فَلسَفةُ العِلمِ في القَرنِ الحَادي والعشرين - ترجمة وتقديم: د. يوسف تيبس

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسإن هذه الفلسفة؛ "أي العقل العلمي الجديد - الجديد"،تتحدث عن العلوم، ولكنها لا تسكت عن العالمالذي تعبر عنه العلوم أو تؤسسه،وعن الأشياء وعن عالم الناس.(م . سير)
تقديم
يعتبر ميشيل سير (Michel Serres) (1930) أحد أبرز فلاسفة العلم في العصر الحاضر، بل أكثرهم شهرة في العالم الأنجلوساكسوني؛ لأنه يدرس بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة.  ويندرج فكر ميشيل سير الإبستمولوجي ضمن التيار الباشلاري (غاستون باشلار)، إذ قام هو كذلك بتجديد الإبستمولوجيا وخرق الحدود بين النشاط العلمي والإبداع الفني.2  فقد كتب عن علاقة الفلسفة بالعلم وعن الإبستمولوجيا وفلسفة العلوم؛ كما كتب عن إيميل زولا، وجيل فيرن، بمنهج إبستمولوجي أدبي.تمثل إبستمولوجيا مشيل سير تجاوزاً لنظيرتها الباشلارية من حيث المفهوم، الذي يعتبر محوراً لفلسفته، ونقصد العقل العلمي الجديد- الجديد،3 الذي يشكل نقيضاً للعقل العلمي الجديد.4  ويتمركز العقل العلمي لميشيل سير حول فكرة اتصالية المعرفة العلمية، كما تصورها عالم الرياضيات لايبنتز،5 أي التي تخرق كل تصنيف أو تراتبية داخل الموسوعة العلمية؛ وذلك في مقابل تصور المعرفة كتراكم بين قطاعات مستقلة، حيث كل علم له موضوعه ومنهجه الخاص، وبالتالي نتائجه الخاصة؛ وحيث العلم الملكي هو الذي يتحكم في تراتبية هذه العلوم وتصنيفها.
وبذلك فليس الأهم، في نظر سير، هو الفصل بين العلوم؛ أي الإغراق في التخصصات، بل التجوال على طول هذه المسارات والتعرجات أو ملتقيات الخطوط التي تجوب فضاء المعرفة العلمية.  لذا يدعونا إلى فلسفة للتواصل، حيث التقاطع والمبادرة والتوقيف، مفاهيم تلعب دوراً مهماً في عملية الإبداع.ولكي يبين أثر المعرفة العلمية والتكنولوجيا على المعيش الإنساني، يدعي ميشيل سير أن الإنتاج كان يمثل، فيما سلف، الغاية القصوى من النشاط العقلي للإنسان، إلا أن الحداثة قد جعلت من مجموع تقنيات التواصل مكاناً للابتكارات بامتياز.  فالتواصل هو الواقع الإنساني الأساسي.  والوعي بهذا الأمر له الأثر البالغ على المعيش الفردي والجماعي، وعلى المعرفة النظرية والعملية.لقد حاول سير، شأنه في ذلك شأن ميشيل فوكو، البحث عن إبستمي (Epistémè) الفكر، سواء الفلسفي أم العلمي، للعصر الكلاسيكي، أو لنقل ما قبل العلمي، فتوصل إلى أنه كان يقوم على فكرة النقطة الثابتة، أو الحقائق الأبدية، كفكرة مركز العالم أو الكوجيطو الديكارتي... وبذلك فالعقل العلمي الجديد-الجديد يقتضي التخلي عن فلسفة النقطة الثابتة أو فلسفة الإحالة إلى مفاهيم الماهية والجوهر والذات والموضوع، أو الإله أو الإنسان أو الأصل والغاية.  لأن أساس هذه الإحالات هو الإيمان أو الاعتقاد، الذي يهدد النزعة اللاعقلانية والرواسب اللاعقلانية للعقلانيين.  ومن ثم يقترح م.سير منهجاً غير مركز ولا متمركز، أي طريقاً للتحويل خاص بفضاء غير متمركز تماماً، إنه منهج التبادل.ويتسم العقل العلمي لميشيل سير بثلاث سمات أساسية، هي: التفاعل بين النظريات، والتفاعل بين المواضيع، ثم التفاعل بين الذوات.6  وهو ما يعني أن بين العلوم داخل موسوعة المعرفة العلمية تقاطعات وأفعال نقل واستيراد؛ وأن موضوع العلم المعاصر هو الجسم الصلب وليس السوائل؛ أما التفاعل بين الذوات العالمة فيدل على أن العلم لم يعد يحيل على العالم المكتشف أو الرائد، بل على الجماعة أو المدينة العلمية.حاصل القول أن م.سير يستقي خصائص إبستمولوجيته من أوصاف العلم المعاصر؛ أما إشكالاتها فهي ذاتها إشكالات الإبستمولوجيا التقليدية وقد أفرغت في العلم نفسه، فتصبح بذلك كل جهوية علمية إبستمولوجيا لعلمها الخاص، فتكون على شكل علم العلم.  كما تمثل، في الوقت نفسه، إبستمولوجيا عامة لأنها تنفتح على باقي العلوم.  أما موضوعها، فهو مجهول العلم أو اللامفكر فيه ضمن المعرفة العلمية.أما في مجال تاريخ العلوم، فيستنبط م.سير أنماط التأريخ التي يسمح بها النسق العلمي انطلاقاً من الزمانيات الممكنة، ليتعرف على أكثرها تناسباً، ليخلص في الأخير إلى أهميتها جميعها، وإن كان يفضل النموذج اللامترابط غير المباشر.تتسم لغة م.سير، كما سيلاحظ القارئ من خلال هذا النص، بالصور البلاغية والبيانية التي يستغل فيها كل أنماط المعارف؛ سواء الأسطورية أم الأدبية، فهو يخاطبنا من خلال الصور لا المفاهيم، ويقول في ذلك: "أنا أتكلم بالصور لا بالمفاهيم" (Genèse, p: 137)، فهذه الأخيرة، في نظره، أحادية وثابتة لأنها من إنتاج العقلانية؛ في حين أن فلسفة أو إبستمولوجيا العقل العلمي الجديد-الجديد تقوم على المتعدد والمتبعثر.لقد كان لتصور م.سير الإبستمولوجي امتدادات سياسية، فطالما أنه يخلخل التراتب السائد للعلوم، والمساند من خارج العلم، فإنه يهدد بذلك أصحاب النزعة المحافظة، وبالتالي يتصادم مع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي توقف الإنتاج العلمي، أو تدفع إلى العمل على الموت، أي استغلال ابتكاراته من أجل التدمير، يقول في ذلك "لأول مرة قد سقطت مجموع أعمالنا وثقافتنا "في أيدي المريخ الدامية".  والسبيل الوحيد لمواجهته هو تقطيع الفضاء وجعل الطاقات غير متمركزة؛ ومن الناحية الفلسفية علينا أن نتخلى عن العام والكوني".
لقد أصبحنا جميعاً منذ حوالي العشرين سنة لايبنتزيين جدداً.7  وقد تصاعدت هذه الموجة طوال القرن التاسع عشر، وحيثما كنا نلاقي المركب (Combinateur) في المنطق والجبر، والكيمياء؛ عند منظر التواصل، في تكنولوجيا إرسال الإشارات وفي الرياضيات، وعند المعادي لنيوتن في الميكانيكا النسبية؛ وعند فيلسوف القوة والقدرة، وفي الديناميكا الجديدة.  إنني لا أتكلم هنا إلا عن حالات مؤسسي الحداثة الذين عينوا لايبنتز كرائد.  خلال الحرب العالمية الثانية، شارفت هذه الموجة عتبة الأنساق الحية، حيث كان علماء الوراثة يشكلون أداة أورغانونا (Organon) لأبجدية وشفرة (Codage) وللتنظيمات (Les arrangements) والترجمات.  لقد شكل هذا عند إعادة تناوله، فناً تركيبياً ونسقاً لاتصال الماهيات، المنقولة أو المتناولة من جديد.  والحال أن ما بدأنا، في الوقت نفسه، نسميه بالعلوم الإنسانية، قد أخذ المنحى نفسه بشكل كلي؛ وقد شكل هذا في الحصيلة العامة، كما نقول الآن، "باراديجم" (Paradigme).  وفجأة أصبح الباحثون على اختلافهم، حصل هذا في زمن جد حساس، يتفاهمون فيما بينهم.  وأصبح برج بابل جمهورية.  وبدأت لغة مشتركة في التداول وما زالت.لقد لقيت العلوم الإنسانية سلسلة من النجاحات لم يكن بمقدور أحد التنبؤ بها، حيث اخترقت فجأة بمجموعة من المناهج أعطت دلائل قاطعة، في مجالات تعرّف عادة تحت الاسم الأصيل للعلوم، وقد حصل هذا في الوقت نفسه أو تقريباً.  وخضعت تخصصات متنوعة عدة، مثل تاريخ الأديان والإثنولوجيا واللسانيات أو تأويل النصوص، لإستراتيجيات منسجمة مع مواضيع لم تكن عادة من اختصاصها: المعالجة بواسطة المجموعات الجزئية (Le traitement par sous-ensemble)، وإبراز العناصر (La mise en évidences éléments)، والتعرف على العمليات البسيطة والعامة، والجبر التركيبي (Une algèbre combinatoire)، وبناء النماذج، والبرهنة على الثوابت أو المستقرات (Stabilités) عن طريق تغيير النماذج.  ست عمليات أساسية تعودنا أن نرى إنجازها يومياً من طرف الجبريين إن لم نقل من طرف الفيزيائيين والكيميائيين أو البيو-كيميائيين، التي مارسناها دون عناء في حقل تنبأ أسلافنا بعدم قيام معرفة صارمة فيه، وذلك لأنهم كانوا محاصرين بالأفكار الثابتة للقياس والكم.  وكان بلوغ الدقة رهيناً أولاً بتقييم ميزان أو قاعدة، وليس بتبادلات نقاط ما أو ثوابت صورية.  ظل القياس المتري (La métrique) دوماً في المرتبة الثانية، وحل لايبنتز محل كونت، وانهارت النزعة الوضعية.  وحصلنا على نتائج في مجالات اكتفى فيها أسلافنا بتسجيل انطباعات، وأفرغت النزعة الإنسانية الذاتية من شحنتها العاطفية (son pathétique)، لأن ذات الملاحظ تراجعت بشكل ملحوظ خلف المركب، كما تراجع الكوجيطو الديكارتي أو المتعالي خلف النزعة الذرية الإشاراتية (atomisme signalétique)، بل ربما أكثر من لايبنتز عاد أبيقور ولوكريس (Lucrese) ليسكنا المكان من جديد.وهنا يجب ألا نغالط أنفسنا بالقول إن هذا مكسب نهائي، ولا يمكن أن نضل الطريق بعد الآن.  إن الأمر يتعلق بالضبط بنشأة العلوم الإنسانية عن طريق تفاعلات معقدة ومتقاطعة مع معرفة حكم عليها، فيما مضى، بأنها من مستوى آخر.  أن تكون قد وجدت في خضم الصراعات، أو تكون قد عانت من مضايقة أولئك الذين لا يريدون ولا يستطيعون المساهمة في النقاش، وأن تدرك بشكل سيئ مناهج على هذا القدر من البساطة والوضوح، فذلك لأننا كنا متعجرفين، ولأنها كانت بالخصوص باهرة، فإن هذا لا يؤثر جدياً على المسألة.  إن ما هنالك هو دينامية تغيير، جد متداولة لبراديغم (خطاطة أو نموذج أو نسق) المجموعة الجزئية المحلية لعاملي الإشارة.  إنه أمر تاريخي عادي.  ومن ثم، فإن أي شيء يمكننا فعله، وأي طريق جديد يمكن شقه، سيبقى دائماً، في وقت من الأوقات، من قريب أو من بعيد، من الممكن العودة إلى هذه الأفعال المؤسسة؛ قواعد المنهج الست، لأنه بكل بساطة لا أحد، رأى أو مارس علماً، يمكنه أن يتجاوز العناصر والترابطات، التحولات والثوابت، لا في حقل الصرامة المنطقية أو الرياضية، ولا في حقل الدقة كمعرفة مطبقة على الأنساق الحية أو الهامدة، ولا أخيراً، في حقل نقل الإشارات.  هناك دائماً جزئيات وتفاعلات، هناك دائماً أبجدية مزودة بعلم التركيب (Syntaxe)، هناك دائماً تعقدات إما صلبة وإما سائلة، بغض النظر عن المضمون الذي نعطيه لهذه الكلمات، إنها تغذية راجعة (Feed Back) إلى ما هو أولي، كما عرفته كل المعارف في فترات الأزمة أو التأسيس.  وهكذا، فإن عصر النهضة والعصر الكلاسيكي كانا يغذيان، بطبيعة الحال، فيزياءهما الممكننة في تكوينها الأول بالنموذج الأبيقوري وترييضها التام في مؤلفات أرخميدس.  وبذلك تطلب القرن التاسع عشر، ذو النزعة المنطقية أو المضمون، الرجوع إلى الإغريق.  فكان البراديغم الجديد هو التركيب، إنه على الدوام تناول من جديد لما هو أولي وإجرائي، للقار والمتحول، لقد كانت المسألة، بالنسبة للعلم الإنساني، كما يقال، غير متوقعة منذ لايبنتز على الأقل، كان بإمكان أي أحد التنبؤ بها، وممارستها بكل حرية.يسعى هذا البراديغم المكون إلى أن يصير نسقاً.  ولكنه ليس كذلك، بل بعيد عن أن يكون نسقاً للأشياء، وللكون أو للتاريخ، إنه نسق للمعرفة أو على الأقل للمناهج.  وهذا يتعلق جزئياً بتكونه الخاص، إن النزعة اللايبنتزية الجديدة تمنح نفسها، مثلها مثل القديمة، أفقاً للكونية بالارتكاز على الاختلافات، بل أكثر من ذلك بالانطلاق منها، ومن هنا تسمية النزعة البنيوية التي تدل على جماعة عمل وعمليات أكثر مما تعني فلسفة.  إضافة إلى ذلك، يتعلق الأمر أساساً بمسار مترابط يعبر الموسوعة على شكل متعامد مع كل تقسيم العلوم.  إن البنية بالتعريف، أي بالاتفاق، تعني مجموعة تتضمن عناصر ومزودة بعملية أو بمجموعة عمليات، ثابتة من نموذج إلى آخر منفصلين.  من هنا يكون الرياضيون بنيويون بالدرجة نفسها مع الإثنولوجيين والفيزيائيين والكيميائيين ... وهلم جرا.  ويكفي أن نتبع هذا الخيط لقراءة نص كما كتب.  هذا هو البراديغم في بساطته المجردة، بحيث يتخذ نسق المناهج كوشاح للفضاء الكامل للمعرفة.  وعلى طول هذه القناة يتفاهم كل العاملين فيما بينهم، وكأن لغة ذات نظام مرجعي متداخل (répertoires intersectés) قد تأسست خلال العقود الأخيرة.  أجازف على مضض بالقول، وهو أمل طالما داعبناه كحلم، أن الأمر يتعلق بترييض شامل (mathesis universalis).  فإذا كنا اليوم نتحدث عن نظرية معممة للأنساق، فإن هذا ينطلق بكل تأكيد من اعتبارات مجموعاتية (ensemblistes) مطبقة في كل مجال.  ولكن هذا آت بالخصوص من خطاطة مفتوحة بشكل مشترك.  إنه بالضبط، ذلك المسلك الذي لا محيد عنه.إننا نرى، ربما، نهاية الشتات العلمي، ويمكن لكل عمال دول المعرفة أن يتلاقوا.  ليس من أجل الاستمتاع بهوية كاذبة، ولكن من أجل تحويل حقول جد مضطربة وجد متباعدة عن بعضها البعض وتلقيحها عن طريق النقل، لقد رفضنا، فيما أعتقد، هذه التفاعلات.  وهذا خطأ فظيع في المنطق، شأنه شأن الخلط بين التقاطع (Intersection) والاتحاد (réunion).  فالواحدة هي المجموع والأخرى هي الناتج: أي عكس القسمة وعكس العمل على الخصوص، كفاعل حقيقي للإنتاج في حد ذاته.  أن تنتج لا يعني أبداً أن تعطي منتوجاً فقط.  إن العلماء ينتجون، وهذا تقريباً تحصيل حاصل، ودون شك كبقية الناس، عن طريق التقاطعات، حيث تنمو المعلومة، وحيث يتحقق التحول.  إن انفجار العلوم وانفصالها، التي لم تكن، منذ الثورة الصناعية، والولوج الكثيف والمباشر للعلوم في مؤسسات التعليم والبحث، سوى صورة في المرآة الإبستمولوجية، المكونة في التاريخ نفسه، بمفعول السلطة، من عبوديتها السوسيو-سياسية ومن تقطيعها المقنن، إن هذا الانفجار والانفصال يمكن أن يفسح المجال لتواصل ممكن.  ومن هنا دخلت المعرفة في أزمة.  ليس فقط من جراء هذه الضربة، ولكن كذلك بمفعولها.  إن الممارسة اليومية للتفاعل وديناميكية التنقلات والمدارات والبناء التدريجي لتقاطع غير فارغ ومحدود لقائمة، كل هذا جعل وضعيتها المنقسمة في أزمة، وقلب من الداخل التصنيفات المكتسبة والمدعمة من الخارج، وهدد النزعات المحافظة التي تلعب لعبة التفكيك من أجل سيادة أفضل، إن لم نقل هدد التحالفات (Les corporatismes) المحلية التي من مصلحتها محاصرة الأنساق الجزئية أو الجهات، بل إغلاقها.  إن المصيبة لا تأتي وحدها، كما يقال: ذلك أن أي وعي لم يكن أبداً سوى نتيجة التقاء شيء آخر، وفي خضم هذه اللعبة يمكن للعلم في يوم ما أن يعي ذاته بذات.  من هنا يأتي حجب هذا الجديد والممنوعات ومعاودة عمل الفسخ.إذن يجب اليوم، إعادة رسم المسار.  فإذا أمكن فتحه من قبل، على الرغم من كونه هشاً ومجهولاً من طرف أغلبية أولئك الذين يكررون عشوائياً خطاب المؤسسات الذي عفا عنه الزمن، أو لعبته تلك التي هي في طور الانحدار، فلقد تأتى ذلك في ظل سيطرة مفردة لنموذج منطقي ورياضي، وفي ظل مناخ الاتجاه الاسمي.  يتضمن البراديغم كله نواة غير مشعة، وهنا تكمن قوته، ونقطة ضعفه.  ذلك أن المنهج قد تم ضبطه في بداية الأمر بواسطة الجبر، أو على الأصح، قد شكل الجبر في كليته.  كذلك، فإن جماعة عاملة في حقل الإشارات قد كوّنت على الخصوص لغتها الأساسية عن طريق ترابطات شعب اللهجات المحلية (Vernaculaires)، وحلت بهذه العملية مشاكل عميقة، هي دون شك، غير قابلة للحل بطريقة أخرى.  لقد تكوّن الجبر، في بداية هذا القرن وخلال القرن السابق، عن طريق نزعة المقارنة (Comparatisme).  ولم يقم الأكسيوماتيك "البديهيات" (Axiomatique) إلا باتباع النتيجة وعرضها.  إن الضربة المضادة لهذا النجاح قد زعزعت الموسوعة برمتها، وانتشر الخبر الذي مفاده أن بنيةً ما هي في طور البناء عن طريق التماثلات التي تبرز عن طريق المسلمات المكونة للغة بسيطة.  وقد ظل هذا ملحوظاً في فيزياء النماذج، وأضحى كذلك في علم الوراثة الحديث.  وعاودت نزعة المقارنة، التي أهملت في وقت من الأوقات، الظهور من جديد في مجال العلوم الإنسانية مع أعمال ديميتزيل (Dumezil)، الذي انكب على دراسة التماثل وإعادة بناء الثوابت من دون عرض لغتها.  ومن هنا أصبحت كل الحركة منحصرة في ضبط العناصر والعمليات، وإعطاء تركيب، وبالتالي إنشاء نماذج، وتنويعها إلى أن تبلغ ما هو ثابت.  ومنذئذ أصبحت كل العملية جبرية، وأصبح البراديغم مصوِراً (Formalisant)، وظل النسق المعني صورياً.ومن هنا أهمية مسائل المنطق واللسانيات التي كانت مضخمة في وقت من الأوقات.  كان الجبر يفرض لغة معينة في مجال العلوم الموسومة بالحقة، كما فرضت اللغة نموذجها في العلوم المسماة الإنسانية.  وبذلك صار، منذئذ، كل شيء خطابياً؛ سواء في مجال الموسوعة الجديدة أم في فضاء المدارس المتعارضة جداً أحياناً، بالحدة نفسها التي يمكن أن يتعارض بها التوائم.  إنه انهيار مبهر للمنهج في مسار الفلسفة.  لقد ساد مناخ الاتجاه الاسمي: كل شيء كان راجعاً إلى التعيين وإلى التركيب وإلى العلامة وإلى الرمز وإلى المجاز (La trope) وإلى الكتابة، وإلى الخطاب، وإلى النسق العام للغات.  إن تكاثر النتائج، وخصوبة المناهج والمردودية الكلية للإستراتيجية، قد مكن من حجب شيء ما، من الطابع السكولائي (التدريس المنهاجي الحرفي "مدرسي") الممكن للفلسفة، الذي كان يدعي أنه مصدرها، والذي خلص إلى البرهنة على أن لا شيء يمكن أن يوجد أو يتصور خارج اللغة.  إن التاريخ برمته سيقتفي آثاره، وعلاماته، وبقاياه.  لقد كنا بحق كلنا لايبنتزيين جدداً، عن طريق الحساب المماحك (La ratiocinateur) والتركيبة الشمولية، من خلال بناء جبر اللغات وتعددية الأوليات الممكنة، ولكننا لم نكن سوى أنصاف لايبنتزيين.  وهذا هو السبب.ذلك أن ثمة بناء واشتغال نسق ما، وعناصر وعمليات، واستنباط على سبيل المثال، كما أن هناك الوصف.  ذلك الذي يمكن أن نقوم به والذي لا ينتمي له، وهذا ما يقوم به بالذات.  إن الاختيار، الذي تقرر بين رأي كراتيل (Cratyle) أو المصادرة اللايبنتزية، أمر اعتباطي.  بعبارة أخرى، إن الصرامة لم تكن سوى الشرط الضروري للمعرفة، كيفما كان نوعها، تبقى بعيدة عن أن تكون كافية، لأنها تحتاج، بالإضافة إلى ذلك، إلى الإخلاص . وأقصد بالإخلاص العلاقة المباشرة والمتبادلة وتقريباً ذاتية الانضباط بين خطاب مجموعة فرعية، المعينة من طرفه [الخطاب] لما ليس هو، علاقة مستمرة بشكل غير محدد وبرقابة متضافرة.  دون هذه العلاقة المزدوجة المتحركة والخاضعة لتقلبات المرحلة، لن يكون ثمة زمن ولا تاريخ ولا عمل، ولا فيزياء على الخصوص، ولا علم بصفة عامة ولا خطاب في نهاية المطاف.  ويظل من غير المفهوم أن يوجد ما هو مدلول.  والحال إنني لا أستطيع شيئاً، إنها تدور.  ولكي نستطيع البرهنة على أنه من الممكن أن نخرج من نسق اللغات وبسهولة، يكفي أن نقف، وأن نمشي أو نعاني، وأن نجوع أو نستمتع بالفجر.  ببساطة، أن نكون في الفضاء، أن نكون من الفضاء.  هذه هي المجالات والأشكال والأطراف والترابطات الاتصالية، والتجاورات والتمزقات، والثقب، والآبار والأبواب، إنها نمذجة خاصة في نهاية المطاف.  أقول هذا على الأقل في الحدود الدنيا، ومن الممكن أن أصمت وأتعثر في مرتفع: الحاجز.  هذه النواة غير المشعة، جبراً كانت أم لسانيات، في قلب البراديغم، الفعال والمنتج في مسالك المنهج، كانت تفرض أمبراطوريتها الفلسفية كممكن وحيد، تماماً كما يحدث، في كل مرة يتركز فيها النسق أو يتمركز.  ليس من خلال ما هو، ولكن حسب الموقع الذي نضعه فيه.  ليس من خلال اشتغاله بل موضعه.  يكفي أن نزيح المركز عن مكانه وننتقل من الجبر إلى الطوبولوجيا، تماماً كما فعل لايبنتز.  عندئذ يتجاوز الحدسي ما هو خطابي.  وينتج المسار الخطاب، وتكون الإجراءات، بصفة عامة، التي هي مواضع فردية، واستثنائية على مستوى التنوعات.  ويربط الخطاب ما سبق أن تمزق، أو يمزق ما سبق وصله.  لم يكن المنهج يجتاز سوى قاعدة واحدة، إنه المعنى المقصود بالكلمة، مسار على طريق ومن خلال حالات لا تعنيها الكلمة.  إن الاستنباط والاستقراء والإنتاج والترجمة هي تنوعات تم تمييزها بالفعل نفسه، والتي يجب الاحتراز جيداً من وضعها في موقع مركزي.إن هذا البراديغم، غير المقنع في شموليته المحلية، على الرغم من كونه جد مثمر عند الاستغلال المرهق لعالم النص، والذي غصنا فيه، لا يستطيع أن يرى، بسبب فرضيته، أن الأشياء موجودة داخل فضاء وتتحول فيه الواحدة بواسطة الأخرى، حتى عندما لا نكون هناك لنقمعها أو نتحدث عنها، ولا يستطيع أن يرى أن الناس تحتضر مع مرور الزمن، على الرغم من صمت التاريخ المكتوب أو المنطوق عن هذه الاغتيالات، والذي [أي التاريخ] لا يراكم أبداً سوى ربائد محاكمة زاخرة يتركها المسيطرون على شكل هبات فوق ضحاياهم.  فإذا لم تكن هناك، إجمالاً، سوى خطابات وإرشادات، وكتابات، فلا يمكن لأي عمل أن ينجز، ولا حتى أية فيزياء ولا أبسط حكي، غير ذلك يخرس المقهورين.  لقد قدمت النزعة المثالية على الدوام هذه المبرهنة الأساسية: لا يوجد جمل في الصحراء دون بدوي يشهد عليه أو يشير إليه.  إن هذه الدابة لن تكون شيئاً آخر سوى تقطيعاً للثقافة.  ولكنه موجود فيها.  إنه يقطع فيافي جد مقفرة.تريد النزعة المثالية أن تصبح الأشياء مجرد كلمات، والأشياء مجرد آثار للغة.  وهي في الحقيقة تقايض: فهي تستبدل الكلمات بالأشياء، معتقدة، بذلك أنها تحول، هذه إلى تلك.  وهكذا تصبح اللغة سرقة.  مثلها مثل تبادل جائر.  إنها تشوش على الأشياء وتحيا عن طريق التحايل.  إن القول أو الادعاء بأن كل شيء لغة هو تحايل مشوش.  وهذه النزعة المثالية، وإن كانت جماعية أو ثقافوية، هي جوهر النزعة التشويشية.  وسأبين ذلك، في محله، فيما بعد، حيث يجد الرجل المشوش فجأة، براديغماً كاملاً مفقوداً.إن الشكليات لا توجد هنا إلا حسب لعبة معقدة، جد دقيقة وجد خصبة بالتأكيد، وجد منتجة إلى درجة أنه يمكننا التعاطي معها مدى الحياة، وهي ربما مكوِّنة للتاريخ، أو على الأقل، لما تعودنا أن نسميه كذلك.  لم يكن بإمكاننا أبداً، أن نلحق، بالقدر نفسه، بالأشياء ذاتها، وبالموضوعات داخل الفضاء وبالطاقات المنصهرة التي تكونها وتخدمها.  إن اللغة لا توجد في العالم وحدها، كصوت يصرخ في الصحراء.  فالإرشادات تضيع، وتنمحي، داخل ما يبقى كصحراء بأصواتها وتضاريسها ووهادها، والرمل الذري الكثيف ينساب، على طول الهضبات، أو الذي يمكن أن يتجمع كسحب على بساط الرياح المتقلبة.  ثمة طبولوجيات وتنوعات فضائية، وطاقات، للقوة.  والبراديغم، الذي سلف، كان دون نار أو موضع: منقذ هرمس (Hermes) وبؤسه.إن الزوج الطبولوجي -الطاقوي (Topologie-énergétique) يعمم الفعل القديم للمعرفة عن طريق الأشكال والحركات، الذي كان يأخذ قيمه من هندسة أقليدس ومن ميكانيكا مختصرة للتوازن والنقل.  ولم تكن الأنساق، المسماة بدقة، سوى آلات بسيطة.  إن هذه النزعة اللايبنتزية الجديدة المعاصرة هي فعلاً اتجاه كلاسيكي.  إذ يكفي، فعلاً أن نجرد وأن نحلل لنحصل على الزوج البنيوي للعناصر والعمليات داخل أية مجموعة، انطلاقاً من الأشكال والحركات.  إن الفعل المعكوس أو التكميلي ينتج الزوج المقترح.  إن الشرط الملموس للاستقرار أو للتنقل هو القوة وشرطها، هو القدرة الضرورية والكافية ولو لمرة واحدة: ذلك أن الطاقة تنتج، فعلاً، قوى، وهذه الأخيرة تنتج حركات.  ومن هنا الثبات والتحولات.  ولهذا لم يصادف أي أحد، أية أشكال مرسومة، من قبل، فوق تنوع فضائي، ولا عناصر موزعة داخل تعددية.  وبذلك، فإن الزوج هو الأكثر عمومية، والأكثر عينية في الوقت نفسه.  والدليل على ذلك، استطراداً، هو أننا ما زلنا نستطيع أن نجد انطلاقاً منه، كحالة متفردة، كل النموذج اللساني.  ويكفي، لأجل ذلك، الانتقال من الطاقات الكبرى إلى الصغرى: هذه هي المعلومة والإشاراتية العادية؛ كما يكفي تسجيل، كل التفردات التي نحتاجها، على هذا التنوع الفضائي أو ذاك: ها هي ذي الوحدات، والاختلافات والتمفصلات وهلم جرا.  إن الأمر يتعلق، تحديداً، بنزعة كلاسيكية معممة، وبالتالي ببنيوية معممة.

اختزال الكلاسيكي

أشكال

حركات

زوج بنيوي مجرد

عناصر

عمليات

زوج عام عيني

طوبولوجيا

طاقوي

حالة خاصة للعلامات (لغة)

تفردات ضمن تنوع

طاقات صغيرة: معلومة

اللغة، أو على الأقل، من النزعة الاسمية.  إن الخطاب مسار مفرد لا يحصل إلا على طاقة منخفضة.  إن الخطابي يغوص في الحدسي، إنه أرخبيل وسط البحر.  إن كل تركيبة يمكن استيعابها ضمن شكل متحرك، متكونة هي الأخرى، متصلة، ممزقة وعرضية (Stochastique) ضمن انتقالات مرحلة، وبالتالي داخل مد طاقوي.  إن الصوري استثناء على مستوى التنوعات.  وقد سبق للنزعة اللايبنتزية الكلية أن حدست ذلك.إن هذا الدرس لن يصبح، مع ذلك، مقروءاً إلا بتدخل القرن التاسع عشر، حيث حققت أن الثورة الصناعية، بصناعتها للآلات النارية، ونظرت وأعلنت عن عصر المحركات.  إن إنتاج الحركة قد نزل من السماء إلى الأرض، من ميتافيزيقا أرسطو إلى فيزياء الشغل.  وليس من العسير وصف اشتغال هذا الشيء الجديد، ولا معاينة إعادة ترتيب المكونات الثقافية وفقاً له.  إن المفاهيم الثلاثة الأساسية الخزان، والاختلاف، والتجوال (Circulation) تبرز عند سادي كارنو (Sadi Carnot) لتنتشر في كل موضع للشغل، وللعالم وللنصوص، بل ولتكتسح هذا الشيء المفرد المسمى، منذ زمن بعيد بالذاتية.  وحينما يحاول القرن الماضي وصف الأشياء نفسها، فإنه يفعل ذلك انطلاقاً من مخزون، ومن تفاوت (décalage)، ومن تعددية التدفق.  إن الأمر مقروء في كل مكان، أقصد بتوقيعات، كانت فيما مضى، معروفة بكونها مختلفة أو متعارضة.إن أي فلسفة هي فهرس لتغير براديغم ما.  إنها معاينة له، وعلامته، أو ترقيته.  إذن، فالهدف الوحيد أو الفرصة الوحيدة للفلسفة تقبع في الجدة.  إنها خطاب مشكل، ديناميكي ومراقب ذاتياً، من توقعات الأفعال الإنسانية، هنا، محلياً، وفي هذه الساعة من زمن ما.  خارج هذه المناسبات، إنها تعيد، وتشفر وتحتاج، وتتعاطى للتفكير وللكوني، تعرض أسبابها وحقيقتها القديمة، لم تعد سوى خطاب للسلطة، وشرعية مقواة للعنف والموت.كم كانت الأزمنة صعبة حديثاً أو قديماً، عندما كان كتاب الفلسفة الأحياء ليس لديهم، ولم يكونوا حاملين، سوى الجدة.  لقد كان عهد النزعة الواحدية (mononéisme): لقد كان الجديد وحيداً وكان التحول خطياً.  إن أزمة الأعداد اللامعقولة اليونانية، والتأسيس الحديث لفيزياء حقة، والثورة الكيوبرنيكية، وتحول الاقتصاد إلى علم، أو مشكل الطاقة، لهي بعض الأمثلة من بين غيرها، على التجديدات الفردية والجهوية.  إن نصوص أفلاطون (Platon)، وديكارت (Descartes) وكانط (Kant)، وماركس (Marx)، أو بيرغسون (Bergson) تمر من طرف الرتق إلى طرفه الآخر، في مسار نسبياً وحيد القيمة، والمعرفة الجديدة المرتقاة، في لحطة الانبثاق والتوقع، تتموضع أتوماتيكياً في قاعدة الخطاب الجديد، إنها شرطه الإبستمولوجي والمحرك اللحظي لإنتاجه في الوقت نفسه.كم سيكون من السهل إنتاج فلسفة في الوقت الراهن.  إن الابتكار يظهر من جميع الجهات، من تعددية جهويات الإنسيكلوبيديا.  إنه زمن التعددية (Polynéisme): إن الجديد متعدد، والتحولات الفضائية لها أبعاد عدة.  ففي كل صباح تهتز الأرض، وها نحن منغمسون، في العمل في بيئة مبتكرة.  إن التموجات لا تؤثر فقط في مسار ما، بل في الخريطة، وفي الأرضية الصلبة، التي تعتلي، وتطوي، وتتقعر، وتحني، وتتمزق، وتشكل ممرات، وآبار ومداخن، حيث لم يكن يوجد ما قبل البارحة سوى هضبة.  ما يجمد، ويتكرر، ويتكتل، سيكون بالأحرى هو التاريخ، أقصد المؤسسات الاجتماعية والسياسية أو الثقافية وديناميكيتها الإنتاجية، معتبرة، منذ الآن، كقوى ذاتية هائلة في مواجهة الدغل المحرق للابتكارات البراديغمية وضدها.  إن الشروط، والمشروطات تدور جزئياً، في مكان معطى، كما لو كانت في دائرة، إن الإعادة الأوتوماتيكية والقلقة تعود في حركة تغذية راجعة إلى الإنتاج العملي، فتحبسه، وتدفعه للعمل بطريقة متنامية، إلى الموت.  إن لعبتها هي أن ترقى إلى مقام أن يكون معها الحق، وأن يكون معها الحق في ذلك.  إن سياسيي العلم بالخصوص، يشوشون على الجدة، يرجعونها إلى التكرار.  ومن هنا يحدث تمزق الفلسفة بين الغريب، الذي يدفع إلى الهامش، وبين المعروف دائماً من قبل، الذي يتفتت والذي ينقلب.إن هذا لا يعني شيئاً آخر سوى أن الرياضيات قد تغيرت.  فلم يعد لاجرانج (Lagrange) ولا أويلر (Euler) ولا كوشي (Cauchy) يفهموننا، على الأقل دون معجم، لأنها كانت كلاسيكية وأصبحت معاصرة.  إن هذه القضية الخطية ليس لها، دون شك، أي معنى يمكن إحضاره، ذلك لأن [الرياضيات] قد غيرت كل شيء حولها، كما أنها أعادت إنشاء أسسها وبناءاتها المتعددة، وشروطها، وتمرينها، ولغتها، وتاريخها.  ومن ثم حدث اجتياح، كما لو كان فيضاناً مفاجئاً، للفضاء الشامل للمعرفة، وللقرارات القديمة، المدارس أو شجارات فلسفة النزعة الاسمية، والنزعة الواقعية، الحدس أو الصورية الخطابية، وهلم جرا، إن شئنا، إلى أن نبلغ إلى العلوم الإنسانية الجديدة، إذا أخذنا هذا في الاعتبار، بالإضافة إلى المواقع التقليدية للتطبيق، فإنها تمتد فجأة بإنتاجيتها إلى الكيمياء أو البيولوجيا، مثلاً.  إن هذه المدينة التي يعاد بناؤها لم تعد داخل المدينة.  لقد منحت فيما قبل أدوات العمل، واليوم، تمنح لغة الثقافة، التي تملأ المجال الذي خلفه الصمت أو ترديدات ذلك الكوني (Universel) القديم المنهار، أي النزعة الإنسانية.  لا أحد يسافر أو ينتج إذا لم يتكلمها، قليلاً أو كثيراً.  لم يعد الأمر كما كان قديماً، لا أحد يدخل هنا، في هذا المكان المقفل، إذا لم يكن مهندساً، ولكن لا أحد يخرج، هنا، وهناك، ولا في أي مكان كان، إذا لم يكنه بطريقة ما.  لنصف ذلك بتعبير آخر، إن الرياضيات هي إذن اللغة الكلية. إن هذا ملحوظ، ما صدقياً، ولكنه كذلك مفهومياً، ما دامت قد بدأت بالحديث عن اللغات.إن الفيضان يفرغ أو سيفرغ في الإمبريالية، إذا لم تتم هذه الحالة في جميع الجهات وانطلاقاً من ينابيع أخرى.  إنه مع ذلك يفرغ أو يسعى إلى الإفراغ.  طالما أن الرياضيات لغة الثقافة، فإنها بذلك الأداة الكبرى للبيداغوجيا، ووسيلة الانتخاب، وركيزة رجال السياسة، وموضوع الاحتجاج.  إن فعل الارتداد للشرط والمشروط يعمل في دائرة من جديد، والثقافة التي عوضت تدفع تلك التي عوضتها إلى العمل بالتكرار، وإلى إعادة الإنتاج وإلى الموت.  ليس هناك بالتأكيد سوى ما هو جديد، وما هو أسس للنتائج الأكثر تعقيداً، للاختراع الخاص بالديناميكا الموسعة للتطبيق، لكن مجموع الجدة يمكن أن يكون مسروقاً من طرف رقصة الأموات القديمة للتكرار.إن هذا لا يعني سوى أن علوماً أخرى قد تغيرت، إذ كانت كلاسيكية فأصبحت معاصرة.  إن هذا الاقتراح الخطي جد تافه لكي يساوي في قيمته سواء قبعات عمتي (خالتي) والشعور المستعارة (Perruques) لابنة أخي (ابنة أختي).  ومن ثم، فإن كل واحدة منهن أو تقريباً، تبلغ في عملها الجهوي، قدراً كافياً من العمق والكونية لكي تعبر عن نفسها، حالياً، كما تفعل الرياضيات، حول مجموع العلم والعالم.  إن كل معرفة هي من الفلسفة.  إن كل واحدة هي في حالة فيضان، وتسعى نحو شغل الفضاء، بل يمكننا أن نقول إن ذلك هو مقياس نضجها كعلم، إننا نتحدث غالباً عن الأزمة في الفلسفة: لكننا مع ذلك لم نكن أبداً أمام مثيل لهذه.  إن الوفرة أحياناً تعمي أكثر من النقص.إذا اخترنا جهوية صغرى من الرياضيات، الاحتماليات مثلاً، فإن الفيضان نفسه يعود، إنها فعالة أحياناً في نظرية الأعداد، لذلك تنتشر في كل المواضع، من الفيزياء النظرية إلى السوسيولوجيا، وفي اختيار التشكيلات، وفي التطور، وفي الوظيفة العامة للأنساق الحية، باختصار من الغازات إلى اللغات.  إنها تكون براديغماً، وهذا واضح، ونموذجها هو ضباب ما.  إنها تثير الخوف انطلاقاً من الاستعمالات التي تتيحها، عندما ينتقل الجماعي من الأوليات المفقودة إلى الشارع، ثم إلى الوزارة.  إنها تحمل مع ذلك فلسفة، انطلاقاً من المجتمعات الكبرى، والندرة المبرهن عليها للأشياء التي نظن أنها خاضعة للقوانين: اللانظام أولاً.  ها هي ذي إذن بالضبط ثورة ذات نتائج أكثر من كل الثورات الكوبيرنيكية في التاريخ، التي خلقت قوى التكرار فيها الاقتصاد، قوى الموت، الاقتصاد.  ماذا ستصبح المؤسسات والسلطات والتاريخ إذا لم يعد النظام هو أكبر منظم للتمثلات؟ والحال أن اللانظام هو البحر، حيث عالمنا وكل ما يتبعه ليس سوى مجموعة جزر.  إن الفلسفة الممكنة، متحققة، وحاضرة، وصادقة، وهو ما يزيد الطين بلة، لكنها منمحية، ومنسية، ومولودة ميتة.  إن المشكل لم يعد يتعلق اليوم بنقص في الفلسفة، إنها تتكاثر، ولكن الأمر يتعلق بانتشالها من المدبق اللزج، حيث وقع كلامها، وأن ننقذها من أساتذة الصدى.إن رياضيات الاحتمال منذ بولتزمان (Boltzmann) وجيبس (Gibbs) قد ساهمت في الديناميكا الحرارية.  في هذا الترابط، لنفارق العلوم الحقة ولنتبع الطريق الذي صادفناه.  إن نظرية الحرارة، انطلاقاً من كارنو (Carnot)، هي علم لتطبيق المحركات وللآلات النارية.  قد يبدو وبطريقة جد هامشية أن نص التأسيس قد وضع وثيقتين للقراءة.  هكذا يبدو المنبع نحيفاً والبث بطيئاً.  وعندئذ يعود الفيض، هنا، وبمقدار النمو نفسه الخارق للثورة الصناعية.  لقد أصبحت الديناميكا الحرارية الفلسفة العامة للعلوم: إنها تمس الفيزياء، الجهوية والعامة، أثناء التجربة، في النظرية ومبادئها المنظمة، إنها تمس الكيمياء وعلوم الأرض وعلم الفلك الفيزيائي، وعلوم الحياة، الوراثية أو علم البيئة، وكذا الأمر بالنسبة للحواشي.  إنها تكوّن براديغماً جديداً، جد شامل، يفرض نفسه بالقوة، لدرجة لم نتعرف فيها عليه بوضوح، في حين أننا نحيا، ونعمل، ونفكر فيه ومن خلاله منذ أكثر من قرنين.  فهو الذي يجعل خطابات الميكانيكا العادية بالية، والذي يرجع إلى القرن 18 كل النظريات المبنية فقط على الحركة الناتجة عن علاقة القوى، الساكنة والمتحركة.  إنه منتج القوى نفسها، انطلاقاً من الخزان، وانطلاقاً من الاختلاف ومن التجوال، إن بإمكانه أن يبني المحركات ويعرف كيف يبنيها.  وفجأة، أصبح الكل محركاً: هكذا يشتغل العالم، والبحر، والرياح، والأنساق المزودة بالحياة، ومرسلو الإشارات، وكل ما هو في حركة، من الأدوات إلى الكون، ومن التاريخ إلى اللغات.  إننا لسنا بعد موقنين من خروجنا من الفلسفة العامة للأشياء التي نحن داخلها بشكل غير واعٍ.  إن كل المعالجات النصية للمجموعة التعاونية ولتحولاتها، وللذات العاطفية التي هي غنيمة للتنقلات، أو مشبوكة بكثافات، تداول النقود والعلامات، قد تم اختراقها، دون أن نرى ذلك دائماً، عبر قواعدها وقوانينها.  إنه الرهان الحقيقي للحداثة الصناعية، أو على الأقل، حقل لعبها وإستراتيجياتها، من أجل تقنيات العمل، وتموجات الاقتصاد، وصراعات السلطة، وصراعات الجماعات الإنسانية من أجل الحياة، والعلاقات في الوسط، وأنساق التواصل.ففي كل خطاب، كما في كل تطبيق، نعين أن ننتج خزاناً: معرفة مطلقة، وإنسيكلوبيديا، وطبقة، وبركة، ومنجم، وجيب، وثابت الطاقة، ورأسمال أو ذاكرة، وتجميع الأزمنة؛ إنه اختلاف ذو منبعين، مثل الصراع والنزول، وتفاوت في مستوى، في عدم التماثل على العموم، إنه اختلاف يحمل أحياناً، داخل النصوص، أسماء الأعلام، وأحياناً أسماء مشتركة، وأحيانا علامات معينة؛ ومن هنا يتم مرور الماء، والدم أو الأشياء المتنوعة، والحياة، والعلامات والأنساق.إن هذا الفيض المتحرك يمكن أن يكون متصلاً أو مقطعاً إلى لحظات كارثية، إنه في غالب الأحيان مسوخات (métamorphoses).  إنه مخطط، وتقطيع، وإعلاء، أزرق لمحرك عموماً، وجد ثابت خلال كل التغيرات التي يجتازها منذ كارنو (Carnot).  إن العالم، والمعرفة والذات الجماعية أو المنعزلة والتاريخ لم يعودوا سوى محركات تحويل، لقد كان من المحتم أن يموت على إثرها المحرك الأول لأرسطو، أو بعبارة أصح، لم يعد له شيء ينتجه.  لقد رفعت الديناميكيا الحرارية إذن بفيضانها في التطبيق وفي النظرية إلى رتبة البراديغم، وسواء أكانت نظرة إلى العالم أم نسقاً مشتركاً، فإنها تنتج، منذ نصف قرن، نوعاً من براديغم جزئي.  لقد كنا نعالج باستمرار الطاقات في عموميتها، أو بتلك التي لها معنى ما في سلم القصور الحراري، وبالخصوص، في حقيقة الأمر، بتلك التي تكون مركزة، والتي يمكن أن نحيط بها بكيفية أحسن، وبالتالي أن نسرق: إن الفلسفة السائدة ناتجة عن فعل التملك هذا، أي غلق، أو بطريقة أدق وعامة، تركيز ما.  إن هذه المعالجة لا يمكنها أن تمنح فلسفة للطبيعة، أي نزعة طبيعية، أو تراتباً للوقائع، حيث تحتل الفيزياء الطرف الأعلى، أي النزعة الفيزيائية.  في هذا الإطار الشامل، نتجنب كثيراً كذلك نمو القصور الحراري (Entropie)، ومن جديد، شروط الانغلاق.  ومن ثم كانت دفعات القرن الماضي للهروب من القدر المحتوم، ومن العود الأبدي إلى إستراتيجيات الانفتاح.  ومن جهة أخرى، كانوا يلصقون نتائج الفيزياء بأسئلة من مجال لم يكن أحد موقناً بأن الفيزياء لديها شيء مهم تقوله فيه.  من هنا تأتي الأهمية المفاجئة لهذا البراديغم الجزئي، حيث يتم التجريب على طاقات صغيرة، وعلى تجوال العلامات.  فمنذ اللحظة التي لاحظ فيها ليون بريلوين (L. Brillouin)، وبرهن أن المعلومة هي من القصور الحراري السالب (néguentropie) بدأنا نأمل في إيجاد حلول لمشاكل كانت صليب القرن التاسع عشر. هذا الأمل الذي أنتج فيضاً جديدا، ذلك بالضبط ما جعلنا ننتقل من نزعة فيزيائية إلى نزعة اسمية.إن النظرة المعلوماتية كانت ترسم بدورها طريقاً عادياً نحو التصنيفات المعتادة، من الرياضيات إلى العلوم الإنسانية، عبر الفيزياء والبيولوجيا.  لقد ترجم المحرك المحول إلى محرك معلوماتي.  إنه مسار معترض يرفع النظرية إلى مرتبة فلسفة للعلوم بعينها.  ذلك لأن الإبستمولوجيا، منذ الآن، ليست أبداً سوى علم في حالة فيض، ليست سوى واحد من أولئك الذين يمكنهم أن يشقوا مسارا في فضاء الإنسيكلوبيديا الشاملة.  ماذا ستكون الرياضيات إن لم تكن اللغات التي تضمن تواصلاً مكتملاً أو دون ضجيج؟ ماذا سيكون التجريب على العموم إذا لم يكن قائمة معلوماتية، وفي الوقت نفسه طاقوية، للمخبر؟ وما هو النسق الحي إذا لم يكن جزيرة من القصور الحراري السالب، دوامة مفتوحة ومؤقتة، ومرسلاً ومتلقياً لأنهار الطاقة المعلومة؟ ما هي اللغة، والنص، والتاريخ نفسه وآثاره وبصماته إذا لم تكن الموضوعات التي تحدد نظريتها طريقة عملها؟ إن الخطابات الفلسفية القديمة، وبطريقة غير مباشرة وعادية، قد انحطت، لم تبلغ حالتها الجديدة إلا عبر ترجمة البراديغم إلى البراديغم الجزئي والديناميكا الحرارية إلى نظرية المعلومة، والطاقات الكبرى إلى طاقات صغرى.  فما كان مثلاً طاقة في عمق الذات العاطفية، أصبح ببساطة لغة اللاشعور؛ إن منبعي كارنو، اللذين ترجمهما برغسون (Bergson) من قبل، أصبحا اختلافاً، بالنسبة للكلام أو الكتابة، خلال تجول العلامات على العموم، إن القصور الحراري، الذي كان قد ترجمه من قبل لالاند (Lalande) إلى الانحلال، قد انفصم في مستوى النصوص؛ إن الشروط السريعة للانفتاح والانغلاق، التي قد نقلها برغسون إلى وظيفة الجماعة وتاريخها، تنتشر في كل الخطابات.  إن عصر الدال، هو عصر المعلومة، والعلامات والإرشادات مختلطة جميعها.  يبقى البرهان الحقيقي هو الطاقة، ولكننا كنا نرجئه فقط من وجهة نظر معلوماتية، في الوقت الذي يوضع العالم بين قوسين.  ومن ثم ظهرت النزعة الاسمية الجديدة: لقد اكتسح الفيضان الفرعي وغطى البراديغم الفرعي مجموعه؛ مرة أخرى، اعتبرت الفلسفة الكلمات أشياء.  وبشكل غريب أدى تجديد الفيزياء، هذا العلم المخلص للعالم، إلى النتائج نفسها التي أعطتها ابتكارات الجبر.  إن عبورها للإنسيكلوبيديا كان شاملاً، والبراديغم المكون في النهاية، النجيب بشكل جيد في كل لقاءاته، لم ينتج سوى نزعة مثالية.  سيد المعلومة، إنه ينتجها من ذاته، ويقودها كما يريد، مختبئ وراءها، بشرط أن يسيء فهمها، إن شبح الإنسان، في صيغة ضمير الغائب المفرد المحايد، أو ضمير المتكلم الجماعي، يعود ليشغل مركز عالم ما، قد اختزل مرة أخرى في التمثل.ومن ثم، فإنه موضوعي فقط، والشبح، بعيداً عن أن ينتجها هو نتيجة لها.  يجب علينا، مرة أخرى، أن نضع أرجلنا على الأرض، في مواضع غير مركزة.  إن نزعة اللاكونية الجديدة، النزعة الاسمية، والنزعة المنطقية، والنزعة الصورية توجد في سجن داخل أنساق الإشارات.  إن مسارها جد طويل لكي تصل إلى الأشياء، عندما لا ترسم عالماً مقلوباً يشبه انعكاساً على المرآة.  إن المرسلين ليسوا وحيدين، إنهم سادة فقط.  إنها إعادة تولي السلطة من خلال إعادة تركيز المعرفة.ومن ثم ضرورة إعادة بناء الأمكنة، وتكميل الخطابات بما ينتجها، في الهامش، الطاقة الفعلية، وتغيراتها، وتحولاتها.  ومن هنا الزوج الذي توصلت إليه: طوبولوجيا- طاقوية.  لقد حدثت تحولات مرحلية ضمن تنوع محدد.  إن براديغماً جديداً قد ولد، وهذا القول هو مبرهنته (Théorème).  فمن بين الأسفار المتعددة، التي قد رسمت مساراتها المعقدة، نجد التقدير (Estime)، إذا كان ممكناً، يؤكد هذه النقطة في منتصف النهار بالضبط.  إنها نقطة وليست مركزاً في مكان متفاعل، حيث تعدد الأشكال يبقى غير قابل للاختزال.إننا نجد من جديد عالماً حيث تجوال الإشارات يجد مكاناً، كحالة خاصة من التجوال على العموم.  إن هذه الفيوضات المختلفة تعمل فيما بينها، ويمكن أن تتحول الواحدة إلى الأخرى.  بعيداً عن كوننا منغمسين فيها، إننا فيها.  غداً، سنجد علماً آخر، كما نقول عندما نحب السوط، ذلك، الذي، يوجد فقط، في هذا الخطاب الذي أكتبه هو منبع للاستعارات، سيسمي فيضه: ميكانيكا السوائل.  سنعترف قريباً بفعاليتها الإنتاجية في التشكلات الأكثر عطاء من معرفتنا.  سابقة على الميكانيكا العادية، تلك التي تصف الأجسام الصلبة، وتقيم إناءها وحركتها، وتعطي أوراق اعتمادها للأنساق الصلدة والصارمة، أنساق جهاز على العموم، الناتج عن الفيزياء الإغريقية المبنية بشكل جيد، أي تلك المريضة (Mathématisée) على أساس من اللانظام، اعني هنا الفيزياء الذرية، النجيبة، والمحركة الوحيدة لإعادة إحياء العلوم التطبيقية، والمنسية، والمنحطة، التي أحبطت لأنها خطيرة، إنها تعود للظهور، في هذا النهار، باعتبارها مؤسسة.  إننا نسير نحو ملاقاة الأعاصير القديمة، تلك التي كنا نعتبرها لاعلمية.  إن الفيض سيكون هذا المساء، متهيجاً، وإعصارياً.  إن كلمة الثورة ترسم دائرة مغلقة وترفض الاختلاط.  إن أشياء العالم، الكواكب أو البلورات، لن تعود أنساقاً، ستصبح سيريمات (Syrrhemes).  إن العلاقات لن تعود ساكنة أو متحركة أو ذاتية الانضباط، بل ستصبح بلاغية، أو أحياناً، ذاتية البلاغة.  لن نعود للحديث عن نسق حي أو عن نسق للإشارات.  ولم تعد أرخبيلات ثابتة في البحر، بل عُقد مفتوحة، أو تركيبات مؤقتة، حيث تلتقي الفيوضات المتنوعة: لقد ماتت الأنساق، وانتهت المحركات، انفجار أو نفاد.  وخطاباتنا ستحرك حتماً حلزونياتها المفتوحة كدوامة لزجة.  اللذة، سيريمات، وركائز، الكل، سيستوعب منذ الآن ويحول داخل ومن خلال وكابتعاد عن التوازن.  إن كل وجود هو مناسبة: مبرهنة تحصيلية وطريقة اشتغال عامة.الطوبولوجيا-الطاقوية، هنا والآن، الواقع أن هذه المكنة (المنطقة) بها مصائد.  إن لها جميعها مالكاً وشرطة للحراسة.  إن الطاقات الرئيسية، الكبيرة أو الصغيرة، ومنابعها وفيوضها، بيد جيوش لتحافظ على إغلاقها.  فمنذ اللحظة التي يحتل فيها مسيطر على مكان وطرقاته، كالطاقات أو القوى التي تشق طريقها فيه، فإنه يمتلك إستراتيجية.  إن الإستراتيجية منهج، بل فن للحرب.  لقد كان المنهج على الخريطة.  ليست الإستراتيجية أبداً شيئاً آخر سوى التنقل المقنن للقوى في فضاء ما.  إن المعرفة الأكثر عمومية، التي يمكن أن تتشكل والأكثر دقة والأكثر إخلاصاً، والأكثر فعالية، يمكن فك شفرتها بنموذج عسكري.  إن مقالاً في المنهج هو علم للحرب.  فالسياسات والاقتصاديات، ونحن نعرف ذلك، ونشعر به، تعمل أكثر فأكثر من خلاله.  إن العلم هو نفسه منذ الآن طعمه.  إنها تعمل، بتأمل، على التكرار والموت.داخل الثلاثية: المشتري، المريخ، وقوريونيس (Quirinus)، التي تم الاعتراف بها، منذ ديميتزل (dumezil)، كطابع أوروبي مشترك، سقطت، وهي المرة الأولى دون شك، مجموع أعمالنا وثقافتنا في يد المريخ الدامية؛ كما لو لم تكن توجد إستراتيجية ضد الإستراتيجية لا تكون هي نفسها إستراتيجية.  إن إله الحرب هو المنتصر دائماً، مهما كان المنتصر انطلاقاً من منطق الفصل الذي يفرضه.  لقد ربحت إيران كل شيء، وكل الأشياء الجديدة ترتد نحو نزعة تقليدية مهولة.إنه القطع إلى الأبد مع كل إستراتيجية. إن الحل الذي لا يقتل هو إذن تجزئة الفضاء، تشتيت الطاقات. إن الفلسفة الوحيدة الممكنة أي الحيوية، تتمثل في إبعاد الكوني. التعددية وتعدد الأشكال (Polymorphisme)، حيث نجد لايبنتز من جديد ومن ورائه، أبيقور (Epicure).

أثر العلم والتكنولوجيا على الثقافاتوآليات التأثير*
جون لادريير

تقديم

لقد اتخذ كل من العلم والتكنولوجيا مكانة مهمة في المجتمعات المعاصرة، فامتد تأثيرهما إلى كل مجالاتها ومستوياتها الظاهرة والخفية؛ وبذلك أصبحا يمثلان تحدياً لكل أنساق الثقافة، بل للإنسان ذاته من حيث هو وجود وأخلاق وجمالية.  وعليه، فهما يقدمان قيماً جديدة تحدد الوجود الاجتماعي والثقافي والتاريخي للإنسان.لفهم هذه الصيرورة وآليات فعلها يسعى جون لادريير (من خلال الكتاب الذي اقتطفنا منه هذا النص) الإجابة عن سؤالين أساسيين: أولاً، ما هي العلاقات الممكنة بين المعرفة العلمية والتكنولوجيا الناتجة عنها؟ وثانياً، ما هي آثار كل من العلم والتكنولوجيا على الثقافات عامة وعلى الأخلاق (القيم الدينية، والاجتماعية، والإنسانية) والجماليات (الشعور، والذوق، وأشكال الفن) خاصة؟ وهي الآثار التي يختصرها في فعلي التفكيك وإعادة البناء.
لقد تركنا بين قوسين، إلى حد الآن، التفاعلات ما بين العلم والتكنولوجيا من جهة، وباقي مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، وقد حان الوقت للاهتمام بهذه التفاعلات، بحيث نعيد وضع العلم والتكنولوجيا في السياق والأكثر اتساعاً، والذي ينتمي إليه تطورهما، سنعنى بالخصوص في هذه الدراسة، بالتفاعلات مع الثقافة، ولكن وجب تدقيق أي معنى نقصده بهذا اللفظ.من الممكن أن نفهم لفظ الثقافة بمعناه الأوسع، الذي تعطيه إياه الأنثروبولوجيا الثقافية: يتعلق الأمر إذن بمجموع المؤسسات؛ سواء في طابعها الوظيفي أو المعياري، التي من خلالها، تعبر عن نفسها الكلية الاجتماعية، والتي تمثل بالنسبة للأفراد المنتمين لهذه الكلية، الإطار الضروري الذي يشكل شخصيتهم، ويحدد لهم إمكانياتهم ويخط لهم، بطريقة ما وقبلياً، خطاطة الحياة التي من الممكن أن يندمج فيها وجودهم العياني، والذي يمكن عبره أن تتشكل فعلياً.  ليست الثقافة، من هذا المنظور سوى المجتمع ذاته، باعتباره واقعاً موضوعياً.  يفرض على الأفراد، الذي يشكلون أجزاءه، نمطاً من الوجود.  ومن البديهي أن تكون أنساق المعرفة والأنساق التكنولوجية أجزاءً من الثقافة بهذا المعنى.  كما أن المؤسسات ذات الطابع السياسي والاقتصادي هي جزء منها كذلك.  فضلاً عن هذا يمكن فهم لفظ الثقافة بمعنى ضيق أكثر، بحيث يدل على مجموع العلوم التي تمكن الفرد، ضمن مجتمع معين، من بلوغ درجة من تطوير حساسيته، وحسه النقدي، وملكاته المعرفية، وقدراته الإبداعية، باختصار، يبلغ درجة من النمو في شخصيته.  ويمكن اعتبار العلم وبعض أوجه التكنولوجيا جزءاً كذلك من الثقافة بهذا المعنى، بيد أن الأمر لم يعد يتعلق، هذه المرة، سوى بمجال جد خاص من الحياة الاجتماعية.ولتوضيح الإشكالية التي تشغلنا، علينا في الموضع أن نميز بين مجال المؤسسات ومجال القيم.  وسيكون تأملنا في الحياة الاجتماعية من منظور القيم خاصة.  (بالطبع لا يهدف التمييز المقترح عزل القيم عن المؤسسات، فالقيم هي التي تؤسس الطابع المعياري للمؤسسات.  ومن ثم ليس لها وجود عياني إلا في التفاعلات الفعلية التي تشكل حياة المؤسسات)، كما أننا سنعنى بالثقافة من منظور القيم قبل كل شيء.  بيد أنه يجب أن نأخذ في الاعتبار التعالق المتبادل بين جميع المظاهر الاجتماعية، ووضع القيم ذاتها في علاقتها بمكونات الحياة الاجتماعية الأخرى.  دون شك، هناك سبل عدة لعرض تمفصل الوظائف المختلفة أو تمفصل مجالات التطبيق المختلفة، التي تنتمي إلى كلية اجتماعية.  ومن دون أن ندخل هنا في نقاش معمق حول أفضل سبيل لفهم التمفصل، سنكتفي باقتراح تقسيم بسيط إلى ثلاثة مكونات، تستجيب لمتطلبات التحليلي: المكون السياسي، والمكون الاقتصادي، والمكون الثقافي.  ويتشكل المكون السياسي من أنساق السلطة، أو من الأنساق التي تمكن مجتمعاً ما من أخذ قرارات تلزمها فعلياً، التي من خلالها يرسم قدرها التاريخي ويتشكل المكون الاقتصادي من أنساق الإنتاج التي بفضلها يسعى المجتمع إلى حل مشكلة البقاء، وذلك بتوفير الخيرات والخدمات الضرورية لأفراده، من أجل حفظ وجودهم البيولوجي، وتفاعلهم المتبادل، ومشاركتهم في الحياة الجماعية (ومن بينها أشكالها الأكثر تجريداً، والمتعلقة مثلاً بالبحث العلمي، والسلوكات الرمزية).  وأخيراً يتشكل المكون الثقافي من الأنساق التي تؤمن عمل ما يمكن أن نسميه بالطابع المعلوماتي للحياة الاجتماعية، بعبارة أخرى، التي تكون ركيزة لحياة الدلالات.  وفيها يمكن أن نميز بالأساس القيم، والقواعد، وأنساق التمثلات و"الفنون" المختلفة (بالمعنى الواسع أي "المهارة" التي تتطلب كفاءة خاصة).  والأنساق التعبيرية والأنساق الرمزية.بإمكاننا أن نكيف لغة نظرية الأنساق، فنعتبر المجتمع الكلي نسقاً كبيراً مكونات من ثلاثة أنساق جزئية أساسية، تنحل هي كذلك إلى أنساق جزئية متخصصة.  وكل هذه الأنساق تتكون أساساً من خطاطات، ثابتة إلى حد ما، (على الأقل إذا رهنا أنفسنا بمرحلة ما)، السلوك أو التفاعل بين الأفراد.  لكن وجب أن نعتبر، خلال تحليل الحياة الاجتماعية، الأجهزة الموضوعية التي يحتاج مجتمع ما من أجل توفير ركيزة عينية للتفاعلات التي تكونها.  بمقدورنا أن نرتب ضمن هذه الأجهزة، إذا وسعنا نظرنا، ليس فقط الأدوات والآلات، والإنشاءات، التي سيخدمها النشاط الاقتصادي (وجزئياً النشاط السياسي كذلك).  بل كذلك "الأدوات النفسية" مثل اللغة، والأنساق المنطقية والرياضية، وبشكل عام، كل النظريات التي يتم في إطارها اكتساب المعارف وتطورها.ينتمي العلم والتكنولوجيا، بمعنى ما، إلى النسق الثقافي، كما عرضنا أعلاه، العلم باعتباره نسقاً من المعارف التي تستجيب لمعايير خاصة من العقلانية النقدية، والتكنولوجيا باعتبارها مجموعة من "الفنون" تعمل كركيزة لكل من الأنشطة الاقتصادية والتواصلية الخاصة بالمكون الثقافي نفسه [...] يمكن بحق أن نعتبر العلم والتكنولوجيا، في حالتهما الراهنة، مكونين لبنية فوقية، مستقلة إلى حد كبير، وواقع موضوعي يمتلك حياته الخاصة، في استقلال عن الحياة الاجتماعية، التي تعمل على مؤازرته.  ومن هذا المنظور، وجب بالأحرى اعتبار العلم والتكنولوجيا أجزاءً من مجال الأجهزة الموضوعية، وليس جزءاً من أحد المكونات المميزة للحياة الاجتماعية نفسها [...] من الممكن إذن أن نعرض المشكل بوضوح كبير كالآتي: إذا كان النسق يشمل ويتكون من العلم والتكنولوجيا من جهة، وإذا كان النسق الثقافي، من جهة أخرى، هو نفسه جزء من نسق اجتماعي معين، فبأي آليات يمارس الأول تأثيراً، يكون بالفعل حاسماً، على الثاني؟لكي يتمكن العلم والتكنولوجيا من ممارسة تشويش على النسق الاجتماعي، وجب أن تكون ممثلة عينياً بطريقة ما داخل هذا النسق.  وهي كذلك فعلاً من خلال بعض المجموعات التي تنتظم من أجل إنماء البحث العلمي والتكنولوجي، التي تنخرط، باعتبارها جماعات ممأسسة، بصفات متنوعة، ضمن المكونات الثلاثة التي يتمفصل إليها النسق الاجتماعي وفقاً للخطاطة التي اقترحنا أعلاه.  فإذا كان العلم، في بداياته، أمراً يخص بعض الأفراد المنعزلين أو جماعات منغلقة كالأكاديميات، فقد أضحى مؤخراً ظاهرة اجتماعية أصيلة، ذات أهمية كبرى، تمثل جزءاً لا بأس به من الشغل الجماعي.  لقد أصبح البحث احترافياً.  تقوده مجموعات، لأن تقسيم العمل ترسخ في هذا المجال كما ترسخ في مجال الإنتاج، ووجود منظمة، ضروري لتجميع المهام حول مشروع موحد، والحال أن نشاط البحث يتطور، بشكل عام، حول مشروع محدد.  وتحقيق مثل هذا المشروع قد يتطلب سنوات عدة من العمل، لأنه يتطلب تضافر الجهود وتوزيعاً للمهام وفقاً للزمن.  يجب إذن توفير دعم مؤسساتي قادر على تجميع، خلال الزمن المرغوب، التعاونات الضرورية، وكذلك تحريك الموارد المادية الأساسية (مثلاً على شكل أجهزة).  وفي مستوى أعلى، تتكتل المجوعات ذاتها في وحدات أكبر (أو تحدث من طرف وحدات أكبر)، تشكل ما نسميه عامة بمراكز البحث التي تنصب لا على مشروع محدد، بل على علم محدود إلى حد ما، وأحياناً يكون علوماً عدة.  وهذه المراكز غالبا ما تكون متآلفة في إطار أكبر، من قبيل الجامعة (حيث يرتبط البحث، بشكل محتشم، بالتعليم على مستوى التكوين المهني المختصص ومستوى تكوين الباحثين الشباب معاً).  أو من قبيل المختبر (يفهم هذا اللفظ هنا بمعنى واسع يدل على مؤسسة البحث ذات أهمية كبرى، وتتميز عن الجامعة من حيث أن التعليم يحتل فيها مكانة هامشية).  وأخيراً وفي مستوى أعلى كذلك، يمثل البحث العلمي موضوعاً، في الدول الحديثة، لتنظيم شامل، على شكل مؤسسات مملوكة مثل المراكز الوطنية للبحث، وأكاديميات العلوم، وأجهزة الدولة للسياسة العلمية وهي المؤسسات ذاتها التي تتعلق مباشرة بوزارة مكلفة بتدبير البحث العلمي.  يجب أن نأخذ في الاعتبار، بجانب مؤسسات البحث بالمعنى الحقيقي، الجمعيات المختلفة، حيث يتجمع رجالات علم معين، أو مجموعة من العلوم، سواء وطنياً أم دولياً، الذين يسعون إما إلى دعم تطور العلوم المعنية (عبر التبادلات الشخصية، وتنظيم مؤتمرات، ونشر مجلات متخصصة) أو إلى تحسين المصالح المهنية للباحثين (مثال نقابات الباحثين)، أو كذلك إعطاء دعم جماعي للتعبير عن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية للعلماء.  وانطلاقاً من كل هذه البنية التحتية التنظيمية للبحث يمكن الحديث حقاً، في المجتمعات الحديثة، عن "إنتاج" للمعارف العلمية، بمعنى إنتاج الخيرات والخدمات نفسه في المجال الاقتصادي.فيما يتعلق بالتكنولوجيا، دون شك وجب التمييز بين ما يرتبط بالبحث عن أساليب جديدة وما يرتبط باستعمال الأساليب المعروفة، سواء في شكل تحقيق مشاريع فردية (من قبيل إنشاء مفاعل نووي)، أو في شكل إنتاج عدد كبير (مثل إنتاج الآلات الحاسبة الصغيرة).  فما يتعلق بالاستعمال يرجع، في جزء كبير منه، إلى المكون الاقتصادي؛ وعملياً فإن المؤسسات التي تدعم النشاط الاقتصادي، أي المقاولات، هي التي توفر الإطار التنظيمي الضروري.  لكن عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الكبرى، التي تعتبر ذات أهمية وطنية أو أن مداها يتجاوز إمكانات المقاولات، أو أن طابعها "المجاني" يكون خارج اهتماماتها، فإننا نلحظ تكون وكالات متخصصة محدثة مباشرة من طرف الدولة، بحيث تسيرها فعلياً أو، على الأقل، تراقبها، مهمتها بالضبط هي تأمين اشتغال التكنولوجيا المناسبة استجابة للأهداف المسطرة.  يمكن أن نقصد هنا تنظيم الرحلات الفضائية، أو التجهيزات الطاقية، ودون شك علينا تصنيف، ضمن هذا النوع من المنظمات، كل ما يرتبط باستعمال التكنولوجيات ذات أهداف عسكرية.  فضلاً عن ذلك، يتم البحث التكنولوجي كذلك ضمن أطر مؤسساتية، سواء خاصة أم تتعلق بمهام لآخر: جزء من هذا البحث، وهو الأقرب للبحث العلمي بالمعنى الخاص، يتم (تحت اسم البحث التطبيقي) في وحدات ذات منحى علمي بالأساس.  وجزء آخر في إطار المقاولات أو الوكالات المتخصصة للدولة، وأخيراً جزء في المختبرات المتخصصة، الموجهة خاصة نحو حل المشاكل التكنولوجية لنوع معين.  يمكن أن نسوق مثال المختبرات التي يتم فيها تدجين طاقة التحام النواة الذرية.  علينا أن نقر إذن بأن هذا النوع من البحث يوجد حقاً في تخوم البحث العلمي الخالص والبحث التكنولوجي بمعناه الخاص.  على أي حال، إن النشاط التكنولوجي، مثله مثل النشاط العلمي، تتحمله مجوعات ومنظمات خاصة.وبواسطة هذه المجموعات وهذه المنظمات بالضبط تتم التفاعلات بين نسق العلم والتكنولوجيا وبين المكونات الثلاثة للنسق الاجتماعي.  وقد يكون التفاعل الأكثر بياناً هو ذلك الذي يحدث مع المكون الاقتصادي.  وكما أشرنا إلى ذلك، فإن الموارد التكنولوجية تستعمل، في جزء كبير منها، في إطار الوحدات الاقتصادية أي المقاولات.  وفي الإطار نفسه كذلك ينجز جزء مهم جداً (دون شك مرجح في مستوى المشاريع القابل للتطبيق الأكثر قرباً) من البحث التكنولوجي.  وحيث أن التكنولوجيا الحديثة مرتبطة بالعلم أيما ارتباط، فإن كل ما يمكن قوله عن التكنولوجيا ينطبق كذلك على العلم، على الأقل بالنسبة لهذا الجزء من العلم الذي له تأثير مباشرة على التقدم التكنولوجي.  (أكيد أنه يصعب الجزم قبلياً، كما أشرنا إلى ذلك بأن هذا الجزء أو ذاك من المعرفة العلمية ليس قابلاً لإنتاج تطبيقات في يوم ما.  لكن هذا لا يمنع الإمكان الدائم للتمييز بين مجالات تكون علاقتها مع التطبيقات الفعلية أمراً إشكالياً جداً وغير محتمل، ومجالات تكون التطبيقات فيها جد مباشرة، أو على الأقل محتملة.  وهكذا يبدو أن بعض التطورات لنظرية العدد أو النسبية العامة، بعيدة جداً عن الاستعمال العملي.  في حين أن علماً جد مجرد كنظرية اللوغاريتم (algorithmes) له أثر جد مباشر على البحث التكنولوجي، لأنه يمنح الإطار المنطقي الذي يسمح بصناعة الآلات الحاسبة الكبرى وتحليل اشتغالها وطريقته).إن التفاعل يتم طبعاً في كلا الاتجاهين من جهة، عندما تظهر تكنولوجيا يبدو أنها قادرة على تلبية "حاجة" كامنة (اصطناعية إلى حد ما، لم يتم التعبير عنها بعد فعلياً، ولكن من الممكن إظهارها وتحقيقها)، نلاحظ خلق مبادرات ذات طابع اقتصادي لترجمة هذه التكنولوجيا إلى أشياء قابلة للاستهلاك أو خدمات من نوع ما.  فإذا لبت هذه الأشياء أو الخدمات طلباً يمكن تحركه بسهولة (أو يستجيب بشكل أفضل من الماضي لطلب كان موجوداً بشكل بين)، من الممكن أن يجدوا بسهولة مقتنين، وإنتاجها لن يضع أي مشكل شائك فعلاً من الناحية الاقتصادية: وبذلك، يمكن القول إن اختراع المحرك الانفجاري قد مكّن من إنتاج السيارات بقدر كبير، التي لم تكن إطلاقاً ضرورية للحياة، ولكنها لبت حاجة كامنة إلى التنقل السريع والفردي، كان ظهور الآلات وحده كافياً لإبرازها.  لقد وجد مشكل التنقل بالآلة منذ القدم؛ لكن المحرك الانفجاري منحه حلاً أنيقاً وفعالاً بشكل خاص.  فإذا كانت الحاجة ليست موجودة إلا بأسلوب افتراضي، أو لا ترتبط بالخيرات أو الخدمات المقدمة إلا بطريقة غير مباشرة، وجب انتظار الكثير من الوقت، وجهود لا بأس بها لتحويلها إلى مطلب حقيقي، ومتكتل بشكل كافٍ، فكل مطلب يستجيب لحافز، وكل حافز يرتبط في النهاية، ولو بطريقة غير مباشرة، بمطلب عميق، غير مصاغ وغير محدد، قابل لأن يتحول إلى أساليب متنوعة من التحيين.  ولخلق حاجة جديدة، وجب إيجاد سبيل لربط مطلب سطحي، جد خاص، بمطلب عميق معمم (الذي يمثل حاجة افتراضية أو بالأحرى إرهاصاً لحاجيات افتراضية).  وهذه بالضبط إحدى مهام المقاولات، وبخاصة في جانبها الاقتصادي؛ أي من حيث أنها تهتم بترويج منتوجاتها، عوض إحداق حاجيات خاصة وظاهرة تناسب ما لديهم للعرض: وهكذا يمكن القول إن آلة غسل الأطباق الآلية لا تناسب حاجة جد لحظية.  لكن من السهل، وبخاصة في سياق يكون فيه الأفراد مطالبين بإنجاز أعمال متعددة، ويظنون دائماً أن وقتهم ضيق، إيجاد علاقة بين مثل هذه الآلة وميل، قد يكون جد عميق لدى الكائن الإنساني، إلى عدم تبديد الجهود، دون جدوى؛ أو بعبارة أدق، تحويل أقصى طاقة متوفرة إلى استهلاك مجاني خالص أو لعبي.  بلغة أكثر بساطة، يمكن القول إن أغلب الأفراد يقنعون أنفسهم بسهولة بالتخلص من مهام نسبياً مملة من أجل التمتع بحرية أكثر بوقتهم وبمواردهم، وإن كانوا يستغلونه بشكل سيئ، ويوهمون أنفسهم باستعماله على أحسن وجه.  إن خلق المطلب الفعلي يتحقق في جزء منه من خلال الإشهار.  ولا عجب إذا رأينا أن دوره يتنامى كلما أخذت المنتوجات المعرضة تدريجياً طابعاً معقداً، وابتعدت أكثر فأكثر عن الحاجات المباشرة (وجب أن نأخذ في الاعتبار طبعاً نتائج المنافسة، فإذا صنعت مقاولتين نفس المنتوج تقريباً، عليهما الالتجاء إلى الإشهار قصد الصمود في وجه بعضهما البعض).  يبد أن الإشهار ليس سوى "وسيط": يعرض منتوجاً بحجج مقنعة قدر الإمكان، وبالارتكاز فعلياً على حوافز جانبية (بل على تداعيات تحرك ميولاً لا شعورية).  إن العامل الأساسي هو نتيجة للاستدلال: تصبح الأداة مرغوبة لمجرد مشاهده إنجازاتها، لأنها تبرهن بذاتها، بطريقة ما، عن فائدتها من خلال عرضها، وتشغيلها، والتأكيد على فعاليتها.  علينا أن نضيف أن الإكثار من الأدوات يجعلها أكثر فأكثر ضرورية، سواء على المستوى النفسي (عبر عامل التقليد ) أم على مستوى الضرورات الواقعية (بسبب عوامل التعالق، وكذا بسبب تنظيم الوقت، الذي أضحى أكثر فأكثر وظيفة الأجهزة المتوفرة).وفي المقابل، كلما تطور النشاط الاقتصادي إلا وسعى إلى العقلنة، باستعماله لذاته وبشكل مباشر (وليس فقط على مستوى التكنولوجيات التي تستعمل) مناهج التنظيم والتدبير المستوحاة من المنهج العلمي.  وهذا يعني أنه يسعى، تدريجياً إلى تحديد أهداف قبلية، ويحاول بلوغها بالوسائل الأكثر عقلانية، آخذاً في الحسبان التوقعات التي يمكن القيام بها على أساس المعلومات ومناهج التحليل المتاحة، وآخذاً في الحسبان كذلك الإكراهات المادية والاجتماعية التي تفرض عليه.الحال أن الأهداف لا تعود، في مستوى معين، مجرد أهداف مبتذلة، متعلقة بإنتاج معين، بل تكتسب أهمية أعم، إذا أضحت عندئذ تنطبق على نوع الإنتاج ذاته، الذي ننوي الشروع فيه، بعبارة أخرى لم يعد المشروع الاقتصادي مجرد مشروع رعاية، يهدف فقط إلى الحفاظ على تدفق لإنتاج نوع معين، لقد أصبح مشروعاً تحويلياً، يتصور الإنتاجات الممكنة، قادرة على تلبية مطالب افتراضية، يمكن ضمن شروط محددة، إظهارها، فكلما ازداد حجم المقاولة وقوتها، فقدت خصوصياتها وربحت، في مقابل العمومية، وبالتالي التجريد.  لا يفكر الحِرفي في صناعة شيء آخر غير ما تعلم صنعه بالتقليد والتجربة.  في حين أن المقاولة الكبرى تتسم بالمرونة في اختيار أهدافها.  لأنها، دون شك، تأخذ في الحسبان بعض الإكراهات: المواد التي يجب استهلاكها، والكفاءات الخاصة للمستخدمين.  يبد أن المواد أضحت متعددة الأوجه أكثر فأكثر، كما أن المقاولة الكبيرة تحتضن أكثر الكفاءات تنوعاً (أضف إلى ذلك أن مناهج إعادة التكوين تسمح لأعضاء المقاولة بالتكيف مع المهام الجديدة.  فما يصير أساسياً ليس التوفر على تكوين جد متخصص في البداية، بل تكوين أساسي يسمح بإعادة التوجيه بسهولة).  لكن عند صياغة مشروع ذي درجة عليا من التعميم، تضع المقاولة مشكلاً تكنولوجياً، قد لا يكون حله متوفراً بالضرورة، أو على الأقل، بشكل تام وقت صياغة المشروع.  هناك إذن مطلب موجه إلى التكنولوجيا: إن النشاط الاقتصادي ذاته هو الذي يضع الأسئلة التي يكون البحث التكنولوجي مدعواً للإجابة عنها.  فسواء تم البحث في إطار المقاولة نفسها التي وضعت السؤال، أم فعلت ذلك لحسابها في مواضع أخرى، سيكون هناك في كل الأحوال، مرحلة بحث، تقود بالفعل إلى تعديل المشروع الأولى أو تدقيقه، الذي لم يمكن في نهاية المطاف سوى فرضية.  وأخيراً، نتيجة لصيرورة كاملة من التفاعل بين البحث والمشروع، يتم ضبط آلية تسمح بالانتقال إلى تصنيع منتوج جديد بكميات كبيرة.  يمكن أن نسوق، كمثال نموذجي، صناعة الصيدلة، حيث البحث نصف علمي ونصف تكنولوجي، يلعب دوراً جوهرياً في تحديد ما تقدر هذه الصناعة على تقديمه.  بيد أن تنظيم هذه الصناعة للبحث الذي تحتاجه مرتهن بأهدافها الاقتصادية الخاصة.حاصل القول أن ما يميز التفاعل بين التكنولوجيا (وبواسطتها، العلم) والمكون الاقتصادي، أن استعمال التكنولوجيا في مستوى الإنتاج يقل تعلقه تدريجياً بالظروف العرضية (الخاصية المتقطعة والجد احتمالية للاختراعات)، والدور العام للشخصيات من قبيل "المقاولين" في المبادرات الاقتصادية)، وعلى العكس من ذلك، تزداد نسقية وعينية وانتظاماً واستقلالية عن الأوصاف الخاصة بالأفراد الفاعلين فيها.  يتخذ تطبيق التكنولوجيا، شيئاً فشيئاً، طابعاً عقلانياً من حيث أنه يشكل موضوعاً لتخطيط وضع بطريقة نقدية، مراقب من طرف التحليل المفهومي والتجربة معاً، وينسق بين أنشطة جد متنوعة، وينظم، طبقاً لأهداف لها درجة أعلى من العمومية، مراحل من العمليات وجب أن تتتالى زمنياً وفق تنظيم محدد قبلاً بدقة.إذا كان التفاعل مع المكون الاقتصادي جد بديهي منذ القدم، فإن التفاعل مع المكون السياسي يصير كذلك تدريجياً عن طريق سياسة العلم، التي تعنى، في الواقع، بالبحث العلمي الخالص والبحث التكنولوجي.  لقد أدركنا، منذ الحرب العالمية الثانية، أن العلم قد أصبح، من خلال التكنولوجيا المرتبطة به، عاملاً مهماً جداً، إن لم نقل حاسماً في الحياة الاجتماعية، إذ يخص، بشكل جد مباشر، الحياة الجماعية، في حاضرها ومستقبلها، باختصار لقد أضحى ظاهرة ذات بعد سياسي، وعلى الدولة أن تستخلص النتائج العملية من هذا الواقع بتحملها للمسؤولية الشاملة لمصير العلم.  ويظهر هذا التأثير السياسي للعلم جلياً بالخصوص في مجال التطبيقات العسكرية، والتسلح الذري يمنحنا المثال الأكثر إقناعاً.  بيد أن الظاهرة أكثر عمومية من ذلك.  فالمجتمعات الحديثة تفكر بلغة التطور.  وهو ما يعني، عينياً، أنها تسعى إلى الزيادة المنتظمة في قدر الخيرات والخدمات المتاحة، وفي الوقت نفسه زيادة إنتاجية العمل الاجتماعي، فتحرر بذلك جزءاً من الطاقات الإنسانية من أنشطة مغايرة للعمل المنتج. (وجب إنتاج قدر كبير من الخيرات بواسطة قدر أقل من العمل والتكنولوجيا الحديثة هي بالضبط ما يمكّن من تحصيل هذه النتيجة).  لقد اعتبرنا، لفترة من الزمن، أن العامل المحدد للتطور ذو طابع اقتصادي؛ أي أنه مشكل من الرأسمال ومن الشغل: كأن الأمر يتعلق بإنتاج كافٍ لكي يظل جزء من الإنتاج مهيئاً للاستثمار، بعبارة أخرى، لتأمين نمو آلية الإنتاج؛ فتكون لدينا بذلك، من حيث المبدأ، ظروف اقتصاد تراكمي.  بيد أن النظر إلى دور الابتكارات التكنولوجية والمعارف العلمية، التي تمثل قاعدة لهذه الاختراعات، يدفعنا إلى الجزم بأن العلم هو في الحقيقة، العامل المحدد، وبالتالي فسياسة العلم المتبصرة هي مفتاح كل تطور.  إن هذا الرأي سيكون جد مبسط إذا أخذ حرفياً.  فالمحدد هو التضافر بين العوامل العلمية والتكنولوجية والعوامل الاقتصادية الخالصة (الإمكانيات والإدارة الفعلية في الاستثمار).  المؤكد أننا لا يمكن أن نكتفي باعتبار عامل "خيرات الاستثمار" في الحالة الخامة، إذا صح القول، ويجب أن نأخذ في اعتبارنا، أكثر فأكثر عامل "المعلومة".  من الممكن إذن القول إن التطور مشروط بالقدرة على ضخ تركيبة مناسبة من خيرات التجهيزات والمعلومات في دورة الإنتاج.وعليه، وجب إعادة وصف التفاعل بين المكون السياسي والمركب العلم- التكنولوجيا، باعتباره يتم في كلا الاتجاهين.  فمن جهة، يفرض البحث تحريك موارد مهمة: يتطلب أحياناً تجهيزات باهظة جداً، ومستخدمين أيضاً، الأمر الذي يجب أن يستخلص من الدورات المنتجة مباشرة.  ويجب أن تقتطع هذه الموارد من مجموع ما هو متوفر على مستوى الجماعة في كليتها.  لذا، على السلطة السياسية أن تتدخل لتأمين الاقتطاعات الضرورية.  يمكن القول، بشكل عام، في الوقت الراهن، إن الجزء الأكبر من البحث يمول، بشكل مباشر أو غير مباشرة، من طرف الدولة.  إن المقاولات تحمل حقاً على عاتقها جزءاً مهماً من البحث التكنولوجي، بل وجزءاً ما من البحث العلمي الخالص.  لكن في هذه الحالة، يتعلق الأمر كذلك باقتطاع موارد من كتلة متوفرة، عندئذ تتدخل سلطة القرار الاقتصادية، باعتبارها هيئة تخصيص الموارد، وبالتالي ضمن وظيفة ذات طبيعة سياسية في نهاية المطاف، وحيث أن مقاولة البحث تحرك بدينامية داخلية للنمو، فإنها تستدرج إلى الضغط على منابع السلطة بغية الحصول على القروض الضرورية.  ولكن من جهة أخرى، عندما تتدخل السلطة السياسية، فإنها تسعى إلى فرض تصورها الخاص للتطور العلمي والتكنولوجي.  وإذا كانت توزع مواردها، فإن ذلك يكون، من حيث المبدأ وفي جميع الأحوال، وفقاً لسياسة علم تسطر الأوليات، وتحدد معامل الأهمية، وآجالاً للتحقيق أيضاً، ثم كذلك الإكراهات المختلفة التي تتعلق بالوسائل المستعملة، ووضعية المستخدمين، وبسبل تدبير المشاريع، وبمراقبة الأنشطة،... الخ.  ومع ذلك، فإن مبادرة السلطة لا تقتصر، كما رأينا، على تمويل المؤسسات المستقلة نسبياً، أو المشاريع التي تصدر عنها، بل تتخذ مبادرات ذاتية، وتتحمل هي ذاتها، وبشكل مباشر، مسؤولية تنظيم البحث جزئياً.  في كلتا الحالتين؛ حالة التمويل والمراقبة المباشرة، تتموضع في موقع يسمح لها بالتأثير بشكل حاسم في توجيه.  [...] فإذا صح أن العلم والتكنولوجيا يسعيان إلى منح أنفسهما نمواً مستقلاً، وجب حقاً الاعتراف أن نموهما مشروط جداً بتفاعلهما مع السلطة سياسية (ومع السلطة الاقتصادية من حيث وظيفتهما السياسية).  بيد أن هذا الارتهان له حدود.  بداية، طالما أن البحث لا يمكن أن نخطط له أو نمكننه كلياً، وحيث أن المبادرة الشخصية، والخيال، وأحياناً، الصدف السعيدة، ما زالت تلعب دوراً كبيراً، فإن أي منظمة تود أن تكون فعالة لا بد أن تترك هامشاً كافياً للعلماء ولتنظيماتهم الخاصة.  وهو أمر حقيقي إلى حد أننا نواجه مجالات ذات طابع "قاعدي".  إننا نعلم أن الاستعمالات التطبيقية تتحكم فيها، عن بعد، ما نسميه البحث القاعدي، الذي يجب أن يترك، بشكل كبير، لذاته، وأن علينا أن نمنحه الوسائل للاستمرار في الوقت الذي نعرف أن جزءاً صغيراً فقط من النتائج المحصلة قد يكون من حظها أن تقود إلى تطبيقات مهمة. بالإضافة إلى ذلك، مهما كانت إرادة السلطة السياسية والمشاريع التي يمكن أن تتصور، فليس بإمكانها أن تطلب من العلم ما هو غير قادر على منحه، على الأقل في وضعه الراهن؛ على العكس، يجب أن تستلهم من العلم، عند وضع مشاريعها، ما يعتبره أمراً قابلاً للتحقق.  ومن هذا المنظور تفرض الرؤية العلمية على سياسة العلم توجيهاتها.  وغالباً ما يكون في مقدور هذه ترجيح مسار بحث على آخر.  بيد أنه يعلم كذلك أن الإهمال التام لبعض المجالات، حكم عليها في زمن ما بأنها غير مربحة، يمكن أن تعيق التطورات، التي يمكن أن يتبين أنها تبشر بالخير من وجهة نظره الخاصة.بقي أن نتفحص التفاعل مع المكون الثقافي، ووجب في هذا المقام أن نعنى من جهة بالآثار المباشرة، ومن جهة أخرى بالآثار غير المباشرة.  تحدث الآثار الجد المباشرة، بالطبع، في مستوى التمثلات الذهنية، التي من خلالها يكون مجتمع ما صورة عن الواقع وعن ذاته.  لكي نكون أكثر وجب أن نشرع في تحليل مفصل لهذا النسق الجزئي للفضاء الثقافي، حيث توجد فعلاً مكونات ذات طبيعة متنوعة: هناك عناصر ذات طبيعة أسطورية (جد متشابهة مع الأنساق الرمزية، وبخاصة مع الأنواع المختلفة من الطقوس التي تقطع وثيرة الحياة الاجتماعية)، وأنساق الاعتقاد (ذات طبيعة دينية أو على الأقل تقليدية، تجمع، بشكل جد وثيق، التصورات المتعلقة بواقع العالم وبالحياة الإنسانية وبالدلالات الوجودية حيث يستخدم الوجود كقدر)، وتمثلات ذات طابع لاهوتي (نشأت عن بعض الاعتقادات عن طريق نشاط تأملي خاص)، وأنساق ذات سمة ميتافيزيقية، ومعارف ذات أساس تجريبي تعتبر ما قبل علمية، وعناصر ذات طبيعة أيديولوجية (تمثلات تتعلق بطبيعة المجتمع، وبمكانة الفرد في المجتمع، وظيفتها المؤازرة والتبرير، الذي قد يكون على شكل أوهام مغلطة، بالنسبة للبنية الاجتماعية الراهنة).في بداياته، يظهر العلم كما لو كان جسماً غريباً عن مجموع هذه التمثلات، أو على الأقل، كنوع من المعرفة السرية تكون حكراً على عدد قليل من الخبراء، وليس لها تأثير حقيقي على نسق المعارف الموزعة على مجموع الناس، إن هذا الوضع يظل صحيحاً، في جزء منه، طالما أن بعض أشكال المعرفة العليا تتطلب تدريباً جد طويل وجد قاس.  (فالثقافة الجامعية ذاتها لا تسمح إلا جزئياً ببلوغ المعارف العلمية العليا، وإن كان ذلك ضمن مجال تلقى فيه الشخص تكوينه.  إننا نلاقي هنا ظاهرة تخصص وتشعب المعرفة العلمية.  إذا استثنينا بعض الشخصيات الفذة، فإن الرياضيين الأكثر دربة أنفسهم لم يعودوا قادرين، في الوقت الراهن، على مسايرة ما يجري في مجموع علمهم).  ولكن ما أن يكتسي العلم أهمية كبرى في الحياة الاجتماعية (للأسباب التي سبق ذكرها) حتى تبدأ المعارف العلمية في الانتشار، على الأقل فيما يخص خصائصها الأكثر جوهرية، بين مجموع الناس.  في البدء يسعى التمدرس إلى الامتداد.  وجزء مهم من الفئة العمرية المناسبة للمستوى الجامعي تباشر فعلاً الدراسات العليا.  وولوج التعليم الثانوي يسير نحو التعميم.  والحال أن النموذج التقليدي للإنسانيات التقليدية يفقد شيئاً فشيئاً مكانته، ويسير نحو التعويض بنوع من التكوين تأخذ فيه العلوم (الصورية، والطبيعية والإنسانية) مكانة مركزية.  وفي المستوى الجامعي، أصبحت كل المجالات، حتى تلك التي كانت موجهة بشكل تقليدي نحو تكوين "ذي نزعة إنسانية"، تحت طائل المنهج العلمي.  (من الملفت للنظر أن نلحظ، مثلاً، أن اللسانيات العلمية، في الشعب الأدبية تأخذ تدريجياً جزءاً أكبر، وأن النقد الأدبي كذلك يتوجه نحو المناهج العلمية للتحليل، من قبيل المعالجة الآلية للنصوص).  وحتى حيث يكون التكوين ذا توجه تكنولوجي -سواء في المستوى الثانوي أو العالي- فإنه يتضمن أسساً علمية خاصة (التي قد تكون ذات طبيعة ابتدائية، لكنها، في المستوى العالي، قد تبلغ درجة نسبياً عالية من التعقيد).  لكن بالإضافة إلى التكوين الدراسي، وجب أن نأخذ في اعتبارنا كل صيرورات بث المعارف التي نتوفر عليها اليوم بفضل وسائل التواصل الجماهيري.  نخص بالذكر التلفزة التي تلعب دوراً مهماً في اكتساب جمهور عريض بعض جوانب العلم المعاصر، (توجد برامج علمية تمثل دروساً نسقية حقيقية.  وتوجد كذلك برامج للتبسيط السهل، التي تمنح، دون شك، أفكاراً جد سطحية عن المواضيع المتناولة، لكنها تمكن، على الأقل، الجمهور من الاستئناس ببعض الجوانب، وبخاصة "المرئية" من الخطوات العلمية) ما نسيمه التبسيط قد أخذ بعداً مهماً ويكتسي أشكالاً جد متنوعة، من الأكثر أولية (في مستوى الأخبار العلمية المنشورة في الجرائد) إلى الأكثر إعداداً (في مستوى المجلات المتخصصة في التبسيط الأرقى، والموجهة إلى جمهور علمي)، مروراً بكل أشكال إعادة التكوين، والتكوين المستمر الذي دخل حالياً حيز التجريب.عبر هذه القنوات، تقتحم الرؤية العلمية للعالم تدريجياً نسق التمثلات بعمق، وتحدث فيه تحولات [...] بيد أن العلم يمس كذلك، بواسطة نسق التمثلات، باقي الأنساق الثقافية، وبخاصة نسق القيم [..] أضف إلى هذا أن تطور التكنولوجيات ذا القاعدة العلمية يمارس تأثيراً مباشراً على نسق المهارات، وذلك بطريقتين: من جهة، عن طريق التدريبات التكنولوجية التي تهيئ المختصين القادرين على استخدام المحركات والآلات التي أنتجتها التقنية الحالية، ومن جهة أخرى، من خلال بعض الأدوات التي يسهل على الكل عملياً بلوغها، والتي يتطلب استخدامها حداً أدنى من التدريب التكنولوجي.  (وبذلك، فإن الاستعمال الذكي للأجهزة المنزلية الكهربائية يتطلب أدنى معرفة بالتقنية الكهربائية، فيما يتعلق بالقوانين الأكثر أولية للتيارات الكهربائية).  والحال أن التكنولوجيا المعاصرة تخلق مواقف وسبلاً للرؤية مختلفة في جوهرها عن تلك التي تناسب "الفنون" التقليدية.  إن ما أضحى بديهياً بالضبط هو الربط بين المعارف العلمية والطابع الجد عقلاني للمسارات.  عندئذ تحدث الاختلالات في فضاء "الفنون"، فتمس بذلك باقي قطاعات الثقافة أيضاً.  وبذلك فآثار التكنولوجيا والعلم تتكتل لتحدث اضطرابات في المجال الثقافي كله[...].بجانب الآثار المباشرة، وجب اعتبار الآثار غير المباشرة، أي تلك الآثار التي تلحق المجال الثقافي بواسطة باقي مكونات الحياة الاجتماعية.  لأن هذه المكونات مترابطة فيها بينها، وبخاصة العناصر القيمية (القيم والمعايير)، التي تنتمي إلى المكون الثقافي، وتقوم بدور منظم حيال الأنشطة السياسية والاقتصادية بيد أنهما ليسا مستقلين، بل إنهما بمعنى ما، لا يعكسان سوى إلزامات وظيفية، في مستوى السلوكات التقويمية، تصدر عن المجالات السياسية والاقتصادية.  (بمعنى واحد فقط، لأن هذه العناصر القيمية ترتهن كذلك بالتمثلات، وبخاصة بالاعتقادات، ويمكن لهذه أن تحتاز درجة من الاستقلالية، إلى حد أن تفرض قيماً يحتمل أن تناقض بعض الإلزامات الوظيفية الاقتصادية مثلاً).  نتيجة ذلك، فالتحولات التي قد تحدث في المجال الاقتصادي (سواء على مستوى مناهج الإنتاج أو على مستوى طبيعية المنتوجات، وبالتالي الأنماط العينية للحياة التي يحث عليها استعمال هذه المتوجات) أو في المجال السياسي (سواء على مستوى مناهج التنظيم أو على مستوى الأولويات المسطرة من طرف السلطة، ومعاملات الأهمية المسندة إلى مواضيع القرار)، لا تكوّن انعكاسات على المجال القيمي، وكذلك على باقي مجالات الحقل الثقافي، نظرا للتفاعلات الضيقة التي تربط مكوناتها المتنوعة، وبخاصة أن التفاعلات التي تطورت، كما رأينا، بين المركب العلمي-التكنولوجي والمؤسسات السياسية والاقتصادية تحدث حتماً اضطرابات في مجال المعايير والقيم.وهكذا لا يمكننا أن نكتفي باعتبار المكونات المختلفة للحياة الاجتماعية بشكل مجرد ووظيفي خالص.  ومرة أخرى، فإن التقسيمات التي أدرجت بينها ليس لها سوى بعد تحليلي.  ووراء التحليل الصوري وجب أن نلقى من جديد الحياة الاجتماعية العينية؛ أي أنماط الحياة، والعلاقات الإنسانية، والسبل الفعلية لإدماج الأفراد في الشبكات المؤسساتية وفي محيطهم المادي (الطبيعي والاصطناعي معاً)، وطريقة عيش كل واحد في الشغل.  والهواية والتواصل والمعرفة والقيم والاعتقادات والرموز التي تمنح شكلاً لحياته. والحال أنه بواسطة التفاعلات التي تتطور بين المركب العلمي والثقفي والمكونات المتنوعة للحياة الاجتماعية (بشكل مباشرة، وفي الوقت نفسه، بواسطة الوسائط المتبادلة التي تمارسها هذه المكونات المختلفة على بعضها البعض)، يتأثر بعمق كل هذا المجال العيني للوجود.  هناك تعديل متزامن للأجهزة المادية التي ترتكز عليها الحياة الإنسانية، تعديل (بمعنى التجريد المتنامي) شبكات التواصل، وتعديل لبنية الزمان، وتحويل للبنيات المؤسساتية (التي تتمركز، وتنتمي أبعادها، وتصير تدريجياً متعالقة فيها بينها) وتحويل أشكال الشغل (الذي أصبح تدريباً مشروطاً بالكفاءة التكنولوجية المناسبة، وبنوع من الثقافة ذات قاعدة علمية)، بل وتحويل لأشكال الهواية (هي نفسها مشروطة بأجهزة تقنية، من قبيل آلات التصوير، وآلات الاستقبال الكهرومغناطيسية وغيرها).  والنتيجة أن مشهد الحياة كله يتغير بالفعل.  والحال أنه تغيير يتضمن مرحلة تفكيك (Déstructuration) ومرحلة إبدال البنية (restructuration).  وجب أن نفحص عن قرب كيف تتأتى هاتين الحظيتين من التحول العلمي والتقني للمجتمعات.  من خلال ما سلف لم نقم سوى بمعاينة، بشكل تقريبي وجد شمولي، الآليات الصورية الرئيسة التي بواسطتها يمكن للعلم والتكنولوجيا، باعتبارهما أنساقتً مستقلة نسبياً، أن يؤثرا في الحياة الاجتماعية.
د. يوسف تيبس
أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة،
جامعة محمد بن عبد الله، فاس – المغرب
الهوامش:
1  هاتان المقالتان ترجمهما وقدّم لهما الدكتور يوسف تيبس، خصيصاً لملف الثقافة العلمية في العدد الخامس والعشرين لـ رؤى تربوية، الأولى لميشيل سير (Michel Serres) (1930) أحد أبرز فلاسفة العلم في العصر الحاضر بعنوان "تقدير"، والثانية للمفكر جون لادريير بعنوان "أثر العلم والتكنولوجيا على الثقافات وآليات التأثير"، وقد ارتأى محررو الملف دمجهما في إطار متصل تحت عنوان "التعددية وتعدد الأشكال".
* Michel Serres, Estime, in politiques de la philosophie, textes réunis par Dominique Grisoni, éd. Bernard Grasset/ Fasquelle, Paris 1976, pp: 99-120.
2 يمكن ملاحظة ذلك من خلال تنوع مواضيع كتاباته التي تتراوح بين فلسفة العلوم والأدب، وكذا في أسلوبه المجازي الذي يعمله في كل كتاباته، سواء الإبستمولوجية أو الأدبية، إلى الحد الذي يجمع الكثير على استحالة ترجمة كتبه.  ولعله لهذا السبب تشح الكتابات عنه؛ فحسب علمنا لا توجد أي دراسة لفكره باللغة العربية غير تلك التي قمنا بها حول فكره الإبستمولوجي (راجع: "تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير"، مجلة عالم الفكر، العدد4، المجلد30، نيسان-حزيران 2002).  كما توجد ترجمة عربية لكتاب واحد: ميشيل سير (2000)، أصول الهندسة، ترجمة: جمال الدين بادو، الدار البيضاء: نشر الفنك.
3 Le Nouveau  Nouvel Esprit Scientifique.
  Cf.   Hermès I, la communication, Paris, 1969, 1984.          Hermès II, l’interférence, Paris, 1972.           Hermès III, la traduction, Paris, 1974.           Hermès IV, La distribution, Paris, 1977, 1981.          Hermès V, Le passage du Nord-ouest, Paris, 1980.4 Le Nouvel Esprit Scientifique.
Cf. Bachelard, G., Le Nouvel Esprit Scientifique, éd. PUF, Paris 1979.
5 فيلسوف وعالم رياضيات ألماني (1646-1716).6 يقول ميشيل سير:"إن العقل العلمي الجديد(يقصد العقل العلمي عند باشلار) كان يركز على فلسفة النفي أما العقل العلمي الجديد- الجديد فيتطور إلى فلسفة للنقل والتقاطع، إنه مبادرة وتوقيف. إن هذه الفلسفة تتحدث عن العلوم ولكنها لا تسكت عن العالم الذي تعبر عنه العلوم أو تؤسسه، وعن الأشياء وعن عالم الناس" Interférence, p.23..7 نسبة إلى عالم الرياضيات الألماني لايبنتز.
* Ladriére, J., Les Enjeux de la Rationalité: le Défi de la science et de la Technologie aux cultures, édit. Aubier-Montaigne/Unesco, Mayenne 1977, pp:.77-93.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟