يمكننا القول إن جميع الناس يَدْرَءُونَ عن التَّعَاسَةِ، وضد ذلك فهم يطمحون ويهدفون ويبحثون عن السعادة، مثلما يجمع كل الفلاسفة على أن الإنسان يوجد وهو يتجنب التعاسة ويطمح للخير الأسمى Le bien suprême، لكن ما إن يحاول أي شخص كيفما كان نوعه تحديد ما التعاسة حتى تتعدد تمثلاته وتكثر آراؤه، فكل منا ينظر إلى تعاسته من منظوره الخاص، فهناك من الفلاسفة من حصر التعاسة في الجهل والبخل والخوف والظلم، وهناك من رأى أن التعاسة مصدرها أنها تجثم في النفس جثوم العادة.
ذلك أن تحقيق اللذة هي بداية التعاسة. وهي الشر الأول الموافق لطبيعة الإنسان، أي الشر الذي يجب على كل الناس الدَّرْءُ عنه، لكن ما نلاحظه هو سعي الناس وراء إشباع وتلبية الحاجات الغريزية واللذات التي لا تنتهي، وبدون تأمل وتفكير حثيث يفضل الإنسان تحقيق اللذة التي يعتبر أنها تجلب له أفضل نفع، بينما هي عكس ذلك فاللذة شر لا ينتهي، كما أنها محاكاة وتقليد الآخر في كل شيء هو من بين العلل الممهدة للوقوع في مطب التعاسة، خاصة عندما نتبع ونقلد آراء الآخرين-الأغيار الرائجة، ونتركهم يفكرون بدل أن نفكر نحن بأنفسنا لأنفسنا.
إن سلك دروب الآخرين، وترك الآخرين يفكرون بدلي لمسلك خطير يؤدي إلى تعاسة الفرد، كما أن إيمان الفرد بالوصفات الجاهزة والآراء والمنظورات والتمثلات والمعتقدات والقيم الرائجة وتبعية الغَوْغَاءُ والدَّهْمَاءُ لا يمكن أن نجني وراءه سوى تعاسة التعاسة.
يحيل مصطلح التعاسة في اللغة الإغريقية Δυστυχία إلى نشاط عقلي يصيب الإنسان يلمس الجسم بجميع تفصيلاته حتى ملامح الوجه والفكر بكل تجلياته وأبعاده، أكثر مما يشير إلى غضب وتوتر عارم لدى الفرد، وترتبط التعاسة بحالة-شعور عدم الرضا الدائم والكامل.نجد في واقعنا عديد التمثلات والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة عن التعاسة، وهذه مسألة جد طبيعية، لأن كل واحد منا وكيف ينظر إلى تعاسته أو مصدر تعاسته، ويعود أصل هذا الاختلاف والتباين إلى طبيعة التعاسة ذاتها لكونها معقدة ومركبة، ولا يمكننا أن نفند تصورات عوام الناس عن التعاسة، لأنها تمثلات صحيحة فعلاً، لأن كل فرد ينظر إلى التعاسة من منظوره الخاص به، لكن نتفق جميعاً على أن التعاسة كيفما كانت تشكل شراً لا يحمد عقباه، كما أنها متأصلة في الذات الإنسانية.
وبالتالي يحق لنا وفق ما قيل سابقاً، ربط التعاسة بالشر المنبوذ والمتجذر في الذات البشرية، وأن التعاسة تشكل حدّاً في ذاتها، وتحتاج تأملا عقليا محكما لتحديد جوهرها، فهي على صلة وثيقة بالحياة السيئة، أو العيش التعيس، وتحقيق اللذات، بل حتى طموح المرء في تحقيق ثروة، نصرح منذ الآن أن تحقيق ثروة مالية تعاسة حقيقية، لأنه حتى ولو امتلكت مال الدنيا لن تزداد إلا شقاءاً وتعاسة، كما نجد العديد من الأفراد يفعلون أكثر ما بوسعهم لنيل رضى الآخرين وحب الناس أو ما يعتبرونه مجداً وشرفاً، نقول أن هذا لا معنى أو لا علاقة له بالمجد والشرف، بل مجرد وهم وتوهم وهذيان وبهتان ويزيد من هرمون التعاسة، هكذا نعلن كما أعلن ماركس، أن التعاسة آفيون الشعوب.
فالتعاسة شر غير مطلوب لكونه شراً، أي لذاته، لكن لا يمكن لأي فرد أن ينفلت من قبضة التعاسة التي ينال أي فرد نصيبه وقسمته منها. إن التعاسة فعل إلزامي-قهري-إجباري مفروض على الأفراد بالقوة لا بالفعل، إنها فعل قبيح-شرير ورديء ورذيل، وكل هذه الأفعال الشريرة هي لا لأجل ذواتها بل هي شرور لأجل التعاسة، وتخدم مصلحتها، "والأفعال التي تعوق السعادة هي الشرور، وهي الأفعال القبيحة. والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل والخسائس." [1].
نعود عودا أبديا إلى فكرة أن التعاسة مصدرها نقص المعرفة أو الجهل، والخوف، والرياء والتَّهَتُّك، والتَّبَذُّل، والمُجُون، والخَلَاعَة , والإِبَاحيَّة , والإِثْمٌ , والإِنْحِلاَلٌ , والتَبَذُّلٌ , والخَلاَعَة , والدَعَارَةٌ , والرِجْسٌ , والصَفاقَةٌ , والفُجُور , والفُحْش , والفِسْقٌ , والمُجُونٌ , والنَجاسَةٌ، والظلم ...إلى آخره.
ويمكن أن نجمع أن كل هذه الرذائل كافية لتحصيل التعاسة، ولا يحتاج معها إلى أي شيء آخر.
ومن رذائل التعاسة التي تجعل المرء سقيما، أن يكون ناقص الأعضاء ومبتليا بجميع أمراض البدن وتكون نفسه ملحقة مضرة في جميع أفعالها، كما أن فساد العقل ورداءة الذهن دليل على تعاسة الفرد.
ما يدل أن كل من الفقر والكسل والخمول وضعف وضعية الفرد وسائر أفعال البخت دليل على قداحة الفرد.
التعاسة شيء ثابت متأصل في الذات الإنسانية غير زائل، فهي لصيقة ومغروسة في الذوات، وهي أحط الأمور وأكرهها وأنزلها، وتتحصل بالتسرع في التفكير وعدم التعقل.
يرى الغني أن التعاسة العظمى في الفقر والمرض، ويرى الفقير التعاسة العظمى في الغنى الزائد الفاحش والمرض، والأصح يرى التعاسة العظمى في المرض، والكريم يرى التعاسة في البخل والزهد المالي، والمحتشم يرى التعاسة في الدِّلَةِ والذَّلاَلَةِ والفاضل يرى التعاسة في الفُسْقِ، ونحن نرى أن مصدر التعاسة الأولى الجهل وقَسْرُ وقُصُورُ استخدام العقل.
لهذا أجمع كل الفلاسفة على اعتبار التعاسة مرتبطة برذائل قوى النفس، وأهوائها واحتياجات البدن.
كما أن التعاسة على صلة وطيدة بضعف النفس المتمثل في الجهل والخوف والظلم والبخل، وعلى صلة كذلك بأوهان البدن المتمثلة في اللذة وتحصيل المتع والرغبات والنزعات والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات الجنسية الخطيرة.
ومن هنا نؤكد على تصورنا الذي يختصر التعاسة في اللذة التي تلحق النفس ويسعى الجسد تحقيقها.
فاللذة هي بداية الحياة التعيسة وغايتها، وهي أي اللذة أول شر يتوافق والطبيعة الإنسانية ويجب ما أمكن التخلص منه، لا هي ولا الإحساس الذي يشكل معيارا للشر الحاصل لنا، ولما كانت اللذة هي الشر الرئيسي والطبيعي لتعاستنا، فكل لذة هي في ذاتها شر، لأنها تؤدي إلى التقشف في حياتنا، كما أن التعود على العيش التعيس الغير القنوع والمفبرك والمصطنع لا يضمن لنا إلا المرض المديد، وكل لذة متعلقة بالمتعة الجسدية لذة قاتلة لصاحبها.
قد يعترض قائل بأن حقيقة اللذة متمثلة في خلو الجسم من كل ألم، نرد عليه بأن اللذة تزيد وتملئ الجسم والنفس بالألم، وأن التعاسة تشكل سجنا قاصي للوجود البشري.
وفي اعتقادنا أن تعاسة الأفراد تتمثل أكثر حينما نحاول أن نوازن ونعدل بين اللذة والشعور بالارتياح ونعتبر من ذلك تحقيقا للفضيلة، بل تحقق وتحصيل للرذيلة خاصة عندما يتوهم مسألة الاكتفاء الذاتي والحر.
ومن طبيعة الإنسان التعيس تضعيف نفسه وإطعامها بأكل وأشربة أَنِفَةٌ ومُقَزِّزَةٌ متناولة بفساد، وأيضا بلباس وموسيقى وبله وحماقة ومشاهد وأشياء كثيرة يمكن لكل إنسان أن يستعملها لكن يلحق من خلالها الضرر بالآخرين، يحتاج جسم التعيس باستمرار إلى كلأْ جديد ومتنوع، كي يكون جسمه قادراً على فعل الشر.
إن أكبر خطر يحف بالتعاسة هو خطر اتباع طريق عامة الناس، واللهث ورائهم بسرعة كبيرة، فإن السرعة تزيد من بلوغ التعاسة.
وطريقها أي التعاسة مُعْوَجٌ ومُلتَوٍ تبعدنا كل يوم عن الخلوص إلى الخير، وتبعدنا عن غاية الحكمة.
يستمع التعيس للأصوات الملتبسة والصراخ المضطرب الذي يدعونا إلى الطريق المختلف والتائه، إن سبيل التعاسة سبيل أكثر تضليلا بالنسبة للأفراد.
وسلك هذا الطريق هو دليل على سلكنا سلوك البهائم والنعائر والقطيع، أي عوام الناس، للسير، لا إلى هدف نبتغيه نحن، بل للأسف الشديد، يبتغيه لنا الآخرون. ولهذا نرمى ويلقى بنا في محراب ومتاهة حيرة من الطريقة التي من خلالها نبني أنفسنا، فنتبع الآراء، وننظر إلى الآخر بوصفه الرسول المنقذ ونتبع أكبر عدد من الناس، والتعاسة الحقيقية هي تقليد ومحاكاة الناس، والتخلص أو تعطيل واغتيال العقل.
ومن هنا يتدافع الناس بعضهم البعض، عندما ترتد الغوغاء على نفسها، فيجرف التعيس انجراف التربة ويذهب بنفسه إلى الهلاك، حينما يجعل من نفسه بهيمة يسمع ويطيع.
لا يمكن للمرء أن يتيه وحيداً، إننا نتيه مع جماعة من الغوغاء، نتيه مع الأغيار، وأفضل علاج ودواء للعلاج من التعاسة هو الاستقلال عن العامة والعزلة، نحن في حاجة ماسة لمائة عام من العزلة كما عبر عنها غابرييل غارثيا ماركيث.
ما يدفع العديد من الأفراد إلى تفضيل الحرب والموت والعنف والانتحار على العيش هو الرغبة التعيسة التي تسكن في الأفراد سكون العادة، خاصة تلك الرغبة الممزوجة بوجهات النظر المختلفة للأفراد، فلا يهدأ بال الأفراد ولا تقوم إرادتهم بأي تحرك إلا نحو التعاسة، ويشكل الدرء نحو التعاسة سبب حركة كل الناس، بما فيهم أولئك الذين يقبلون على الموت والانتحار لأنهم يرغبون في الكف عن الشعور بالتعاسة.
ويمكن حصر كل مظاهر الحياة التعيسة في الرذيلة لا غير، وكانت الرذيلة كما قلنا سابقاً هي الشر الأصلي، وكل ما عداها فليس لا خيرا بل شر وفقط، إن الأشياء بعضها موافق للطبيعة وكلها مناقض لها، حينما نتأمل الطبيعة لا نلمح إلا التناقضات.
حينما نتأمل مبدأ اللذة الذي توصلنا إلى أنه مبدأ شر، وهو مبدأ يحدد هدف الحياة النفسية ذاتها، وأن التعاسة تظل تهدد الإنسان في كل وقت، وفي كل لحظة، ولعل أخطرها هي تلك التي تكون نتيجة عن تبعية الآخرين.
فنشدان متع وملذات عارمة يؤدي بالضرورة إلى السقوط في الآلام وحدوث الحرمان، ويتجلى للعيان أن مبدأ اللذة، دون غيره، هو الذي يسقطنا في براثين الموت التعيس للأفراد، وتسيطر اللذة على جهازنا النفسي، فيَخْصُمُهُ ويَحُدُّهُ.
وما يسمى بالتعاسة، بحصر معنى الكلمة، إنما ينجم عن تلبية مباغتة بالأحرى للحاجات التي أدركت توتراً عالياً، ويتم ذلك في شكل ظاهرة عارضة.
وحينما يرغب الإنسان بدافع مبدأ اللذة لا ينجم عنها سوى الهناء الفاتر، وهكذا فاللذة وجميع المتع تقوم على التضاد والتنافر؛ وعليه فإن طاقتنا على التعاسة ممتدة أساساً بذواتنا وجِبلَّتنا.
والتعاسة تعاسة الجسد والذات اللذان يصدران عنهما الألم والهم، ثم من جهة أخرى العالم الخارجي الذي يسلط قوى عتية لا نستطيع قهرها تمارس على الذات، كما لا ننسى أن المجتمع لا ينظر إلينا بعين الرحمة والرأفة، بل يسعى إلى اغتيالنا، وأن علاقاتنا بالأغيار هي أيضاً علاقات لا تخلو من الألم، والتي لها سلطة علينا.
تلعب آراؤنا، وأفعالنا، ورغباتنا، وميولاتنا، ومعتقداتنا الدينية منها والغير دينية، دورا مهما في شقائنا وتعاستنا، بل حتى ما نمتلكه من ممتلكات يجعلنا نفكر فيها كثيراً، وبالتالي حدوث التعاسة، وكل مظاهر التشريف والتكريم، والسمعة الطيبة تتحول إلى شقاء مديد.
وحتى نظرتنا إلى أشياء الآخرين بغض النظر عن قصد النظرة، فهي في عمقها نظرة قد تصيب صاحبها بالكثير من العناء، والاضطراب، والتوتر، لأن الأفراد وبكل بساطة لا يقتنعون بممتلكاتهم، ويظلون يقارنون بينها وبين ممتلكات الآخرين، وهنا مكمن التعاسة.
إن نظرتنا عن الموت والألم والمرض والحب والسعادة كلها نظرات مغلوطة، أي مقلوبة، لا تعكس البتة الحقيقة، وكل تلك النظرات التي هي آراء جاهلة بالضرورة، ينصح بالتخلص من كل الآراء المسبقة والأحكام الجاهزة، والتوقف عن التَّرَغُبِ في الأشياء، لأن ذلك يجعلنا تعساء دوماً.
وتجذر الإشارة أنه "عندما نملك المال، فنحن تملك التعاسة والشقاء الدائمين."، فالمال يحقق المتعة واللذات التي قلنا عنها أنها مصدر التعاسة، ويضيق قلبنا في نفس الوقت، ونصبح بخلاء أكثر، رغم كون المال يشتري لنا عديد المقتنيات إلا أن قلبنا يظل متسخاً وشريراً، بل نستطيع من خلاله الحصول على خدم أيضاً، وربما حتى العبيد، لكن نظل بدون أصدقاء أوفياء، وقد نشتري بواسطته أراضي وشقق فاخرة وسكن من الطراز الرفيع، بل قد نشتري قصورا في كل بقاع العالم، لكن رغم كل هذا نظل نفتقد إلى الطمأنينة والهدوء والسكون، ونشتري بالمال جميع ما لذ وطاب من الأطعمة والأشربة ورغم ذلك نفقد القدرة على الذوق بالمعنى الكانطي والهيومي (نسبة إلى دافيد هيوم)، ونشتري به أيضاً جميع الأدوية أو قد نشتري مستشفى وصيدلية بأطقمهما، لكن نفتقد الصحة والعافية والشفاء الحقيقيين، بل نشتري حتى المدارس والجامعات والديبلومات، لكن عقولنا فارغة بدون كفايات ومهارات وتفكير نقدي، وقد نشتري أيضاً الحراس ورجال الأمن الخاص والعام، لكن نفتقد الأمن والسلم والسلام والأمان، كما قد نشتري تنازل الناس عن حقوقهم ونشتري الحق والقانون والعدالة والسياسة لصالحنا، لكن نظل مع كل هذا مفتقدين للتسامح والصدق والعدل والإنصاف والمساواة الحقيقيين، ...إلى آخره، باختصار، بالمال نشتري كل شيء ولا نملك أي شيء!!
في الختام نقول أن رهان التعاسة يدفع الذات إلى البحث فيما يجب عليه أن تقوم به نحو نفسها وغيرها، متسائلة: كيف نجعل من التعاسة رذيلة أخلاقية توجه العلاقات الإنسانية، بدل اعتبارها رغبة ذاتية تسجن الفرد في أنانيته المفرطة، وهل يمكننا أن نتخلص من التعاسة بدون تضحيات تدمر الذات، وتفقدها إقبالها على الحياة والاستمتاع بها؟ إن رهان التعاسة رهان يوازن بين طموحات الذات وعائق الغير، هل يمكن أن تكون علاقتنا بالغير علاقة مؤانسة تقود إلى تحقيق الحب والصداقة، بدل العنف والصراع؟ إن التعاسة تعبير لنوع من اليأس بلغه الإنسان وشقاء لا محيد له أصابه، وكأن الإنسان لم يبدع إلا أدوات تقوية تعاسته.
ومع ذلك فالإنسان لم يبدع فقط أسباب الشقاء، وإنما أبدع أيضاً إمكانات أخرى لتحقيق قسط من الهناء، يجب أن نحفر سرداب الشقاء جيداً ونغوص في الأعماق حتى تنكشف وتتجلى لنا هاته الأسباب.
مصدر القولة أعلاه:
[1]- أبو نصر الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، الفصل الثالث والعشرون، دار المشرق، بيروت، 2002، ص. 106.