أثارت علاقة مارتن هايدغر بالنازيّة جدلا مطوّلا بدأ في حياة الفيلسوف الشهير ولم ينته بمماته. غير أنّ الكتب والمقالات العديدة التي تناولت هذا الموضوع لا يمكنها أن تعوّض الوثائق. وتمثّل بداية نشر "الدفاتر السوداء"، في السنة الماضية، وهي اليوميات التي كان يكتبها فيلسوف الغابة السوداء، منعرجا جديدا لهذا النقاش. غير أنّ ذلك لا ينبغي أن ينسينا أهميّة وثائق أخرى مثل الرّسالة التي كتبها هايدغر إلى الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوزة، بتاريخ 20 يناير 1948، نظرا لخصوصيّة السياق. فهايدغر لم يتطرّق لعلاقته بالنازيّة طيلة حياته تقريبا. وحتّى الحوار المطوّل الذي أجراه مع مجلّة دير شبيغل الألمانية والذي تضمّن حديثا مستفيضا عن الفترة النازية وعن دوره فيها، لم ينشر إلاّ بعد وفاته، احتراما لوصيّته، وكان ذلك في 31 مايو 1976 رغم أنّه يعود إلى سنة 1966. ولكنّ الفرق واضح بين حديث صحفي موجّه للعموم ورسالة مكتوبة لا تخلو من بوح ومن حميمية.
زار هربرت ماركوزة أستاذه السابق هايدغر في الشاليه الذي يملكه بقرية تودناوبرغ بالغابة السوداء جنوب غربي ألمانيا، حيث كان يقضي إجازاته. كان ذلك خلال صائفة 1947. سأله هناك عن علاقته بالنازية وحصل منه على الإجابة. ولكنّه أرسل إليه، إثر عودته إلى أمريكا، رسالة جدّد فيها طرح السؤال وطلب إجابة أكثر وضوحا. أرسل ماركوزة مع الرسالة طردا بريديا يحتوي إعانات غذائية، مثلما فعل الكثيرون في تلك الأيّام، بسبب الأزمة التموينية الحادة التي عرفتها ألمانيا خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. ولكنّ بعض أصدقاء ماركوزة عاتبوه على ذلك ولم يفهموا تقديم المساعدة إلى شخص متّهم بمعاداة السامية.
لم يقتنع ماركوزة بردّ هايدغر، ونفى عن نفسه الجهل بالواقع الألماني بسبب غيابه عن ألمانيا لفترة طويلة واعتبر أنّ النهاية التي عرفتها النازية كانت متوقّعة منذ البداية. أمّا ما أثار حفيظة ماركوزة فهو مقارنة هايدغر بين ما حصل لليهود وما جرى لألمان الشرق الأوروبي الذين تمّ تهجيرهم بشكل قسري من بولونيا وتشيكيا وسلوفاكيا بالخصوص. فمن الإجحاف، حسب رأيه، التسوية بين ذلك وبين تعذيب وقتل الملايين من اليهود.
يلاحظ القارئ أنّ أسلوب ردّ هايدغر مباشر ومقتضب وقاطع. لا نجد فيه تبريرا بل توضيحا صادرا عن شخص يدرك جيّدا ما يقول. ثمّ إنّ بعض العبارات والجمل تمثّل اعترافا بإيمان، ولو مؤقّت، بالنازيّة فضلا عن نزعة قومية واضحة. فمن الصعب أن تجد في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية من يجرؤ على المقارنة بين محرقة اليهود وما حصل لألمان الشرق الأوروبي. إلاّ أنّ الرسالة تعكس أيضا جانبا من شخصيّة هايدغر وهو كبرياؤه وقوّة شخصيّته المتجسّدة في رفضه الاعتراف العلني أو الاعتذار لما حصل، وهو ما طالبه به البعض ممّن اعتبروا تولّيه رئاسة جامعة فرايبورغ الألمانية، وإن كان لفترة قصيرة، مشاركة وتورّطا في النازيّة التي هيمنت على كلّ جوانب الحياة في ألمانيا ابتداء من سنة 1933 وإلى انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولعلّ تلك الكبرياء كانت في محلّها. فحكومة الرايخ الثالث، والحركة النازية عموما، كانت فيما يبدو بحاجة إلى هايدغر، أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين، أكثر ممّا كان هو محتاجا إليها.
*******
رسالة من مارتن هايدغر إلى هربرت ماركوزة
فرايبورغ، 20 يناير 1948
وصلني الطرد البريدي الذي أشرت إليه في رسالتك بتاريخ 28 أغسطس. أشكرك على ذلك. وأعتقد أنّه مراعاة لمشاعرك ولتهدئة خاطر أصدقائك، فقد وزّعت محتوى الطرد بأكمله على طلاّبي القدامى من بين الذين لم يكونوا أعضاء في الحزب النازي ولم تكن لهم أيّة علاقة بالنازية. وباسمهم أيضا أشكرك على المساعدة.
عندما أستنتج من رسالتك مدى اهتمامك بإصدار حكم صحيح على أعمالي وشخصي، فإنّ مكتوبك يبيّن لي تحديدا صعوبة الحديث مع الناس الذين انقطعوا عن الإقامة بألمانيا منذ سنة 1933 والذين يحكمون على بداية الحركة النازية من منتهاها. أمّا فيما يتعلّق بالنقاط الأساسية في رسالتك فأوّد أن أقول ما يلي:
1. بخصوص سنة 1933: توقّعت من النازية تجديدا روحيا للحياة بأكملها ومصالحة التناقضات الاجتماعيّة وإنقاذ الكيان الغربي من مخاطر الشيوعية. تمّ التعبير عن تلك الأفكار في خطاب تنصيبي رئيسا للجامعة (هل قرأت ذلك الخطاب كلّه؟)، وفي محاضرة حول "جوهر العلم" ثمّ في كلمتين موجّهتين إلى الأساتذة المساعدين ولطلبة الجامعة. ويضاف إلى ذلك نداء انتخابي في حوالي 25 إلى 30 سطرا، نشر في صحيفة طلابية. وأرى اليوم في بعض الجمل زللا. هذا كلّ ما في الأمر.
2. أدركت خطئي السياسي سنة 1934 وتخلّيت عن رئاسة الجامعة من باب الاحتجاج على الدولة وعلى الحزب. أمّا أن يكون قد تمّ في مرحلة أولى استخدام ذلك للبروباغندا داخليا وخارجيا ولكن مع التعتيم، في مرحلة ثانية، على استقالتي بسبب البروباغندا أيضا، فهو ما لم يبلغ إلى علمي ولا يمكن بالتالي أن يحسب عليّ.
3. لك كامل الحقّ في أنّ ما كان ينقصني هو التراجع العلني والواضح للجميع، ولكنّ ذلك كان سيعرّضني وعائلتي للهلاك. قال ياسبرز في هذا السياق: "ذنبنا أنّنا نعيش".
4. اتّخذت، في محاضراتي وفي الدروس التطبيقية التي قدّمتها خلال الفترة من سنة 1934 إلى 1944، وجهة نظر كانت من الوضوح بحيث لم يقع أيّ من طلاّبي آنذاك تحت تأثير الإيديولوجيا النازيّة. وستثبت ذلك أعمالي المنجزة خلال تلك الفترة، إن نشرت في يوم من الأيّام.
5. إنّ اعترافا بعد سنة 1945 كان مستحيلا بالنسبة لي، لأنّه لم يكن هناك ما يجمعني بأتباع النازيّة الذين أعلنوا تغيير آرائهم بالشكل الأكثر بشاعة.
6. فيما يخصّ الاتهامات الخطيرة حقّا والتي عبّرت عنها "حول نظام قتل ملايين من اليهود، وجعل الإرهاب وضعا طبيعيا وحوّل كلّ ما له علاقة فعليّة بمفاهيم الفكر والحريّة والحقيقة إلى نقيضها"، لا يمكنني إلاّ أن أضيف أنّه يمكن تعويض " اليهود" ب"ألمان الشرق" لكي ينطبق ما قيل بالضبط عن الحلفاء، مع فارق يكمن في أنّ كلّ ما حصل منذ سنة 1945 يعرفه الرأي العامّ في حين أنّ الإرهاب الدموي للنازيين تمّ حجبه فعليّا عن الشعب الألماني.
وأرجو في الختام دعوتك إلى التفكير في أنّ هناك، اليوم أيضا، بروباغندا خاطئة، مثلا من خلال بثّ الشائعات المناقضة للحقيقة. فقد بلغ إلى علمي افتراءات لا أساس لها تماما عنّي وعن عملي.
أشكرك على حديثك الصريح. أمّا بخصوص تحفّظاتك إزائي، فلا يسعني إلاّ الأمل في أن تعيد يوما اكتشاف الفيلسوف الذي تعلّمت منه وعملت معه، في كتاباتي.
مع أجمل التحيّة.
م.هايدغر
المصدر :
http://www.marcuse.org