جوهر العلمانية في فكر محمد أركون ـ محمد بنبراهيم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

arkoun123456يختلف محمد أركون كثيرا عن المفكرين العرب الذين حاولوا التصدي لفكرة العلمانية، سواء بالرفض أو القبول، وتناولها في مجال تداولي مختلف تماما عن المجال الذي نشأت فيه. فالعلمانية نشأت في العالم الغربي، وفي الفكر الغربي؛ بمعنى أنها نشأت في سياق غربي خالص، هذا السياق منحها محمولات ودلالات معينة. من هنا يطرح السؤال: هل العلمانية غربية على الإطلاق؟ أم أن الأمم الأخرى قادرة على تبني العلمانية كنظرية وكممارسة؟
في السياق العربي حاولت مجموعة من المفكرين التطرق لمسألة العلمانية، مما جعلهم ينقسمون إلى تيارين مختلفين؛ تيار معارض وأخر مؤيد. في هذا المحور، سنركز على التيار المؤيد لفكرة العلمانية من جهة أولى، ومن جهة ثانية، سنركز داخل التيار المؤيد على المفكر الجزائري الأصل محمد أركون(1928 -2010م)، لقد حاول محمد أركون تبسيط إشكالية العلمانية، ومنحها مسارا جديدا بعيدا عن اليقينات الدوغمائية، والصور النمطية التي تعودها المفكر التراثي عن فكرة العلمانية. إن العلمانية مع محمد أركون لا تبقى منحصرة في تعريفها التقليدي الضيق(فصل الدين عن الدولة)، وإنما يحاول أن يسمو بها إلى إشكالية-موقف أمام نظرية المعرفة. ونورد في هذا السياق تعريفين للعلمانية من وجهة نظر محمد أركون:


1-       العلمانية -العلمنة- أولا وقبل كل شيء، إحدى فتوحات ومكتسبات الروح البشرية (1).
2-       العلمانية: موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة، أو التوصل إلى الحقيقة (2).
من خلال التعريفين السابقين للعلمانية، بوسعنا أن نقول: أن العلمانية هي إحدى نقاط التقاء البشرية جمعاء، شأنها شأن الفلسفة، بما هي نتاج للروح البشرية التي تسعى منذ فجر الوعي إلى إنتاج الحقيقة، وإن اختلفت تجلياتها؛ فهناك حقيقة أسطورية، و دينية، و فلسفية. العلمانية هي إحدى نقط الالتقاء، ماذا يعني ذلك؟ يجيب محمد أركون: " إنها عمل لا ينتهي ولا يغلق. وهذا يفترض من الباحث أن يتجاوز كل الخصوصيات الثقافية والتاريخية وحتى الدينية (أي أن يتجاوز حتى الخصوصيات الدينية التي ولد فيها) "(3).
تجاوز الذات إذن، هي أحد الركائز الأساسية التي ينبني عليها المشروع العلماني الأركوني، تجاوز الذات؛ يعني تجاوز للوعي المشكل للشخصية الجماعية من أجل الانخراط في مشروع كلي. في مشروع يعتقد في التعدد والاختلاف أكثر مما يعتقد بالتحجر والجمود. هذا التحجر الذي تمتاز به كل الديانات الاجتماعية، وليس الديانات المعيارية، و مختلف الإيديولوجيات.
لنعد إلى موضوع العَلمانية وعلاقتها بالمعرفة، ففي هذا الإطار تتجلى قيمة العلمانية التي ينادي بها محمد أركون.          فالعلمانية تسعى جاهدة إلى تحرير العقل البشري من سيادة اللاهوت الديني، اللاهوت الذي يحتكر المعرفة سواء في المسيحية أو في الإسلام (الكنيسة - المؤسسة الفقهية) فيقول : " فما ندعوه بكلام الله هو في الواقع عبارة عن مجموعة نصوص من( توراة وأناجيل وقرأن). وهذه النصوص متروكة لتفاسير رجال الذين يحددون معناها ودلالاتها "(4). ففهم النصوص يتكلف به الفقهاء ورجال الدين فقط. وهذا يعني: ارتباط تفسير النص بالمعطيات السياسية و الاجتماعية السائدة في عصر معين، هذا يِِؤدي إلى السقوط في فخ الإديولوجيا، إيديولوجيا طبقة سياسية معينة. فمن يقوم باحتواء المؤسسة الفقهية في السياق الإسلامي، يتمكن من إنتاج حقيقة مطابقة لمساعيه السياسة. فالمعرفة ينبغي أن تتجرد من كل الأسباب التي تؤدي إلى الشك في مصداقيتها، ولهذا تطرح العلمانية السؤال التالي: كيف نعرف الواقع بشكل مطابق و صحيح؟ أي كيف بوسع البشرية معرفة الواقع بشكل موضوعي، وبشكل حيادي دون تدخل الإيديولوجيات والقناعات الدوغمائية ( التخلى عن الذاتي لصالح الموضوعي). فالأدلوجة، بتعبير عبد الله العروي، تعني إظهار الواقع بعكس ما هو عليه، فهي تسعى لقولبة الواقع وفق مصالحها. وهنا تسعى العَلمانية إلى فضح هذه الأدلوجات عن طريق نشر المعرفة، وإيصالها إلى أكبر الشرائح الاجتماعية.
العلمنة إشكالية كبرى وتحد كبير للعقل البشري، لأنها تواجه، دائما وأبدا، دائرة المقدس المعقدة في تركيبتها؛ فهذه الدائرة عبارة عن نصوص مؤسسة وطقوس عملية (*) ، هذه التركيبة تتحكم في الموجود البشري وتمده بمختلف التفسيرات والإيضاحات المتعلقة بتسيير حياته. فهي سياج دوغمائي، هذا السياج يمنع العقل البشري تخطي الحدود المرسومة من طرفه بدعوى أن هذا التخطي ليس ذي جدوى. فكل الديانات، في سبيل إخضاع من يعتنقها، تشتغل بمنطق ثنائية الحلال والحرام، هذه الثنائية تمنع العقل البشري من ولوج عالم اللا-مفكر فيه .(L’impensable) هذا العالم إذا تمكن العقل من ولوجه، فإنه سيضع هذه الديانات على محك هدم أسسها وقلب قيمها، وللغرب تجربة في هذا مع الفيلسوف فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche، الذي قتل الإله المسيحي في تحفته المشهورة : "هكذا تكلم زرادشت".
ينتقد محمد أركون العلمانية النضالية(الصراعية) التي يتبناها الغرب عموما وفرنسا خاصة، التي تعتبر من أكثر النماذج العلمانية راديكالية، لكون التجربة الفرنسية قد ساهمت في تهميش اللاهوت الديني بل والقضاء عليه. وهذا يتعارض كليا مع مبادئ الاختلاف والتعدد التي تشكل، حسب محمد أركون، مبادئ العلمانية الحقة.
ينادي أركون بعلمانية تأخذ بعين الإعتبار الأبعاد المختلفة المشكلة للوجود البشري، القصص واللاهوت، باعتبارها قد ساهمت ولازالت تساهم في بناء الشخصية الجماعية والفردية. وبالتالي على الفاعل الاجتماعي استحضارها في كل مرة والنفاذ إلى عمقها، لمعرفة ما إذا كانت هذه الأنظمة ذات بعد ضروري في حياة الإنسان، أم أنها فقط نتاج لعدم قدرة الإنسان تفسير كل ما يحيط به وبالتالي يلجأ إليها كبديل، وكتعبير عن هذه الحالة، حالة القصور.وبالتالي تمكننا
العلمانية المنفتحة من معرفة مدى قابلية الأديان للتجاوز أو عدم قابليتها لذلك.
يرى محمد أركون أن المجتمعات التي تتدين بدين الإسلام، بحاجة للعلمانية كمنهج من أجل أن يسهل تعاملها مع الغرب المعَلمن. فالتاريخ يثبت إن علاقة المسلمين بالغرب ليست على ما يرام، منذ الحروب الصليبية إلى حاضرنا هذا، وذلك نتيجة لسيطرة الإديولوجيا الإسلامية على عقل المجتمع، والتي تصرح دائما أن الإسلام هو دين الحق وما عداه ضلال في ضلال، وتتهم الديانات الأخرى، سواء كانت ديانات توحيدية (Monothéismes) أو وثنية (Paganismes)، بتهمة التحريف والغواية. وبالتالي يصرح أركون بأن هذه الإيديولوجيات الدينية لم تسمح للدين أن يمارس دوره كباعث على السلم، وليس باعثا على العنف على نحو ما نراه الآن. ولهذا لا يزال محمد أركون، منذ الستينات من القرن الماضي، يدعو إلى إحداث كرسي في الجامعات الفرنسية للأنتروبولوجيا الدينية، التي ستسمح بدراسة جميع الأديان من منظور أنتروبولوجي و سوسيولوجي ولساني. كما يؤاخذ على المجتمعات الإسلامية نفس المأخذ، كما يتهمها بكونها تنشر الدين الإسلامي بالطريقة العقائدية التبشيرية عن طريق التربية التعليمية، وتلقن الدين باعتباره نظاما من الحقائق المطلقة وتفرضه كسياج غير قابل للنقد والتجاوز، وليس كنظام ثقافي يشكل جزءا من الأبعاد المكونة للإنسان .
لنعد إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: هل العلمانية غربية على الإطلاق؟
هذا السؤال سيمكننا من معرفة ما إذا كانت العلمانية تخص الغرب فقط، أم أن الإسلام قد عرف العلمانية في مهده.
ينطلق محمد أركون لمعالجة هذه الإشكالية من مسألة الخلافة التي طرحت نفسها بعد وفاة النبي مباشرة، و قد نتج عنها صراعات دموية بين المسلمين أنفسهم، هذا الصراع تجلى أساسا في من له الحق في خلافة النبي محمد وتسيير شؤون الأمة الروحية والزمنية. وبالتالي إعادة تجربة مكة والمدينة التي كان فيها محمد قائدا سياسيا، وزعيما روحيا. فمسألة الخلافة طرحت أصل السلطة السياسية وتنظيم الدولة الإسلامية(5)؛ بمعنى كيفية تنظيم المجتمع الذي يعتبر أمرا دنيويا وليس كما يعتقد البعض أمرا إلهيا.
بعد وفاة محمد مباشرة سنة 632 م، طرح السؤال التالي: من الذي يستطيع مواصلة تجربة مكة والمدينة دون نقص؟(6)؛ بمعنى من سينال شرف قيادة الأمة الإسلامية الفتية، هذا الشرف سعت كل العصبيات لنيله. وهذا ما جعل مسألة الخلافة، مسألة دموية بالأساس حيث قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، فينبغي التركيز على فعل القتل باعتباره يحمل دلالة كبيرة ستساهم في فهم طبيعة الصراع القائم آنذاك، ففعل القتل ليس فقط حدثا عابرا من أحداث التاريخ كما يعتقد فقهاء السنة، وأن من قام به قد خرج عن طريق الله(7). لكن من ينظر مليا إلى هذا الفعل، فسيكتشف أنه صراع حقيقي حول السلطة السياسية ناتج عن غلبة العصبية القبلية التي تريد السيطرة على الآخرين.
الصراع حول الخلافة تم بين عائلة بني هاشم و عائلة بني سفيان، ولقد أدى الصراع إلى إنتاج نظريتين مختلفتين للسلطة: نظرية تقوم على أساس الروابط الدموية، وأخرى قائمة على ضرورة تجاوز الروابط القبلية والدموية.
هذا الصراع توج بتربع معاوية على رأس الدولة الإسلامية، ونقله مركز الدولة من المدينة إلى دمشق. وهذه الأحداث ليست إلا عملا واقعيا لا علاقة له بأي شرعية غير شرعية القوة(8).
ويخلص محمد أركون إلى القول بان المجتمع الإسلامي قد عرف في مهده ممارسة سياسية علمانية، حاولت أن تنظم المجتمع بالوسائل الزمنية، وإن حاولت أن تقوم بعملية التسويغ عن طريق توظيف النصوص المؤسسة للدين الإسلامي، لكن تبقى مرتبطة بالصراع الدائر آنذاك. وهذا الصراع ناتج عن الرغبة المستمرة في الحصول على السلطة،( باعتبارها أمرا دنيويا)، وممارستها واستغلالها سواء لتمرير الإديولوجيا السنية أو الشيعية أو لنفي الأخر المعادي واضطهاده كما فعل الأمويين مع الهاشميين.
إن العلمانية المنفتحة التي أتى بها الفيلسوف محمد أركون، هي علمانية ذات أفق معرفي وتفتح للعالم الإسلامي أفاقا مختلفة للخروج من التخلف الفكري الذي يعاني منه منذ أمد بعيد. فالعلمانية، كما يقول فيلسوفنا، لا تسعى أبدا إلى مقابلة العلماني بالإيماني أو الانتصار لأحدهما دون الأخر، بل تحاول أن تقف موقف الحياد من كل منهما. كما تحاول أن تسمو بالفكر الإنساني إلى أبعد الحدود وتجعله أكثر انفتاحا وتقبلا للغير، وذلك بتجاوز الإديولوجيا كيفما كان نوعها؛ سواء كانت سياسية أو دينية. فالأساس الذي تعتمد عليه العلمانية الأركونية يتجلى في القدرة على النفاذ إلى عمق الأشياء وتفكيكها وبيان حقيقتها الجوهرية. فهي لا تسلم بأي شيء إلا إذا صمد أمام النقد. فيمكن أن نسميها علمانية نقدية تيمنا بالفلسفة النقدية لكانط التي ساهمت بشكل كبير في خروج العقل البشري من دائرة الحجر إلى فسحة Eclaircie العلم والمعرفة.
يعلمنا محمد أركون أن نطرح الأسئلة بخصوص الأشياء التي لم يفكر فيها حتى الآن أو فكر فيها قليلا. هذه الأشياء التي اعتبرت من الطابوهاتTabous والمحظورات، وكل من يتجرأ على طرحها سيلقى نفس المصير الذي تلقاه كل من فرج فودة وناصر حامد أبوزيد.

 
 
(1)-العلمنة والدين: الإسلام المسيحية الغرب، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الثالثة 1996، دار الساقي، ص 9.
(2)- مرجع سابق، ص 10.
(3)-مرجع سابق، ص10.
 (4)-مرجع سابق، ص31.
(*)- يقول محمد أركون في هذا الصدد: "وبهذا المعنى فإن كل ما ندعوه بالأديان( أي كل الأديان دون استثناء) ليست إلا عبارة عن أنماط للصياغات الطقسية والشعائرية التي تساعد على دمج الحقائق الأساسية وصهرها في أجسادنا... " نفس المرجع، ص34.

 (5)-تاريخية الفكر العربي الإسلامي، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الثانية 1996، ص279.

(6)- نفس المرجع، ص 280.
(7)-نفس المرجع، ص 282
(8)-نفس المرجع، ص283

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟