قد لا يسعنا اليوم إلا أن ندعو الجميع إلى إحياء نقاش قديم جديد والذي ليس إلا طلب الانخراط في مناقشة سؤال الحداثة وفهمه، الغريب في الأمر أن أغلبنا يحكم على أشياء عديدة جدا، دون أن يعرفها سلفا، ودون اطلاع منه ولو على جزء بسيط منها، صحيح أن لهاته الأحكام العمياء أسبابا كبيرة يمكن حصرها أساسا في التعصب للرأي، والجهل بالجهل، والخوف من التغيير بما أننا نقف على أرضية جد هشة... والحال أن الحداثة قد تنزلت مما ذكرناه آنفا منزلة الحجر من الزاوية، خاصة وأنها باتت لغزا بعدما كانت الوضوح في أرقى صوره، وتحولت إلى عدو بعدما بناها رجالاتها كصديق للإنسان ومخلص له، من التبعية العمياء والاستبداد الفكري والسياسي...
ليست الحداثة كما يعتقد السواد الأعظم من الناس، ترفا فكريا الغرض منه إفساد عقول العباد، كما ليست تحمل بين تضاعيفها منطق الرفض للدين والأخلاق السائدة، بقدر ما أنها بعيدة كل البعد على رفض التقاليد وتفتيت الهويات، وإلا فأين نصنف الحداثة في الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ثم تركيا والبرازيل شيئا ما؟ حيث الاحتكام للقانون، واحترام الأقليات، وتكريس روح فصل السلط ودولة الحق والقانون لكن دون التخلي عن المكتسبات التي قدمها التاريخ والأصل والجذر.
إن الذين يرفضون الحداثة عندنا يعتقدون من حيث لا يدرون أنها كفر وزندقة، كما يرون أنها تكريس جَلِيٌّ للأخلاق الفاسدة، ودعوة مبطنة إلى تقليد "الغرب الكافر" من لباس وتقنية ونمط عيش... لكن البَيِّنَ في هذا الأمر يكمن في أن الحداثة ليست من هاته الإشاعات بشيء، بقدر ما أن الذين يرفضونها يرغبون هم الآخرين في ما ترغب فيه الحداثة، إذ من منا يقبل الإستبداد بشتى أنواعه؟ ومن منا يريد أن يبقى خاضعا لداء ومرض غياب العقل؟ من منا يحب أن يبقى جاهلا إلى آخر رمق في الحياة؟ ومن منا يسعى إلى تكريس الجمود والتخلف؟ من ثمة فالحداثة ليست إلا الدعوة لإعمال العقل، كما أنها لا تدعو إلا إلى العمل بالقانون بمعزل عن الامتيازات العرقية والعائلية والمادية، الحداثة لا تفرق بين هذا وذاك بما أنها بُنِيَت على مبدأ الحق والواجب، على القانون وعلى المؤسسات أيضا.
والحق أن الحداثة في نفس السياق لا يمكن إلا أن تستنشق روح الاحترام وضمان الحقوق، إحترام الأشخاص بغض النظر على هوياتهم، أي أن الحداثة انتصار للهوية التي تحتوي على كل الهويات، وليست انتصارا لهوية واحدة على حساب الأخرى، ثم احترام الأشياء من تاريخ وديانات ورموز، إنها تكريس قوي للاختلاف لا تنتصر للدين الواحد، وبناء مستمر للهوية المنفتحة وليس للهوية المنغلقة، أي أنها تأسيس لمبدأ الهوية كاختلاف وليس كتعصب، لكن وفي مقابل ذلك عندما نتأمل الأمر مليا، نرى أن الحداثة ترياق وهي مرفوضة، كما نستخلص أنها دواء وإن كانت تُقاوم بعنف غير مفهوم.
البَيِّنُ فيما تم ذكره آنفا، أن هناك من المسببات التي كانت عاملا في رفض الحداثة، وفي سوء تأويلها وفهمها، ثم في عدم تحققها وإن مر على تعرفنا عليها ما يقارب القرنان ونيف، والحال أن هاته المسببات تحتمل عديد الجوانب، من بينها هشاشة بنيتنا الذهنية، حيث لا زلنا لم نستفد بعد من الدروس التي قدمها لنا ابن خلدون، عندما لم يدع مجالا للشك في طبيعة عقليتنا وخصوصياتها السوسيوثقافية، من ثمة فإن أول سبب جعلنا أمة رافضة للحداثة ليس يكمن إلا في عصبيتنا القبلية التي لازالت راسخة في بنيتنا الذهنية ابتداءً من الأستاذ وصولا إلى العامل مرورا برجل السياسة والاقتصاد... لهذا ليس يأخذنا العجب عندما نرى أن الذين يدعون للحداثة هم في الأصل محكومون ببنية ترفض الحداثة داخليا، بما أن هاته الأخيرة تنتصر للواجب عكس الأولى التي تنتصر للعاطفة العرقية، وهو ما يجعلنا نأخذ على محمل الجد مثال رفض الرأي الآخر من طرف غالبية الذين يحملون الحداثة، كما أنهم يرفضون من يقول لهم كلمة "لا"، إنهم بعيدين عن مبدأ حرية التعبير، حيث لا يقبلون إلا من يشابههم الرأي وليس من يختلف معهم، وهو ما جعلهم ينعزلون أولا، ويرفضون من يخالفهم ثانيا، حيث أن لذلك نتيجة واحدة، هي حكم الآخرين على الحداثة ليس من عِنْدِياتِها وإنما من ممارسات الذين يَدَّعونَ حملها، هذا ولا يسعنا في هكذا مقام، إلا التأكيد أن مشكلة جل من يدافع على الحداثة عندنا، يعيش ازدواجية كبيرة في الخطاب، فتراه يستظهر تاريخ الحداثة ويعرف روادها بخصوصية خصوصياتهم، ثم في نفس الوقت تراه يتعصب لرأيه، أو يدافع على مصالحه الخاصة، أو لا يقوم بواجبه كما ينبغي أن يكون عليه الأمر، أو ينظر للمرأة كجسد، أو يدعو إلى ضرورة التخلص من الاستبداد، ثم في نفس الوقت يمارس استبدادا في فضاءه الصغير سواء كان بيته أو مكان عمله... بالتالي فالحداثة ممارسة ونظر وإلا فستصبح هجينة إلى أقصى حد.
إذا كانت الحداثة مرفوضة بين ظهرانينا بسبب حامليها وسوء تصريفها للعامة، فإن للسواد الأعظم أيضا كبير دورا في هذا الرفض، ومَكْمَنُهُ ليس إلا الخوف من الجديد، لسبب بسيط هو أن الحداثة تُعَرِّي المستور، وبما أن بنية مجتمعنا قائمة أيضا على الخطاب المزدوج وعلى ثنائية المدنس الذي يمارس في الظل، والمقدس الذي يمارس في العلن، وبما أن الحداثة ترفض هاته الازدواجية الجوفاء، فإنها لا يمكن إلا أن تقاوم، ضمانا لاستمرار هاته الثنائية، مجتمعنا هش أيضا، يرفض العمل بالقانون، إذ يكفي مثلا تأمل سلوكياتنا في الشارع وفي المؤسسات وفي الإعلام، حتى نرى أنها ليست محكومة إلا بالمصالح الشخصية، والحال أن الحداثة لا تؤمن بالعبثية في التسيير، بما أنها قائمة على الأحكام الواضحة والمتميزة.
مجتمعنا لا يؤمن أيضا بالفضاء العمومي، بما أنه ينبني أراد ذلك أو لم يرد، على مبدأ رفض خصوصيات الأقليات، حيث يؤمن بالأغلبية العددية بدل الأغلبية الوظيفية أو القِيمِيَّةِ أو العقلية، والحداثة كما نعلم لا يمكن أن تستقيم دون الذي ذكرناه، وبما أن بنيتنا جد مُتَحَجِّرَةٍ وجد مُشَمَّعَةٍ، فإن الحداثة لن نواجهها إلا بالمقاومة والرفض، لأننا لا يمكن أن نقضي مآربنا في الوضوح، الحداثة إذن ليست إلا انتصارا للذي يعمل، ليست إلا إعلاء من شأن المسؤولية وروح القانون... بالتالي فإما أم نكون حداثيين أو العكس بمعزل عن كل ازدواجية في الخطاب ......