للنظر الى أبعاد معينة بغية فهمها يتطلب الأمر مقاربتها من منظور مقارن يبلور رؤانا المركبة عندما يتم تشغيل هذا المنظور لإستدعاء علائق المعنى في إطار النظرة النقدية وجدليتها المصوبة نحو التضاد والإختلاف ذلك ((فإن المعاني يمكن أن تفهم على نحو وافٍ فقط في ضوء الإشارة الى التضادات والإختلافات المحددة التي تزيح المعاني المرتبطة بها )) .. ولكي نستحضر ما بعد الإنسان لابد من إستجلاء مفهوم ما بعد الحداثة في سياق التجاذبات النقدية مع إطروحة الحداثة وما قبل الحداثة من تطورات فكرية أسست في ما بعد لما وصلت اليه الموجة العولمية من آلية فكرية في العالم مع دينامية إجتماعية في العالم الغربي ..
يمكن القول أن الكائن الإنساني كان محكوماً ومحدداً بالفكر اللاهوتي الذي يركز على الحياة الأخروية ، ويشل من إرادة الإنسان بوصمه بالإثم والذي يتطلب منه صرف كل همه في سبيل التطهر إنتظاراً ليوم الدينونة لمحاسبته على عمله الدنيوي المدنس .. ثم حكم الإنسان بالفكر الماورائي الذي يرى أن وجوده وأفعاله مخلوقة له من قبل القوى القصوى على حد وصف أرسطو أي قوى خارجة عن إرادة الإنسان وإمكاناته .
بعد ذلك ومع بزوغ عصر النهضة الأوربية والتطورات التاريخية الكبرى حل الفكر الحداثي الذي يبنى على أساس أن الإنسان جوهر فكري هو عين ذاته .. يفكر بعقله المستقل ، له وعيه الناضج ويمارس سلطته على الطبيعة والأشياء بملئ إرادته ومطلق حريته . وقد ترافق المد الحداثي مع نشوء العلمانية التي إرتبطت بظهور البرجوازية حيث حررت الإنسان من هيمنة الكنيسة ، فالعلمانية هي : (( الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض )) حسب تعريف جون هوليوك ( 1817 – 1906 ) ، حيث نما الفكر البراغماتي الذي هدف أولاً الى تعظيم الإنتاج كهدف لوجود الإنسان الذي إنتهى الى موجات إستعمارية في الخارج وقيام الدول القومية في الداخل مبتناها الفصل بين العلم والأخلاق .. وفي مرحلة لاحقة أعتبر الإستهلاك هو الهدف النهائي لوجود الإنسان فيما لاح في الأفق من أن آلية السوق (( الخالية من القيم )) صارت تهدد سيادة الدولة القومية وكذلك تهددها مشكلات تفكيكية (( مثل ظهور النزعات الأثنية )) فيما تم إستبدال النموذج الإستعماري العسكري بنماذج أخرى كالإستعمار الإقتصادي والثقافي .. الخ
لقد أجاد هيجل عندما أرجع ولادة الحداثة الى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي أسس مفهوم الكوجيتو : (( أنا أفكر، إذن انا موجود )) ، ذلك أن الحداثة كانت قد بنيت على أساس الأنسنة والعقل (( لأن الحداثة الأوربية تأكيد للذات الإنسانية وثقة في قدراتها على إنتاج الحقيقة وتفسير الكون ووضع نظم الحياة )) .. وبعد فترة الإنبهار بالعقل الإنساني التي أعقبت ديكارت والمبالغة في قدراته المعرفية والثقة المطلقة فيما عرف ’ـ (( الخرافة العلمية )) وما أعقبها من ثورة صناعية / تكنولوجية .. ما لبث أن أعاد الفكر الغربي من خلال صيرورات الحداثة وتهويماتها ، أعاد النظر في وثوقية العقل من خلال دراسة آلية التفكير وحدود إشتغاله (( لقد أرهق الإنسان من جراء عبادة الأصول والنماذج والنصوص ، وما يحتاج اليه هو الخروج من عصور القداسة ، القديمة والحديثة ، التي أوصلت الى هذه النهايات الحافلة بفضائحها والحارقة بعنفها وتوحشها )) .. حيث جاء كانط في القرن الثامن عشر يحمل أزميلاً لنقد العقل ، وفي القرن التاسع عشر ظهر ماركس وغيره .. صاباً جام نقده على المجتمع الصناعي الصارخ الطبقية كاشفاً عن إختلالاته الإنسانية الكبيرة .
مع بداية القرن العشرين ، بعد ما إتضح أن ما أنجزته الحداثة من إطاحة بالمرجعية الميتافزيقية لتقيم بدلاً عنها مرجعية العقل (( بوصفه مرجعاً أحادياً للحقيقة الفلسفية ومنبع التنظير للنظم السياسية )) ، فضلاً عن أن مرجعية العقل هذه لم تحقق للبشرية مطالبه في العدل والتحرر ، رغم إنجازاتها العظيمة .. لذلك كله كان لابد من مراجعة نقدية معمقة لثوابت الحداثة وأقانيمها وخاصةً (( الأنسنة )) .. وهكذا ولد مشروع ما بعد الحداثة بوصفه نقداً للحداثة ونفياً للذات الإنسانية ونقضاً لأحاديّتها العقلية ، وبذلك خلصت ما بعد الحداثة الى (( محاولة لتفكيك الأشكال السائدة ، القديمة والحديثة ، ذات الجذر الديني واللاهوتي ، أو ذات المنشأ العلماني والناسوتي ، وذلك من أجل فهم مأزق المذاهب الأنسية والكشف عن فضائح المشاريع التحررية التي يجسدها الدعاة والمثقفون أكانوا تقليديين أم حداثيين )) على حد تعبير المفكر علي حرب .
وقد رافق ذلك تبدل في الأولويات في المجتمعات الغربية .. إذ مع إشتداد هيمنة الفكر النفعي الذي يوجه المد العولمي من خلال تضخم الشركات متعددة الجنسيات .. صار الإستهلاك الهدف النهائي للوجود ومحركه اللذة الخاصة .. بالإضافة الى ظهور إهتمامات جديدة مثل قضايا البيئة ، والإصلاح السياسي المفروض من الخارج .. أن ما بعد الحداثة .. يمكن النظر اليها من الزاوية التاريخية لتدل على تحولات شهدتها المجتمعات الغربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، كثورة المعلومات والإعلام ، والإستنساخ والتعامل مع الجينوم البشري .. الخ .
أما من زاويتها الفكرية فتمثل (( مجموع الإنتقادات التي وجهت الى الحداثة كبنية فكرية وكنظام فكري مغلق .. أي نقد أساطير الحداثة .. بإرتكازها على العقل وتمجيدها المطلق للإنسان وتصنيمها للتاريخ وللحتمية التاريخية وإنكارها للمتخيل والرمزي )) كما يقول المفكر د. محمد سبيلا .
إن إعتبار مفاهيم كالشعور والعقل والحرية دلالات مطابقة لحقيقة الذات الإنسانية بحسب الفكر الحداثي ، أمر يرفضه الفكر ما بعد الحداثي ، إذ يذهب سغموند فرويد الى إلغاء الكائن الإنساني على أساس تلك المفاهيم ليجعله محكوماً بمحددات لاشعورية ، مثلما فعلت الماركسية عندما أعتبرت العامل الإقتصادي عاملاً محدداً وموجهاً للإنسان .. (( الماركسية بهذا المعنى إمتداد نقدي للحداثة الغربية )) . إن ما بعد الحداثة تطرح إن الإنسان يخضع في سلوكه وتفكيره لشروط خارجة عنه (( وفي هذا السياق يقول التوسير محدداً التاريخ بكونه ( عملية بدون ذات ) ، أي ثمة بنية من الشروط والمحددات المادية هي التي تتحكم في توجيه حركة التاريخ وتعيين إتجاهه ، وهي بنية خارجة عن إرادة الإنسان ! )) كما يقول د. الطيب بو عزة .
يمكن إلتماس أهم تجليات ما بعد الحداثة في تغييب ونفي الإنسان من خلال (( تذويبه في بنيات شارطة ومتحكمة فيه ، سواء أكانت بنيات نفسية أو إقتصادية )) أو على مستوى النظريات الجمالية كدعوة – موت المؤلف – كما هو الحال مع نظرية النص التي قدمها رولان بارت . فقد رأى بارت بأن المؤلف ينتهي الى بنية لغوية تشكل النص .. مما يعني إختفاء المبدع وظهور القاريء الفاعل الذي يمسك بالنص تأويلاً ورؤى .. وعليه فأن أنظمة النص ستشتغل بعيداً عن قيود ( الناص ) . يمكن القول أن نظرية (( موت المؤلف )) عند بارت نمت من المقولة الفلسفية (( موت الإنسان )) والتي بدورها نجمت عن نظرية نيتشه الشهيرة : (( موت الإله )) .. إن هذه النهايات تعكس فكرة أساسية تتمثل في غياب الفاعل الحاسم من جهة وسيادة السيرورات والصيرورات من جهة ثانية .. كما إن مصطلح ما بعد الإنسان لايفهم (( هنا بالمعنى البيولوجي ، بل بالمعنى الأنطولوجي ، أي لايشير الى كائن من نوع جديد ، بقدر ما يشير الى شكل إنسي جديد )) .. هذا الشكل الجديد للإنسان يصبو لتجاوز الأشكال الأنسنية السابقة سواء أكانت حداثية أم قديمة لأنها أستنفدت إمكانياتها من خلال مهامها الزائ
لة سواء أكانت مهام إلهية أم رسولية أم إنقاذية أم متعالية ... الخ لأن مهمة الإنسان الجديد هي مهمة وسطية كما يصفها علي حرب .. يمكنه من خلال هذه المهمة التعامل مع نفسه وغيره والواقع والطبيعة بوصفه جزءاً من موجوداتها من أجل التغيير فكراً وعملاً سواء بخلق الفرص أم بتجديد الوسائل أم بإبتكار المهام ، عبر تفكيك الأنسنة المستنفدة .. وتهشيم أصنام العقائد وفك أسر الهويات والتحرر من إستعمار الأصول والنماذج ، وتكسير القوالب . فالإنسان الجديد (( يقف على التخوم ويقيم على المفترقات ، ويتردد بين المواقف والخيارات ، أي بين مروحة الإمكانات . والإمكانات تتضاعف اليوم ، بشكل لاسابق له ، مع التطور المذهل والخارق ، في تقنيات الإتصال ومنظومات الأرقام التي تتيح للإنسان ، عبر لعبة الأعداد المفتوحة على التشكيلات اللامتناهية ، خلق عوالم إفتراضية ، باتت شرطاً لممارسة الوجود على سبيل الفاعلية والراهنية )) .
مع بداية القرن العشرين ، بعد ما إتضح أن ما أنجزته الحداثة من إطاحة بالمرجعية الميتافزيقية لتقيم بدلاً عنها مرجعية العقل (( بوصفه مرجعاً أحادياً للحقيقة الفلسفية ومنبع التنظير للنظم السياسية )) ، فضلاً عن أن مرجعية العقل هذه لم تحقق للبشرية مطالبه في العدل والتحرر ، رغم إنجازاتها العظيمة .. لذلك كله كان لابد من مراجعة نقدية معمقة لثوابت الحداثة وأقانيمها وخاصةً (( الأنسنة )) .. وهكذا ولد مشروع ما بعد الحداثة بوصفه نقداً للحداثة ونفياً للذات الإنسانية ونقضاً لأحاديّتها العقلية ، وبذلك خلصت ما بعد الحداثة الى (( محاولة لتفكيك الأشكال السائدة ، القديمة والحديثة ، ذات الجذر الديني واللاهوتي ، أو ذات المنشأ العلماني والناسوتي ، وذلك من أجل فهم مأزق المذاهب الأنسية والكشف عن فضائح المشاريع التحررية التي يجسدها الدعاة والمثقفون أكانوا تقليديين أم حداثيين )) على حد تعبير المفكر علي حرب .
وقد رافق ذلك تبدل في الأولويات في المجتمعات الغربية .. إذ مع إشتداد هيمنة الفكر النفعي الذي يوجه المد العولمي من خلال تضخم الشركات متعددة الجنسيات .. صار الإستهلاك الهدف النهائي للوجود ومحركه اللذة الخاصة .. بالإضافة الى ظهور إهتمامات جديدة مثل قضايا البيئة ، والإصلاح السياسي المفروض من الخارج .. أن ما بعد الحداثة .. يمكن النظر اليها من الزاوية التاريخية لتدل على تحولات شهدتها المجتمعات الغربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، كثورة المعلومات والإعلام ، والإستنساخ والتعامل مع الجينوم البشري .. الخ .
أما من زاويتها الفكرية فتمثل (( مجموع الإنتقادات التي وجهت الى الحداثة كبنية فكرية وكنظام فكري مغلق .. أي نقد أساطير الحداثة .. بإرتكازها على العقل وتمجيدها المطلق للإنسان وتصنيمها للتاريخ وللحتمية التاريخية وإنكارها للمتخيل والرمزي )) كما يقول المفكر د. محمد سبيلا .
إن إعتبار مفاهيم كالشعور والعقل والحرية دلالات مطابقة لحقيقة الذات الإنسانية بحسب الفكر الحداثي ، أمر يرفضه الفكر ما بعد الحداثي ، إذ يذهب سغموند فرويد الى إلغاء الكائن الإنساني على أساس تلك المفاهيم ليجعله محكوماً بمحددات لاشعورية ، مثلما فعلت الماركسية عندما أعتبرت العامل الإقتصادي عاملاً محدداً وموجهاً للإنسان .. (( الماركسية بهذا المعنى إمتداد نقدي للحداثة الغربية )) . إن ما بعد الحداثة تطرح إن الإنسان يخضع في سلوكه وتفكيره لشروط خارجة عنه (( وفي هذا السياق يقول التوسير محدداً التاريخ بكونه ( عملية بدون ذات ) ، أي ثمة بنية من الشروط والمحددات المادية هي التي تتحكم في توجيه حركة التاريخ وتعيين إتجاهه ، وهي بنية خارجة عن إرادة الإنسان ! )) كما يقول د. الطيب بو عزة .
يمكن إلتماس أهم تجليات ما بعد الحداثة في تغييب ونفي الإنسان من خلال (( تذويبه في بنيات شارطة ومتحكمة فيه ، سواء أكانت بنيات نفسية أو إقتصادية )) أو على مستوى النظريات الجمالية كدعوة – موت المؤلف – كما هو الحال مع نظرية النص التي قدمها رولان بارت . فقد رأى بارت بأن المؤلف ينتهي الى بنية لغوية تشكل النص .. مما يعني إختفاء المبدع وظهور القاريء الفاعل الذي يمسك بالنص تأويلاً ورؤى .. وعليه فأن أنظمة النص ستشتغل بعيداً عن قيود ( الناص ) . يمكن القول أن نظرية (( موت المؤلف )) عند بارت نمت من المقولة الفلسفية (( موت الإنسان )) والتي بدورها نجمت عن نظرية نيتشه الشهيرة : (( موت الإله )) .. إن هذه النهايات تعكس فكرة أساسية تتمثل في غياب الفاعل الحاسم من جهة وسيادة السيرورات والصيرورات من جهة ثانية .. كما إن مصطلح ما بعد الإنسان لايفهم (( هنا بالمعنى البيولوجي ، بل بالمعنى الأنطولوجي ، أي لايشير الى كائن من نوع جديد ، بقدر ما يشير الى شكل إنسي جديد )) .. هذا الشكل الجديد للإنسان يصبو لتجاوز الأشكال الأنسنية السابقة سواء أكانت حداثية أم قديمة لأنها أستنفدت إمكانياتها من خلال مهامها الزائ
لة سواء أكانت مهام إلهية أم رسولية أم إنقاذية أم متعالية ... الخ لأن مهمة الإنسان الجديد هي مهمة وسطية كما يصفها علي حرب .. يمكنه من خلال هذه المهمة التعامل مع نفسه وغيره والواقع والطبيعة بوصفه جزءاً من موجوداتها من أجل التغيير فكراً وعملاً سواء بخلق الفرص أم بتجديد الوسائل أم بإبتكار المهام ، عبر تفكيك الأنسنة المستنفدة .. وتهشيم أصنام العقائد وفك أسر الهويات والتحرر من إستعمار الأصول والنماذج ، وتكسير القوالب . فالإنسان الجديد (( يقف على التخوم ويقيم على المفترقات ، ويتردد بين المواقف والخيارات ، أي بين مروحة الإمكانات . والإمكانات تتضاعف اليوم ، بشكل لاسابق له ، مع التطور المذهل والخارق ، في تقنيات الإتصال ومنظومات الأرقام التي تتيح للإنسان ، عبر لعبة الأعداد المفتوحة على التشكيلات اللامتناهية ، خلق عوالم إفتراضية ، باتت شرطاً لممارسة الوجود على سبيل الفاعلية والراهنية )) .