هيجل وتعلم الفلسفة ـ د. بربزي عبد الله

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

hegel-youngعلى خلاف هذا الموقف الكانطي، نجد الفيلسوف  فرد ريك هيجل يتخذ موقفا نقيضا، بل يصب جام نقده على موقف كانط فيكتب إبان إقامته في ييناIéna - وفق ما أورده الأستاذ عبد الرحمان بدوي - ما يلي: "لقد ارتكب كانط خطأ فادحا عندما أكد أن المرء لا يتعلم الفلسفة بل التفلسف، كما لو أن المرء يتعلم النجارة لا كيف يصنع مائدة أو كرسيا أو بابا أو مقعدا أو ما إلى ذلك.." و في موضع آخر من نفس الرسالة يورد ما يلي: "يتم التمييز في العادة بين المذهب الفلسفي و عملية التفلسف ذاتها، هكذا، وبمقتضى هذا الوباء الحديث فإن موضوع التعليم في الفلسفة ليس هو محتوى الفلسفة وإنما هو التفلسف، أي صورة الفلسفة، و معنى ذلك أن نسافر دائما من غير أن نقف على المدن والأنهار و البلدان و الشعوب..." وفي رسالة أخرى إلى نيتهامر يكتب هيجل، ثانية،  ما يلي: "لا يمكن إجراء أي تدريب شكلي بغير الشكل وبغير المضمون. فلا يستطيع المرء التفكير بلا أفكار ولا الإدراك بلا تصورات. إن الأفكار والتصورات يجب تعلمها".


بهذا المعنى يرى هيجل أن السعي وراء تعلم التفلسف في غياب محتوى الفلسفة سيؤدي إلى تكوين أدهان فارغة، ولأن فكر المتعلم ناقص ومتعثر مليء بالأوهام فإن تعلم محتوى الفلسفة سيملأ فراغاته، ويجعل الحقيقة تحل مكان الفكر الوهمي " إنني يقول هيجل أصاب بفزع عظيم كلما عاينت النقص الكبير في ثقافة ومعارف الطلبة الدين يدرسون بالجامعة....." ورد عن الخطابي، المرجع السابق).
فتعليم تاريخ الفلسفة سوف يمكن الطالب من أن يضع المسائل الفلسفية في سياقها الحضاري المناسب. تاريخ الفلسفة هو بمثابة الفضاء اﻟﺬي يتنفس داخله الفكر. وبالتالي فإن ﻫﺬا التاريخ سيوفر للمتعلم إمكانية التساؤل وطرح المشكلات الفلسفية الأساسية وفي هذا السياق كتب برتراند راسل، في مقدمة كتابه "حكمة الغرب" (راسل برتراند،2009): "إنه من العبث أن نمارس التفكير الفلسفي في الوقت الذي نكون فيه قد فصمنا كل الروابط التي تربطنا بالمفكرين العظام في الماضي" وبالفعل إنه من العبث ادعاء تدريس الفلسفة بالتفلسف اعتمادا على مفاهيم أو قضايا عامة، ليس لها جذور تغذيها وليس لها جذع يسندها ويمنحها القوة الضرورية "للحكم النقدي"، المستهدف بالفعل التربوي، خاصة عندما يطلب من التلميذ أو الطالب، في نهاية المطاف، أن يقدم "وجهة نظره" أو "رأيه الشخصي" في مسألة عامة.
إن الأعمال التي تكتسي أهمية كبرى، في نظر بريهيه(بدون تاريخ)، هي تلك التي تتخلص من تقنية مدرسية غالبا ما تكون سببا في تقلص الفكر وجموده. ونموذجه في ذلك أفلاطون وديكارت وشوبنهاور وبرغسون. فهؤلاء كلهم جعلوا من الفلسفة مبدأ الحياة الروحية ينعكس فيها الفكر على ذاته وعلى جميع مظاهره في الحياة الإنسانية. بهذا المعنى يدافع بريهيه عن تعليم تاريخ الفلسفة، كتعليم مطالب بإظهار أن الفلسفة كانت دائما، وفي أسمى مظاهرها، تأكيدا وإثباتا للقيم الروحية والكونية، وحمايتها من الوقوع في النزعة المدرسية التي تتهددها باستمرار، "فلا وجود لتاريخ الفلسفة بدون فلسفة التاريخ، أي بدون ما يثبت الوجهة التي يتخذها معنى التاريخ".
إن موقفي كانط وهيجل من إشكال تعلم الفلسفة أو التفلسف يعكسان، حسب بعض الدارسين لديداكتيك الفلسفة، تصورين مختلفين للدرس الفلسفي، يقوم أولهما على إعطاء الأولوية لفعل التفلسف وما يرتبط به من إعمال لآليات المساءلة و التحليل والتركيب والنقد و الاستنتاج وما إلى ذلك.... بينما يتأسس الثاني على أولوية المضامين الفلسفية من أطروحات و مواقف و مفاهيم... وإذا أردنا الربط بين الماضي و الحاضر قلنا إن التصور الكانطي أقرب إلى ما يسميه ميشيل طوزي بالانموذج المؤشكل في تعلم التفلسف paradigme problématisant في حين نجد أن تصور هيجل هو ذاته البراديغم التاريخي paradigme historique..
ولكن إلى أي حد يمكن القبول بمثل هذا التعارض بين الفيلسوفين؟ لنذكر بداية بأن كانط وهيجل فيلسوفان ألمانيان، وكان من المنطقي أن يكون مسرح السجال حول مسألة الغاية من تدريس الفلسفة هذه، ألمانيا بالذات. غير أنه من المؤكد أن حدود البلد على هذا الصعيد، هادئة و الأمر على خلاف ذلك فيما يتعلق بفرنسا. ولنلاحظ، ثانية، أن أيا من الفيلسوفين لم يقص لا الفلسفة ولا التفلسف، و أن الأمر إنما يتعلق لدى كل منهما بترتيب أولويات فحسب فلطالما ألح هيجل، على وجه الخصوص، على ضرورة الجمع بين الفلسفة والتفلسف أوبلغته الخاصة، بين النجارة و صنع المائدة أو الكرسي، بين السفر والتوقف عند البلدان والأنهار، و لنلاحظ، أخيرا، أن السياق الذي وردت فيه قولة كانط عن تعلم التفلسف هو سياق عام غير مرتبط بهذا المستوى التعليمي الضيق للفلسفة الذي أريد له أن يرتبط به.
إن الفرنسيين، إذن وكما نعتقد، هم الذين ذهبوا بالاختلاف بين كانط وهيجل إلى حد الخلاف، ورفعوا هذا التعارض الظاهر إلى مستوى التعارض الفعلي، وذهبوا بموقفي الفيلسوفين إلى أقصى مداهما، و ذلك ليغذوا صراعا فكريا كان وما يزال محتدما لديهم حول البراديغم الديداكتيكي الذي يتعين تبنيه في مجال تعلم الفلسفة وتعليمها بالمرحلة الثانوية على وجه التحديد. صراع شطر المشتغلين بالفلسفة وتعلمها إلى فريقين تمرس كل واحد منهما في خندقه حيث رفض الأول كل تقييد للفلسفة بقيود الديداكتيك لأن في ذلك ضياعا لخصوصيتها وحطا من قيمتها وزهدا في ما يجب أن تتسم به من حرية، إن كان لزاما الحديث  عن منهجية لتعليم الفلسفة وتعلمها فليكن مصدرها تاريخ الفلسفة ذاته، و نماذجها أنساق الفلاسفة أنفسهم وطرقهم في التفلسف.
بينما رأى الفريق الثاني أن الفلسفة، وككل المواد، يتعين أن تلتزم بشروط المؤسسة التعليمية التي ولجتها طوعا، وعلى رأس هذه الشروط الاستفادة من علوم الإنسان، عامة، وعلوم التربية خاصة،  في صياغة تدريسية خاصة. ولا شك أن هذا السجال الذي جندت له أقلام و صحف و مجلات ومؤسسات وجمعيات ومراكز بحث... قد انعكس إيجابا على تطوير قدرات المتخاصمين على التعبير والتحليل والنقد و النقد المضاد، وما إلى ذلك. غير أنه، أيضا، ومن غير أدنى شك، قد انعكس سلبا على صعيد الممارسة الديداكتيكية الفلسفية حيث توجهت الجهود إلى حيث لا ينبغي أن تتجه فكانت النتيجة أن الفلسفة، وكما تثبت ذلك جل الدراسات، هي أقل المواد المدرسة استفادة من الديداكتيك وأشد اضطرابا في النتائج وأكثرها عجزا عن ممارسة نقل ديداكتيكي يضع خطا فاصلا بين الفلسفة كمعرفة عالمة و الفلسفة كمادة للتعليم.
إن الفلسفة والتفلسف، هما وجهان لذات الورقة. أما إشكال العلاقـة بيـن هذين المكونين، وعلى النحو الذي طرح به، وما جره من مواقف ومواقف مضادة، وما أهدره من جهود فهو، في اعتقادنـا، أقرب إلى الإشكالات الزائفة منها إلـى
الحقيقية، خاصة وأننا نعلم أن كلا من كانط و هيجل قد تداولا، في مؤلفاتهما الفلسفية، كثيرا من الأطروحات الفلسفية لمن تقدمهم من الفلاسفة وأعملا فيها الفكر، فهما إذن قد جمعا بين الفلسفة والتفلسف. فلنتخذ من هذا الجمع درسا نستفيد منه، حقيقة أن الفلسفة -إن كانت معرفة من نوع خاص- هي على كل حال معرفة تتجسد فيما يحفل به تاريخها من أطروحات ومفاهيم وتلك هي الفلسفة، وأن تلك المفاهيم والأطروحات ينبغي تداولها قراءة وكتابة ومناقشة اعتمادا على ما للفكر من آليات الأشكلة والمفهمة والحجاج وغيرها، وذلك هو التفلسف.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟