن فيتجنشتاين خلال الفصل الدراسي الشتوي 1984-1985، ملاحظة ذات صلة ومضيئة حول الطريقة التي أصبح بها هيغل في مرحلة ما نوعا من المنبوذ، بل أحيانا نوعا من وحش أسود بالنسبة إلى من كان لديهم معرفة دقيقة بالمنطق الجديد وإمكانياته:
"قبل أن يتم تطوير لغة المنطق الرياضي، كانت كلمة المنطق تستخدم على نطاق واسع في الأدبيات الفلسفية. كان هناك، مثلا، هيغل، الذي استخدم كلمة "منطق" بكل بساطة لتعني: القوانين الأساسية (لأي شيء: منطق التاريخ، منطق القانون، إلخ..) لجعل الكلمة مناسبة للعديد من الأشياء المختلفة، كان من الضروري أن ننسب إليها الخصائص الأكثر فضولا – تذكيرات. القضية ونفيها صحيحان بنفس القدر. عندما يكون لديك أطروحة ونقيضها، لا ترى أين تصح الأطروحة، وأين لا يكون نقيضها المعتبر كذلك، أو العكس، ولكنك تشجع على التركيب (SYNTHESIZER)، وأشياء أخرى من هذا القبيل.
وفي ظل هذه الخلفية - للفلسفة المثالية، كما نسميها- حلت لغة المنطق الرياضي مثل نسمة من الهواء النقي."
أفترض أن فويلمان مر بتجربة من هذا النوع أثناء قراءته لراسل وفيتجنشتاين "التراكتاتوس" (الرسالة)، والتي يقول كريسل إنها مستوحاة من أفكار منطقية بسيطة (مستعارة بشكل أساسي من المنطق القضوي)، والتي منحت بعد ذلك شكلاً فنيا. هذا شيء لا أجد صعوبة في فهمه وأنا بالتأكيد لست الوحيد. كل أولئك الذين شعروا بشيء من الانزعاج وحتى السخط الذي يمكن أن يثيره الاستخدام المستمر لكلمة "منطق" بمعنى قابل للتوسيع وغير محدد بدرجة كافية بحيث يمكن تطبيقه على أي شيء نريده تقريبا (الرغبة، الإحساس، الإبداع، المعنى، إلخ..)، مما جعل من الضروري أن نعزو إليه خصائص كانت مفاجئة على أقل تقدير، يمكن أن تكون باعثة على شعور باستنشاق هواء نقي عندما صادفوا للمرة الأولى، أمثلة على ما يمكن فعله حقً، في الفلسفة، بالمنطق، بالمعنى الدقيق والتقني للكلمة.
ولا يزال يحدث لي كثيرا حتى اليوم أن أشعر بهذا النوع من الارتياح والامتنان مرة أخرى عندما أقرأ أو أعيد قراءة الأعمال التي تشكل أمثلة مقنعة لهذا النوع من المساعي، بينما أحاول أن أنسى للحظات كيف ظلت العادات اللغوية "الهيغلية" وستظل على الأرجح راسخة في العقلية الفلسفية لفترة طويلة قادمة. وغني عن القول إن الارتياح والامتنان المذكورين انتابا أيضا على وجه التحديد أولئك الذين أسعفهم الحظ، مثلي، بما يكفي ليكتشفوا بشكل ملموس في بداية الستينيات، من خلال تعاليم ومنشورات فويلمان، عالما فلسفيا كانوا يزالون يجهلون عنه كل شيء تقريبا.
من وجهة نظر كريسل، فإن ما حدث في "الرسالة" يمثل نمذجة لشيء حدث كثيرا في تاريخ الفلسفة: "جزء للكل. بين الحين والآخر يتم اكتشاف مذهل في منطقة صغيرة تأسر الخيال الفلسفي. ويقترح الاكتشاف الجديد استراتيجية عامة في مجال المعرفة." لذلك يمكننا أن نعتبر أنه خلف الجدة الجذرية التي تميز على ما يبدو مشروع "الرسالة"، هناك أيضًا دليل على الانتماء إلى تقليد ليس حديثا بأي حال من الأحوال: «إذا كنت على حق، يلاحظ كريسل، فهذا جزء من من التقليد القديم. الشكل المتطرف هو نوع من القصائد الميتافيزيقية المستوحاة من أفكار بسيطة للغاية في العلوم الطبيعية مثلا التركيب الذري للمادة (لوكريتيوس) أو الأفكار الكونية حول بداية ونهاية العالم (في عدد لا بأس به من الأديان)."
إن ما لا يمكن إلا أن يفاجئ القارئ الذي تمرس على الفلسفة في سياق التقليد الفرنسي، هو بالتأكيد واقعة أن الشكل الفني، إذا كان ما يقوله كريسل صحيحا، يمكن أن يُعطى لفكرة أساسية تمت استعارتها من العالم الضيق للمنطق، والأكثر من ذلك، من أبسط جزء منه، أي ابحساب القضوي، والذي يبدو أ3نه أثار خيال فيتجنشتاين الفلسفي بدرجة كافية ليقوده إلى ما يسميه كريسل "المبالغة في البنية المنطقية العالم بأكمله". من المحتمل أن يؤدي نسيان المبالغة إلى زيادة الاعتبار الذي يمكن للمرء أن يأخذه لجودة العرض الفني ونجاحه. لقد كنا بالتأكيد، في العالم الفلسفي الذي أتحدث عنه، معتادين على التسليم بأن الشكل الوحيد الذي يمكن تصوره لفكرة قادمة من عالم المنطق لا يمكن إلا أن يكون ذلك العرض الفني، الممل والجاف، الذي له علاقة طفيفة أو لا علاقة له بالفلسفة، وبالطبع علاقة أقل بالفن.
أكد راسل أن إحدى المزايا الرئيسية للمنطق الجديد، مقارنة بالمنطق القديم، تكمن على وجه التحديد في قدرته على توسيع الخيال المجرد بشكل كبير وتقديم العديد من الفرضيات التي يمكن تطبيقها على تحليل أي حقيقة معقدة: المنطق القديم يقيد الفكر، بينما المنطق الجديد يمنحه أجنحة. هو أدخل، في رأيي، نفس النوع من التقدم إلى الفلسفة الذي أدخله جاليليو إلى الفيزياء، مما أعطى على الأقل إمكانية رؤية أنواع المشاكل التي من المحتمل أن تحصل على حل وتلك المشاكل الأخرى التي يجب التخلي عنها باعتبارها خارج نطاق القدرات البشرية." لكن ما يتعلق به الأمر، في هذه الحالة، هو بالإضافة تزويد الخيال الفلسفي بشكل من الاتساع والقوة والطاقة والإبداع من نفس نوع الخيال العلمي، وليس تطوير هذا النوع من الخيال. الخيال الذي جعل عملاً مثل "الرسالة" ممكنا، والذي، بالنسبة لكريسل، يندرج في النهاية ضمن فئة القصيدة الميتافيزيقية أكثر بكثير من فئة العرض ذي المقاصد والادعاءات العلمية. لكن من الواضح أن هذا لا يحدث فرقا كبيرا بالنسبة للمسألى التي تهمنا هنا. في الوقت الذي بدأ فيه فويلمان يهتم اهتماما وثيقا بالاستخدام الذي يمكن القيام به للمنطق في العمل الفلسفي، كانت فكرة أنه يمكن أن يكون مبدعًا في ظل أحد هذين الشكلين هي ببساطة فكرة غريبة (في فرنسا، على الأقل) عن معظم الفلاسفة. وكان المنطق، في شكله الحديث، هو الذي يُشتبه في أغلب الأحيان في كونه يسعى إلى تقييد الفكر الفلسفي بالأصفاد بشكل نهائي، أو الأفضل من ذلك، إزالته تماما.
المصدر: https://books.openedition.org/cdf/4936?lang=fr
تاريخ الفلسفة، تاريخ العلوم وفلسفة تاريخ الفلسفة (الجزء الثاني) - أحمد رباص
أدوات
شكل العرض
- أصغر صغير متوسط كبير أكبر
- نسخ كوفي مدى عارف مرزا
- شكل القراءة