في مفهوم التاريخ ـ زايد بومرور

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

0365301001188409870سنحاول من خلال هذه المداخلة* التعرف على ماهية التاريخ، والوقوف عند بعض الدلالات الفلسفية للمفهوم، وبعض تشابكاته النظرية، باعتباره مفهوما فكريا له مركزيته وراهنتيه في الفلسفة المعاصرة، وقوة الرؤى الفلسفية التي يقترحها لقراءة ومعالجة الواقع الاجتماعي والسياسي المعاصر. فما هو التاريخ؟ وكيف يتشابك الاجتماعي، والسياسي ليرسم ملامح التاريخي؟ وكيف تنظر الفلسفة للحركية التاريخية؟ وأي دور للإنسان داخل هذه الحركية؟
1- ما هو التاريخ؟
يفهم عادة من التاريخ بأنه مجرد كتابات دونت عن أحداث إنسانية مضت في مكان وزمان معينين. لكنه يرفض أن يسجن في مجرد ذلك، بل هو إضافة إلى ذلك فهو- في نظري- سجل الوجود الإنساني، فهو يعبر أيضا عن مجموع الصور التي تترجم دينامية الإنسان في الوجود، أي في تفاعله مع الطبيعة ومع المجتمع، فتدخل الإنسان في الطبيعة أدى إلى تراكم في الانجازات المادية والتقنية، والتفاعل الإنساني في مختلف مستوياته السياسية والاقتصادية، يولد أحداث ووقائع اجتماعية، ويؤدي أيضا إلى بناء الأعمدة الثقافية لكل جماعة إنسانية، كل هذا مع اعتبار عامل الزمن يسمى بالتاريخ.


التاريخ ليس حدثا سجل في لحظة زمنية، وطوي داخل مخطوط وانتهى. لكنه سيرورة متواصلة تزحف نحو المستقبل. إنه دينامية مستمرة لا نهاية لها.
والتاريخ كوقائع وجد منذ ظهور الإنسان، ففعل الإنسان يخلف من ورائه حدثا وإنجازا داخل الوجود في لحظة معينة. وهذا الحدث المنجز ليس لحظة مضت وانتهت وسقطت كما تسقط الورقة الميتة من الشجرة في فصل الخريف، ولكنه واقعة حية تحتفظ بديناميتها التي تؤثر في الذات مصدر الحدث وفي الطبيعة وفي المجتمع.(محمد البوعزيزي ما فعله أثر في المنطقة العربية والدولية بصفة عامة).
أما التاريخ كمعرفة فظهر بظهور الكتابة، التي تشكل بمفردها واقعة تاريخية لها أثرها في قيام الحضارات وتطورها. فالإنسان وعى في لحظة زمنية بأهمية تدوين أثره بمختلف تلاوينه، فانجلت أمامه آلية الكتابة، كي يستطيع حفظ ذاته واستمرارها عبر الزمن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سعى الإنسان من خلال الكتابة إلى التخلص من سيطرة آلية الذاكرة في حفظ التراث، وما يرافق ذلك من خلط بين الحقائق والأساطير والخرافات.
2- التاريخ بين الاجتماعي والسياسي:
كل ما هو اجتماعي ليس إلا نتيجة لما هو تاريخي، فالاجتماعي هو نتيجة لتراكمات تاريخية وكحصيلة لإفرازات بنيوية مختلفة ساهمت في انبلاج معالم الاجتماعي. وما هو تاريخي من جهة أخرى ليس إلا حصيلة لحركية الاجتماعي، فليس هناك تاريخ خارج ما هو اجتماعي، فالمجتمع هو الذي يصنع التاريخ.
أما السياسي فيرتبط جدليا مع الاجتماعي من جهة أولوية المجتمع في بناء السياسة. فالاجتماعي هو الذي يحدد السياسي، والسياسي كنتيجة، يبني ويحدد الاجتماعي في مرحلة موالية، والاجتماعي باعتباره بناء للسياسي يحدد شكل السياسي الذي سيبنيه مجددا. وهكذا فالسياسي يأتي من الاجتماعي ويعود إليه.
وهكذا فالجدلية التي تجمع الاجتماعي بالسياسي هي التي تحدد خيوط ما هو تاريخي، وتصنع المنطق الذي سيتحرك به لاحقا. فالتاريخي وفق هذه الصورة، هو نتيجة لحوار الاجتماعي والسياسي على خط الزمن.
لكن هل هاته الخيوط الجدلية الرابطة بين ما هو اجتماعي وتاريخي وسياسي، تستقل بذاتها عن فاعلية الإنسان؟ أم أن الإنسان هو الذي ينسج هاته الخيوط ويحركها كيفما شاء؟
سنجيب على هذا السؤال بعد الاطلاع على نظرة كل من هيجل وماركس وتوينبي للحركة التاريخية وللمنطق الدافع لسيرورة التاريخ.
3- الحركة التاريخية أو منطق التاريخ:
أ- فريدريك هيجل:
الوجود في كليته ليس إلا سيرورة لتطور العقل أو الروح عبر منطق الجدل، أي القضية ونقيضها والجمع بينهما في مركب واحد. ذلك أن الوجود لكي نفهمه في مبدئه وتسلسل مظاهره يجب إتباع منهج منطقي يبين هذا التسلسل ابتداء من أصل واحد (هو القضية)، ينقلب إلى نقيضه ثم يأتلف مع هذا النقيض، ويتطور هذه التطور الثلاثي ما شاءت مظاهر الوجود. فالطبيعة هي المظهر الخارجي للروح المطلق والذي يعارضه وينفيه (القضية: الطبيعة المادية. النقيض: القوى الفيزيائية والكيميائية. التركيب: الجسم الحي، أي الكون في كل حركيته، ومنه الكائنات الحية). ويمكن شرح هذا المنطق الهيجلي (نسبة إلى هيجل) أيضا بافتراض حالة جماعة إنسانية في لحظة معينة من تاريخها وهي القضية، ولكن قد تظهر خلال هذه اللحظة أسباب ذات طابع اقتصادي أو أخلاقي أو مناخي تؤدي إلى حالة نزاعات وصراعات تخلق حالة مناقضة للحالة الأولى، ويؤدي ذلك إلى ظهور حالة اندماج وتركيب بين الحالتين في اتجاه حالة ثالثة. إذن فالتاريخ حسب هيجل التطور الزمني للروح المطلق في الوجود ومنطقه هو الجدل.
ب- كارل ماركس:
ماركس استمد مذهبه الفلسفي من مادية فيورباخ وجدل هيجل، ولهذا سميت بالمادية الجدلية. وتسمى أيضا بالمادية التاريخية ومنطقها هو الجدل.فالمادة حسب ماركس هي أساس كل موجود، ومظاهر الوجود على اختلافها هي نتيجة تطور متصل للقوى المادية. فنمو الحياة الإنسانية فردية واجتماعية يتوقف كله على الظروف المادية والاقتصادية. والحياة الاقتصادية تحقق قانون الصيرورة التاريخية في مراحله الثلاث: القضية ونقيضها والمركب منهما. والمظهر الاجتماعي لهذا المنطق التاريخي هو صراع الطبقات. فالتاريخ هو نتاج للمتناقضات في الحياة المادية علاقات الإنتاج تصبح أغلالا تقيد تطور قوى الإنتاج وهنا تبدأ فترة انقلاب اجتماعي. إذن فالتاريخ حسب الفلسفة الماركسية يقوم على القوى المادية، ومنطقه الذي يحركه هو الجدل.
ج- أرنولد توينبي:
يرى توينبي أن عمليات التحدي والاستجابة هي التي تحكم الحركة التاريخية، وتؤدي إلى التغيير الاجتماعي والإبداع الحضاري. والتغيير الاجتماعي الإيجابي لا يتم إلا حين يكون التحدي مناسبا وتكون الاستجابة كافية.والتحدي الذي يواجه البشر قد يكون عن طريق البيئة المادية الطبيعية، أو عن طريق البيئة البشرية. فالتاريخ الإنساني حافل بنماذج لجماعات بشرية واجهت تحديات طبيعية بكثير من التحدي، الشيء الذي مكنها من الاستمرار في الزمن وبناء حضارة لها، وجماعات أخرى اختارت الانسحاب فلم يظهر لها أي أثر يذكر في التاريخ.
4- أي دور للإنسان؟
من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج أن دور الإنسان داخل الفلسفة المثالية لهيجل ينعدم، لأن ما يصدر عنه ليس إلا تمظهرا للروح المطلق وليس تعبيرا لذاته وحاجاته وعواطفه، إنه خاضع لهذا المنطق الذي يسلب عنه أي مجال للفعل أو الحرية. إن فعل الإنسان مهما بلغ ذروته فهو ليس إلا لحظة تخدم تطور الروح المطلق عبر التاريخ. ويلاحظ كذلك من خلال الفلسفة الماركسية أنها أيضا تنفي أي دور محتمل للإنسان في صناعة التاريخ، فهو خاضع للشروط المادية الاقتصادية التي تموقعه داخل نظام علاقات اقتصادية، إذ إنه لا يملك الانفكاك منها حتى تنضج شروط الانقلاب الاجتماعي والتي تفرزها التناقضات بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج. وبخلاف نظرتي هيجل وماركس، فإن للإنسان لدى توينبي إمكانيات واسعة لصناعة التغيير الاجتماعي، انطلاقا من إعلانه تحدي ومواجهة الشروط المادية والاجتماعية التي تحيط به.
و في موقف فلسفي مغاير يرى الإبيستمولوجي كارل بوبر منتقدا كل المذاهب التاريخية بما فيها الماركسية، بأن للإنسان مجال واسع للحرية والفعل لكن في ظل شروط ومحددات اقتصادية واجتماعية، وسياقات متغيرة.
إنه لا يمكن أن نقيد الإنسان ونضعه على محدد فلسفي واحد، إما أنه خاضع للحتمية والضرورة، أو أنه يتمتع بحرية مطلقة، فالفعل البشري يتراوح بين هاته الحالة وتلك. فالإنسان فعلا لم يختر أن يولد في بيئته، ولا اختار لغته، أو ثقافته ومجتمعه، فهو قد قذف به إلى هذا الوجود، لكن هل وجوده يشبه وجود الأشياء؟ إنه كائن مختلف، فباستطاعته أن يغير من وضعيته معلنا التحدي حسب فلسفة توينبي متجها نحو التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري.
(* هذه المقالة عبارة عن مداخلة ألقيت في ندوة نظمت من طرف "منتدى عبد السلام حيمر للفكر والإبداع"، بإفران، في مارس 2011).

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟