4- التجربة، الموضوعية واشتغال مفهوم
إذا كان من الممكن تصور التاريخ الإبستيمولوجي عند كانغيلام باعتباره تفكيرا في مصير العقل وتشعباته انطلاقا من تاريخ العلوم، فإن هذه المقاربة لا تعني على الإطلاق النسبية والعدمية، كما تشير القراءات التي تدين التاريخية والجهوية للتاريخ الإبستيمولوجي. على العكس من ذلك، فبدلاً من إفراغ العقلانية من قيمتها التفسيرية والمعيارية، فإن الأمر يتعلق بفهم ولادة وتكوين هذه العقلانية نفسها انطلاقا من آخرها، انطلاقا من عدم التمييز بين العقل واللاعقل، كما يؤكد فوكو خلال قراءة استرجاعية. من حياته المهنية وخاصة من دروس معلمه كانغيلام:
"[فيما يتعلق] بتحليلات تاريخ العلوم، فإن كل هذه الأشكلة في تاريخ العلوم (التي هي بلا شك متجذرة في الفينومينولوجيا، التي اتبعت في فرنسا، من خلال كافييس، ومن خلال باشلار، ومن خلال جورج كانغيلام، تاريخا آخر بأكمله)، يبدو لي أن المشكلة التاريخي لتاريخية العلوم لا تخلو من بعض العلاقات والتشبيهات، دون أن تكون إلى حد ما صدى لمشكلة تكوين المعنى: كيف تولد هذه العقلانية، كيف تتشكل، انطلاقا من شيء ما مختلف تماما؟"
يرجع فوكو السؤال: “كيف نفكر في تشكيل العقلانية من غير العقلاني؟”، إلى سؤال أوسع بكثير، طرحته الفينومينولوجيا في فترة ما قبل الحرب والذي أصبح أيضا السؤال المركزي للبنيوية، ولكن يمكننا أن نعتبره بشكل أكثر عمومية علامة الفكر الفرنسي في القرن العشرين: "كيف يكون هناك معنى من اللامعنى؟ كيف يأتي المعنى؟" في مقدمة شهيرة للطبعة الإنجليزية من عمل كانغيليم الرئيسي «الطبيعي والمرضي» ، رسم فوكو خطا فاصلا بين الإجابات التي تم تقديمها في فرنسا على هذا السؤال: من ناحية، «فلسفة الخبرة، المعنى، والذات» (سارتر وميرلو بونتي)، من ناحية أخرى، «فلسفة المعرفة، العقلانية والمفهوم» (كافييس، باشلار، كويري، كانغيلام).
لم يبين فوكو فقط أن هوسرل قد قُرئ في السياق الفرنسي انطلاقا من هذين الخطين الفكريين "المتباينين" والمتعارضين سابقا، لكنه عندما أعاد صياغة هذا النص، بعد ست سنوات، عاد بنفس المعارضة إلى انفصال أقدم بين "بيرجسون وبوانكاريه، لاشيلييه وكوتيرا، مين دي بيران وكومت". ومع ذلك، يمكننا القول، بالتبسيط، إن هذا التعارض قد استمر بين الحيوية والوضعية، بين اللاعقلانية والعقلانية، أو بكل بساطة، حسب وجهة نظرنا المحددة، بين المقاربتين الرئيسيتين لتحليل المفاهيم الموجودة منذ ديكارت والتي تتمثل في دراسة المفهوم من ناحية حسب علاقته بالذات، كشكل من أشكال العقل الذي يدرك الأشياء، ومن ناحية أخرى وفقا لوظيفته التمثيلية، وبالتالي علاقته بالأشياء. ومع ذلك، كما أشار آلان باديو، فإن هذا التعارض بين فلسفة المفهوم وفلسفة الوعي ليس في الواقع واضحا أو محددا. إن تبسيط المشاركة الفوكوية لا يسمح لنا بأن نضع، مثلا، مفكرين مثل دولوز، وهو حيوي ولكنه عدو لكل فلسفة الوعي، أو دريدا، المفتون بمشكلة المثل الرياضية عند هوسرل وبالفكر البنيوي، ولكن في نفس الوقت ناقد عنيد للعقلانية والمفاهيمية.لكن هذه الصعوبة تنطبق بشكل خاص على كانغيلام الذي، رغم تأكيده على التعارض بين سارتر وكافييس، وبينما كان ينتمي إلى لإطار الباشلاري للبحث الفلسفي حول المفهوم والعقلانية، فقد امضم مع ذلك إلى التيار الحيوي، من خلال إعلانه بين الأربعينيات والخمسينيات (من القرن الماضي) عن وجود استمرارية بين فلسفته البيولوجية والبرغسونية، مع دعم "مقاومة الماركسية والوجودية لتشييء الحياة ووسمها بميسم الرياضيات". والأكثر من ذلك، فإن معارضة فلسفة كانغيلام لفلسفة الذات هي التي تطرح مشكلة. لأنه إذا كان التاريخ الإبستيمولوجي يشكك في الدور التقليدي للذات المعرفة ويمحو صورة الذاتية الإبداعية لصالح تحليل الشبكات المفاهيمية، فيمكننا أن نتذكر أن كانغيلام يعتبر، من وجهة نظر فلسفته في الطب، بمثابة منظّر عدم إمكانية اختزال التجربة الذاتية للمريض في مواجهة تشييئ المعرفة الطبية. إن المبدأ الأساسي لعمل كانغيلام الأساسي، "الطبيعي والمرضي"، هو في الواقع الأولوية التي يجب أن تعطيها فلسفة الطب الجديدة للتجربة الحياتية للمريض في ما يتعلق بخطاب الطبيب اللاإنساني والمطبع، وذلك لتفادي تذويب التفرد المرضي في تباين كمي طبيعي.
في أعقاب أعمال فايتسكر، روير وغولدشتاين، كان الأمر بالنسبة لكانغيلام يتعلق بتفسير المرض ليس باعتباره انحرافا عن المتوسط الإحصائي، ولكن باعتباره ظهور سلوك جديد للكائن الحي في علاقته بالبيئة. كان درس كيرت غولدشتاين يتمثل في اعتبار الكائن الحي فردا بالمعنى الحرفي: كلا غير مقسم، ونشاطه وحده قادر على إعطاء معنى للعناصر التي يتكون منها. وبالتالي، فإن وحدة الكائن الحي هي التي لها معنى، والبيولوجيا نفسها، وفقا لجولدشتاين، هي علم الأفراد لأنها “تتعامل مع الأفراد الموجودين والميالين إلى الوجود، أي تحقيق قدراتهم كأفراد بأفضل قدر من الإمكان في بيئة معينة". كان مفهوم كانغيلام الفريد والذاتي للمرضي متجذرا في النهاية في السياق الأوسع لفلسفة الفردانية المؤسسة بيولوجيا والمؤدية إلى فكرة النشاط المعياري للكائن الحي.
في هذا الصدد، يجب أن نتحدث عن معنى مزدوج للمعيار في البيولوجيا والطب: ما هو طبيعي هو ما يتوافق مع القاعدة ولكن أيضا مع قيمة الحالة التي نرغب في إعادة إقامتها، حيث أن الإنسان الحي "يصف هو نفسه كمرضية، وبالتالي يلزم تجنبها أو تصحيحها، بعض الحالات والسلوكيات المدركة". ومن خلال التعبير عن التمييز بين الإيجابي والسلبي، بين الطبيعي والمرضي، فإن المعيار يحيل الواقع إلى قيمة، وبالتالي يتأهل كمفهوم جدلي بقدر ما يحدد المظهر الخارجي عن طريق تحميله تقييما سلبيا. وفي علاقتها بهذا الخارج، ومن خلال معارضة ما يمثله من شذوذ وغير السوي، يطرح المعيار نفسه كإمكانية للتنظيم. يجب علينا بعد ذلك أن نلاحظ الطابع المعياري لما هو طبيعي، أي حقيقة إمكانية اعتباره مرجعا لأشياء لا يمكن بعد أن يقال عنها كذلك: "إن الطبيعي إذن هو في كل من الامتداد والإظهار. يضاعف القاعدة وفي نفس الوقت يشير إليها".
في الأساس، التأكيد على أن المعيار مطابق للقاعدة التي تظهر فعلا في إنجاز مشروع معياري هو بمثابة القول بأن القاعدة في حد ذاتها لا معنى لها وأنها تنبثق عن القانون الطبيعي على وجه التحديد من خلال عرضيتها مادام أن إمكان التنظيم الذي تقدمه "يحتوي، بحكم أن الامر يتعلق بإمكانية واحدة، على نطاق إمكانية أخرى لا يمكن أن تكون إلا معكوسة ".
بمعنى آخر، إذا وصف كانغيليم النشاط المعياري باعتباره تعبيرا حيويا بدائيا، فليس من أجل إحالته إلى ثبات القانون الطبيعي، بل إحالته إلى الفرد في بيئة معينة، باختصار منىأجل جعله نوعا من الآلية الخلاقة المتجاوزة لذاتها باعتبارها نتاج "جهد عفوي للكائن الحي للسيطرة على البيئة وتنظيمها وفقا لقيمها الحية".
بالنسبة لكانغيلام، ليس وجود المعيار هو الذي يحدد الصحة في علاقتها بالمرض، بل وجود “وفرة زائدة من الوسائل” في العضوية السليمة. تسمح هذه الوفرة الزائدة للجسم بالتسامح مع الاختلافات في المعايير لإنشاء "ألعاب حيوية" أخرى، أي باختصار، اللعب وفقا لقواعد أخرى. وهو ما يعني قبل كل شيء أن العضوية في صحة جيدة قادرة على العيش والحفاظ على نفسها في بيئة أخرى – تستطيع أيضاً أن تبنيها وفقاً لقدراتها وضرورياتها الحيوية – في حين أن العضوية المريضة تضطر إلى العيش في بيئة “متقلصة” تفرض ذاتها عليه، مادام أنها غير قادرة على أي معيارية. وهكذا، تشهد الصحة على "قوة معيارية للتشكيك في المعايير الفسيولوجية المعتادة"، في حين أن غير السوي، بعيدا عن كونه الشخص الذي لا يطيع المعايير، يظهر في جميع الاحتمالات باعتباره الشخص الذي "يطيعها كثيرا". الحياة نفسها تمنح قيمة معينة للعضوية المعيرة على أساس قدرتها على تحديد وهيكلة بيئتها الحيوية. إن تحديد المعنى الموضوعي للمرضي الذي يبنيه العالم الفيسيولوجي في التجربة المختبرية ليس سوى تعبير عن القدرة المعيارية للعيش في البيئة المختبرية الجديدة: "إن الإنسان العادي هو الإنسان المعياري، القادر على تأسيس جديد للمعايير، حتى العضوية منها». وبهذا المعنى يعبر الزوج طبيعي/مرضي عن «قطبية دينامية» للحياة، حيث تكون الأخيرة في نفس الوقت متوافقة مع المعايير وتخلق معايير جديدة على وجه التحديد من خلال قدرتها على اللعب خارج أي معيار. وبينما يعمل المعيار كمبدإ للانتظام "الطبيعي"، فإنه يوجد بالتالي داخل وخارج الفردية الحية، ويفهم على أنه عملية معيرة (بفتح وتشديد الياء) ومعيرة (بكسر وتشديد الياء) في نفس الوقت، في حوار دائم مع بيئتها. وكما يقول باديو، معيدا صياغة كانغيلام، "كل شيء حي هو مركز، لأنه يشكل بيئة موحدة، حيث تأخذ السلوكيات والميول معنى في ما يتعلق بالحاجة".
هذا المفهوم للنشاط المعياري للحياة يعني بالنسبة لكانغيلام أن مفاهيم الصحة والمرض والقيمة الحيوية والمعيار يجب تفسيرها "مع إشارة محددة إلى التجربة الإنسانية الذاتية، مع دلالاتها الوجودية والنفسية المعتادة. "إذا كان "العيش هو أن إشعاع (الكائن الحي)، وتنظيم بيئته انطلاقا من مركز"، فإن الإنسان، الذي لا يميز نفسه عن الحيوانات في هذه النقطة، يبني بيئته الخاصة: "عالم إدراكه، أي - لنقل، مجال إدراكه العملي". التجربة حيث أفعاله، الموجهة والمنظمه بالقيم المتأصلة في الميول، تنحت أشياء مؤهلة، وتضعها في علاقة مع بعضها البعض، وكل شيء في علاقة به ». وبهذا المعنى، يمكننا أن نؤكد أن كانغيلام يمارس إزاحة مزدوجة في ما يتعلق بالعقيدة الأنطولوجية الأساسية للبيولوجيا، والتي تتمثل في إسناد الفردية إلى أصغر جسيم من المادة (مثلا، الخلية). ومن ثم فهو يعرّف الفردية البيولوجية بأنها "مصطلح في علاقة"، كعلاقة مع البيئة الداخلية والخارجية للعضوية، وفي نفس الوقت كنشاط معياري أساسي يتكون من تجاوز مستمر لشكل الفرد ذاته. الامتياز الثلاثي الممنوح للعلاقة على المادة، وللسلطة على الشكل، وللتفرد على الفرد – حيث يمكننا أن نكشف بوضوح الفكرة النيتشوية عن خلق القيم كتأكيد للحياة. ومع ذلك، هل هذا الامتياز الثلاثي كافٍ للتأكيد على أن تجربة الحياة بحد ذاتها هي تجربة «ذاتية»؟ بمعنى آخر، هل يكفي الحديث عن الفردية البيولوجية لترسيخ أسس فلسفة الذات باعتبارها مجموعة من الوظائف التي تقاوم التشييء؟
وفي هذا الموضوع، لاحظ بيير ماشيري أن تجربة كانغيلام للإنسان الحي تتميز بالازدواجية الأساسية بين التجربة الواعية والتجربة اللاواعية، وهو ما يرجع إلى حقيقة أن الكائن الحي يمثل شيئين في وقت واحد: "إنه أولا وقبل كل شيء الفرد أو الكائن الحي"، الذي يُدرك في تفرده الوجودي، كما تكشفه بطريقة مميزة التجربة الواعية بالمرض؛ ولكنه أيضًا ما يمكن أن نسميه "حي الحي": هذه الحركة المستقطبة للحياة التي تدفعها، في كل كائن حي، إلى التطور إلى الحد الأقصى مما يجب أن تكون أو توجد". في تجربة المرض، يتميز الانتقال إلى الذاتية بأنه التجربة الإنسانية المحددة للفردية البيولوجية كعملية تفرد تضفي قيما على سلوكيات الفرد في علاقته بالحياة؛ باختصار، باعتبارها تجربة معيارية حيوية بحد ذاتها. وبهذا المعنى، فإن فكرة ثالثة للتجربة يقحمها كانغيلام في المقال بتكتم، “فكرة الدافع الذي يميل نحو النتيجة دون ضمان تحقيقها أو البقاء فيها؛ إنه الكائن الحي غير المنتظم، الخاضع لعدد لا نهائي من التجارب، وهو، في حالة الإنسان الحي، المصدر الإيجابي لجميع أنشطته. إذا كان الكائن الحي، بطريقة ما، دائما ذاتيا، “خاضعا لتجربة” مفروضة عليه من قبل البيئة، فإن تجربة الحياة هذه هي على وجه التحديد مصدر المعيارية التي تسمح للحي بأن يطرح نفسه كذات في بيئته. ومن خلال هيكلة بيئته بإنتاج المعايير وينشاط التثمين المستمر، يصبح الإنسان بعد ذلك مركز بيئته، أي مركز التجربة التي هي بناء المعايير.
ومع ذلك، لا بد من التوضيح أنه لا توجد حتى الآن عتبة للتمييز بين الإنسان والحيوان، حتى على مستوى العبور بين الفردية والذاتية، حتى لو لم نحدد خصائص التجربة التي عاشها الإنسان في بيئته. لكن، يتم تعريف التجربة الأنثروبولوجية بالضبط من خلال علاقة معينة بالمعرفة، وبالتالي من خلال علاقة معينة بين الحياة والمفهوم: فالإنسان لا يستخرج معلومات معينة من بيئته لبنيتها فحسب، بل يعطي أيضا قيمة معينة لتلك المعلومات كمعرفة ببيئته. في مقاله عام 1966 حول "المفهوم والحياة"، سعى كانغيلام إلى التغلب على التعارض، الذي رسمه برغسون بشكل كلاسيكي، بين الحياة كقوة دينامية للتجاوز والمفهوم باعتباره "تثبيتا" و"تشييئا" و"تطبيعا" للزخم الحيوي. يرى كانغيلام أن الحياة والمفهوم ليسا متعارضين: فالعيش يعني أيضا أن نعرف، وتكوين المفاهيم هو أسلوب حياة، لأن المفهوم نفسه يمكن فهمه على أنه معلومات "تأخذها جميع الكائنات الحية من بيئتها، والتي من خلالها على العكس من ذلك يهيكل وسطه". ومن ثم، فإن الفكر المجرد ليس هو الآخر للحياة، بل هو تعبير مذهل عن الحياة نفسها: «يتم استيعاب الملكة الخاصة بالمفاهيم باعتبارها لحظة إشكالية في تجربة الكائنات الحية». ومن هذا يمكننا استخلاص نتيجتين تعكسان في الوقت نفسه سلسلة من الإسكاليات المعاصرة والتأثير المتبادل بين كانغيلام وفوكو: أولا، إعادة صياغة مفهوم التجربة، وثانيا، تصور جديد للذات العارفة.
5- من الحيوي إلى الاجتماعي، أفهوم التجربه
إذا كان كانغيلام يحافظ على القطيعة بين التجربة والمعرفة، فهو ضمن تجربة أنثروبولوجية أوسع وهي تجربة التيه، أي القدرة الخاصة بالإنسان على ارتكاب الأخطاء لأنها قادرة على وجه التحديد على إعطاء تقييم معين للمعلومة، من شأنه أن يتعارض مع التقييمات الأخرى. يُظهر هذا الصراع الطابع الدينامي للتجربة الإنسانية، التي تواجه دائما بيئات جديدة تعيد هيكلتها بنفسها، لكن أيضا التحول الضروري والمستمر للمعرفة: "يخطئ الإنسان عندما لا يضع نفسه في المكان المناسب لاكتساب معلومة معينة يحتاج إليها. ولكن أيضا من خلال التنقل يقوم باكتساب المعلومة". إذا كان كانغيلام، في النسخة الأولى من المقال، قد أصر دائما على "القطع" بين الحياة والمعرفة لصالح التكنولوجيا، فقد أصبح انطلاقا من عام 1966 يتصور العلم كشكل من أشكال المعيارية الاجتماعية. يتم بعد ذلك إدراج الخطإ العلمي وكذلك التعارض الحقيقي والزائف في القوة غير المنتظمة للحياة نفسها، في "احتمال الخطأ المتأصل في الحياة" الذي تكتشفه البيولوجيا باعتباره بنية الوراثة ذاتها. وإذا كان للعلوم تاريخ ينطلق من أخطائها، فذلك لأنها أصبحت من الآن امتدادا لقوة غير منتظمة تشكل حياة الإنسان "كحياة محكوم عليها بـ"التيه" و"الخطإ".
تم فعلا إلقاء المحاضرات حول "المفهوم والحياة" خلال السنة التي نشرت فبها "تأملات جديدة حول السوي والمرضي"، حيث يوضح الفيلسوف أن المعيارية الاجتماعية يجب أن تُفهم على أنها امتداد إشكالي للمعيارية الحيوية. في "تأملات جديدة..."، عاد كانغيلام هكذا إلى مسألة معنى المعيار الحيوي كتعبير عن تكيف الكائن الحي مع البيئة من أجل مواجهته بنوع مختلف تماما من "المعايير": المعايير التي تأخذ، في العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع والاقتصاد والإثنولوجيا، معناها داخل المجتمع البشري وبالتالي تعبر عن تكيف الأفراد أو استبعادهم من الجماعات. كان هذا السؤال حاضرا بالفعل في المجموعة المنشورة عام 1965، بعنوان "معرفة الحياة"، حيث لاحظ كانغيلام أنه في ظروف الحياة البشرية، "يتم استبدال المعايير الاجتماعية للاستخدام بالمعايير البيولوجية للتمرين [...]، إن مسأللة المرضي لدى الإنسان لا يمكن أن تظل بيولوجية بحتة، لأن النشاط البشري والعمل والثقافة لها تأثير مباشر في تغيير البيئة المعيشية للإنسان باستمرار. ويأتي التاريخ الخاص بالإنسان ليعدل المشكلات”. تحت الدافع المزدوج لفوكو ومؤرخي الحوليات، قدم كانغيلام فرضية مفادها أن الإنسان قادر على التدخل في بيئته الخاصة من خلال معيارية ليست بيولوجية تماما. وبالتالي، نفس المعايير الفسيولوجية لدى البشر يجب أن تكون مرتبطة بمجموعة من السلوكيات المتعلقة بالمعايير الثقافية. وهذا النظام الثاني من المعايير هو بدوره نتيجة جهد الإنسان لتنظيم بيئته الاجتماعية، لكنه لم يعد من الممكن تصوره كمنظمة تمر دون مشاكل لأن "النظام الاجتماعي هو مجموعة من القواعد التي يهتم بها المستعملون والمستفيدون، والقادة في كل الأحوال": "التنظيم الاجتماعي هو، قبل كل شيء، اختراع للأعضاء"، يؤكد كانغيلام. لنلاحظ أيضا أن الفرق بين الأعضاء، العضويات والتنظيم أصبح أكثر وضوحا في محاضرة "مشكلة الأنظمة في العضوية وفي المجتمع":
"العضوية هي وضع استثنائي تماما من الوجود، حيث أنه بين وجوده ومثله الأعلى، بين وجوده وقاعدته أو معياره، لا يوجد فرق، بالمعنى الدقيق للكلمة. [...] إن خاصية العضوية هي أن تعيش ككل وأن تكون قادرة على العيش ككل فقط. صار ذلك ممكنا من خلال وجود مجموعة من الأجهزة أو الآليات التنظيمية في الجسم، والتي يتمثل تأثيرها على وجه التحديد في الحفاظ على هذه السلامة في استمرار العضوية ككل".
بمعنى آخر، تحافظ العضوية على علاقة "استتباب" بيولوجي مع بيئتها وفق آلية تنظيمية بسيطة: أي تباين في الطلب الخلوي، أو أي تغيير في البيئة، يدمر التوازن بين المدخلات والمخرجات الطاقية للعضوية. يعدل البيئة الداخلية ويحدث أثرا رجعيا يجب أن يعيد التوازن بين البيئة الداخلية والخارجية. لكن، كما يتابع كانغيلام، لا يمكننا أن ننظر إلى المجتمع كعضوية، فالمجتمع، بالمعنى الدقيق للكلمة، منظمة "هي ذات نظام فاعل أكثر منه تنظيم عضوي". ويرجع ذلك على وجه التحديد إلى حقيقة أن المجتمع ليس لديه مثله الأعلى وليس له غاية خاصة به. وبالتالي، فهو يدعو إلى ما يسمى بالتنظيم "الخارجي":
"[...] المجتمع عبارة عن مجموعة من الأحياء، ولكن هذه المجموعة ليست فردا ولا نوعا. إنها ليست فردا لأنها ليست عضوية مزودة بغاائيتها وكليتها التي حصل عليها نظام متخصص من الأجهزة التنظيمية؛ فهو ليس نوعاً لأنه، كما يقول برغسون، مغلق. [...] لذلك، نظرا لكونه ليس فردا ولا نوعا، فإن المجتمع، كونه من نوع غامض، هو آلة مثله مثل الحياة، وبما أنه ليس غاية في حد ذاته، فهو يمثل ببساطة وسيلة، إنه أداة. وبالتالي، فإن المجتمع، باعتباره ليس كائنا حيا، يفترض بل يدعو إلى وضع لوائح؛ فلا يوجد مجتمع بدون أنظمة، ولا يوجد مجتمع بدون قواعد، ولكن لا يوجد تنظيم ذاتي في المجتمع".
على عكس العضوية، بخلو المجتمع من جهاز التنظيم الذاتي الخاص به، وهذا هو بالضبط السبب وراء دعوته إلى "التنظيم الأعلى"، أي العدالة، التي لا يمكن أبدا أن تظهر كجهاز منتج تلقائيا من قبل المجتمع نفسه. "العدالة تأتي من مكان آخر"، كما يقول كانغيلام، معيدا صياغة بيرجسون، والعلامة الموضوعية على عدم وجود عدالة اجتماعية مستنتجة من التنظيم الذاتي الاجتماعي تأتي من حقيقة أن "النظام الطبيعي ربما يكون هو الفوضى والأزمة". يعيش المجتمع في أزمة دائمة، ولهذا السبب يدعو بشكل خاص إلى إنتاج معايير اجتماعية جديدة باستمرار.
إن ما يميز المعيار الاجتماعي عن المعيار البيولوجي ليس التهديد بعقوبة قانونية، بل واقعة أن "السجالية" الخاصة بها تنشأ من قرار معياري حتى عندما تشير إلى استخدام يتعلق بمعايير الحياة الجماعية. إن "ادعاء السلطة" للمعيار الاجتماعي، الذي أكد عليه فوكو، يرجع باختصار إلى تأسيسه من خلال تدخل إيجابي وتكويني مرتبط بـ "مشروع معياري" لا يزال، مع ذلك، جزء من تنظيم بيئته من خلال الإنسان، ولكن فقط إلى الحد الذي لا يمكن فيه اختزال الإنسان الاجتماعي إلى جزء من عضوبة. ومن ثم، فإن إحالة المعايير الإنسانية إلى التوازن، وإلى التكيف، وأخيرا إلى السيطرة على البيئة الخارجية، "يعني ذلك
أنها يتم تحديدها على أنها إمكانيات العضوية في موقف اجتماعي للتصرف وليس كوظائف للعضوية باعتبارها آلية مقترنة بالبيئة المادية. إن شكل الجسم البشري ووظائفه ليست فقط تعبيرا عن ظروف الحياة التي توفرها البيئة، بل هي تعبير عن طرق العيش المعتمدة اجتماعيا في البيئة".
ومن ثم فإن المعيار الاجتماعي هو نتاج إرادة تثمين الحياة البشرية، ولكن من خلاله ينظم الإنسان بيئته بطريقة ثقافية. في الواقع، يعمل المعيار الاجتماعي على المعيار البيولوجي من خلال هيكلة السلوك البشري وتعديل بيئته. ومن وجهة النظر هذه، فإن النظام السياسي ليس سوى طريقة معينة لبناء البيئة البشرية على وجه التحديد، ولكنه أيضا ما يميز التكيف مع هذه البيئة عن آلية الاستتباب. مثال مثير للاهتمام لهذه الفكرة كان موجودا بالفعل في الإصدار الأول لكتاب "الطبيعي والمرضي":
"كل شيء يحدث وكأن المجتمع لديه الوفيات التي تناسبه ، وعدد الوفيات وتوزيعها على مختلف الأعمار يعكس الأهمية التي يوليها المجتمع أو لا يوليها لإطالة العمر. باختصار، إن تقنيات النظافة الجماعية التي تميل إلى إطالة عمر الإنسان أو عادات الإهمال التي تؤدي إلى تقصيرها تعتمد على الثمن المرتبط بالحياة في مجتمع معين، وهو في نهاية المطاف حكم قيمي يتم التعبير عنه بهذا الرقم المجرد الذي هو متويط العمر. إن متوسط العمر ليس هو العمر الطبيعي بيولوجيا، ولكنه إلى حد ما هو العمر المعياري اجتماعيا".
إن التحول الذي أحدثه كانغيلام هنا ضروري لأنه يوضح أنه حتى المؤشر الديموغرافي مثل متوسط العمر في مجتمع معين لا يعتمد على التكيف مع البيئة من قبل "عضوية اجتماعية" غير موجودة، ولكن على تنظيم اجتماعي بأكمله يشمل أشكال الحياة الجماعية وأساليب الحياة والسياسات والتشريعات، إلخ. وهذا لا يمنع مؤشرا مثل متوسط العمر من أن يمثل حالة "طبيعية"، بقدر ما يكون تعبيرا عن المعيار وامتدادا له. وكما يشير ديدييه فاسان، فإن صيغة كانغيلام تقول إن "الكمية المقاسة للحياة، كحقيقة ديموغرافية، والتي يشير إليها متوسط العمر المتوقع، تتضمن وتكشف عن نوعية حياة مقدرة، كإنتاج اجتماعي، أي وفقا للاختيارات التي يتخذها المجتمع في الحفاظ على الحياة”. وإذا عدنا إلى موضوع "السكان" الذي سبق ذكره على أساس هذه الملاحظات، فإننا نؤكد أن الساكنة، حتى في جوانبها "الكمية" البحتة، هي كائن شبه طبيعي وشبه اجتماعي من الناحية المادية. علاوة على ذلك، يتبين أن مفهوم السكان يمثل عنصرا أساسيا في البناء المعياري/المعير كآلية اجتماعية سياسية .
باختصار، سواء فُهمت من وجهة النظر الفردية أو من وجهة نظر "الأشكال الجماعية لتنظيم الحياة "، تصبح التجربة الإنسانية هي المكان الذي يمكن فيه سماع عبارة "معرفة الحياة" بمعناها المزدوج: معرفة تكون فيها الحياة ذاتا وموضوعا في نفس الوقت. وبالتالي فإن المعرفة العلمية والموضوعية للحياة ليست معزولة عن تجربة التيه للحياة الإنسانية: “العلم يفسر التجربة، لكنه لا يلغيها بالضرورة ”. غير أن هذه المعرفة لا تتصالح مع التجربة: فهي بالأحرى تحدد موضع الصراع بين المتطلب المعياري للحقيقة العلمية والتقييمات الأخرى التي يعترف بها الإنسان الحي خلال تجربته باعتبارها "مركزا" لبيئته. هذا الصراع، وهو المكان المناسب للفلسفة، وصفه كانغيلام في مقالته عن “الحي وبيئته” هكذا:
"إن بيئة الإنسان الخاصة هي عالم إدراكه، أي مجال تجربته البراغماتية حيث أفعاله، الموجهة والمنظمه بالقيم المحايثة للميول، تنحت أشياء موصوفة، تضع بعضها إزاء البعض وكل شيء في علاقة به. بحيث تكون البيئة التي من المفترض أن يتفاعل معها تتمحور في الأصل حوله وبواسطته. لكن الإنسان، كعالم، يبني كونا من الظواهر والقوانين التي يعتبرها كونا مطلقا. إن الوظيفة الأساسية للعلم هي التقليل من قيمة الأشياء التي تشكل بيئته الخاصة، من خلال طرح نفسه كنظرية عامة لبيئة حقيقية، أي بيئة غير إنسانية. يتم استبعاد البيانات الحساسة وتحديد كميتها وتحديدها. يتم الشك في غير المحسوس ثم اكتشافه وإثباته. القياسات تحل محل التقييمات، والقوانين تحل محل العادات، والسببية تحل محل التسلسل الهرمي، والموضوعي محل الذاتي".
هذا "الكون المطلق" الذي بناه العلم يتناقض مع تجربة الإنسان الواعية، لكنه في الوقت نفسه يبني هذه التجربة بقدر ما ينظم تقنيا البيئة الإنسانية ويعطي الإنسان "نوعا من الغرور اللاواعي الذي يجعله يفضل بيئته الخاصة على بيئة الكائنات الحية الأخرى، باعتبارها تمتلك المزيد من الواقع وليس مجرد قيمة أخرى". إن مفهوم الحياة هو بطبيعة الحال تعبير عن هذا الاتفاق الصراعي بين التجربة والعلم، لدرجة أن ادعاء العلم بتذويب قيم الحياة “في مجهولية البيئة الميكانيكية، الفيزيائية والكيميائية، [..] "يجب أن يشمل الإنسان الحي نفسه"، وهو ما لا يمنع، علاوة على ذلك، من أن تكون المعرفة وإنتاج المفاهيم جزء من النشاط الذي "يسيطر" به الإنسان الحي على بيئته ويهيكلها.
6- مسألة الذاتية والمعرفة
فيالواقع، تبدو إعادة التركيز على تجربة الحياة كآخرية غامضة منقوشة في قلب إنتاج المفهوم أنها تؤدي إلى تثمين الذاتية التجريبية. لكن، بأي موضوع يتعلق الأمر؟ إنه في العلاقة بين الفرد الحي والعارف (بمعنيي المعرفة: المعرفة العلمية والمعرفة التي يتم اختبارها من خلال المعيش) و"حي الحي"، أي الحياة نفسها، حيث تظهر الذات. إن الذات على وجه التحديد هي الشكل القابل للنقض دائما لهذا اللقاء، لأنها محل صراع بين قيم الحياة والموضوعية العلمية. تنشأ الذات الإنسانية في العلاقة بين المعرفة والحياة، أي في الصراع بين تجربتين تنتميان بنفس الطريقة إلى المعيارية الحيوية والمدرجة في هذا المعنى الثالث للتجربة كنشاط تائه: تجربة دقيقة للذات في المعيش وتجربة الذات كموضوع للمعرفة العلمية. لذلك، إذا كانت التجربة أولية وتكوينية في ما يتعلق بالموضوع، فهي دائما وأيضا تجربة معرفة الذات كموضوع. لأن الذات ليست هي بطل التجربة، فالذات نفسها هي أكثر من تأثير للتجربة التي تضعها في نفس الوقت كموضوع.
لذلك، يوجد بالطبع لدى كانغيلام ما يشبه تجربة ذاتية، لكن هذه التجربة هي أيضا على الفور تجربة اللاتذاوت من خلال اللقاء بين التجربة والمفهوم، من خلال وضع الذات كموضوع، وقبل كل شيء من خلال الخلق المتجدد للمعايير التي تتعارض مع التجربة الذاتية الأولية. يتعلق الأمر بتذاوت متناقض إلى حد ما، لأنه لا يمكن تقديمه إلا كتدمير لذاتية سابقة وبشروط تجاوزها. ولكن يمكننا أيضا أن نقول إنه إذا كانت هذه الذاتية مؤقتة وغير مستقرة، فذلك لأنها أيضًا تعبير عن تجربة خصوصيتها هي الخطأ. وهكذا تأخذ في نفس الوقت اسمي الضرورة والفشل، كمكان لتيهان الكائن الحي: “الذاتية إذن هي عدم الرضا فقط. ولكن ربما هذه هي الحياة نفسها".
علاوة على ذلك، ووفقا الإرث المتعارض مع الكانطية الذي أشرنا إليه أعلاه، فإن علاقة المحايثة بين المفهوم والحياة قادت كانغيلام إلى رفض فكرة الذات المتعالية. هذا بلا شك هو الدرس الأكثر ابتكارا في المقال حول "المفهوم والحياة"، وهو مقال يمثل بوضوح جزء من سلسلة الاكتشافات الجديدة في البيولوجيا الجزيئية والتي أكسبت فرانسوا جاكوب وأندريه لوف وجاك مونو جائزة نوبل في الفيسيولوجيا والطب عام 1965.
وفقا لكانغيلام، قادت هذه الاكتشافات البيولوجيا الجزيئية إلى تصور جديد للحياة باعتبارها بنية إعلامية تعتمد على فكرة أن الوراثة في حد ذاتها هي نقل رسالة. وبالتالي، فإن البيولوجيا هي الاي غيرت لغتها بالانتقال من استعارات هندسية وميكانيكية إلى لغة "نظرية اللغة و[إلى] نظرية الاتصالات". "المعرفة الجديدة بالحياة" لم تعد تشبه التمثيل، صورة الحياة. أصبحت من الآن تشبه "النحو، الدلالة والتركيب". يحدث كل شيء كما لو أن المنعطف اللغوي في الفلسفة - الذي جعل مشكلة اللغة ليست وسيلة بل موضوعا للتفكير - قد انضم أخيرا إلى المعرفة البيولوجية وأحدث ثورة فيها. إذا كان من الممكن الآن أن يصبح المفهوم جزء من الاستمرارية مع الحياة، فذلك لأن الكائنات الحية نفسها حاملة للوغوس، ومعلومة، ورمز. الحياة إذن ليست سوى نقل، تواصل منظم مفاهيميا؛ باختصار، يمكن تعريف الحياة بأنها "معنى منقوش في المادة". ونتيجة لذلك، فإن شبكة المعاني بأكملها التي تشكل بيئة الإنسان الخاصة تعود إلى هذا النشاط المتمثل في خلق المعنى من خلال نقل الرسائل التي هي الحياة:
"عملت الحياة دائما دون كتابة، قبل الكتابة بوقت طويل، ودون أي صلة بالكتابة، ما سعت إليه البشرية من خلال الرسم، النقش، الكتابة والطباعة، وهو نقل الرسائل.
مثل هذا التصور للحياة، كما يقول كانغيلام، يتضمن عودة معينة إلى الأرسطية، إلى فكرة أن إمكانية المعرفة منقوشة في الموضوع أو الشيء، في هذا الحي الذي تكون طبيعته روحا أو لوغوس. بالنسبة لأرسطو، “العالم معقول، والاحياء على وجه الخصوص هي كذلك، لأن المعقول موجود في العالم”، لأن أشكال الاستدلال تتوافق بالضرورة مع منطق الأحياء ذاته. ومع ذلك، بعد الثورة الكوبرنيكية، يبدو هذا الموقف غير مقبول بسبب فرضية كانط المزدوجة التي بموجبها كل مفهوم هو وجهة نظر وشروط التجربة هي شروط إمكانية التجربة لذات متعالية. وبالتالي، فإن نظرية المعرفة الكانطية تنطلق دائما من المعرفة إلى الشيء، أي من الأشكال القبلية للذات المتعالية. لكن ليس من غير المجدي أن نتذكر أن المنطق المتعالي لا يمكنه فهم ظاهرة الحياة باعتبارها تلك التي تسبق المعرفة نفسها وتجعلها ممكنة، ولا يمكنه فهم المعرفة كنتيجة لتنظيم الكائن الحي. استحالة المعرفة القبلية للسببية العاملة في الكائن الحي، والتي تم تأكيدها بشكل خاص في نقد ملكة الحكم، وقعت بذلك الطلاق بين أفق المنطق المتعالي، المقسم على بديهيات العلوم الفيزيائية والرياضية والموسع إلى العلوم الطبيعية و"الأفق الشعري للطبيعة الطابعة". ما يشير إليه كانغيلام هنا هو بالتالي إمكانية معرفة جديدة بالحياة التي لم تعد تمر عبر معرفة شروط إمكانية تجربة ذات ما، إذا جاز التعبير، منقطعة عن العالم وطبيعة معيشته، ولكن بهذا «المركز المرجعي» المطلق، وهو الكائن الحي على وجه التحديد: «ليس بسبب كوني مفكرا، وليس بسبب كوني ذاتا بالمعنى المتعالي للكلمة، بل لكوني يجب أن أبحث في الحياة عن الإحالة إلى الحياة.».
وفقا لوجهة النظر الجديدة هذه، فإن معرفة الحياة ممكنة ليس من خلال بناء الموضوع انطلاقا من الذات المفكرة، ولكن لأن الحياة نفسها منظمة كمفهوم، كـ«معلومة» عن المادة. ومن هنا جاءت الفكرة، المؤرخة قبلا لدى كانغيلام، القائلة بأن البداهات في معرفة الحياة تكون بجانب الموضوع وليس بجانب الذات. إن هذا الخلل الأساسي في نهاية المطاف هو الذي لا يجعل المعرفة تائهة فحسب، بل يجعل الذاتية أيضا مصدرا لعدم الرضا:
"إن تعريف الحياة باعتبارها معنى منقوشا في المادة يعني الاعتراف بوجود ما قبلي موصوعي، ما قبلي مادي بشكل صحيح وليس شكليا فقط. [...] إن تعريف الحياة كمعنى يعني التزام المرء بعمل الاكتشاف. [...] وبالتالي فإن المعرفة هي بحث لا يهدأ عن أكبر كمية وأكبر تنوع من المعلومات. وبالتالي، فإن كونك ذاتا للمعرفة، إذا كان الما قبلي في الأشياء، إذا كان المفهوم في الحياة، لا يعني إلا عدم الرضا عن المعنى الموجود".
رأينا كيف أن المقاربة الجديدة لمفهوم الحياة أعاد صياغة مسألة المعرفة بالكامل، والتي تُفهم الآن على أنها بحث غير منتظم عن معنى للحياة يعتمد على مفهوم شخصي للعيش "يعمل ضد فرضية الذات المتعالية". إن افتراض وجود ما قبلي مادي لا يمكن أن يؤدي إلى التطبيع وتشييئ الحياة لأن هذا التشييء كان يُفهم دائما انطلاقا من تذاوت لامشخص لتجربة تائهة لكائن حي. وبهذا المعنى، فإن هذه التجربة ذاتها هي انفتاح على التاريخ، تاريخ "أخطاء" الحياة، التي يشكل تاريخ حقيقة العلم وجهها الآخر. وكما يوضح فوكو في مقالته، يمكن للتاريخ الإبستيمولوجيي عند كانغيلام أن يطرح نفسه كبديل للفينومينولوجيا، وبالتالي كطريقة فلسفية للبحث فقط بشرط الاعتماد على تصور آخر للحياة والكائن الحي.
ولكن يمكننا أيضًا أن نرى أن هذه الأسئلة – الاستمرارية المتضاربة بين الحياة والمعرفة في التجربة، والذاتية باعتبارها حطًا دائمًا من الذات، والحياة باعتبارها نقشًا للمعنى في المادة – تتوافق في الواقع، أكثر من الرفض المباشر للظواهر، وإعادة صياغة كاملة. من حالاته. إن مصطلحات الثنائية الواردة في عنوان المقالة الأخيرة التي وقعها فوكو، "الخبرة والعلم"، تشير في الواقع إلى أكثر من تعارض، وصراع وقطبية تنتمي إلى الحياة نفسها. وبهذا المعنى، فإن تعريف الحياة البشرية الذي قدمه كانغيلام كان بالضرورة استجابة لتساؤل أوسع لم يكن بوسع البيولوجيا في الستينيات، بكل ثوراتها، أن تتجاهله. لقد كان هذا بالضبط هو السؤال الأنثروبولوجي، الذي يطرحه كائن حي، باعتباره موضوعًا للمعرفة، وهو في نفس الوقت موضوع تجربة الحيوية المعيارية التي تهزم دائمًا المعرفة الموضوعية. في الإجابة التي قدمها كانغيلام، تم حل مسألة وضع العلوم البيولوجية فيما يتعلق بأساس المعرفة الأنثروبولوجية بالإيجاب: "[...] نعتقد أن البيولوجيا البشرية والطب هما عنصران ضروريان في "الأنثروبولوجيا". وفي الوقت نفسه، وكما رأينا، فإن وجود التساؤل الفلسفي الذي هو مواجهة دائمة بين "اللغات الخاصة" للعلوم والقيم الأخرى الناتجة عن تجربة الحياة الإنسانية ككل يظهر بدقة شديدة أنه "لا يمكن لأي علم أن يحل على أرضه الخاصة مسألة ذات طبيعة غير علمية حول إمكانية استخدامه كنشاط للروح الإنسانية". إن تصور الفلسفة، باعتبارها مكانا تتجادل فيه قيم العلم مع القيم الإنسانية الأخرى، كان أيضا موقفا في الخلاف حول مكانة العلوم الإنسانية وعلاقتها بالفلسفة. سيكون هذا المفهوم الجديد للفلسفة موضوعًا لمزيد من التطوير في الفصل التالي.
المصدر: https://books.openedition.org/psorbonne/104052?lang=fr