مع تباشير ظهور عالم جديد .. ومع طوفان العولمة العاتي الذي يجتاح العالم بدفقات معرفية وتقنية متواصلة برفقة ضغوطات اخضاعية .. ديدنها الانسان،يمكن القول ان ثلاثة عوالم باتت تتجاذب الانسان - لكل منها هويته ومركز استقطابه - تؤلف مايمكن تسميته بثالوث الاصولية والحداثة والعولمة : فالاصولية تشتمل على العالم القديم باصولياته الدينية وتصوراته الماورائية .. وهو عالم قد استنفد قدرته على الابداع والابتكار منذ قرون خلت .. لاينتج الا بالاجترار كل تكرار ومعاد .. لذلك ماعادت تنفع محاولات استيعاب العالم وفهمه وتوجيهه بقيم الاصولية ووسائلها وادواتها ، والحداثة تشمل العالم الحداثي بطروحاته العلمانية وتمجيده للعقل وادلجته الاممية وتهويماته الانسانية القائمة على((الانسنة))التي تعطي للانسان مركزية الكون وسموه .. وبالتالي تسخير هذا الكون لمصلحته . ان ادوات المقاربة واشكال العقلنة وخطط التغيير ووسائل التعديل التي انتجتها الحداثة لم تعد تجدي في فهم العالم وهذا بالضبط مايشكل الاشكالية الكبرى .. اشكالية النهايات التي باتت تشكل مرحلة مفصلية - لافاصلة - بين الحداثة وما بعد الحداثة .. مرحلة الانتقال من الحداثة الى عصر العولمة التي تؤسس لعالم في طور التشكل ((اي عالم العولمة بفضائه السبراني ومجاله الاعلامي ، بانسانه العددي ومواطنه الكوكبي )).. العولمة التي تنتقل بالانسان من عصر ((الانسنة)) الى عصر ((الكوننة)) التي تعني ان الانسان احد موجودات الطبيعة ومسؤول عن الحفاظ عليها .. ذلك العالم - العولمة - الذي ((يخضع لتحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم ، وتتغير المشروعات والمهمات ، بقدر ماتتجدد القوى والوسائل والمؤسسات )).
لابد من القول ان الثقافة الجنائزية لم تبارح سيرورة الحداثة ، اذا لم نقل انها كانت تغازلها حتى تطارحها الهوى تارة وتنعاها وتبكي ايامها الاخيرة - نهاياتها- تارة اخرى .. وكانت الثقافة الجنائزية التي انتجتها الحداثة تشير الى تحولات نوعية ، وتعبر عن سرعة التغير والانتقال في كل مستويات العصر الحديث .. وهي اذ تقيم مآتمية ((الموت والنهايات )) فانها تعكس ازمة الحداثة الدورية من جهة وتظهرالتحول الدوري المستمر في بنيات الحداثة من جهة اخرى .. ((كما تعكس فكرة اساسية تجمع بين كل هذه النهايات والموتات، وهي غياب الفاعل المفرط او غياب الفاعل المطلق وسيادة السيرورات والصيرورات )) ..
لكن يجب ان لاتفهم هذه المقولات((النهايات)) وكآنها قطيعة معرفية فاصلة بين اطوار من الوجود والعدم .. بل يجري تأويلها ضمن ماتخضع له الحداثة من نقد فكري يطال المفاهيم والثوابت وبالاخص اقانيم الحداثة الثلاثة :((العقل والحرية والتقدم )) .. ناهيك ماشهدته مقولة((الانسنة )) من انفجارات في ضوء الكشوفات المعرفية الشفافة .. وبذلك لم يعد نقد الحداثة نكوصا عن العقل او اطفاءً لاشعاعات التنوير((بقدر ماهو انفتاح على المستبعد واللامعقول او على المتغير والمجهول ، اي على كل ما نفته الحداثة من فضائها، وجعلها تستنفد نفسها او تبلغ مآزقها او تشهد انفجاراتها)) كما يقول علي حرب. يصح القول ان تدشين النهايات او الموت المجازي يرمي الى تنقية الحداثة من اوزارها التي باتت تتكلس لتشكل اصولية حداثية تقود الى تصنيم التاريخ وتأليه الانسان من خلال تقديس العقل وتحكيمه في الكون .. وفي ذات الوقت فإن هذا التدشين يعتبر توطئة لتأسيس عالم جديد هو عالم العولمة الذي يختزل العالم بواقعه العيني وفكره العقلي الى ثالث لطيف مبتناه المعلومة الالكترونية والعلامة الرقمية الخارقة والفائقة .. كل ذلك يقوم على اساس شبكة من أشكاليات النهايات في خضم مآتم الفكر الجنائزي ليعلن موت المقدس وموت الانسان وموت الفلسفة ونهاية التاريخ ونهاية المثقف ...الخ.
فموت المقدس :هو تعبير رمزي ،واشارة مجازية تضمنته من قبل افكار مارتن لوثر رائد حركة الاصلاح الديني الكنسي ، وتمتد اصوله في فكر هيجل، وقد اشار اليه نيتشه عندما قال : (( لقد مات الاله، الان)) .. للتدليل على التحولات الفكرية الكبرى التي شهدتها أوربا لاسيما على مستوى النخبة .. التي ما فتئت تنحوبها نحو المزيد من العدمية.. مرورا بذبح((البقرات المقدسة)) في الفكر و القيم وتحطيم اصنامها وصولا الى احضان التاريخ الحي .. الامر الذي يشير الى ((تضاؤل دورالمقدس في التاريخ الحديث،وبخاصة في تاريخ اوربا والغرب)).
وموت الانسان : هذه النهاية التي ترتبط بالفكر البنيوي، ذلك ان موت الانسان أنتعش وذاع مع ذروة تطور البنيوية كرؤية فكرية تحكّم الموضوعي بالذاتي ، وتقدم البنيات والسيرورات الموضوعية بحتمياتها الكثيرة ، وتؤخر الخلجات الذاتية والطموحات الشخصية ، ثم جاءت مقولة ما بعد الانسان التي قد تتماهى مع مقولة مابعد الحداثة ولكنها تتعارض مع نظرية الانسان ذي البعد الواحد ، ان مصطلح ما بعد الانسان لايفهم هنا ((بالمعنى البيولوجي ، بل بالمعنى الانطولوجي ،أي لايشير الى كائن من نوع جديد ،بقدر مايشيرالى شكل انسي جديد)) .
وموت الفلسفة .. هي مقولة تعبر عن ازمة الفلسفة كنموذج معرفي كان يشكل اساس العلوم .. فقد تراجعت الفلسفة مع تصاعد المد الحداثي في العالم، وطفقت تركع امام نموذج معرفي جديد هو العلم بما يمثله من قدرة معرفية وقوة اداتية قاهرة وصارمة اعادت تشكيل الوعي الانساني بما وفرته من اشتراطات يئية مكنت للانسان من العيش الرغيد من خلال سيطرته على الطبيعة والتحكم بها لصالحه.
ونهاية التاريخ: هي اشارة الى انتهاء عصر الايديولوجيات والافكار الثورية لا من حيث الواقع ، بل من حيث القدرة على الفعل الحضاري في الواقع.. وإنغلاق المستقبل بتمامية امامها .. بتعبير آخر إن آفاق التاريخ المتعددة فقدت امكانياتها على النماء على نحو التعدد الايديولوجي لتنتهي الى افق وحيد ونهائي للتاريخ من خلال انتصار الفكر الليبرالي.
ونهاية المثقف :لاتعني نضوب مداد المثقف أوتهشيم قلمه .. بل لاتعني ((موت الحلم)) .. المثقف الذي يفكربالنيابة عن جمهوره بغية السيطرة عليه ، مثل هذا الدور الذي كان يضطلع به المثقف قد ولى عصره .. إذ مع ثورة المعلومات المتاحة للجميع - بشكل من الاشكال - يتغير الامر .. حيث تنتج واقعا جديدا ييسر للفاعلين عملية الابداع طالما يجري تشغيل الفكر وتوظيف القدرات الفعلية .. وبذلك تتوقف الحاجة الى المثقف البيروقراطي الموجه المتعال.
يبقى أن نقول أن صناعة النهايات المقترنة بتيار العولمة الجارف لايعني نفيا للحداثة وقطيعة ابستمية معها بقدر يؤشر تفكك العالم الحديث ويشهد انفجاراته .. ويفتح آفاقا جديدة للتحول والانتقال تطال ثوابت الحداثة واصولياتها ، ويؤسس لعالم يجسد نمطا جديدا في ممارسة الوجود .. يقول علي حرب: ((فكما أن الحداثة ليست نفيا للتراث ، بقدرما هي قراءته قراءة حية وعصرية ،وكما ان العالمية ليست نفيا للخصوصيات، بل ممارسة المرء لخصوصيته بصورة خلاقة وخارقة لحدود اللغات والثقافات ، كذلك فإن العولمة لاتعني ذوبان الهوية .. ولاتعني نفي الاطوار والمعطيات السابقة ، بقدر ماتعني الاشتغال عليها والعمل على تحويلها بغية استدماجها واستثمارها في ما يفتتح من الحقول والمجالات أو ما يبنى من الانظمة والمؤسسات أو يبتكر من الادوار والمهمات)).
فموت المقدس :هو تعبير رمزي ،واشارة مجازية تضمنته من قبل افكار مارتن لوثر رائد حركة الاصلاح الديني الكنسي ، وتمتد اصوله في فكر هيجل، وقد اشار اليه نيتشه عندما قال : (( لقد مات الاله، الان)) .. للتدليل على التحولات الفكرية الكبرى التي شهدتها أوربا لاسيما على مستوى النخبة .. التي ما فتئت تنحوبها نحو المزيد من العدمية.. مرورا بذبح((البقرات المقدسة)) في الفكر و القيم وتحطيم اصنامها وصولا الى احضان التاريخ الحي .. الامر الذي يشير الى ((تضاؤل دورالمقدس في التاريخ الحديث،وبخاصة في تاريخ اوربا والغرب)).
وموت الانسان : هذه النهاية التي ترتبط بالفكر البنيوي، ذلك ان موت الانسان أنتعش وذاع مع ذروة تطور البنيوية كرؤية فكرية تحكّم الموضوعي بالذاتي ، وتقدم البنيات والسيرورات الموضوعية بحتمياتها الكثيرة ، وتؤخر الخلجات الذاتية والطموحات الشخصية ، ثم جاءت مقولة ما بعد الانسان التي قد تتماهى مع مقولة مابعد الحداثة ولكنها تتعارض مع نظرية الانسان ذي البعد الواحد ، ان مصطلح ما بعد الانسان لايفهم هنا ((بالمعنى البيولوجي ، بل بالمعنى الانطولوجي ،أي لايشير الى كائن من نوع جديد ،بقدر مايشيرالى شكل انسي جديد)) .
وموت الفلسفة .. هي مقولة تعبر عن ازمة الفلسفة كنموذج معرفي كان يشكل اساس العلوم .. فقد تراجعت الفلسفة مع تصاعد المد الحداثي في العالم، وطفقت تركع امام نموذج معرفي جديد هو العلم بما يمثله من قدرة معرفية وقوة اداتية قاهرة وصارمة اعادت تشكيل الوعي الانساني بما وفرته من اشتراطات يئية مكنت للانسان من العيش الرغيد من خلال سيطرته على الطبيعة والتحكم بها لصالحه.
ونهاية التاريخ: هي اشارة الى انتهاء عصر الايديولوجيات والافكار الثورية لا من حيث الواقع ، بل من حيث القدرة على الفعل الحضاري في الواقع.. وإنغلاق المستقبل بتمامية امامها .. بتعبير آخر إن آفاق التاريخ المتعددة فقدت امكانياتها على النماء على نحو التعدد الايديولوجي لتنتهي الى افق وحيد ونهائي للتاريخ من خلال انتصار الفكر الليبرالي.
ونهاية المثقف :لاتعني نضوب مداد المثقف أوتهشيم قلمه .. بل لاتعني ((موت الحلم)) .. المثقف الذي يفكربالنيابة عن جمهوره بغية السيطرة عليه ، مثل هذا الدور الذي كان يضطلع به المثقف قد ولى عصره .. إذ مع ثورة المعلومات المتاحة للجميع - بشكل من الاشكال - يتغير الامر .. حيث تنتج واقعا جديدا ييسر للفاعلين عملية الابداع طالما يجري تشغيل الفكر وتوظيف القدرات الفعلية .. وبذلك تتوقف الحاجة الى المثقف البيروقراطي الموجه المتعال.
يبقى أن نقول أن صناعة النهايات المقترنة بتيار العولمة الجارف لايعني نفيا للحداثة وقطيعة ابستمية معها بقدر يؤشر تفكك العالم الحديث ويشهد انفجاراته .. ويفتح آفاقا جديدة للتحول والانتقال تطال ثوابت الحداثة واصولياتها ، ويؤسس لعالم يجسد نمطا جديدا في ممارسة الوجود .. يقول علي حرب: ((فكما أن الحداثة ليست نفيا للتراث ، بقدرما هي قراءته قراءة حية وعصرية ،وكما ان العالمية ليست نفيا للخصوصيات، بل ممارسة المرء لخصوصيته بصورة خلاقة وخارقة لحدود اللغات والثقافات ، كذلك فإن العولمة لاتعني ذوبان الهوية .. ولاتعني نفي الاطوار والمعطيات السابقة ، بقدر ماتعني الاشتغال عليها والعمل على تحويلها بغية استدماجها واستثمارها في ما يفتتح من الحقول والمجالات أو ما يبنى من الانظمة والمؤسسات أو يبتكر من الادوار والمهمات)).