جدل الأخلاق–العقلاني في فلسفة الحداثة وما بعدها ـــ محمود حيدر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسحين مضى إيمانويل كانط ليسأل "ماهي الأنوار؟"، كان على يقين من أنَّ مهمته تتعدَّى مقام التعريف، فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنَّما توخَّى قراءة سيرورة التجربة، كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها.‏
جاء السؤال الكانطي ليفتح على ممارسة فلسفية لا تُبقي الأنوار بمنأى من فضاء النقد، جاء بالسؤال لينقد الخلاء الأخلاقي الذي تسبَّبت به العقلانية الصارمة. لذلك سيرى إلى الأنوار بما هي خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول فيها عن وجوده. والقصور –على رأيه- هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين. أمَّا الإنسان القاصر فهو المسؤول عن قصوره لأنَّ العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنَّما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين". ثم أطلق كانط أطروحته الشهيرة كمحاولة لاجتياز التشيؤ الذي يأخذ بناصية الأنوار:"لتكن لك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك"، وكان ذلك بحق هو شعار عصر التنوير.‏
لم يتوقَّف كانط عند هذا الحد، فوجد أنَّ كمال الأنوار لابد لـه من عقلانية مشروطة بالطاعة. كان يقول "فكِّروا قَدْرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، ولكن عليكم أن تطيعوا". وسيؤخذ عليه في ما بعد، بأنَّه زاوَجَ بين حرية الفكر وطاعة الحاكم. –وهنا ليس بالضرورة كما يتبيَّن من تأويلية كانط للطاعة أن يكون الحاكم شخصاً بعينه؛ فسيتبيَّن لنا في ما بعد أنَّه يقصد القانون أو المؤسسة بوصفهما الناظم العام لحركة الأفراد وسلوكهم في الاجتماع أكثر مما يرمي إلى شخصنة المطاع –لكن هذا الإشكال المكسو بالغموض. هو الذي شاع يومئذٍ، حيث ستضاعفه الظروف التي حكمت ظهور الأطروحة الكانطية، لجهة أنَّ صياغتها تمَّت في بلاط الملك فريدريك ملك بروسيا. ومع أنَّ لكانط حجَّته في قولـه إنَّ تحديد الحرية لا يناقض التنوير إذا أُحسِنَ استعماله، فإنَّ غاية "ناقد العقل المحض"، من وراء أطروحته، كانت حفظ الأنوار العقلية بالأخلاق العملية. وهو ما يسوِّغه في مقالته لناحية "أنَّ الاستخدام العام لعقلنا لابد أن يكون حرَّاً في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر، في حين أنَّ الاستخدام الخاص لعقلنا لابد أن يخضع لتحديد صارم جداً. دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في "طريق التنوير"(1).‏
مع ذلك، ظلَّ التأويل الكانطي لحقيقة الأنوار مثار جدال على امتداد قرنين متَّصلين فإلى يومنا هذا. لكن التطورات الفلسفية التي أعقبت ثورة كانط ستمتلئ بإشكاليات لا نهاية لها في ثنائية العقل/الأخلاق. وسيأتي زمن لاحق في الغرب تسود فيه قاعدة "كل ماهو عقلي فهو واقعي". ومع هيغل ستبدأ رحلة جديدة تزوِّج الأنوار بالحداثة بوصف الأنوار روح هذه الحداثة. وكما سيظهر تالياً فإنَّ الغالب في الحداثة الغربية المتأخرة أنَّها رأت إلى العقل وتعاملت معه، بما هو أداة صارمة، وحيدة لصناعة أزمنتها، أو مايمكن وسْمَهُ بنطاقها الجيو –معرفي والحضاري.‏
هل يجوز القول إنَّ انقلاباً على الكانطية تمَّ باسم العقلانية الخالصة، على يد الذين جاؤوا بعده كهيغل وماركس وفرويد ونيتشه على وجه الخصوص، ثم أولئك الذين ورثوا هؤلاء أمثال لوكاش، ودور كهايمر، فضلاً عن هيوم، وهوسرل، وهايدغر، وباشلار، وليفي شتراوس، وفوكو؟...‏
سوف يبدو الجواب مُستصعباً لأنَّ المذكورين كانوا على تفاوت مقيم فيما بينهم في كثير من النزوعات والاجتهادات والأفكار والنظريات.غير أنَّ مشتركاً ظلَّ يصلُهم وهو أنَّهم أعادوا تقديس العقل المجرَّد وأجروا ضرباً من الفصل عن الأخلاق فضلاً عن الدين، سيكون لـه آثاراً حاسمة على التاريخ اللاحق للعقل الحداثي الغربي.‏
على أنَّ كانط الذي نقل الاهتمام الفلسفي من حدود الأنطولوجيا التقليدية إلى حدود البحث عن معايير المعرفة ومعايير العمل، أي إلى نطاق التجربة الإنسانية المباشرة، إنَّما كان بذلك ينزِلُ الفكر من حدود المنطق المجرَّد، إلى حدود منطق الأحداث وصلتها بعقل الإنسان من جهة، وبعمله من جهة أخرى، فمنذ أن أطلق شعاره الثلاثي: ماذا يمكنني أن أعلم، ماذا يمكنني أن أعتقد، ماذا يمكنني أن أفعل؟... كان يقلب أساس التقليد الفلسفي كلَّه. إذ ينتقل التفلسف من مهمة ادِّعاء الكشف عن الحقيقة، والحقيقة المطلقة، إلى مهمة التساؤل الأساسي عن معيار كل حقيقة، والحقيقة المطلقة ذاتها، وعن معيار العمل (الأخلاق والسياسة)، الذي يرتكز هو بدوره على حدود المعرفة. غير أنَّ كانط الذي وعى مهمته في البحث عن الشكل منذ الأصل، كان في الوقت ذاته يتمنَّى أن يقدِّم المضمون كذلك. فمن حيث إنَّ الهدف التقليدي للفلسفة هو "اكتشاف الحقيقة"، وكأنَّ لها وجوداً مستقلاً عن العقل والإنسان، أراد كانط أن يكشف عن "الشكل"، الذي به يمكن أن تتم المعرفة، وعن قوانين هذا الشكل. وهو في هذا كان يهدم ادِّعاءً عزيزاً على الفلاسفة منذ قديم الزمان، بإمكان بلوغ حقيقة مفصولة عن الفعل، ويبني بديلاً عنه فيما سوف يسمى مستقبلاً "نظرية المعرفة". لقد حاول كانط جادّاً أن يقيم سلطة المعيار، الشكل، مقابل سلطة المطلق، المضمون، وبذلك فتح الطريق واسعاً أمام العلم، من جهة لبناء مضامين جزئية، وحقائق نسبية، وأمام الفلسفة الجديدة من جهة أخرى لتتنازل عن حق امتلاك المطلق، والتراجع نحو أصول المشكلات المعرفية والسلوكية، دون تورُّط بمضامينها الخاصة. لذا كان جهد كانط ينصب بالدرجة الأولى على عملية تحرير أولى للفلسفة من طغيان اللاهوت الديني من ناحية، وطغيان المطلق الفلسفي من ناحية أخرى، وإن كان يصعب التمييز بينهما عندما نواجه الفلسفات الوثوقية السابقة على كانط، لقد كانت إذن بداية رحلة الموقف النقدي هي في هذا التحرير الذي بدونه ماكان لطريق النقد أن يشرِّع أبوابه أمام الحضارة الغربية لتحقيق مرحلتها الانطلاقية نحو العلم والتجربة.(2).‏
فكرة "الواجب" كأخلاق عليا‏
لم تكن رؤية كانط للأنوار خارج الدائرة الكبرى لرؤيته الوجودية، لهذا جاء "نقد العقل المحض" ليضيء على قضية من أعقد القضايا التي ستكون مدار السجال الفلسفي في غرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي على ما نعرف، كانت الفكرة المحورية في أطروحاته لا على الصعيد النظري فحسب، بل على الصعيد العملي أيضاً، فقد تميَّزت حياة كانط بالتقيُّد الصارم بالواجب، ويمكن تلخيص نظرته الخُلُقية بأنَّها دعوة إلى تأدية الواجب كغاية في ذاته، أي لا لشيء سوى كونه واجباً. والناس –عنده- يعرفون الواجب بفطرتهم، وهو يدلُّهم على ما ينبغي فعله في هذا الظرف أو ذاك. وقد عبَّر كانط عن هذا الواجب غير المشروط بقوله: "إنَّ على المرء أن يفعل للآخرين مايريد أن يفعلوه له، أي أن يؤدِّي الفعل الذي يتمنَّى أن يصير مبدأ عاماً(.....)، وهكذا فإنَّ الدافع الأعلى للعمل الخُلُقي عند كانط هو الواجب من أجل الواجب، أي كغاية في ذاته، وليس الواجب الذي يسفر عن مكافأة أو ثناء أو إطراء، وإلاَّ انحطَّت الأخلاق عن رتبتها.(3).‏
بدءاً من هذه القاعدة الأخلاقية الفلسفية سوف تمضي فكرة الواجب من أجل الواجب إلى مداها الأقصى. لم يكتفِ كانط بما تؤدِّيه الفكرة من أفاعيل أخلاقية عامة، فقد سعى إلى عقد رباط وثيق مع الدِّين بوصفه الفضاء الجامع للعقلي والخُلُقي في آن. ثم راح يسأل عن التبرير الأعلى للواجب. أي هل يجوز أن يضحِّي المرء بكل شيء من أجل الواجب ولا يحصد، بالضرورة سوى الخيبة؟... ويجيب أنَّه لابد من أن يكون ثمة تبريراً أخيراً لهذه التضحيات، هو ما يغدق على الحياة معنى. ويجد كانط هذا التبرير في السعادة. لكن هذه السعادة هي من النوع الذي لا يتحقَّق تماماً إلاَّ في حياة ثانية. عند هذه النقطة بالذات يجد كانط طريقاً من الواجب إلى الله، ومن الأخلاق إلى الدِّين. فالسعادة كمكافأة على الواجب غير ممكنة بعيداً عن كائن خُلقي أعلى يضمنها، هكذا يفترض الإيمان بالخير الأعلى، أي بالفضيلة والسعادة، إيماناً بوجود الله(....).‏
هكذا رأينا مع كانط أنَّ معادلة "الدِّين هو الخلاق"، تفترض وجود الله، وهي تعني أنَّ المحتوى الوحيد للدين هو السلوك الفاضل القائم على فعل الواجب كغاية في ذاته وإطاعة صوت الضمير كما لو كان صوت الله. لكن سيأتي بعد كانط من يتقدَّم بنظرة أخرى تجعل من الدِّين أخلاقاً من غير أن ترى ضرورة لوجود الله. من أبرز دُعاة هذه النظرة المفكِّر والفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ الذي عاش في القرن التاسع عشر وأحدث أثراً كبيراً حتى وقتنا هذا.(4).‏
وحتى لا نمضي في المنحنى الذي رأى فويرباخ نقيضاً لـ"كانط" في رؤياه للدين والأخلاق لابد من ملاحظة: إنَّ رؤية فويرباخ للدِّين، ولصلة الدِّين بالأخلاق، وأيهما أسبق على الآخر، قد مرَّت بأحقاب متفاوتة، وهذه الأحقاب هي بمثابة مراتب يمكن رصدها في أربعة تطورات تعكس أربعة مفاهيم في فهمه لماهية الدِّين.‏
الأول تمثَّل في "جوهر المسيحية" حيث قدَّم تصوراً للدِّين في نطاق الديانة المسيحية، أتبعه بـ"جوهر الإيمان عند مارتن لوثر"، الذي يُعَدُّ مرحلة انتقالية بين "جوهر المسيحية" وكتابه "جوهر الدِّين" و"محاضرات في جوهر الدِّين" اللذين يمثِّلان المرحلة الثالثة في تفكيره. بينما المرحلة الرابعة والأخيرة في كتابه Théogony الذي كثيراً ما يغفل عنه الشرّاح عند الحديث عن "الدِّين عند فويرباخ".‏
ما يهمُّنا المرحلة الأخيرة في تفكير فويرباخ الديني، حيث يُظهر فيها بإيضاح أكثر، الارتباط بين الدِّين والأخلاق. وقد ظهرت هذه المرحلة عندما تطورت الفنون المتحضِّرة وضعفت ضغوط قوى الطبيعة على الإنسان، وفي هذه المرحلة وانطلاقاً من الأسس النفسية للدِّين –كما ظهرت في المراحل السابقة- فقد طوَّر فويرباخ افتراضاً شَعَرَ أنَّه أكثر ملاءمة لتفسير الأوجه المتعدِّدة للتطور الدِّيني. ففي كتابه: التيوجونيا، حسب المصادر العبرية الكلاسيكية والمسيحية القديمة، الصادر عام 1857م، أشار على سبيل المثال إلى إدراك الإنسان لمُثُلِهِ العُليا وإدراكه، لاعتماده على كائنات أخرى، يمكن أن يكونا معاً نوعاً من الحث على السعادة.‏
وطبقاً لهذا الرأي فقد ادَّعى الإنسان أنَّ رغباته يمكن الحصول عليها. ولكي يجعل هذا الافتراض صحيحاً، نَظَرَ البشرُ إلى آلهتهم على أنَّهم المكمِّلون والضّامنون للرغبات البشرية. فنشأة الآلهة لا تكمن فيما يرى فويرباخ في اعتماد سلبي على الطبيعة والبشر، ولكن تكمن في حافز إيجابي يقوم على افتراض أنَّ الرغبات والأماني البشرية تتفق وطبيعة العالم. وثمة من قارئيه من رأى أنَّ فويرباخ نشر كتابه: التيوجونيا من أجل إيجاد توافق بين "إنسانية" "جوهر المسيحية" و"طبيعية" "جوهر الدِّين". حاول فويرباخ أن يعثر في مفهوم الله على العناصر الإنسانية والطبيعية. فالإنسان بهذا المعنى حين يصطدم بالقدرة الكلية للطبيعة، يُسْقط على الآلهة رغبته في الانتصار عليها "أي على الطبيعة". ورغم ذلك فإنَّ فويرباخ كما يعتقد /ريردان/ B.M.Reardon قادر على أن يهب الإيمان لعصرٍ خَلا من الإيمان. ولهذا يضع فلسفته في تيار "الفكر الدِّيني في القرن التاسع عشر" في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه.‏
ففويرباخ ليس مستهزئاً بالدِّين، ذلك لأنَّ الجانب الدِّيني للحياة ليس عبثاً، وإنَّما هو المفهوم الأساس لإدراك الإنسان لذاته. ذلك لأن موضوع الدِّين الرئيسي هو الإنسان كما يتضح من تحليل الخبرات الدينية التي تتعدَّى صور اللاّهوت غير المتناسقة. "فالله انعكاس للإنسان على ذاته.(5).‏
والآن لنعد إلى كانط لنسأل، عمَّا إذا كان الفيلسوف الألماني لاهوتياً كسواه من فلاسفة اللاّهوت المسيحي؟...‏
ثمة من الدارسين من لا يفضل خلع هذه الصفة على (كانط). ذلك لأنَّ الأخير رفض المناقشات التقليدية أو الميتافيزيقية على وجود الله في كتابه "نقد العقل المحض" لكنَّه سيبيِّن في كتابه "نقد العقل العملي" إنَّ افتراض وجود الله ضروري للحياة المنطقية". ومن جهتنا نزعم أنَّ هذا الافتراض ليس برهاناً كانطياً. بمعنى كونه نتيجة مناقشة نظرية، إنَّه افتراض عملي. فالأخلاق تستدعي الإيمان بالله في التحليل الأخير، وذلك للمزاوجة بين الفضيلة (الواجب) والسعادة. وهذا ما سمِّي بـ"البرهان الخلقي" على وجود الله. وهو افتراض لا تستقيم الأخلاق الكانطية إلاَّ به.(7). وعلى أي حال فإنَّ نظرة (كانط) إلى الدين على أنَّه أخلاق، لا تعني إنكار وجود الله وإحلال بديل، كالإنسانية، محلَّه وإعلان الأخلاق ديناً. ومع أنَّه (كانط) لم يمارس (حسب الدارسين) الطقوس الدينية ولا الصلوات ولا نما صوفياً، إلاَّ أنَّه نظر إلى الخبرة الخلقية كما لو كانت الخبرة الدينية الوحيدة. فالدِّين الصحيح وكما يبيِّن (كانط) نفسه، هو الحياة الخلقية التي تبلغ ذروتها في تأدية الواجب والتضحية بكل شيء في سبيله لأنَّه الواجب.‏
وكل شيء غير طريقة الحياة الخلقية يظن الإنسان أنَّه قادر على فعله لإرضاء الله هو، في نظر كانط، محض وهم ديني وعبادة زائفة لله. وعنده أنَّ المؤسسات الدينية قد تكون بعيدة جداً عن الدين الحقيقي، في حين أنَّ الكنيسة الحقيقية كيان غير منظور، يمثل الاتحاد الروحي للناس جميعاً في الفضيلة عبر الخدمة الخلقية لله.(8)‏
يستفاد من ذلك، على الجملة، أنَّ الإنسان عند كانط هو كائن عاقل، وبما أنَّه عاقل فهو كائن أخلاقي، وبما أنَّه أخلاقي فهو كائن ديِّن. ولهذا فإنَّ البحث في المسألة الدينية عنده لا يقوم إلاَّ على دراسة مسبقة للأخلاق. في كتابه "تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق" يبدأ كانط بطرح الضرورة القصوى لبناء فلسفة أخلاقية خالصة ومطهِّرة من كل ما يعود إلى علم النفس والأنثروبولوجيا" ولهذا السبب يعود إلى الوعي المشترك والعادي ليسأله حول موضوع الأخلاق، فيجد أنَّ هذا الوعي المشترك يعتبر الإرادة الخيِّرة الشيء الوحيد الذي هو أخلاقياً خير بذاته، وإنَّ هذه الإرادة لا يُحكم عليها من خلال نجاحاتها، بل فقط من خلال نيَّتها ومسعاها. والذي يجعل من إرادة ما، إرادة خيِّرة هو أفهوم (مفهوم) الواجب، فتصبح الإرادة الخيِّرة هي التي تفعل إقراراً للواجب وليس وفقاً لـه فقط. ذلك لأنَّ القيمة الأخلاقية للفعل – إقراراً للواجب- ليست في الهدف الذي يتوصل إليه الشعار الذي يقرِّره. وهذا الشعار لا يتعلَّق بواقع موضوع الفعل، بل يتعلَّق فقط بمبدأ الإرادة الذي لا يخضع لأي موضوع من موضوعات المَيْل (Penhant). ومن هنا يصبح "الواجب ضرورة القيام بالفعل احتراماً للقانون. ومايشكِّل الإرادة الخيِّرة هو أساساً خضوعها للواجب وليس تعارضها مع المَيْل. وهنا لا يقصد (كانط) بالضرورة أنَّ الميول عند الإنسان هي كلّها سيئة، ولكنَّه يرفض أن تشكِّل هذه الميول شعارات الإرادة ومبدأ الأخلاق. فهو لا يستبعد من الأخلاق الفعل الذي يساعد في إنجازه مَيْلٌ ما. ولكنَّه يرفض الفعل القائم فقط على المَيْل –لأنَّ الإرادة الخيِّرة هي التي تطيع الواجب مهما كان هذا المَيْل.(9).‏
لقد أُخضعَِت مقولة الواجب عند (كانط) إلى تأويلات لا حصر لها. سوى أنَّها لم تغادر النقطة المحورية التي أسَّست لكل تلك التأويلات. هذه النقطة بوصفها المشترك الداخلي للدين والأخلاق، والله، وفطرة الكائن العاقل، ثمة من قدَّم الدين على الأخلاق. أي بوصف الأخلاق ناتج الفضاء الديني اللاّمتناهي وبوصف هذا الأخير، ناتج الوحي الإلهي، وثمة مَنْ وجد أنَّ علاقة الدين بالأخلاق عند (كانط) هي كعلاقة الأثر بالسبب. وما قيل عن بحثه في الدين على أنه تبرير للدين المسيحي هو أمرٌ مشكوك فيه –حسب وجهة النظر هذه- ذلك أنَّ تناوله الدين المسيحي بالذات كان من باب ما يجب أن يكون وليس من باب ماهو قائم، لأنَّه دافع عما يجب أن يكون الدين المسيحي وليس عما هو في الواقع.(10).‏
إلاَّ أنَّ هناك من المؤوِّلين من لم يفصل الدين عن الأخلاق الكانطية التي وردت في جملة مصنَّفاته، وخصوصاً في "نقد العقل العملي" و"ميتافيزيقيا الأخلاق". صحيح أنَّ (كانط) لم يعطِ أهمية للأديان التاريخية. وفلسفة الدين عنده ليست فلسفة هذا الدين أو ذاك، بل هي فلسفة كل دين، إلاَّ أنَّه تكلَّم على فلسفة الدين الطبيعي. وفي حين كان الدين الطبيعي في القرون الوسطى يعني البراهين الفلسفية أو الميتافيزيقية على وجود الله، صار مع كانط يعني افتراض وجود الله كضرورة للحياة العملية أو الخلقية. وقد تأثَّر كانط في أفكاره الدينية بأفكار عصر التنوير في أوروبا، خصوصاً بعقلانية الربوبيين، حيث أنَّ الربوبيين –كما هو معروف-قد خفضوا الدين إلى تعاليمه الخلقية، ولم يوافقوا على المحاكمات اللاّهوتية بين مختلف الفرق المسيحية.ثم اشتدَّت تلك النزعة في القرن الثامن عشر بين مَنْ سُمُّوا بـ"المفكِّرين الأحرار" الذين رفضوا سلطان التقاليد وأعلنوا الاحتكام إلى العقل. واتخذت (هذه النزعة) شكل الدعوة إلى فصل الدين عن الميتافيزيق وجعله ديناً خُلُقياً. فالربوبيون عقلانيون آمنوا بالله، لكنهم أنكروا الإيمان بالوحي الديني.(11).‏
وأياّ كان رأي القائلين بالتزام أو عدم التزام كانط بالمسيحية كلاهوت، أو بموافقته "المفكِّرين الأحرار" في إنكار الإيمان بالوحي الديني أو عدم موافقته لهم، فإنَّ الكانطية منحت جلَّ حقولهم لثنائية الدين/الأخلاق. وجعلتها ضمن إطار الموضوعات الكبرى لفلسفة الدين. والأهم من كل ذلك أنَّ السؤال الكانطي في العقل والأخلاق والدين سيؤسِّس لرحلة مفتوحة من الأسئلة التي أخذت بها الحداثة منذ ثلاثة قرون ولم تنفك عنها إلى الآن. فإذا كانت الأشياء في العالم، من حيث هي كائنات لا تستقل بوجودها، تفترض علَّة عليا تفعل وفقاً لغايات، فإنَّ الإنسان –بحسب الكانطية- هو الغاية الأخيرة للخليقة. وذلك لأنَّه بدون الإنسان فإنَّ سلسلة الغايات المتوقفة بعضها على بعض لن تكون مؤسَّسة تأسيساً كاملاً. وفي الإنسان وحده، أو فيه وحده بوصفه ذاتاً للأخلاقية، يمكن العثور على التشريع الذي يجعله وحده قادراً على أن يكون غاية أخيرة تخضع لها الطبيعة بأسرها من الناحية الغائية.(12).‏
لا يتوقف الأمر على عمومية الأطروحة الكانطية. ولسوف يتجه البحث في المساجلات اللاحقة إلى سياق من القراءة يرى إلى الدِّين والعقل والأخلاق على أنها ثلاثية فارقت النقد لتدخل في فضاء التأويل اللاّمتناهي. وثمة من رأى أنَّ مثل هذه المفارقة لو هي حصلت لأقامت الحد على النقد.‏
كان السؤال لدى عدد من أقطاب الفلسفة المعاصرة أمثال غادامير، وهابر ماس، وريكور هو أين تقع الكانطية من النقد والتأويل، هل يمكن الاستنتاج أنَّ كانط اختار النقد بديلاً عن التأويلية السائدة؟.. وبالتالي هل يمكن العثور لدى كانط على ضرب من التأويلية الفلسفية، أم أنَّ النقد الذي ارتضاه عنواناً لفلسفته وشعاراً لعصر برمته، لا يمكن لـه أن يلتقي مع أيَّة تأويلية ممكنة؟...‏
سعى الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور إلى بيان أنَّ كانط كان صاحب تأويلية فلسفية، وربما ذهب ريكور إلى حكم كهذا ليتمكَّن من استعادة كانط على النحو الذي يسدِّد ممارسته الهرمنيو طيقية لتحقيق فهم حديث للثلاثية الكانطية. لقد اتكأ ريكور في حكمه هذا على كتاب "الدين في حدود عقل مجرد" الذي نشره (كانط) سنة 1993، وينطلق من أنَّه "ليس بوسعنا أن نعتبر الكتاب المشار إليه امتداداً لمنطقة النقد التي رسمتها مؤلفات كانط النقدية بل يجدر بهذا الكتاب أن يحمل عنوان "تأويلية فلسفية في الدين. بل إنَّه على وجه الدقة صاحب فلسفة حكم... ثم إنَّ كتاب "الدين في حدود عقل مجرد" ليس تأويلية للدين مثلما ذهب إلى ذلك بول ريكور. بل هو بل هو قراءة عقلية، أي أخلاقية للدين. وهي قراءة لم تكن، حسب دنيس توارد تنشغل بالدين في تاريخيته ولا في نصيَّته التي تخصه, وبالتالي ليس بوسعنا أن نعتبر الدين عند كانط ضرباً من الآخر الذي يتميَّز عن الفلسفة، ومن ثمة يفلت من دائرة النقد. إنَّ العقل الذي ينتصب ها هنا حاكماً على الدين لا يرى سوى ما يستمده من نفسه من قوانين أخلاقية قَبْلية، مادام العقل عند كانط، والعقل فحسب، هو القادر على إعطاء معنى فلسفي معقول للدين (بل ولأية ظاهرة أخرى حتى العقل نفسه) فإنَّ مقصد كانط ليس تأويل النصوص الدينية ، إنَّما هو فحسب بيان مايمكن للعقل، الذي هو في صميمه عقل عملي أن يقوله في خصوص الدين. بل وأكثر من ذلك، فكانط حينما يتناول وقائع الدين بالمعالجة إنَّما يفعل ذلك، وهو على وعيٍ تام بأنَّ أهمية النصوص الدينية لا تكمن في كونها استطاعت أن تقدِّم صياغة واضحة للقوانين الأخلاقية الكونية التي ينبغي على كل امرئٍ أن يستمدها من نفسه.(13).‏
جدل الانقطاع: الأخلاق في معزلها‏
لأنَّ الأخلاق أول ما يطلبه الإنسان من الأديان السماوية، فقد جاءت التصورات التقليدية لترى إلى الأخلاق باعتبارها مفهوماً دينياً سماوياً، وبالتالي لا يمكن الفصل يبن الأخلاق والدين. لكن الحداثة، ونعني الحداثة الغربية على الأخص ستشهد لمفكِّرين سعوا إلى تفكيك الرباط داخل تلك الثنائية. فرويد مثلاً سيجد أنَّ مستقبل الدين وهمٌ من الأوهام، وعليه فلا مناص لإنقاذ الأخلاق من أن تصبح وهماً إلاَّ أن يتم عزلها عن الدين وعن المؤسسة الكنسية.‏
وربما أمكن القول: إنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق الدنيوية أو الأرضية، من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد.‏
فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من قبل القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة، فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنَّما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألِّهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لاسيما الأخلاق الداروينية.(14).‏
ولبيان جدل الانقطاع والتحولات التي تقلَّب فيها الغرب سنعرض إلى بعض المذاهب التي تخللت سيرورة العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط. وهي على الجملة ذهبت إلى النظر في الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. منها على سبيل المثال ما ظهر في القرن الثامن عشر ما سُمِّي المذهب الانفعالي ويمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711-1776). وهو يرى أنّ المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق الحس، ويترتَّب على هذا المذهب أنَّ القضايا الأخلاقية الحقيقية هي تلك المبرزة للأحاسيس والانفعالات، لا للحقائق الواقعية، ويخلص إلى "أنَّ الأخلاقيات ترجع بالنهاية إلى الإحساس الأخلاقي لا إلى العقل وإدراكاته، ويعدّ المذهب الانفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية.‏
ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأً واقعياً,. بل يعتقد بأنَّها مجرد بيان كاشف عن أحاسيس وعواطف من يطلقها. ويمكن اعتبار المدرسة الوضعية المنطلقية (تأسست في فيينا في العقد الثاني من القرن العشرين بزعامة مورتيس شليك)، في بعدها الأخلاقي من أهم فروع هذا المذهب.(15).‏
-المذهب الاجتماعي: مؤسسة إميل دور كهايم (Emile Durkhiem) 1858-1919، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز:‏
أ-لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.‏
ب-المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.‏
ج-لابد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.‏
د-معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده.(...).‏
-مذهب المنفعة: تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848-1832 (Jerme Benthams) وجون ستيوارت ميل 1806-1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدَّلة من الأبيقورية "فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد "ويقول جون ستيوارت ميل: "اللذة هي المبتغى الأوحد". فهما يشتركان مع أبيقور في القول، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كونها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة(...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. "بنتام" يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية. أما ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً.(...).‏
-المذهب العاطفي: يؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات (أي نرجع آثارها ونتائجها إلى الشخص الفاعل وحده) لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي(....) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث (Adam Smith)، (1723-1790)، الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف، والألماني آرثر شوبنهاور (Arthur Senopenhauer))(1788-1860)، والفرنسي أوغست كونت (Augeste Compt)، (1798-1857).(.....).‏
-مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب –الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه(1844-1900)، ردَّة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدَّى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا، شعر نيتشه بأنَّ من يتربَّى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية:"اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها" وتربِّي إنساناً خاملاً وذليلاً، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربِّي إنساناً فاعلاً ومؤثِّراً. وهو يقول عن المسيحية: "أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدَّعٍ حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة".‏
يرى نيتشه أنَّ "القوَّة" و"السلطة" أساس الأخلاق الفاضلة كلَّها. وفي شرحه لنظريته الأخلاقية يرى أنَّ كل موجود حي يحب حياته، ويريد المحافظة عليها، هذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإن الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء.(....).‏
وأحسن خلاصة لمذهب نيتشه الأخلاقي، مايذكره هو بنفسه حين يسأل ثم يجيب: "ماهو الخير. هو الذي ينمّي حس السلطة. ماهو الشر؟ هو ما يولد من الضعف. ماهي السعادة؟ هي إحساس ازدياد السلطة، والانتصار على العوائق لا القناعة، بل المزيد من السلطة، ليس السلام بل الحرب، لا الفضيلة بل الذكاء، العاجزون والمرضى ينبغي إعدامهم، وهذا هو الأصل والقاعدة الأولى لحقوق الإنسان، فماهو الأكثر ضرراً من الفساد؟.. هو العطف على المرضى؛ أي المسيحية". لكن الفيلسوف الألماني الوجود مارتن هايدغر (Martin Heidegger) سوف يتجاوز القراءة المدرسية التقليدية لنيتشه حين يرى أنَّه آخر الميتافيزيقيين في العالم الغربي. إذ يتكثَّف في فكره السؤال الميتافيزيقي وينجز فيه. وجواب نيتشه عن هذا السؤال هو التالي: إنَّ إرادة الاقتدار هي الطابع الأساسي لكل "كائن" بينما يشكل "العود الأبدي لذات النفس"، التعيُّن الأعلى للكينونة.‏
ويوضح هايدغر أنَّ ما يقصده نيتشه بـ"إرادة الاقتدار" أنَّها ليست إلاَّ تفسيراً لكلمة الإرادة التي تتضمَّن الحركة نحو... التوجه نحو شيء ما.... الإرادة هي سلوك يتجه نحو... إنَّ ذلك كله –يضيف هايدغر- ليس بعد إرادة ولكنه متضمن فيها. فالإرادة هي أن تكون سيداً على ذاتك، إنَّها الخضوع لقيادتنا الخاصة، وهي القرار بأن تخضع لأحكامنا أو التي هي بذاتها تنفيذ (....). على أنَّ التعريف الجوهري للإرادة بحسب تأويلية هايدغر لنيتشه -هو أنَّها "ماهية الكائن"، وهي تطلُّع نحو اقتدار أكثر، نحو التعزيز والسمو: "الإرادة هي أن تكون أقوى"، وهي تتميز بكونها خلاَّقة كما يكتب نيتشه. والاقتدار هو معنى آخر لـ"الإرادة". ويماثل نيتشه بين "الاقتدار" و"القوة" دون أن يعطي لهذا المفهوم الأخير أي تحديد. أما لماذا حكم هايدغر على نيتشه بأنَّه آخر ميتافيزيقيي الحداثة الغربية. فإننا نجد جوابه عندما يمضي في قراءة المفاهيم الأساسية التي وضعها نيتشه، وخصوصاً "إرادة الاقتدار"، بوصفها فناً من ناحية، وبوصفها معرفة من ناحية ثانية. يرى هايدغر أنَّ كلمة "الاقتدار" تتضمَّن المعاني الثابتة لـ"القوة" كما ظهرت في اليونان القديمة. ويقارن بين مفهوم "الاقتدار" والمفهوم الأرسطي لـ "Actus" والـ"Potentia"، لا كما وصل من خلال العصر الوسيط، ولكن كما يظهر في كتاب "الميتافيزيقا" لأرسطو. ويبيِّن هايدغر، أنَّ ثمة علاقة تربط بين "الكينونة بالقوة" و"الكينونة بالفعل" الأرسطيتين، ومفهوم الكينونة عند نيتشه. ذلك رغم أنَّ نيتشه لم يكن يعي هذه الصلة، وهذا الفهم للاقتدار يضع "الإرادة الاقتدار" في المسار الأساسي للفكر الفلسفي الغربي، وبالتالي فإنَّ عمل نيتشه، على قلب القيم من خلالها. يندرج ضمن هذه الميتافيزيقا.(15).‏
هذا المعنى الميتافيزيقي لـ"فيلسوف العدم" سوف يعيده إلى فضاء الوجود عبر ما يسمِّيه بـ"الإنسان الأعلى" الذي يولد من "العود الأبدي لذات النفس". والمعروف أنَّ هذه الأخيرة هي إحدى الأطروحات المركزية التي تشكِّل أساس فلسفة نيتشه، والتي تمنح الكائن كينونته الخُلٌُية من حيث كونها القبول الأعلى للحياة وللكائن.‏
المفارقة أنَّ قراءة هايدغر لنيتشه بوصفه فيلسوفاً ظلَّت في حجرة ضيِّقة بينما سادت القراءة التقليدية التي اختزلت الفيلسوف بوصفه –وحسب- عدواً للأخلاق والدين.‏
-مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902-1994). الذي احتلَّ موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعدّ واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنىً آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي مايُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها حسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) كذلك يرى بوبر في حرية التعبير وتنوع الأفكار والاتجاهات في الديمقراطية الليبرالية شبهاً لعملية الجدال النقدي بين التفسيرات والفرضيات المختلفة في الفيزياء. وتجري عملية تحقيق الأصلح والأفضل في المجتمع بطريقة شبيهة بتلك التي يجري فيها التقرُّب في الحقيقة في العلم. فكما إننا لا نملك –حسب بوبر- أي وسيلة مباشرة للاقتراب من الحقيقة العلمية، حيث يتم ذلك عن طريق كشف الخطأ ودحضه في التجارب، كذلك لا يملك المجتمع من وسيلة لتحسين حياة أفراده إلاَّ بواسطة تخفيف آلامهم وتسهيل الصعوبات التي تواجههم. وعنده إنَّ تحقيق السعادة ليس أمراً ممكناً، بل الممكن هو كشف مصادر الآلام والمآسي ومحاربتها قدر الإمكان إذ "بدلاً من طلب السعادة القصوى لأكبر عدد من الأفراد يتعيَّن علينا، بتواضع أكثر، أن نطلب للجميع أقل قدر ممكن من العذاب، وأن يُتحمَّل العذاب الذي لا يمكن تجنبُّه –كالمجاعة في حال نقصان المواد الغذائية-بالتساوي. وفي هذا شبه بالنظرة إلى المنهج العلمي التي عرضتها في "منطق الاكتشاف العلمي". إنَّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة".‏
عند هذه النقطة من تعيين بوبر للأخلاق الواقعية سوف تنطلق العقلانية النقدية إلى أبعد مدى لها.وستمارس نقداً صارماً للأفلاطونية مروراً بالكانطية والهيغلية والماركسية ساعية إلى تأسيس عقلانية عملية لا تكون فيها الأخلاق إلاَّ عضواً في منظومة مجتمعية ينتظمها العالم المفتوح على كل ماهو جدير بالبقاء والديمومة. يقول بوبر عن أفلاطون إنَّه في تصوره للدولة لا يرى مكاناً للعدالة إلاَّ في مجتمع تراتبي صارم يحدد لكلِّ فرد موقعه الواضع في البنية الهرمية. فيكون الحفاظ على العدالة وبالتالي على السلم الاجتماعي قد تحقق بواسطة نظام حديدي قائم على الطاعة المطلقة، اختار أفلاطون الدولة التوتاليتارية الجذرية على حسب الروح الفردية والديمقراطية وهو الخيار الذي أودى بأستاذه الكبير سقراط إلى الموت.‏
بعد قرون فلسفية طويلة ستعود الأطروحة الأفلاطونية عبر هيغل، الذي وجد فيه بوبر تضحية متجددة بكيان الأفراد وخياراتهم الذاتية على مذبح الكليات التاريخية والحتمية الموضوعية. إذ ينطلق الفيلسوف الألماني من مبدأ المساواة بين ماهو عقلاني وبين ماهو قائم تاريخياً، وتصبح الأشكال المجتمعية تجليات ضرورية ذات نسب متفاوتة في النضج، لتحقيق العقل الكلي لدن ذاته. وتصبح آلام الأفراد وعذابات البشر الثمن الذي لابد من دفعه لكي تحقِّق الفكرة المطلقة ذاتها عبر الصراعات المجتمعية والقومية، وهذا هو جوهر الديالكتيك الهيغلي (...). على هذا النحو لا يحجم بوبر عن ربط فلسفة الهوية الهيغلية بالملكية المطلقة لفريدريك وليام، حاكم بروسيا والمعارض لكل تقنين دستوري لسلطته: وخلف هذا الإدغام الظاهري، تتربَّص مصالح الملكية المطلقة لفرديدريك وليام. إنَّ فلسفة الهوية تفيد في تبرير النظام القائم. ونتيجتها هي وضعية أخلاقية وقانونية، أي العقيدة القائلة بأنَّ ما هو قائم هو صالح، لأنَّه لا توجد معايير إلاَّ المعايير السائدة، إنَّها عقيدة "السلطة دائماً على حق"... إنَّ توتاليتارية هيغل الجذرية تعتمد على أفلاطون بقدر اعتمادها على فريدريك وليام الثالث، ملك بروسيا في الحقبة المهمة خلال الثورة الفرنسية وبعدها. ومضمونها أنَّ الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء؛ فهو مدين للدولة بكل شيء، في وجوده المادي كما الروحي. يكتب هيغل: "إنَّ الكلي موجود في الدولة. والدولة هي الفكرة الإلهية كما هي متحققة على الأرض... علينا إذن أن نعبد الدولة كتجل للإله على الأرض، وأن نعتبر أنَّه إذا كان فقه الطبيعة صعباً، فإنَّ فقه جوهر الدولة أكثر صعوبة بدرجة لا متناهية... إنَّ الدولة هي مسيرة الله في العالم... يجب فهم الدولة ككائن حي... والدولة الكاملة تتمتع، في جوهرها، بالوعي والفكر. الدولة تعي ما تريد... الدولة متحققة؛ والواقع المتحقق هو حتمي. ماهو متحقق هو حتمي أبداً.... الدولة قائمة لذاتها.... إنَّ الدولة هي الحياة الأخلاقية القائمة، المتحققة فعلاً".‏
هذه المقاطع كافية لتبيان أفلاطونية هيغل وإصراره على المرجعية الأخلاقية المطلقة للدولة، وهو يضرب عرض الحائط بكل أخلاق فردية وكل ضمير شخصي".‏
تقوم مقولة المجتمع المنفتح البوبرية على رفض مفهوم التغيير الجذري كما فهمه أفلاطون وماركس، أي التغيير المطلق من الصفر حيث يعاد بناء المجتمع على أسس جديدة مختلفة كلياً عما سبق. إنَّ التقاليد والمؤسسات السائدة ذات قيمة حياتية براغماتية لأنَّه من دونها لا يستطيع الأفراد أن يقوموا بأدوارهم الاجتماعية المتوقعة منهم، وبالتالي ينهار صرح النشاط الاجتماعي كله. فمهما بلغت مساوئ النظام القائم فهو لا ينفك عن أن يكون نظاماً، تندرج الحياة الاجتماعية تحت لوائه منذ مئات السنين، وذلك على النقيض من الحلول الثورية الطوباوية التي تغامر بنشر الفوضى والدمار مستخدمة مفاهيم أخلاقية مجردة كالعدالة (أفلاطون) والمساواة (الماركسية).‏
سوف تمتد "البوبرية" إلى نسيج "العقل الأخلاقي الغربي" بظواهره وأحيازه الأوروبية والأميركية. وفي خلال المرحلة المعرفية الفلسفية التي وصفت بـ"ما بعد الحداثة" أو "الحداثة البَعْدية" سوف يتبين لنا كم للتنظير البوبري من مفعولية ثقافية وأيديولوجية على صعيد ممارسة وتشكيل أنظمة القيم الجديدة في العقل الغربي. ولو نحن قسنا القضية الما بعد حداثية، وفق المعيار البوبري لمفهوم المجتمع المنفتح لوجدنا أنه يحوي عناصر نظرية وأخلاقية براغماتية تركّبت على نحو شد الصرامة. لذا فإنَّ تجربة بوبر في فقه الظاهرات الاجتماعية إنَّما تنطلق من موقف سياسي وأخلاقي واضح في دفاعه عن الديمقراطية الليبرالية واعتصامه ضمن دائرة القيم الفردية، ومع ذلك فهو بمجرد أن يمضي في مواجهة محيطات الواقع التاريخي حتى يعود إلى الاعتراف بالدور الحاسم للمؤسسة الاجتماعية الحاكمة، وتحديداً بدور وهمة الدولة في ضبط الروح العام للمجتمع المنفتح. وهو في ذلك ما يوحي بشيء من التناقض والتباين في موقفه الفلسفي. الأمر الذي سوف نقع على تمثُّلاته الجلية فيما بعد. أي في الكيفية التي اتبعها العقل الغربي، والعقل الأميركي على وجه الخصوص في ما يمكن وصفه بأخلاقيات الهيمنة.‏
-المذهب الحَفْري (الأركيولوجي): في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعدٌ مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤثِّرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه "تاريخ الجنسانية" المؤلَّف من ثلاثة أطوار، سيعدُّه النقَّاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو التالي: أيَّة أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في "تاريخ الجنسانية"؟...‏
هناك مَنْ قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد "الفوكوي" فوجد أولاً أنَّ الأخلاق ضمن هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا العنوان. وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق (La Morale) وبين الإتيكا (L'éthique).‏
وهذا الفصل يميِّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنَّه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها. إذ يبقى السلوك هو أقرب إلى أصحابه ومنفذيه، من كل مايمكن أن يضاف إليه قسراً أو طوعاً من الأوامر والنواهي. فالأركيولوجي لا تهمه منظومة الأخلاق من حيث هي مؤسسة اجتماعية أو دينية أو تاريخية، ولكنه يتوجه إلى سلوك الأفراد الفعلي تجاه ذواتهم أولاً. وهو ما يسميه فوكو بتقنيات ممارسة الذات، يجعلها تكون بالنسبة للخارج كثنية موجة في خضم العالم، كما يقول /دولوز/، بحيث تكون هي الداخل في الخارج، وهي الخارج في الداخل. وسيبدو تأويل فوكو لافتاً لتلك "الممارسة الذاتية، إذ سيظهر لنا أنَّ نظريته تلك ناتجة عن اختبار ومعاينة أكثر مما هي معرفة ذهنية مجرَّدة.‏
فحين سُئِل فوكو من قبل شارحيه الأميركيين عن فلسفته، /دريفوس/ و/رابينوف/، ماذا سيكتب بعد الانتهاء من شرح تاريخ الجنسانية، أجاب الفيلسوف فوراً: سأهتم بذاتي... وبالطبع فليس معنى ذلك أنَّ فوكو أجَّل الاهتمام بذاته إلى ما بعد الانتهاء من مشاريعه الفلسفية الكبرى، كما أجَّل الكتابة في إتيكا الذات. فلقد كان الانشغال الذاتي –بالذات هو عنوان الهمّ الفوكوي الفلسفي، والفردي الخاص به في آن، منذ البداية. وهو منذ "تاريخ الجنون"، و"مولد العيادة" وصولاً إلى "الكلمات والأشياء"، و"المراقبة والمعاقبة"، كان محور تفكيره هو التحفيز العميق الشامل عمَّا يقع على الذات من تقنيات الخارج الذي يمنع ولوج الذات كداخل إليه، وصولاً في النتيجة إلى اكتشاف النقلة المختلفة التي تشكلها الذات إزاء ذاتها، ليس بمعزل عن هذا الخارج نفسه، ولكن في صميمه، وفي طريقة اختراقه، وجعله يقبل كذلك بخارجيتها المختلفة وسط خضمه.(19).‏
في مناقشته لحداثة التنوير التي جرت تحت السؤال نفسه الذي طرحه كانط "ما الأنوار؟". بعود فوكو ليمارس عملية أركيولوجية هي موجودة أصلاً في قلب الإشكال الكانطي. كما لو أنَّه يريد أن يعمِّقه أو يؤوِّله على طريقته. وهاهو يقول: يبدو لي أننا لم نعرف قبل اليوم فيلسوفاً مثل كانط في نصّه هذا (المقصود نص كانط في "الأنوار") حيث ربط بإحكام ومن الداخل معنى تأليفه بالمعرفة، وجمع التفكير حول التاريخ بتحليل خصوصي للخطة الفريدة التي يكتب فيها، وعنها: يبدو لي التفكير بالراهن –والكلام لفوكو- بوصفه اختلافاً في التاريخ وسبباً لمهمة فلسفية خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص. وضمن هذا المنظور يرى فوكو أنَّه وجد نقطة انطلاق نحو ما يسميه موقف الحداثة. ويتساءل فوكو بالاستناد إلى نص كانط عمَّا إذا كان ممكناً تصور الحداثة على أنها موقف أكثر من كونها مرحلة من التاريخ(....)، ويقول: إننا نتحدث غالباً عن الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة من الصفات المميَّزة لعهد ما ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بما قبل الحداثة، شبه الساذجة أو البدائية، ومتبوعة بـ"مابعد حداثة مريبة وملتبسة... وأعرف إننا نتساؤل عندها إذا كانت الحداثة تشكِّل تتمة "الأنوار" أو تطورها، أو أنها قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.‏
غير أنَّ الاستفهام الأكثر مرارة لدى فوكو هو ذاك الذي لاحظناه في نهاية مقالته حين يصرِّح: "لا أعرف إذا كنّا سنصبح راشدين ذات يوم. أشياء عدّة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حدث "الأنوار" التاريخي لم يجعل منّا راشدين، وإننا لم نصبح كذلك بعد؟!(20).‏
هل نقدر أن نرى إلى مرارة الاستفهام الفوكوي هذا، على أنَّه ضرب من مقاربة أخلاقية لتهافت الحداثة الغربية بعد نحو ثلاثة قرون على "الأنوار"؟..‏
غالب الظن أن المسألة بالنسبة إلى فوكو مضت في مسارها الحفري/ المعرفي على نحو لا ينأى عن سؤال الأخلاق بوصفه سؤالاً فلسفياً بامتياز.‏
جداليات الأخلاق التواصلية‏
تميَّز السجال الفلسفي في الغرب ابتداءً من النصف الثاني للقرن العشرين بإعادة الاعتبار لسؤال الأخلاق كأحد أهم الأسئلة الأنطولوجية. فلقد صار من المؤكَّد بالنسبة للنخب ومؤسسات الفكر والمجتمع المدني أنَّ مجتمعاً لا يستطيع أن يرضي رغبة الفضيلة في الطبيعة البشرية، ليس مجتمعاً عقلانياً. إنَّه فقط أحد الأنظمة المتحيِّزة بحسب توصيف أرسطو، والذي يمكن أن يسقط، عاجلاً أم آجلاً، عندما تجد الفئة المظلومة الفرصة المناسبة لذلك.‏
جرى هذا القول مجرى نقد الحداثة التي اتخذت من العقلانية المجردة سبيلاً أوحد لها لتثبِّت أقدامها وتسود. وسيأتي في الغرب من يستعيد ثالوث الاستفهام الكانطي ويؤولِّه على طريقته بوصفه ثالوثاً لا يخص عقلانية الغرب وحسب، بل يمتد إلى العقل الإنساني في شموله الكوني: ماذا يمكن لنا أن نعرف؟... وماذا نعمل كي نحقِّق المعرفة، أي كيف نعرف؟.. وما الذي يمكننا أن نرجوه كي نعرف؟... وهنا تتواصل الحلقات الثلاث في السعي نحو أي مشروع يرنو لتأسيس عقلاني تواصلي: النظري، والعملي، والعملي النظري؛فننتقل بذلك من حيِّز الفهم والتحليل الواصف، إلى البحث في ذات الحدث المعرفي، أي تفكيك العقل من الداخل.‏
على هذا الوجه سنرى كيف أنَّ الفيلسوف الألماني يورغن هابر ماس(21) ركَّز ضمن طموحه في تأسيس نظرية معيارية للحداثة، على أربعة أسس نظرية لبلورة تصوره النقدي للمعرفة وللمجتمع وهي: نظرية العقلنة، ونظرية النشاط التواصلي، وجدل العقلنة الاجتماعي، ونظرية المجتمع التي تجتمع بين الاهتمام بقضايا الممارسة وباعتبارات النظام. من أجل صياغة كل هذه المفاصل النظرية عمل هابرماس على التقاط مختلف الانفتاحات النظرية والفكرية التي سمحت لـه ببلورة أسئلته وبتعميق تحليلاته للكشف عن الآليات المختلفة المنتجة للظواهر المَرَضية للحداثة. فنقد الاستلاب والتشيؤ كما عند أدورنو ولوكاش من خلال نقد العقلانية الأدانية أدَّى إلى ملامسة ما أسماه بـ"الاستعمار الداخلي" للعالم المعيش الذي تفرضه عمليات العقلنة على العلاقات وأشكال التبادل(22)، وبالرغم من كلِّ ذلك فإنَّ هابر ماس لم يُرد أن يتخذ من سلبيات العقلانية الأدانية ذريعة لترك مشروع الحداثة، بل إنَّه يلح على موضوعة فكره في سياق تطورها وتحوُّلها، ولكن بشرط الانتقال من المجال المعرفي لفلسفة الوعي إلى بنية الفلسفة التواصلية دون القفز إلى مرحلة ما يُسمَّى بما بعد الحداثة، أو التشبث بالمواقف المضادة للحداثة. لأنَّ همَّه المركزي تمثَّل في إعادة تنشيط الطاقة النقدية للعقل الأنواري، من خلال إبراز المضمون المعياري لفكرة التفاهم الموجودة في مختلف اللغات، وأشكال التواصل.‏
كيف صيغت الأخلاق التواصلية بالترابط الحميم مع العقلانية لكي تتم إعادة تشكيل الحداثة بعيداً عن التشيؤ والاستلاب؟...‏
سنلاحظ بداية أن احتمال الهيمنة داخل مجتمع معقلن يمكن تجنبه، في نظر هابر ماس، وذلك باحترام معايير محددة تسترشد بما يسمّيه بـ"أخلاق التواصل"، لأنَّها تقدِّم وجهة نظر نقدية لمختلف وجهات النظر المعرفية للسياسة (....) ففي هذه الحالة تتدخَّل أخلاق التواصل لتأسيس وجهة نظر نقدية لا تعطي الأهمية، فقط، للمنطلقات المنهجية أو للمنطق المحرِّك للموقف المعرفي، بل تهتم كذلك بالصيرورة الإيديولوجية. أي إنَّ هذه الأخلاق تعترف لكل مجال بقدرته على التبرير والتفسير داخل حدود مجاله الخاص، بدون أن تسمح لـه بادّعاء التعميم انطلاقاً من المقدِّمات والنتائج والأحكام التي تنتجها ممارسته المعرفية على موضوعاته الخاصة (...) فالأخلاق التواصلية، عند هابر ماس، هي التي تخلق إطاراً عقلانياً للتفاهم بين مختلف مجالات المعرفة، وللتفاوض بين المصالح المتعددة، وذلك كله بالتأكيد على العلاقة الضرورية بين العقلانية السياسية والشرعية الديمقراطية، والتساؤل الدائم عن شروط الاتفاق بين ماهو ضروري عملياً وماهو ممكن موضوعياً.(22).‏
إنَّ مايمكن النظر إليه بوصفه استراتيجية أخلاقية هو لأجل إعادة تصويب حركية العقل، حيث ظهرت هذه الحركية في المراحل المتقدِّمة لصعود الحداثة كما لو أنَّها سخِّرت للاستلاب المحض. ربما بدا المجهود النظري الذي بذله هابر ماس منذ النصف الثاني للقرن العشرين وكأنه محاولة فلسفية تتوخّى إقامة الحد على ظاهرة اختزال العقل التي امتلأت بها الأحياز المختلفة للحداثة الغربية. إنَّ محاولة هابر ماس وسواها من المحاولات المتأخرة في الفلسفة الغربية سعت إلى الكشف عن العقل المرتبط والملازم للممارسة التواصلية اليومية، وفي إعادة بناء مفهوم غير اختزالي للعقل. وذلك اعتماداً على قاعدة صلاحية الخطاب. لاسيما وإنَّ العقلانية الغربية تعطي أولوية استثنائية للعقل الغائي وللممارسات التي تستهدف تحقيق مصالح وغايات معينة. ولأجل ذلك فهي تدمج أكثر من وساطة، وعلى رأسها المال والسلطة لضمان التوازن الاجتماعي الذي يسمح بمبادرات تدخل في سياق النشاط الأداتي أو الاستراتيجي.‏
وفي هذا المدلول يبدو العقل التواصلي ضرباً من كانطية متجددة ولكن بلغة مابعد حداثية. فالعقل التواصلي هو روح العقل العملي لجهة تلازمه التكويني مع الأخلاق. ذلك أنَّ الفلسفة الألمانية في مابعد الحداثة انبرت إلى توكيد العقل التواصلي، "كصيغة تركيبية لقضية الحداثة الغربية والعقلانية، سواء في تعبيرها الأنواري أو في تمظهراتها النقدية. صحيح إنَّ فكر الأنوار يؤكِّد على عنصر النقد في دعوته العقلانية، لكن تطورات المجتمعات الصناعية وتطبيقات العقلانية، التي لا تكف عن التجدد والتبدل، جعل الفكر الأنواري يستنفد طاقاته المفاهيمية من جهة، فيما تحول بشكل من الأشكال إلى خطاب يضفي المشروعية على المجتمع الحديث من جهة أخرى.(23).‏
إنَّ العقلانية التواصلية التي ستجد في القيمة الأخلاقية أساساً لها، هي المقابل الفلسفي للعقلانية الأداتية، مع أنَّ الأخيرة ستفلح بالسيطرة على عالم مابعد الحداثة في الغرب.‏
لكن العقلانية الأداتية التي أنتجت عالماً موجهاً من طرف إدارة صارمة إلى درجة الرعب كما يقول أدورنو، ستكون موضع نقد لا هوادة فيه فيما كان العالم يتجه بخطى حثيثة نحو نهاية القرن العشرين.‏
العقل الأخلاقي الغربي منقوداً‏
سوف تنمو لدى الأنتلجنسيا الفكرية والفلسفية في الغرب الراهن مايمكن اعتباره فلسفة أخلاقية نقدية. من مبادئها أنَّ الفلسفة وهي تقترح قواعد عامة للسلوك، أو تقدم نظريات عن العالم، فلابد من أن يكون لها وجهة دينية، فيحتاج الدين لعقلانية الفلسفة. ومن جهتها لا تتجاهل الفلسفة مشكلات الدين، ولقد كانت اهتمامات كانط التأسيسة في السؤالين الأشهرين ماذا أعرف؟.. وماذا عليَّ أن أسلك، ذات قيمة دينية لا تقل عن قيمتها الفلسفية. فتسأل عن كيف يرتبط الإنسان بحاجاته، وعن الذي يوجد في الأشياء ويتحقَّق في أفكارنا.‏
لكن الأخلاقية الحقيقية بحسب المفكر الأميركي جون بانيس هي أكثر من قواعد للسلوك في مجتمع ما. لأنَّ هذه القواعد يمكن أن تختلف كلياً باختلاف الجماعات. فالأخلاقية تقضي باحترام نظام الكون الذي فرضه "اللوغوس"، الفيض المقدس الذي يحافظ على بنيان الكون ونظامه. وبما أنَّه مامن شيء يمكن أن يوجد خارج "اللوغوس" فنحن أيضاً جزء منه، حتى أنه يجب أن نحترم دستوره الذي هو واحد لكافة أشكال الحياة وحتى للأشياء غير الحيَّة.(24).‏
منذ كانط إلى الكلام اللاحق على الحداثة البعدية، أو ما سمِّي "مابعد الحداثة"، مرَّت ثلاثة قرون أو نحوها، في هذه الأثناء لم ينفك سؤال الإنسان عن كونه السؤال الفلسفي الذي تدور حوله أسئلة الوجود كلها. لكن هذا السؤال سوف يستدعي سؤال الأخلاق كسؤال متعلِّق به تعلُّقاً سنخياً. بل هو عين الأول، وتجلٍّ له. تماماً كما هو شأن العقل كمائز للإنسان، وإن ذهب فلاسفة محدثون إلى تقديم العقل على الأخلاق تقديماً لم يدركوا أنهم بهذا إنما ينزعون من الكائن البشري ماهو من تكوين ذاته وطبيعته.‏
لقد بدا واضحاً في الرؤيات الجديدة لسؤال العقل/الأخلاق في الغرب أن مقولة "كل ما هو عقلي هو واقعي"، ليست إلاَّ واحدة من القواعد التي أسٍَّست للاستلاب. وهي بهذا جعلت الإنسان حيواناً سياسياً بامتياز، إذ دفعت به إلى الحد الذي لا يرى نفسه إلاَّ في مرآة سلطانها. والذين وضعوا هذه المقولة في سياق الزمان الواقعي كانوا على يقين بأنَّهم إنما فعلوا ذلك ليبيِّنوا أنَّ الأطروحة الأخلاقية التي حملتها الفلسفة الألمانية على أجنحة اللاّهوت الديني إنْ هي إلاَّ سراب لا يلوي على شيء. كان التنظير الذي أراد أن يُسقط الأخلاق من عليائها الأرضي، يستهدف أصلاً كل ماله صلة بالدين والميتافيزيقا. قالوا إنَّ الأخلاق والدين هما شكل من أشكال الإيديولوجيا الهائمة خارج دائرة الواقع. وإنَّ الكائن هو نتاج التاريخ، وإنْ انتظم الأمر في نطاق الديالكتيك الذي يبيِّن أنَّ ليس الوعي هو الذي يحدِّد الحياة، بل الحياة هي التي تحدِّد الوعي"....‏
لقد أرادت المادية الديالكتية أن تدفع عن الإنسان الاستلاب الذي أطلقته حركة الحداثة وتقنياتها، فإذا بها تدفعه نحو استلاب من نوع آخر منذ تلك اللحظة التي أمسكت فيها بناصية الحركة التاريخية بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين بأكمله.‏
ولم يكن افتتاح الألفية الثالثة ليجيء بما يبدِّل من روح التساوي الحاد في مقولة العقلي/ الواقعي، فلقد أظهر المشهد العام كل مايمت بصلة إلى النهايات والبدايات في آن. كان ثمة نهاية مدوِّية للسجال الإيديولوجي في حداثة الغرب المتأخرة. ليبتدأ ضرب جديد من "المواج الإيديولوجي" تولَّت الليبرالية المابعد حداثية رسم أحداثه وأجناسه وفصوله عبر الآليات الهائلة لثورة الاتصال وما توصَّل إليه الذكاء الخارق للزمن التكنو-إلكتروني المعولم.‏
لقد أخذ السجال في العقلاني والأخلاقي مناحي أوثق تواصلية مما سبق. فالنظام الإجمالي للقيم (القوانين-الدولة-مبدأ السيادة- المجتمع المدني-الفرد..الخ). هو الذي سيعيِّن اتجاهات السلوك العام. وهبطت مقولتا الخير والشر من عليائها النظري البحت إلى حقل الاختبار الإنساني الحي والسيَّال. وهكذا فبإزاء الاجتياح الهائل للعقلانية الصارمة، كان ثمة ما يُظهر الحاجة إلى أخلاقية حقَّانية وعقلانية في آن، تعيد التوازن إلى النظام المهزوز في الاجتماع البشري. لقد كانت روح كانط حاضرة في السجال المتأخر خصوصاً لجهة إحياء البعد الأخلاقي لعالم الحداثة البَعْدية وبث الروح فيها، كان الحضور واجباً وبديهياً أيضاً حين بلغت العقلانية وهي تقود مجتمعاتها، ذروة الشغف اللاّهث نحو السيطرة. وكذلك حين تركت الإنسان هائماً على وجهه في صحراء الغربة والسأم. فعلى هذا النحو لم يكن إعلان موت الإنسان إلاَّ المنجز المأساوي الأشد استغراقاً في التشاؤم والعدمية.‏
في كتابه "سؤال الأخلاق" –والذي يعد بحق علامة فارقة سيشار إليها في فلسفة الأخلاق –ينقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحداثة الغربية ويبيِّن نقطة إشكالية مهمة في الحدود الفاصلة والجامعة بين العقل والأخلاق وأيهما أخص بالنسبة للإنسان.‏
يبدأ بالرد على القائلين بأنَّ "ميزة العقل الإنساني بأنه لا يملك اليقين بنفع لا ضرر فيه، ولا بصواب لا خطأ معه" فيرى أنَّ هذه الدعوة "لا تصدق إلاَّ على القوة العقلية من قوى الإنسان التي هي من جنس قوة الإدراك التي تتمتَّع بها البهيمة. فمعلوم –كما يقول- أنَّ البهيمة لا تهتدي إلى أغراضها إلاَّ بعد محاولات متتالية تخطئ فيها أكثر مما تصيب. وحتى إذا أصابت، فلا تضمن لنفسها أنها لا تعود إلى الخطأ مرة ثانية. وكذلك الإنسان في ممارسته لعقله على مقتضى التصور المذكور؛ بل ما المانع من أن نسمِّي القوة الإدراكية الخاصة بالبهائم هي الأخرى عقلاً!.. فإنها ليست تختلف عن قوة الإدراك عند الإنسان إلاَّ في الدرجة؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن لا تكون العقلانية –كما هي في تصور هذا البعض- هي الصفة التي يتفرَّد بها الإنسان وتُميِّزه عن البهيمة؛ فكلا الإنسان والحيوان لايقين لـه فيما أصاب فيه، بل تكون، على العكس من ذلك، هي الصفة التي تجمع بينهما؛ وبهذا، يقع هؤلاء هم أنفسهم في الخطأ من أرادوا الصواب، آتين مرة أخرى على غفلة منهم بنقيض مقصودهم، فقد أرادوا أن يرفعوا رتبة الإنسان، فإذا بهم يُنزلونه رتبة دونها.‏
وإذا بطل أن تكون العقلانية هي الحد الفاصل بين الإنسانية والبهيمة، وجب أن يوجد هذا الحد الفاصل في شيء لا ينقلب بالضرر على الإنسان من حيث أراد الصلاح والفلاح في المآل، ولا يقع الشك في نفعه متى تقرر الأخذ به ولا في حصول الضَّرر متى تقرَّر تركه؛ وليس هذا الشيء إلاَّ مبدأ طلب الصلاح نفسه، هو الذي نسمِّيه باسم "الأخلاقية"؛ فالأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمة؛ فلا مراء في أنَّ البهيمة لا تسعى إلى الصلاح في سلوكها كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها؛ فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرَّع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تُنسب إليه ينبغي أن تكون نابعة لهذا الأصل الأخلاقي.‏
ويمضي طه عبد الرحمن في الشطر الأول من رحلته النقدية في كتاب سؤال الأخلاق، مظهراً الالتباسات التي غشيت أعمال دعاة العقلانية والمحدثين. حيث ظنَّ هؤلاء أن العقلانية واحدة لا ثانية لها وإنَّ الإنسان يختص بها بوجه لا يشاركه فيه غيره. وعبد الرحمن يخالف أصحاب هذا الظن بملاحظة أنَّ العقلانية تقوم على قسمين كبيرين: فهناك العقلانية المجرَّدة من "الأخلاقية"،وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسدَّدة بالأخلاقية، وهي التي يختص بها من دون سواه؛ وخطأ المحدثين أنَّهم حملوا العقلانية على المعنى الأول وخصَّوا بها الإنسان؛ ولا يصح أن يُستدرك علينا، فيقال بأنَّ العقلانية التي يختص بها الإنسان على نوعين: "العقلانية النظرية" التي لا أخلاق فيها و"العقلانية العملية" التي تنبني على الأخلاق؛ ذلك لأنَّ الأولى –أي العقلانية النظرية- إن أمكن وجودها، فلا يمكن أن يتفرَّد بها الإنسان كما تبين؛ أما الثانية –أي العقلانية العملية-، فإنَّه، إنْ جاز أن يتفرَّد بها الإنسان، فلا يجوز أن تكون الأولى أصلاً لها ولا حتى أن تكون في رتبتها كما يُظَن؛ والصواب أنَّ الأخلاقية هي مابه يكون الإنسان إنساناً، وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة؛ لذا، ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان، مهما كان متغلغلاً في التجريد، بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية، حتى إنَّه لا فرق في ذلك بين فعل تأمُّلي مجرد وفعل سلوكي مجسَّد.(25).‏
حداثة المابعد:اللاّديني لا أخلاقي‏
لم يغادر النقاش الفلسفي الذي شهدته الحداثة الغربية المتأخرة ثالوث العقل –الدين- الأخلاق. ذلك على الرغم ممّا ألقت به الثورة التكنو–إلكترونية من حُجُب لا حصر لها على فضاءات النقاش. قد يكون العكس تماماً هو الذي حدث بالفعل. أي أنَّ هذه الثورة بتظاهراتها المختلفة شديدة التنوّع، وصولاً إلى الثورة الرقمية والمعلوماتية كتجلٍّ أخير لها، سوف تضاعف من الحاجة لاستحضار سؤال الأخلاق والدين ناهيك عن سؤال العقل. وإذا كان لنا أن نلاحظ مناحي واتجاهات حركة التفلسف في الغرب الآن. فسنجد إلى أي مدى يظهر الديني كعامل مؤثِّر في الظواهر ذات المنشأ الفلسفي. كان العالم الروسي نيقولا برديائيف يقول: "إنَّ لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً، وظلَّ يميل إلى الاعتقاد، حتى في ذروة شيوع النزعات الفلسفية الإلحادية، أنَّ الفلسفة الحداثية عامة، والفلسفة الألمانية خاصة هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط، وذلك بسبب موضوعاتها الرئيسية وطبيعة تفكيرها. فلقد نفدت المسيحية –بحسب برديائيف- إلى ماهية الفكر نفسه من فجر العصور الحديثة."(26).‏
لا بل حتى أولئك الذين يوصفون بالتيار الفلسفي المادي أكَّدوا على ضرورة الدين باعتباره وظيفة أبدية للروح الإنسانية، وإنَّه يجب على الفلسفة نفسها أن تدخل حظيرة الدين وأن تجعله محوراً لها.‏
الأهم من ذلك أنَّ الاستعادة، الحداثية لمفهوم الأخلاق بما هو نأي عن الشر ونزوع إلى الخير، بل للأخلاق الكانطية المسيحية تعييناً، إنَّما هي استعادة من باب الوجوب. ثمة في الغرب اليوم، بل ومنذ بضعة عقود إرهاصات ذات حرارة مرتفعة تدعو إلى مراجعة شاملة للعقلانية كمفهوم وكنمط حياة في آن.‏
في رؤياه النقدية لأخلاق الحداثة الغربية سيلاحظ طه عبد الرحمن –في كتابه الذي أتينا عليه قبل قليل-مَدَيات التهافت التي عصفت بالحداثة فوجد أنَّ الحضارة الغربية الحديثة التي هي حضارة "اللوغوس" أو حضارة العقل، هي حضارة ذات وجهين: عقلي وقولي وذات شقَّين: معرفي وتقني، وكيف أنَّ هذين الوجهين وذينك الشقَّين، وإن قصدا تلبية حاجات الإنسان المختلفة والمتزايدة، فإنهما يضران بأخلاقيته بقدر يهدِّدا إنسانيته؛ فالوجه العقلي من هذه الحضارة يقطع عنه أسباب الترقي في مراتب الأخلاق، والوجه القولي يضيِّق نطاقها ويجمِّد حركتها ويُنقِّص من شأنها، والشق المعرفي يخرجها من الممارسة العملية ويَفصلها عن المعاني الروحية، والشق التقني يعمل على استعبادها والاستحواذ عليها كما يحرص على أن يستبدل بها غيرها؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّ هذه الحضارة حضارة ناقصة عقلاً وظالمة قولاً ومتأزمة معرفة ومتسلِّطة تقنية.‏
وفي السياق نفسه يستطرد عبد الرحمن ليظهر أنَّ حاجة المفكر المسلم إلى أن يتأمَّل في الممارسة الأخلاقية لهي أشد منها في أي وقت مضى، وهو يضع لهذه الحاجة اعتبارات ثلاثة:‏
أحدها، أنَّ الآفات التي تحملها حضارة "اللوغوس" إلى الإنسان، وهي، كما ذُكِرَ، أربعة أساسية: "النقص" و"الظلم" و"التأزم"، و"التسلط"، والتي تُؤذي الإنسان في صميم وجوده. الأخلاقي بما ييأس معه من الصلاح في حالة والفلاح في مآله، لا يمكن أن يخرج منها أهلها بمجرد تصحيحات وتعديلات يُدخلونها على هذا الجانب أو ذاك من هذه الحضارة المتكاثرة، نظراً لأنَّ هذه التقويمات المحدودة ليست في قوة هذه الآفات الشاملة، حتى تقدر على محو آثارها وسوءاتها الأخلاقية؛ ولا أدل على ذلك من أنهم لا يكادون يَفرغون من إجراء هذه الإصلاحات أو تلك حتى تظهر لهم من تحتها إفسادات أتوها من حيث لا يشعرون، فيقومون إلى إصلاحها، فيجدون مرة أخرى من الإفساد ما وجدوا من ذي قبل، وهكذا من غير انقطاع؛ وهذا يعني أنَّ أخلاق السطح لا تنفع في الخروج من آفات العمق، بل لا بد في ذلك من طلب أخلاق العمق، وهذه، على خلاف الأخرى، تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها لـ"اللوغوس"، وإنَّما يكون فيها لـ"الإيتوس" (أي الخُلُق)، بحيث تتحدَّد فيها حقيقة الإنسان، لا بعقله أو بقوله، وإنَّما بخُلُقه أو فعله؛ فلا مناص إذن من أن نهيء الإنسان لحضارة "الإيتوس"، متى أردنا أن يَصلُح في العاجل ويُفلِح في الآجل والاعتبار الثاني، أنَّ العالَم، بلا شك، مقبل على تحُّول أخلاقي عميق في ظل ما يشهده من تحولات متلاحقة في جميع مناحي الفردية وميادين الحياة المجتمعية؛ وإذا كان لابد لهذه التحولات المختلفة من أن تُفرز قيماً ومبادئ ومعايير أخلاقية جديدة، فلا يبعد أن يلجأ سادة هذا العالم إلى وضع نظام أخلاقي عالمي جديد كما هو شأنهم مع النظام التجاري العالمي، وإن كان هذا النظام الأخلاقي الجديد قد لا يرى النور إلاَّ بعد الفراغ من وضع سلسلة من أنظمة عالمية متعددة أخرى: اقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية وثقافية؛ ومرد هذا التأخير إلى سيادة تصور للأخلاق يجعلها تابعة ولاحقة لهذه الأنظمة الأخرى، لا متبوعة وسابقة عليها.‏
والاعتبار الثالث، أنَّ هناك غياباً كلياً للمساعي التي تعمل على تجديد النظر في الأخلاق الإسلامية بما يجعل هذا النظر يضاهي الفلسفات الأخلاقية الغربية الحديثة، ولا بالأولى يجعله يواجه التحدي الأخلاقي المقبل؛ وهذا الغياب المؤسف لن يزيد المسلمين إلاَّ تضعضعاً في مركزهم، ولاسيما أنهم لا يملكون، على ما يبدو في الأفق القريب، إلاَّ ما انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية والمعاني الروحية لتثبيت وجودهم وقول كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة.(27).‏
ما لا يُشك فيه أنَّ الاعتبارات التي وضعها طه عبد الرحمن وهو يتقصَّى مسار التحولات في العقل الأخلاقي الغربي تفضي إلى ضرب من التواصل والتأثير على البنية الأخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية وتلك مسألة سيكون لها مجال مخصوص من النقاش، مع هذا فإنَّ ما يتولاّه بحثنا هذا في تحولات الفكر الأخلاقي الغربي قد يؤدي مساحة لا بأس بها من المهمة اللاحقة.‏
عقلانية التنوير: أثر بعد عين‏
لقد مضى زمن مديد بدا إنَّ اللحظة لم تَحِنْ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. ثمة مَن يزعم، وفي زعمه اقتراب من حقيقة المشهد في الغرب، إنَّ الحداثة وهي تنجز آخر تقنياتها لا تنفك تستغرق في غفلتها التي أدَّت بها إليها عقلانيتها ذات البعد الواحد. لم تعد العقلانية –كما حملت في نصوص التنوير الغربي- صالحة على ما يظهر- للإحاطة بما صار يعرف اليوم بـ"مابعد الحداثة". كذلك فإنَّ العقلانية التي نذرت نفسها لاستنقاذ التاريخ من بدائيته، وأوهامه، وفوضاه، دخلت في ما ينافي قيمتها الأصلية. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها عن طريقة فضلى لسيادة العقل، ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابياً في ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه. كأنَّما انقلبت هي أيضاً، على نفسها، فاستحالت "طوطماً" للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها "العظمى" في "تأليه" الإنسان.‏
استهلَّت العقلانية بيانها في ما أملته عليها حاجتها إلى الوثوب والترقّي. فكان عليها أن تتوسل الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وأن تؤكِّد وجوب أن يغادر العالم فضاء الوعي الإيديولوجي بما هو –على ما رَوَتْ- فضاء مكتظاً بالأوهام، إلى رحاب الوعي العقلاني. غير أنَّ السيرورة التي حكمت العالم على امتداد ثلاثة قرون انتهت إلى منعطفات تراجيدية، وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين والحروب المتفرِّقة الكبرى والصغرى في نصفه الثاني، بمثابة علامات حاسمة في التحول النهائي في اتجاه اللاّعقلانية الجائرة.‏
أما علامة التحُّول الكبرى فهي تلك التي انتهت إليها العقود الخمسة من الحرب الباردة. ما رتبت انهيار منظومة تاريخية كاملة من ثوابت الفهم، وأنظمة القيم، وعلاقات القوة، في العالم كله.‏
ربما كانت الحرب الباردة تحصيل هادئ للعقلانية، عندما أرادت أن تستريح من تمجيدها للعنف. إلاَّ أنَّها ماكانت لتجنح إلى مثل هذه المسالَمَة الماكرة، لولا أن انضبط العالم بتوازن مثير للهلع... وإلاَّ لكان استأنف الغرب السياسي هذيانه العنيف، ومشى بخيلاء نادر خلف العقل الهيغلي، مطمئناً لفلسفة القوة، بوصفها علَّة التاريخ، وسبب اشتغال العقل وسلواه. سنلاحظ أنَّ هذه الفلسفة (فلسفة هيغل) "تميل إلى تشبيه مدار التاريخ، أي مدار الروح، بمدار الشمس. كانت تقول بأنَّه إذا كان نور الشمس يسير من الشرق إلى الغرب، فإنَّ ضوء العقل يتحرك في الوجهة نفسها، ذلك أنَّ آسيا هي بداية مسار العقل، أي في البداية المطلقة للتاريخ، وأوروبا هي الغرب الفاصل أو نهاية التاريخ".‏
جرى هذا التنظير الفلسفي مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس "روحياً" لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً ممتدَّاً لم تنته أحقابه بعد. لقد اعتبرت عقلانية التنوير أنها في نفسها التاريخ، وهي نفسها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولد جهالة القرون الوسطى تحت تأثير المؤسسة المسيحية، ومعها أصبح زمن الإنسان أدنى إلى صحراء تيه لجهة كونه مجرد ما يدوِّنه الإنسان عن تفوِّقه وقسوته وفعاليته وجبروته. أي كل ما يكتبه، أو يروي تقدمه. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية -الأميركية- تعييناً، "أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق". لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعالٍ فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية، بينما هم يدخلون الألف الثالث على حصان التهديد النووي واحتكار السيطرة المطلقة على العالم. إنَّ الخط الذي انتهت إليه العقلانية الحديثة من خلال –مطابقة العقل الكوني الإنساني بين الواقع والمعقول، أي إضفاء العقلانية على المعقول بدلاً من عقلنته –قد دفعت به إلى أن يقبل كشيء معقول عدداً من مظاهر الاستلاب الإنساني، لم يعد العقل مجسداً في الأفعال والأنظمة والعلاقات البشرية، أو أن يسعى إلى البحث عمَّا يحرِّر من الاستلاب، بل أصبح يبرِّر أنواع الاستلاب الموجود. وبدا بوضوح أنَّ ضغط الواقع القائم في المجتمع الإنساني المعاصر قد دفع إلى أن يتراجع خطوات إلى الوراء عمَّا كان قد أعلن عنه كغاية لـه في لحظة انبثاقه، وفي مراحل تطوره الأساسية. لم تعد غاية العقل هي الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل غدت هي البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها اعتبار ذلك الواقع مطابقاً للمعقول. لم تعد الغاية هي التجاوز والتنوير والتغيير، بل أصبحت هي التبرير بعينه. وبدل أن يكون العقل الإنساني. موجِّهاً للواقع المعاصر له، أصبح خاضعاً لهذا الواقع....".(28).‏
"عقلنة" لا عقلانية الهيمنة‏
تعبِّر اللاّ عقلانية عن نفسها، دائماً، بوسائل عقلانية. ذلك إنَّ عقلنة ماهو غير معقول، أي منح المشروعية لسطوة رأس المال والشركات وامتداداتها يستلزم تأليفه لغة ذرائعية قصدها إضفاء رداء المعقولية على الذي يحدث. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. أصبحت بمثابة إيديولوجية تسوِّغ الربط بين الإجراءات والوسائل المتوفرة وبين ماهو مرسوم من أهداف واستراتيجيات. لعلَّ دولة مابعد الحداثة(تحتل أميركا نموذجها الصارخ اليوم) هي أكثر النماذج اهتداءً إلى هذا التحول الإيديولوجي للعقلانية. عند انتهاء الحرب الباردة أخذت الليبرالية قسطها الوفير من الراحة لكي تؤدلج انتصارها. زعم منظِّروها أنها نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة.‏
ولقد تسنَّى لهم بوساطة شبكة هائلة من الاتصالات البصرية والسمعية –أن ينتجوا المقدمات الأولى لمعارف مابعد الحداثة. استطاعت "العقلانية الأميركية" أن "تفلسف اللاّمعقول الدولي، و"تمفهم" لا توازنيته. وتؤدلج الاستهلاك فتمنحه صفة النظام المقتدر، الآيل إلى إنتاج حقائق معرفية تؤسِّس للديمقراطية الجديدة وحقوق الإنسان. كان على "عقلانية" ما بعد الحرب الباردة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيم لحداثة التنوير.‏
لقد حسمت مقالتها المدعاة بتقريرها إن تداعيات المشهد العالمي "لا يعكس فقط نهاية الحرب الباردة، أو نهاية حقيقة خاصة بعد الحرب، بل نهاية للتاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء. وفي ما يوحي إظهار عقلانيتها اعترفت الليبرالية بأنَّ انتصارها جرى في مجال الأفكار وهو لمّا يزل بمعظمه هناك، فلم يكتمل في العالم الواقعي. كأنَّما تريد بهذا أن تؤسِّس لـ "الما بعد" ولـ "ما ينبغي" أن تكون برامجها الميدانية في العالم. لكي تسود الليبرالية سيادة كاملة، مطلقة، تملك خلالها الزمان والكينونة معاً وبلا منازع(29).‏
هل تشعر الليبرالية، في زمن "الما بعد العالمي"، أنها بلغت حدود "الجنون" حين جانبت نظام القيم وجعلت العالم كينونة منزوعة الأخلاق.. ثم هل تجد نفسها واقعة في ما يشبه الخواء المفتوح على اللاّ متناهي؟!‏
لقد تنبَّهت الوجودية إلى هذا بصورة مبكرة. فأجابت فيما يشبه الفانتازيا الفلسفية حين وجدت أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها، ثم لتظهر حسنها عارية أمام الملأ. ربما هي تدرك أنَّها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة والدوام وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون كأنها عودة إلى العقل بمخيلة أخرى. إنَّ هذه السيرورة التي ستؤول حتماً إلى مآل كهذا، لا بد أن تنتج معرفة على صورتها. معرفة تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات كاذبة. بحيث تكون المحصّلة شيوع قناعات واعتقادات كلية، غايتها عقلنة السائد السياسي ونمط حياة المتفوق، وغايتها تأسيس المزيد من القدرة على اكتساح العالم عبر تحويل التبرير الإيديولوجي إلى مقدس يدخل في ثنايا الوجدان العام للبشرية. بهذا يصير ـ كل ما ومن يساهم في تشكيل وترسيخ هذه الغايات معترفاً به، وعضواً في المشروع العقلاني وكل ـ ما ومن ـ يعرقله يصير لا عقلانياً أو كائناً لا تاريخياً.‏
كان مؤلماً للفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار أن يقف أمام صورة العالم فيجده على هذا النحو من الخواء والوحشية فإذا هو يقول: "لقد منحنا القرنان التاسع عشر والعشرون من الإرهاب قدر ما نتحمل. لقد دفعنا ثمناً باهظاً للحنين للكل وللواحد، للمصالحة بين المفعوم والمحسوس، بين الخبرة الشفّافة والخبرة القابلة للتوصيل. وتحت المطلب العام للنضوب وللتهدئة، يمكننا أن نسمع دمدمة الرغبة في العودة إلى الإرهاب، في تحقيق الوهم للإمساك بالواقع. والإجابة هي: لشن حرب على الكلية Totality لنكن شهوداً على ما يستعصي على التقديم، لننشط الاختلافات وننقذ شرف الإسلام"(30).‏
كذلك سوف يأتي من الفلاسفة الفرنسيين المابعد حداثيين من يعيد التأكيد على أنَّ العقلانية وانتقاد العقلانية كلاهما ممارستان تحتاجان إلى العقل كمستند من ناحية، وكخطاب مُضمر أو صريح لكل العلاقات الأخرى، سواء منها المعترفة بسلطان العقل والداعية له، أو المنتقدة لبعض إنتاجه باسم إنتاجات أخرى أتت أو لم تأتِ بعد. والطريق الذي يقترحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والمدعو بالتفكيك، إنَّما هو استراتيجية ممارسة مختلفة تأتي في الوقت الذي تهافتت فيه كل الخطط حسب رأيه، وقيل كل ما يقال، وفُعِلَ ما يمكن أن يُفعَل. فالخطاب المطلق قد أنجز وانتهى سلطانه. وفي هذه اللحظة بالذات يراد لنا أن نقول شيئاً مختلفاً، وأن نعمل العمل المختلف. ودريدا ليس يائساً من استراتيجية للتفكيك في حقل كلُّ شيء فيه بات خرباً وأنقاضاً، بالرغم من كون التفكيك واقعاً بين الإحراج الفلسفي (العقلانية والنقد العقلاني للعقلانية). لكن لـه حيلته ومغامرته. فهو في الوقت الذي يقول فيه أمر الكلام فإنَّه يدحض، ولو صامتاً، كلام الأمر ذاك. كان يقول مثلاً إنَّ هذا هو الحق (وهو ليس الحق تماماً). وإنَّ هذا هو الخير، (وليس الخير تماماً). وراء الأوامر المنطوقة يقف صف متراصّ من الأفكار الخلفية الصامتة الأخرى غير الملفوظة التي تقيم مملكة المختلف حتى في لحظة الإقرار بكل المزدوجات الفلسفية المعهودة. فتحت قبّة الخطاب المطلق ينتهي التاريخ. لكن لعبة التفكيك قادرة على استعادة البحث فيما وراء ذاكرة الرموز والدلالات. إنها ليست الطريق المؤدية إلى اللاّشعور الذاتي للتاريخ ولكنها تصنع زمان اللاشعور التاريخي هذا بعد تحققاته الشعورية ذاتها وليس قبلها.‏
فهي ليست قراءة الحاضر لما وراء الماضي، وإنَّما قراءة ما وراء الماضي في الحاضر ذاته(31).‏
تنوير المابعد: الإنسان مغلولاً‏
أظهرت تحولات نهاية القرن العشرين ما ينبئ بهزَّة كبرى أصابت عالم الإنسان. فجعلته على غير سويته وبدَّلت أحواله على الجملة. وبدأ كما لو أنَّ خلاصه يوجب قيامة أخلاقية جديدة. غير أنَّ هذه التحولات لم يقابلها بعد، "قوة توازن" تعيد للعالم صوابه، وتفتح للإنسان باباً للتفاؤل. حتى ليبدو الحال، كما لو كان عالم الإنسان يجري بشغف نادر نحو الكارثة. أو كأنَّه سائر، تحدوه الرغبة ليصنع جحيمه بنفسه.‏
كل شيء، على ما يبدو، يلج فضاء التفاؤل الحائر في الغرب الثقافي. وليس ثمة ما يوقف السباق إلى الهاوية سوى ما تبقَّى، ممّا يحكى عن حقوق الإنسان. لكن الأمر سيبقى غير موقوف على هذا المحدد الأخلاقي، فالعقل الذي روهن عليه لكي ينتظم أزمنة التنوير، "ويؤنس" إنسانها، غدا عقلاً محتلاً بشهوة المصلحة والاستحواذ. ولقد ثبت من تجربة العقل على امتداد تسعة عقود فائتة كم كانت نتائجها كارثية على الإنسان. خصوصاً حين جعل العقل الوسيلة الأشد فظاعة، لاستلاب الكائن البشري. وقبل بضعة عقود كان للمفكِّر المعروف هربرت ماركوز رؤية ثاقبة في تشكيل صورة مستقبلية للمجتمع الصناعي الغربي. لقد كشف عن مقولة الإنسان ذي البعد الواحد الذي خلقه المجتمع ذو البعد الواحد. فالإنسان في هذا المجتمع فقد حقّه في الحياة بمجرد أن سلَّم للمجتمع مقاليد أمره، فتوهَّم بأنَّه يعيش الحرية فيما هو يغرق في استيلاب سحيق لا قاع له. رأى ماركوز يومها أنَّ "المجتمع المستلب" يلبِّي حاجات وهمية لإنسانه من خلال الدعاية الكاذبة وسائل الاتصال الجماهيرية الخادعة. وفي اعتقاده أنه إذا كان المجتمع يحرص ـ بهذا المعنى ـ على تلبية هذه الحاجات المصطنعة أفليس ذلك لأنَّها شرط استمراره ونمو إنتاجيته فحسب، بل أيضاً لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان المسلوب، القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد المتكيِّف معه، وما الإنسان ذو البعد الواحد في هذا المعنى، إلاَّ ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية. فإذا كان (هذا الإنسان) يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها لـه المجتمع لتلبية "حاجاته"، فما أشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم بأنه حر لمجرد أن منحت لـه حرية اختيار سيارته (...) إنَّ المجتمع الصناعي المتقدم لم يزيف حاجات الإنسان المادية فحسب، بل زيَّف أيضاً حاجاته الفكرية، أي فكره بالذات. الفكر أصلاً هو عدو لدود لمجتمع السيطرة، لأنَّه يمثِّل قوة العقل النقدية، السالبة، التي تتحرك دوماً باتجاه ما يجب أن يكون لا باتجاه ما هو كائن. وهذه القوة هي في خاتمة المطاف قوة إيديولوجية. إنَّ المجتمع ذا البعد الواحد قد أحاط الإيديولوجيا بالازدراء والتحقير باسم عقلانيته التكنولوجية، بل هو امتصها وأبطل مفعولها. مع أنَّ هذا لا يعني بالطبع أنه لم تعد هنالك أنَّ المدينة التقنية أصبحت هي الإيديولوجيا. وأبرز وجوهها من هذه الزاوية المذهب العاملي في الفيزياء، والمذهب السلوكي في العلوم والاجتماعية. والسمة المشتركة الأساسية لهذين المذهبين هي الالتزام بالواقع المعطى أو القائم، ونبذ المفاهيم الشمولية أو النقدية التي تهدد بالكشف عن بعد آخر لذلك الواقع.‏
لم يسفر منطق التحولات الذي استغرقته الرحلة الطويلة للحداثة الغربية، إلاَّ عن إدخال الإنسان في لجَّة اللاّيقين. أما كارثة التحرر التي تحدَّث عنها ماركوز فهي تلك التي دفعت العالم إلى فضاء اللاّعقلانية بوسائط عقلانية. وهنا تكمن على نحو خاص قوة المجتمع ذي البعد الواحد: أي الطابع العقلاني للاّعقلانيته. لقد ذهب مديرو هذا النوع من المجتمع إلى تسويق ما عرف بـ "الفكر الإيجابي". أي الفكر الذي يمهِّد لسيرورة القبول والإذعان وعدم الاحتجاج. إنَّ الأكثر مدعاة للهلع في هذه السيرورة، هو أنَّ الفكر الإيجابي ناجم من امتثالية صارخة للأمر الواقع.‏
كأنما القبول القسري "للإيجابية" سيتحول إلى إيمان بها، وإلى اعتقاد بقيمتها العليا وبحسب ماركوز فإنَّ "القبول بالفكر الإيجابي هو قبول قسري ويبيِّن ذلك بالقول أنه قسري لا بحكم الإرهاب، وإنما بفعل سلطة المجتمع التكنولوجي وفعاليته الساحقة المغفلة. في حين أنَّ الفكر الإيجابي يؤثر من هذه الزاوية المحددة على الوعي العام، وبالتالي على الوعي النقدي. كذلك فإنَّ ابتلاع الإيجابي للسلبي يتمثَّل في التجربة اليومية العاجزة عن التمييز بين الظاهر العقلاني والواقع اللاّعقلاني(32).‏
لقد ذهبت العقلانية في "أدلجة" نفسها حتى الرمق الأخير. لكنها لم تستيقظ من لاوعي الاستحواذ بعد. لقد أدخلت نفسها والعالم في كونية بلا أخلاق، فبدا المشهد الإجمالي على صورة عالم بلا عقل.‏
ذلك أن عقلانية ما بعد الحداثة، هي الآن في ذروة الخروج على العقل، ومع ذلك فهي لم تغادره حتى في اللحظة التي يشطح فيها نحو الجنون..‏
لقد منحت هذه العقلانية "العقل" قابلية صريحة للاستخدام والطاعة. فالعقل، على ما نعرف، يملك قابلية أن يتخذ من ذاته موضوعاً. مثلما يملك القدرة على التخارج نحو العالم واتخاذ معطياته موضوعاً للكلام والفعل. ولهذا فإنَّ جميع الأسئلة. تثار خارج العقل وداخله بواسطة العقل إياه. لكن السؤال عن محل الأخلاق في فضاء العقل، سوف يظل الأهم في الفضاء اللاّمتناهي لعالم الإنسان. وخصوصاً في أثناء الارتحال المتواصل لحداثة الغرب المقبلة.‏


الهوامش والإحالات:
(1) إيمانويل كانط ـ ما هي الأنوار؟ تقديم جميل قاسم ـ ترجمة شربل داغر ـ دار الانوار ـ بيروت ـ 2003.‏
(2) مطاع صفدي ـ نقد العقل الغربي ـ مركز الإنماء القومي ـ بيروت 1990 ـ ص115 ـ 116.‏
(3) أديب صعب ـ المقدمة في فلسفة الدين ـ دار النهار ـ بيروت ـ الطبعة الثانية 1995 ـ ص236.‏
(4) المصدر نفسه ـ ص237.‏
(5) B.M.Reardon: Religion thought, in Nineteenth Century Cambridge Unipress 1966.p.83.‏
(6) أحمد عبد الحليم عطية ـ جوهر الدين عند فيورباخ ـ الفكر العربي المعاصر ـ العدد 74 ـ 75 آذار (مارس) نيسان (أبريل) 1999.‏
(7) المصدر نفسه ـ ص239.‏
(8) المصدر نفسه ـ ص239.‏
(9) إلهام منصور ـ في المسألة الدينية / الأخلاقية عند كانط ـ "مجلة الفكر العربي المعاصر" العدد (58 ـ 59) تشرين ثاني كانون أول 1988.‏
(10) إلهام منصور ـ المصدر نفسه.‏
(11) أديب صعب ـ مصدر سبق ذكره ـ ص239.‏
(12) عبد الرحمن بدوي ـ إيمانويل كانط ـ فسلفة القانون والسياسة ـ وكالة المطبوعات ـ الكويت 1979 ـ ص440.‏
(13) أم الزين بن شيخة المسكيني ـ كانط والتأويلية ـ "الفكر العربي المعاصر" العدد 121 ـ 122 ـ خريف 2001 ـ شتاء 2002.‏
(14) أحمد قراملكي ـ الهندسة المعرفية للكلام الجديد ـ ترجمة حيدر نجف وحسن العمري ـ مراجعة عبد الجبار الرفاعي ـ دار الهادي ـ بيروت ـ طبعة 1 ـ 2002 ـ ص(209).‏
(15) مجتبى مصباح ـ فلسفة الأخلاق ـ دراسة مقارنة بين المذاهب الأخلاقية ـ ترجمة محمد حسن زراقط ـ "معهد الرسول الأعظم العالي ـ بيروت ط(1) ـ 200 ـ ص48، 54، 68، 76.‏
(16) هايدغر قارئاً نيتشه ـ "مجلة العرب والفكر العالمي" العدد الرابع ـ خريف 1988.‏
(17) كارل بوبر ـ مدخل العقلانية النقدية ـ سلسلة قضايا لبنانية (1). المؤتمر الدائم للحوار اللبناني ـ بيروت 1992 ـ ص167.‏
(18) المصدر نفسه ـ ص179 ـ 182.‏
(19) مطاع صفدي ـ إتيكا فن الوجود ـ الفكر العربي المعاصر ـ العدد السابع ـ صيف 1989.‏
(20) راجع "ما هي الأنوار" ـ مصدر سبقت الإشارة إليه ص(71).‏
(21) Habermas (J): La technique et la Science Comme Ideologi, op, cit , p 88-89‏
(22) محمد نور الدين أفاية ـ الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ـ نموذج هابرماس ـ دار أفريقيا الشرق ـ الرباط ـ الطبعة الثانية ـ ص167.‏
(23) المصدر نفسه ـ ص209.‏
(24) جون بانيس ـ أسس التعامل الأخلاقي للقرن الحادي والعشرين ـ ترجمة أحمد رمّو ـ دار علاء الدين ـ دمشق ـ 2002 ـ ص73.‏
(25) طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت ـ الرباط ـ ط1 2001 ـ ص13 ـ 14.‏
(26) N.Berdyaev: The Russian Revolution, the Uni, of Michigan press, 1961 pp. 11-12.‏
(27) طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ مصدر سبق ذكره ـ ص145.‏
(28) محمود حيدر ـ في أحوال ما بعد الحداثة ـ العقلانية الغربية لم تعد ذات أثر ـ "مجلة فكر" العدد 78 ـ 79، تموز ـ كانون ثاني 2002.‏
(29) المصدر نفسه.‏
(30) جان فرانسوا ليونار ـ الوضع ما بعد الحداثي ـ دار شرقيات للنشر ـ القاهرة ـ ترجمة أحمد حسان ـ ص109.‏
(31) مطاع صفدي ـ مصدر سبقت الإشارة إليه.‏
(32) هربرت ماركوز ـ الإنسان ذو البعد الواحد ـ راجع مقدمة جورج طرابيشي ـ دار الطليعة ـ بيروت ـ ص12 ـ 13 ـ 65.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟