الشعر والفلسفة. أية علاقة ؟! - عبد الحميد شوقي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسكثيرا ما يطرح علي هذا السؤال : ما علاقة الشعر بالفلسفة ؟ والسؤال هنا هو تساؤل عن وضعي الخاص . أي كيف يمكن لمشتغل بالحقل الفلسفي أن يكون منتجا للقول الشعري ؟ أو بتعبير آخر : هل أتيت إلى الشعر من الفلسفة أم العكس ؟! إذن كلها في نهاية المطاف تساؤلات تدور حول تجربتي الخاصة في ممارسة الشعر والاشتغال بالحقل الفلسفي . لذلك سيكون عرضي أكثر ميلا إلى التأمل في هذه التجربة الذاتية ومحاولة استنطاقها.
أبدأ عرضي بإدراج قولتين  موحيتين : يقول غوته : " لا يأخذ المرء في معرفة شيء إلا إذا كان يحبه ، والمعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب ، بل الانفعال نفسه أنظمُ قوةً وأحفل حياة ." في حين يقول ليوناردو دافنتشي : " كل وجدان كبير هو ابن لمعرفة كبيرة . " تقدم هاتان القولتان رؤيتين مختلفتين لطرائق الاشتغال التي تتوزع بين إرادة المعرفة والوجدان المحيط بالمعرفة . أي بين المعرفة الصادرة عن العقل والانفعال المرتبط بحب المعرفة ولذة المعرفة نفسها . للوهلة الأولى يبدو بين العقل والانفعال نوع من التناقض لآن العقل يميل إلى البرود والهدوء الفكري والانفعال يميل إلى الاندفاع والمتعة . لكن التراجيديا كلها تتلخص في محاولة إقامة هذا الفصل البائن بين العقل والوجدان ، بين التفكير والانفعال ، بين شروط المعرفة الصورية ، ومطالب الإبداع القلبية . ولعل هذا ما يختصره راسكولنيكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي حين يصرح لصوفيا المومس البريئة : " إن العقل هو ما كان يقودني ، وذلك بالضبط هو ما ضيعني ! " أي أن التفكير البارد الخالي من الوجدان والقائم على التقدير الحسابي هو الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة حين قتل المرابية العجوز . 
إذن أعلن منذ الوهلة الأولى أنني لم آت إلى الشعر من الفلسفة بل أتيت إلى الفلسفة من الشعر . وهذا ما وضعني أمام كثير من الثنائيات القائمة على المفارقة : اللغة / الفكر – الجمالي / المنطقي – الخصوصي / الكوني – الخيالي / العقلي – العاطفي / الصوري – الحسي / الوجودي – الصورة / التصور .. ويمكن لهذه الثنائيات أن تمضي إلى ما لانهاية . ووجدتني أمام الإشكال التالي : كيف يمكنني العبور للقفز فوق هذه الثنائيات ؟ هذا التساؤل هو بالأحرى تساؤل فلسفي وليس شعريا ، وهو ينتمي للحدوس الأولية التي بدأت أكونها عن تجربتي الفنية . سيقودني ذلك إلى نوع من الممارسة المتعالية بالتعبير الكانطي أي إلى محاولة تبين الثوابت الأولية التي تؤسس لعملي الإبداعي  ومحاولة تبين الخيط الناظم الذي يربط الشعر بالفلسفة .
إن الفلسفة في بداياتها الأولى صيغت شعرا وكانت بمثابة انفعال إنساني بالطبيعة في كونيتها . فأشعار بارمنيدس وهيراقليط التي احتفظ ببعض منها أرسطو شكلت رؤية جديدة في الشعر حيث استغل الشعر لا من أجل السرد الملحمي ورواية الأخبار المتعلقة بالآلهة التي تتحكم في أقدار البشر ، وإنما من أجل تكوين نمط جديد من التفكير يقطع مع التفسير الأسطوري للطبيعة .
ونحن نعرف ما قدمه طاليس وهيراقليط وبارمنيدس وأنكسمانس للتفكير الإنساني الذي قاد إلى ميلاد الفلسفة كفكر منطقي عقلاني . وحتى مع أفلاطون الذي اعتبر أول فيلسوف رسمي في تاريخ الفلسفة استمر حضور الشعر حيث أفرد أفلاطون مكانة كبيرة للشعراء في جمهوريته ولم يطرد منها إلا الشعر الذي لا يساهم في بناء القيم التي تنادي بها المدينة الفاضلة . كما يخبرنا تاريخ الفلسفة أن كثيرا من الفلاسفة اضطروا إلى صياغة بعض أفكارهم شعرا لإعطائها زخما آخر حتى تحقق فعل الإقناع لدى المتلقي. نتذكر هنا قصيدة ابن سينا في النفس:

نزلت إليك من المحل الأرفع            ورقاء ذات تعزز وتمنعِ
 
نتذكر كذلك أشعار المفكر الفارسي عمر الخيام التي لخصت صوفيته وموقفه الأبيقوري الباحث عن اللذة الحيوية الآنية التي لا تعترف بالانتظار لأن الآتي ما هو إلا الموت :
هبوا املأوا كأس المنى قبل أن           تملأ كأسَ العمر كفُّ القدر
هذه الأمثلة تصور جانبا خفيا من حياة كل فيلسوف وهو جانب الإعجاب بالشاعر . فالفيلسوف شخص منعزل ، صامت ، متأمل ، بارد ، متواري في صومعته الفكرية . أما الشاعر فهو شخص متحمس ، مندفع ، متكلم لأن وجوده الفني مرتبط بالتلفظ والتكلم أي بإلقاء الشعر وحرارة التواصل مع الآخر ومع الأشياء الجزئية ومع مشاهد الطبيعة . كثيرا ما ننسى عندما نتذكر المتنبي وسيف الدولة شخصا ظل مغيبا جدا وهو الفيلسوف
الفارابي . لقد كان المتنبي ، كما يريد التقليد النقدي ،  مالئ الدنيا وشاغل الناس ، ينام ملء جفونه عن شوارد الكلمات والمعاني ويترك الآخرين في البلاط الحمداني أو بين كل النقاد المسلمين آنذاك يتصارعون ويتخاصمون من أجل فك شفرة قوله . أما الفارابي  فلا تذكر كتب التاريخ أنه كان ذا حضور أو تأثير في بلاط سيف الدولة . كل ما تذكره هو تلك الحكاية الأسطورية عن دخوله على سيف الدولة حين بدأ يتكلم كلاما عجيبا و حين أخرج في النهاية من جيبه زقا عزف عليه فنام كل من في البلاط وتركهم نياما وخرج . لقد ظل الفارابي متواريا يعيش على أعطية لسيف الدولة وينصرف لشؤونه الفلسفية دون تدخل في الشؤون اليومية للسياسة والبلاط وقضايا الناس . وفي الوقت الذي كان فيه المتنبي يسعى لمجده الشخصي ويبيع قوافيه من أجل من يدفع أكثر ومن أجل الظفر بحكم ولاية من الولايات ، كان الفارابي ، على خطى أفلاطون ،  يضع الخطوط العريضة لمدينته المثالية الفاضلة . ربما هناك من سيعترض بأن هذا شأن المتنبي الشخصي ولا علاقة له بالمتنبي الشاعر المنتج للقيم ، ولكن حتى على مستوى الشعر نجد أن المتنبي حلم بسلطة عادية قائمة على العنف والغلبة والحرب عكس الفارابي الذي حلم بنظام مثالي  قائم على المثل والقيم الإنسانية النبيلة. ألم يقل    المتنبي :

مدحت قوما ولو عشنا نظمت لهم        قصائدا من إناث الخيل والحصُن
تحت العجاج قوافيها مضمرة             إذا  تُنوشِدْن لم  يدخلن  في  أذن ؟!

فإذا كان الفيلسوف يصنع لغة شمولية كلية قائمة على العبارة العمومية المجردة ، أو ما يسمى بالمفاهيم ، فالشاعر يفجر الكلمة ليجعل الصورة تسيل ماء ينقذ التصور من جفافه الاستدلالي المنطقي .إن الشاعر شخص مشاغب ، يحمل طفلا في أعماقه ، يريد ملامسة الأشياء واحتضان الجزئيات والتفاصيل كما يتمثلها بواسطة وجدانه وحدوسه الأولية ، وهو ينزل ليمشي فوق طمي الحياة ، دون افتراضات مسبقة أو توجسات أو احترازات . أما الفيلسوف فهو يترفع فوق طمي الحياة التي ينظر إليها مثل أفلاطون كعالم حسي زائف يشبه كهفا مظلما ، ليسكن عالما بريئا من المادة ومخالطة الحسيات ، وهو العالم الذي يسميه أفلاطون بالعالم المثالي . الشاعر لا يتخوف من مسائل الخطأ والوهم والشك والتناقض لأن تلك المفارقات تمثل مادته الأولى التي يمتح منها ، بل وتمثل شرط وجوده الشعري . كيف سيكون المتنبي دون تناقضاته التي قادته إلى تضخيم ذاته و الاستجداء بشعره ، وإلى مدح هذا وهجو ذاك ؟!
إن دور الفلسفة هو نسف البداهات التي ينطلق منها الشاعر ويشيد عليها قوله الشعري . يجد الشاعر بنية لغوية جاهزة ، حساسية جاهزة ، مصفوفة جاهزة ، يتماهى معها ، ويجد نفسه فيها ، أي أنه يتمثل جمالية عامة وذائقة سائدة  في إطلاقيتها . هذا العبور من الشاعر نحو الفلسفة يمنحه وعيا فكريا يجعله يعتنق ممارسته الفنية في عموميتها ويتباعد عنها ويقيم معها مسافة تمكنه من إدراك ثوابتها وحدود أدواتها وطرائقها وآفاقها . فمعظم الشعراء في تاريخ الأدب العربي الذين كان لهم اقتراب من الفلسفة ومن الاشتغال الفلسفي تمكنوا بطريقة أو بأخرى من الوعي بخصوصية ممارستهم الفردية أولا ومن الوعي بخصوصية المسار التاريخي لحركية الشعر وعلاقتها بروح عصرهم  مما جعلهم يطورون أدواتهم وطرق بناء الصورة الشعرية . نتذكر هنا أبا نواس وموقفه من المقدمة الطللية وأبا تمام وموقفه من بناء الصورة التي جعلت النقاد يقولون له : لم لا تقول ما يفهم ؟ فرد عليهم : ولم لا تفهمون ما يقال ؟ أي لم لا تكتب حسب النموذج السائد الموروث عن الشعر الجاهلي حتى تتم عملية التلقي دون عناء ؟ أما الموقف الواعي الجديد من أبي تمام فهو أن الإبداع ممارسة حرة غير مقيدة ببنية جاهزة أو نموذج سائد . في حين أن شعراء كبارا من طينة البحتري والمتنبي أبقوا البنية الشعرية الجاهلية على حالها رغم عظمة ما أنتجوا من قول لأن وعيهم الفكري ظل تقليديا وفي حدود الأفق المعرفي الموروث ، ولهذا لم يساهموا في تكسير المقدمة الطللية ووحدة الروي وجمودية الشكل العمودي ، ولم يخرجوا عن ثنائية الظاهر والباطن التي حكمت القول الشعري والتلقي الشعري ، فما
يكتبه المتنبي مثلا شيء ، لكن ما يعنيه شيء آخر ، وهذا هو مبرر وجود الناقد نفسه الذي يتدخل كوصي على
المتلقي ليفرض عليه نوعا من الدلالة المطلقة والحقيقية التي تعكس ما أراد الشاعر قوله . في حين أن التلقي قائم على حرية الذوق وعلى انفلات المتعة الذوقية من أي قيد . أي أن الفن هو ما نتمثله دون مفهوم حسب كانط. 
إن الوعي الفكري للشاعر ناتج عن رؤية فلسفية بالأساس تنظر للشعر كظاهرة جمالية شمولية تتقاطع مع ظواهر جمالية أخرى كالرواية والمسرح والسينما ، كما تنظر للشعر كظاهرة ثقافية وتعبير رمزي عن رؤية كونية للعالم وللعصر وللأفق المعرفي والفكري الذي يؤطر عصر الشاعر . فغياب هذا الوعي الفلسفي هو الذي يفسر سبب ديمومة النموذج العمودي الموروث عن الجاهلية . فرغم أن الموشح مثلا هو تجاوز جمالي وفني للقصيدة التقليدية المليئة بالغبار البدوي ، ورغم أن الموشح يمثل وعيا بخصوصية الزمن المختلف عن الزمان العربي القديم ، ووعيا بخصوصية المكان الإسباني المتميز بجمال الطبيعة المفتقد في المكان العربي الصحراوي البدوي فإن الموشح لم يحظ بنفس التقدير في تاريخ الشعر العربي ، وظلت طبقات الشعراء هي هي تتوارث عن النقاد والمتلقين العرب ، حيث أن فطاحل الشعراء هم دائما أولئك الذين يمثلون الطبقة الأولى أي امرؤ القيس ، النابغة ، زهير ، جرير ، الفرزدق ، بشار بن برد ، أبو تمام ، المتنبي .. ولم يُلتفت لشعراء آخرين أثروا حتى في الغناء العربي مثل البهاء زهير فقط لأن شعرهم كان بسيطا يعكس نبض الروح الإنسانية بعيدا عن البلاغة الجوفاء والألفاظ الفخمة والمحسنات البلاغية التي تنتصر للغة على حساب الرؤية وللبلاغةعلى حساب الصورة . وحتى عندما نال أحمد شوقي لقب أمير الشعراء فلأنه حافظ فقط على البنية الموروثة والنموذج السائد للقصيدة التقليدية .. وأذكر هنا أن طه حسين سخر من شعراء عصره وعلى رأسهم أمير الشعراء عندما أشادوا في قصائدهم بالمفكر لطفي السيد إثر صدور ترجمته لكتاب أرسطو حول الأخلاق ( الأخلاق إلى نيقوماخوس ) .لقد سخر منهم طه حسين لأنهم يتكلمون عن أرسطو دون أن يعرفوا شيئا عن فلسفة أرسطو .
بإطلالة الشاعر الفلسفية على روح عصره ، فهو بذلك يمتلك وعيا بخصوصية عبارته وخصوصية أدواته وخصوصية العناصر المكونة لمخياله ، أي كيف يرى العالم من خلال المقومات الفنية الجمالية ؟ وما هي الشروط الصورية القبلية بلغة كانط التي تؤسس الفعل الخيالي الجمالي والتي لا يمكن للعمل الجمالي أن يتحقق بدونها ، وهي : 

           * خاصية المنظومة : 

أي التناسق والانسجام والهارمونيا . حيث أن الفن الشعري كجزء من الفن بصفة عامة لا يمكن أن يتحقق خارج نوع من الخاصية النسقية. لكن الفرق بين النسقية الفلسفية والنسقية الفنية هي أن الأمر في الفلسفة يتعلق بالانسجام المنطقي بين أفكار ومواقف الفيلسوف من الوجود والمعرفة والقيم بحيث يتوجب على كل ذلك أن يتمحور حول ثوابت واحدة تحكم النسق الفلسفي بأكمله . أما في الفن فالأمر يتعلق بنسقية شكلية تنسحب على أدوات العمل ( لغة – ألوان – مشاهد – حركات - ) ، فالبيت التالي للأعشى قبيح ليس من الناحية الموضوعية أي من حيث تهافت مضمونه ولكن من الناحية اللغوية الصرف حيث نجد تنافرا بين ألفاظه :
-     
     وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني             شاو مشل شلول شلشل شوِل

كما  أن أية لوحة لا يمكن أن تبلغ مرتبة من الجمال والكمال الفني الذي يبحث عنه المتلقي إذا قامت على تنافر الألوان ونشاز الظلال والأبعاد مهما كان موضوعها ثوريا أو إنسانيا أو نبيلا . لذلك عندما أثيرت قضية زيف بعض لوحات بيكاسو رغم أنها تحمل توقيعه الشخصي الحقيقي أجاب بأنه كثيرا ما رسم لوحات زائفة أي خالية من البعد الجمالي المتناسق . وبالمثل نجد أن الشاعر الفلسطيني معين بسيسو الذي كان مشرفا على بعض المجلات الأدبية كثيرا ما كان يرفض نشر قصائد لشعراء مقاومين رغم توصيات من جهات عليا نافذة مثل ياسر عرفات . وعندما كان يقول له هؤلاء الشعراء إننا كتبنا بدمنا من داخل معارك وحروب حقيقية ضد العدو،   كان  يجيبهم : قبل أن تكتبوا بالدم ، تعلموا أن تكتبوا بالمداد .. ولعل هذا يشير إلى فكرة واحدة وهي عدم استسهال العمل الفني بدعوى تحرره من كل قيد أو ضوابط وارتباطه بالوجدان والإحساس فقط .
 
   * خاصية الابتكار :

 إن العمل الفني لا يتحقق إلا من خلال خاصية الخلق والابتكار . أي إبداع صور جديدة وآليات جديدة للوصول إلى المتلقي تخلخل أفق انتظاره وتدعوه إلى التأمل . نعطي هنا مثالين فقط من الشعر والرواية . لو أن المتنبي وصف الحمى التي ألمت به كمرض عضوي عادي ، لو رآها كما يراها الطبيب والإنسان العادي لكانت قصيدته عادية تماما ولا تستحق من المتلقي الوقوف وبذل المجهود . لكنه ابتكر صورة جديدة حين
شخصها في صورة عاشقة تتسلل إليه ليلا خجلا من الناس فيبسط لها المفارش العادية لكنها تعاف ذلك ولا تريد أن تبيت إلا في عظامه :

  وزائرتي كأن  بها     حياء               فليس تزور إلا في الظلام
  بذلت لها المطارف والحشايا            فعافتها وباتت في عظامي

في الشعر الفرنسي يمكن أن نسوق بيتين للشاعر فيرلين :

Il pleure dans mon cœur
Comme il pleut sur la ville

نجد هنا صورة مبتكرة على عدة مستويات : على مستوى اللغة ، وعلى مستوى تركيب الصورة . على مستوى اللغة :  إن اللغة الفرنسية تقبل بوجود ضمائر لا محددة : تمطر ، تثلج دون أن تشير إلى الفاعل وهو السماء هنا : أي السماء تمطر ، السماء تثلج .. هذا مقبول في سياق الحقل التداولي الفرنسي . لكن لا يمكن أن نجد ضميرا لا محددا يتعلق بالبكاء . فحين يقول فيرلين إنه يبكي في قلبي ، فعلى من يعود الضمير؟ في حالة المطر والثلج ، يعود الضمير على السماء . لكن هنا نحن أمام خطأ نحوي لأنه يخرق ثوابت الحقل التداولي الفرنسي . لكن هذا الخرق هو ما صنع الجمال هنا ، لأنه أسس لصورة مبتكرة قائمة على العلاقة بين قلب الشاعر وقلب المدينة ، وبين دموع الشاعر ومطر السماء ، وبين جو الكآبة المصاحب للمطر الباريسي وجو الكآبة المخيم في وجدان الشاعر . هذه الصورة ليست حسية رغم أنها تمتح تشكيلها من عناصر حسية ، لأن عنصر العلاقات بين هذه المكونات هو الذي يسمو بالصورة إلى مستوى المفارقة الخلاقة . في الرواية يمكن أن نسوق قصة المسخ لفرانز كافكا  التي أراد أن يصور فيها ارتهان الإنسان المعاصر لسلطة الإدارة ومتاهات البيروقراطية إلى درجة أن ذلك غطى على الجانب الروحي الوجداني في الإنسان ، فتخيل صورة مبتكرة تصدم المتلقي منذ السطر الأول من الرواية التي تبدأ هكذا : ذات صباح استيقظ سامسا غريغوار من منامه بعد حلم مزعج ، فوجد نفسه وقد تحول إلى خنفس عملاق .. إنه من الناحية المظهرية حشرة تتسلق الجدران ولكن في أعماقه صوت يتكلم ، يعتقد المتلقي أن الحوار الداخلي الذي يدور في أعماق البطل متعلق بمسخه وتحوله وتشوهه من إنسان إلى حيوان ، لكن الأمر ليس كذلك . كل ما يدور في بواطن البطل هو ما سيقوله رئيسه في الشغل بعد أن تأخر عن الدوام بنصف ساعة ثم بساعة ثم بأكثر وهكذا يستمر الرعب الوظيفي من دواليب الإدارة وما تؤدي إليه من زجر وعقوبات .. لو صور لنا كافكا موضوع المتاهات الإدارية بطريق حسية عادية لما كان لروايته هذا التأثير الذي رفعها إلى مستوى الأدب العالمي الرفيع .. هذه الخاصية تقود بالضرورة إلى خاصية أخرى تلزم عنها وهي :

   * خاصية الدهشة :

        كل عمل فني لا يحقق فعل الدهشة لدى المتلقي يعتبر عملا عاديا يمر دون أن يثير أي اهتمام . إن الدهشة تعمل على تغيير مقومات الحساسية والعلاقات الميتافيزيقية بين الإنسان والأشياء  .. كان  من الممكن لمحمود درويش في قصيدته " عابرون في كلام عابر "  أن يصف الانتفاضة كما تراها العين المجردة والملاحظة المباشرة  وبذلك كان سيقتصر على وصف أطفال يقذفون دبابات العدو بالحجارة ، فيستدر تعاطفنا الإنساني مع هؤلاء الأطفال الأبطال الذين يواجهون أعتى الأسلحة بحجارة بسيطة ، ولكن من الناحية الفنية ما كان لقصيدته أن تحقق أي فعل اندهاشي . لكنه عوضا عن ذلك يقول في أحد مقاطعها : 

               وانظروا كي تعرفوا
               أنكم لن تعرفوا
              كيف يبني حجر من أرضنا    
              سقف السماء .. !

إن عناصر الصورة هنا حسية ولكن تشكيل الصورة غير حسي لأنه مبني على مفارقة . كان من المنتظر أن يقول الشاعر : انظروا لتروا كيف يقاوم أطفالنا بواسطة الحجارة لبناء الوطن .. ولكنه رفع الحجر إلى مستوى الأنسنة لأنه جعله فاعلا يبني ولكن ليس الوطن لأن ذلك سيقود إلى دلالة ضيقة ومساحة جغرافية محدودة ، بل ليبني سقف السماء . والمفارقة هنا أن السماء لا سقف لها لكي تبنى كأي منزل عادي ، وهذا هو ما منح الصورة فعل الدهشة لأن السماء تحمل دلالات الانفتاح والفضاءات المشرعة التي تحضن الإنسانية كلها وليس فقط الإنسان الفلسطيني . . 
هذه العناصر تمثل الآليات المؤسسة للفعل الجمالي التي يجب على المبدع الوعي بها من أجل الوعي بمجال اشتغاله وطرائقها للوقوف على خصوصياتها وحدودها وإمكانيات تطويرها حتى لا يقع في التكرار والأزمات التي تخنق وتجمد عطاءه ، وهذا الوعي لا يأتي من المجال الشعري في حد ذاته بل من المجال الإستطيقي أي من التفكير الشمولي المتباعد الذي يضع مسافة نقدية بين الذات المبدعة وموضوعها المبدَع ، وهو ما يستدعي البعد الفلسفي إذن . إن الشاعر كشاعر هو شخص منتج للقول الجميل في شكل قصائد شعرية ولا يهتم بتأمل تجربته من الخارج من قبيل الأسئلة التالية : ما الشعر ؟ ما الجمال ؟ ما الصورة ؟ ما اللغة الشعرية؟ ما الفن بصفة عامة ؟ لأنه يعتبرها أسئلة خارج انشغالاته الأساسية ، مثله مثل العالم الذي لا يتساءل: ما العلم ؟ ما هي خصوصية التاريخ أو المنهج العلميين ؟ أو المؤرخ الذي لا يتساءل : ما التاريخ ؟ هل للتاريخ غاية ما ؟ ما المقصود بفكرة التقدم التاريخي ؟ إنها إذن أسئلة لا تأتي إلا من الحقل الفلسفي الذي يمنح للمشتغل رؤى أكثر شمولية وأكثر عمقا بمجال الاختصاص الذي يشتغل صمنه . لكن هذا لا يعني أن الفيلسوف يعوض العالم أو المؤرخ أو الشاعر في مجال إنتاجهم . سيظل العالم عالما والمؤرخ مؤرخا والشاعر شاعرا وفق حقول محددة من الإنتاج . إن ما لا أقبله هو أن نفترض أن الشاعر في لحظة من لحظات إبداعه يوقف نصفه الشعري ليفسح المجال لنصفه الفلسفي ليعينه على الاشتغال . إن هذا يعني وجود انفصال داخل ذات الشاعر بين البعد الجمالي والبعد الفكري ، في حين أن البعدين متكاملان لأنهما يدخلان ضمن التكوين المعرفي للشاعر . لن يتحول الشاعر أبدا إلى فيلسوف لأن الفيلسوف يشتغل بمفاهيم ومادة معرفية خاضعة لبنية حجاجية واستدلالية  محددة  أي لبنية قائمة على خصوصيات القول الفلسفي كالتساؤل والنقد والنسقية والأشكلة والمفهمة  وغيرها من مميزات الخطاب الفلسفي . في حين أن الشاعر غير معني بهذه الخصائص نهائيا لأنه لا ينتج أفكارا متناسقة مصاغة وفق مفاهيم عامة وحجج مضبوطة بهدف تحقيق فعل الإقناع ، بل إن مهمته هي تحقيق فعل المتعة من خلال إنتاج الجمالي . لقد سبق لعبد الله العروي أن حذر من خطأ فهم رواياته  انطلاقا من تنظيراته الفكرية . أي سيكون من الخطأ الشنيع أن نحاول قراءة روايات العروي بالإحالة إلى كتبه التاريخية والفلسفية لأن المجالين مختلفان تماما . ولعل الخلط بين المجالين هو ما أدى الآن إلى نوع من الفصل بين الشعر وقاعدته المتلقية أي جمهوره في شكل ما يعرف الآن ببعض تجارب القصيدة النثرية حيث يكون الاشتغال على الفكرة على حساب الجملة وعلى التصور على حساب الصورة ، وحيث يفقد الشعر كثيرا من مقوماته الجمالية كالموسيقى والغنائية والانسياب بدعوى أن ذلك لا يليق بالشاعر المعاصر الذي يرتدي معطف الفيلسوف . وإذا كانت قصيدة النثر قد أنتجت تجارب جميلة ومحترمة  مثل تجارب محمد الماغوط وأنسي الحاج وسركون بولص ، فإن معظم القصائد النثرية اليوم ركبت موجة الاستسهال مستغلة انهيار جدار برلين بين الأجناس الأدبية . ولكن هذا مقام آخر .


* ملحوظة : عرض ألقي بثانوية عبد الكريم الخطابي بمدينة تيفلت في شهر مارس المنصرم .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟