العلمانية ونقد العقل العربي الإسلامي عند محمد أركون - مراد زوين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseإن الحديث عن علاقة الدين بالدولة في خطاب محمد أركون لا يمكن فصله عن مشروعه الفكري المتعلق بتفكيك آليات اشتغال العقل العربي الإسلامي. أي الحديث عن هذه العلاقة لايمكن أن يعطي مدلوله الفكري والمنهجي دون تحديد الإطار الذي يتحرك فيه أركون ، الإطار/ الزاوية التي ينظر من خلالها إلى قضايا الفكر العربي الإسلامي بغية تحديد مفاهيمه  وتكوين آرائه وصياغة تأويلاته.
إن كل الإشكاليات والقضايا التي تهم العقل العربي الإسلامي ومن بينها مسألة العلمانية عند أركون "تندرج ضمن إطار بحث واسع متعدد الجوانب" يسمى "بالإسلاميات التطبيقية" .
فبمجرد تناول مسألة" الإسلاميات التطبيقية" عند أركون يطرح أمامنا مقابلها "الإسلاميات الكلاسيكية " فبدون تحديد معنى هذه الأخيرة لايمكن تحديد معنى الأولى. بهذا يرى أركون أنه من اللازم أن نذكر بالاختيارات والحدود والمساهمات التي كانت قد قدمتها الإسلاميات الكلاسيكية.
إن المدلول الذي يعطيه أركون للعلمانية لا ينحصر ضمن حدود جغرافية أو ثقافية أو فكرية - كما هو الشأن بالنسبة للعلمانية عند محمد عابد الجابري - بل يبقى منفتحا ومستوعبا للإرث الثقافي الإنساني دون التقيد بخصوصية ملازمة لهذه الثقافة أو تلك . فالعلمانية عند أركون "موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلي الحقيقة" وبهذا المعنى فهي تواجه مسؤوليتين أو تحديدين اثنين:

المسؤولية الأولى تتعلق بكيفية التعرف على الواقع بشكل مطابق وصحيح، أي في نظر أركون كيف يمكن أن نتوصل إلى معرفة تحظى بالتوافق الذهني والعقلي لكل النفوس السائرة نحو التوصل إلى الحقيقة. هذه المسؤولية في نظر أركون تجعل من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية وحتى الدينية .
أما المسؤولية الثانية فتتعلق بمسألة ما بعد التوصل إلى المعرفة أو الحقيقة، أي ينبغي إيجاد صيغة أو وسيلة ملائمة لتوصيلها إلى الآخر دون شرط حريته أو تقييدها وهنا في نظر أركون تكمن كل مشكلات التدريس والتعليم.
وهكذا يفهم أركون العلمانية "العلمنة المعاشة كتوتر مستمر من أجل الاندماج في العالم الواقعي".

العلمانية والإسلام
بالنسبة لمحمد أركون، فإن مسألة العلمانية في العالم العربي والإسلامي تظل مسألة مفتوحة بالنسبة للجميع. بالنسبة للمسلمين، وبالنسبة للعلمانيين الصر اعيين. فإذا كان الأوائل مغتبطين ومزهوين أكثر مما يجب بتقنياتهم الدوغمائية، فإن الآخرين، بالنسبة لآركون يخلطون بين العلمنة الحقيقية وبين الصراع ضد الإكليروس ، وطبقة رجال الدين.
من هذا المنظور، ينطلق أركون في مناقشته لمسألة العلمانية داخل الفكر العربي الإسلامي بالتمييز بين الإسلاميات الكلاسيكية" و"الإسلاميات التطبيقية."
فالعلمنة كما يراها تعتمد على نمط الثقافات الموجودة في المجتمع، أي على الثقافة العربية و الإسلامية في مواجهتها للثقافات الأخرى التي تخترق مجتمعاتنا بعنف والمتمثلة في الهيمنة الاستعمارية، والحضارة المادية.
عند تطرقه لمسالة العلمانية في الإسلام، انطلق أركون بالدعوة إلى نقد مفهوم العلمانية نقدا فلسفيا . لأن هذا المفهوم يظل حاضرا ومطلبا ملحا في العالم العربي والإسلامي وذلك بهدف تشكيل الدولة الحديثة. وما يمكن الوقوف عنده من خلال هذا الطرح أن أركون يتعامل مع إشكالية علاقة الدين بالدولة من المنظور الذي سبقه إليه المفكرون الأوائل، أي منظور تحديث الدولة الإسلامية.
والجدير في هذا الطرح أن مسألة العلمانية، لم تعد تطرح من زاوية البعد السياسي فقط ، بل أصبحت مسألة متعلقة بإشكالية الحداثة بصفة عامة أو بالصراع الاجتماعي والسياسي في كل المجتمعات العربية والإسلامية ، بين من يسميهم أركون "بالمحافظين" و "التقدميين" ، أي بين المناهضين للحداثة والمدافعين عنها.
ولكي تميل كفة "التقدميين" ، وتحقيق العلمانية في المجتمع العربي الإسلامي يدعو أركون إلى التخلص من الاكراهات والقيود النفسية واللغوية والإيديولوجية، وإعادة الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الأربع الأولى للهجرة ، من خلال الوقوف على الأحداث التي توحي بالممارسة العلمانية. لهذا يعود أركون إلى أول حدث بارز عرفه التاريخ الإسلامي بعد وفاة النبي المتمثل في مشكلة الخلافة، ذلك لأن الخلافة في نظره هي مفتاح النظر وفهم أصل السلطة وتنظيم الدولة الإسلامية.
وفي هذا الإطار يقف أركون على التمييز بين ثلاث مصطلحات إسلامية: الإمامة و الخلافة والسلطة، فإذا كانت الأولى والثانية تقوما بدور ومسؤوليات روحية وزمنية, فإن الثانية تلعب دورا دنيويا خالصا. وتجربة "مكة والمدينة" توضح هذا الأمر بجلاء. حيث أنه في هذه التجربة لعب الرسول دور القائد والموجه ، وهي تجربة تمثل في حد ذاتها الدور الديني والدنيوي معا . مما سيطرح مشكلة بعد وفاة النبي، هي مشكلة استمرارية هذه التجربة.وهذا ما دفع أركون إلى الاستنتاج بأن السلطة - بعد وفاة النبي- في الإسلام وفي تاريخه كله، كانت سلطة زمنية لا دينية  موجهة من قبل السيادة الدينية. هذا ما جعله يقف – للبرهنة على ذلك- على تجارب أخرى، وخاصة وظيفة السلطة بعد نهاية الخلافة العباسية التي كانت تعتمد بالأساس على القوة وليس على القانون أو الشرع.
ويهدف أركون أساسا من الوقوف على هذه التجارب، إلى إثبات الفصل بين الزمني والروحي في الإسلام، ولتفنيد مقولة الإسلام "دين ودنيا" . وذلك بغية الوصول إلى ممارسة علمانية للإسلام من خلال المراجعة النقدية لتاريخ الإسلام والتراث الإسلامي.
وفي هذا التمييز ما بين الزمني والروحي رد واضح من أركون على القول الذي يعتبر اأن الإسلام لم يعرف أبدا في تاريخه التفريق بين الزمني والروحي , ويحكم على هذا القول بأنه قول خاطئ شائع ومنتشر جدا في أواسط الأدبيات الاستشراقية، وعند المسلمين على السواء.
والهدف الرئيسي الذي يريد أن يصل إليه أركون من خلال هذه الحقيقة , هي السلطة في الإسلام –بعد وفاة النبي- لم تكن الا سلطة زمنية, متبعا في ذلك منهج التفكيك التاريخي. وفي هذه الحقيقة رد على المؤرخين السابقين والفقهاء والتيولوجيين الذين فسروا التاريخ بطريقة تسلسل الأحداث, مؤكدين على شرعية الخليفة الذي كان عليه أن يتحمل مسؤولية النبي ,وهذا هو الاعتقاد السائد الذي فرض نفسه.
إن العودة إلى تفكيك أحداث التاريخ الإسلامي وإعطائه تفسيرا مغايرا لتفسيرات الفقهاء, يعتمد على المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية, أعطاه تحديدا مغايرا لمفهوم العلمانية؛ فأركون يدعو لعلمانية ليست بالعلمانية الايديلوجية
أو العقائدية، أو كما يسميها بالعلمانية المناضلة، كما طبقت في الغرب، علمانية تستبعد الدين ، لتصبح في آخر المطاف هي نفسها عقيدة تخنق حرية الاعتقاد والتفكير في الإنسان . إن العلمانية التي يدعو إليها وإلى ممارستها هي العلمانية الإيجابية، التي لاترفض الدين أو تمارس اضطهاده.
من هنا يمكن أن نستنتج أن أركون كأحد الداعين إلى فصل الدين عن الدولة لا يتعامل مع مفهوم العلمانية من منظور نظري ضيق، أي يبقى في حدود التعامل معه كمفهوم نظري فقط ، دخيل على الفكر والواقع العربيين، بل حاول النبش والحفر-من منظور نقدي - في أحداث التاريخ الإسلامي لتحديد جذوره كممارسة أولا، وثانيا كمفهوم يتواجد في كل المجتمعات والأديان .
إن اهتمام أركون بمسألة العلمانية يدخل في إطار أعم يجد مشروعيته قي مسألة الحداثة بصفة عامة، وفي تحديث الدولة الإسلامية بصفة خاصة.يراها أركون في الدعوة إلى ممارسة النقد من أجل تحقيق علمانية إيجابية تتمثل في عدم استبعاد الدين أو تهميشه أو الدخول في صراع معه.
من هنا يمكننا أن نقف من خلال هذا الطرح على الإطار العام والدائرة الموسعة التي يتحرك فيها أركون أو الإشكالية الرئيسية التي توجه تفكيره، وهي الإشكالية التي وجهت وحددت أفق تفكير واهتمام مفكري النهضة ، ألا وهي إشكالية تحديث الدولة. ولكن إذا كان هدف تحديث الدولة عند المفكرين الأوائل هو بالأساس من أجل تحقيق التقدم، فإن مركز تفكير أركون هو في نفس الوقت يهدف إلى تحقيق هذا الهدف ، ولكن على أسس احترام حرية الإنسان في التفكير والاعتقاد واحترام الآخر وتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع في ظل الحداثة. بهذا ينضاف، إلى الجانب السياسي في منظور أركون , الجانب الحقوقي والاجتماعي ، والثقافي الذي يتمثل على الخصوص في الدعوة إلى قراءة التراث الإسلامي من منظور نقدي .
واضح من خلال هذا الطرح ,أن العلمانية التي يدعو إليها أركون , علمانية بالمعنى الايجابي والمنفتح للكلمة" وهي إحدى مميزات الحداثة الكبرى ومكتسباتها الأكثر عطاء".
إن أركون في دراسته لمسألة العلمانية في الفكر الإسلامي " كعلماني وليس كرجل دين يحاول أن يعمق آفاق الفهم والمعقولية إلى أبعد حد, ويدفع بها حتى نهايتها القصوى " هذه المعقولية –كما يقول أركون –التي تخص المؤمن وغير المؤمن بنفس الدرجة , وهذه هي الطريقة العلمانية في طرح المشكلة ,وهي تحاول أن تعيد دمج العمل الديني في الدراسة وليس استبعاده وإهماله."

المراجع
محمد أركون:" تاريخية الفكر العربي الاسلامي"*
منشورات مركز الانماء القومي: بيروت الطبعة الاولى
1986
العلمنة والدين،الاسلام ,المسيحية, الغرب"ّ*
دار الساقي, الطبعة الاولى: ترجمة هشام صالح


*Pour une critique de la raison islamique
ED : maisonneuvre et larose
Paris 1984


مجلة مواقف*
عدد 59/60 صيف –خريف 1989
التأويل والمفارقة"*
كمال عبداللطيف- المركز الثقلفي العربي-الطبعة الاولى 1987

مراد زوين: أستاذ باحث-  جامعة الحسن الثاني-  المحمدية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟