تعرّف السياسة عادة بأنها علم تدبير شؤون المجتمعات على جميع المستويات. مثلما يعرّف العنف بأنه إلحاق الأذى بالغير ماديا أو معنويا. لكن إلى أي حد نستطيع القول بأن السياسة تسعى فعلا إلى تدبير شؤون الناس وتحقيق متطلباتهم وعلى رأسها إشاعة الأمن والإستقرار بينهم؟ ألا تنفي الصراعات الإيديولوجية التي نشهدها اليوم في شتى بقاع العالم، والتي تتحول في كثير من الأحيان إلى صراعات دامية، أية إمكانية لمحاربة العنف بواسطة ممارسة السياسة؟ ولكن، أليس الصراع الإيديولوجي والمادي على وجه التخصيص محايث للوجود الإنساني وللسياسة التي تشكل الدولة الإطار الذي تمارس داخله؟
لقد تحدث الفيلسوف اليوناني أريسطو قبل ميلاد المسيح بقرون قائلا بأن الإنسان حيوان سياسي/ مدني بالطبع، وهو قول يعني من بين ما يعنيه أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الآخرين، بل إن وجوده الطبيعي ووجوده الإنساني الذي يجعله متميزا عن الحيوان، يتطلب بالضرورة الاجتماع مع بني جنسه والدخول معهم في علاقات اجتماعية متعددة الأبعاد.
إذا كانت قيمة قول أريسطو تتجلى أساسا في كونه يدفعنا إلى التمسك ببعضنا البعض حفاظا على وجودنا الطبيعي والإنساني، فإن القول نفسه لن يدفعنا إلى نفي واقعة الصراع بين البشر كأفراد وجماعات وفئات وطبقات اجتماعية. وإذا كانت السياسة وجدت منذ تلك اللحظة التي قرر فيها الإنسان الإجتماع مع أخيه الإنسان، فإن الصراع والعنف قد وجدا كذلك منذ تلك اللحظة التي التقى فيها فرد بآخر باعتباره شبيها له من جهة ومخالفا له، مهددا لوجوده من جهة أخرى، وبالتالي لابد من الدخول في صراع وجودي معه كما أكد على ذلك الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر.
نحن إذن أمام مفارقة خطيرة تميز علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، علاقة إيجابية تقوم على أساس الأخوة والإعتراف وعلاقة أخرى تقوم على أساس العداوة والصراع. غيرأن حضور إحداهما لا يعني نفي إمكانية تحقق الأخرى. هذان النمطين للعلاقات الانسانية رصدهما الفيلسوف الإنجليزي طوماس هوبس عندما عبر قائلا بأن " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان". لقد فرضت هذه العلاقة ضرورة وجود السياسة لخلق نوع من الألفة والتوازن بين أطرافها.
وإذا كانت علاقة الصراع القائم على العنف قد وجدت مع وجود الإنسان، فإن لهذا الصراع أيضا أشكالا وتجليات عديدة، بدءا بمظاهره الأكثر بساطة كالصراع بالأيادي وصولا إلى أشكاله الأكثر تعقيدا وعنفا في وقتنا الحاضر كاستعمال الأسلحة الفتاكة. فالبشرية تعيش الآن حالة من العنف المفرط بالرغم من أننا نعيش في زمن الحداثة الذي اتخذ من محاربة العنف شعارا بارزا له. لقد أصبحت رائحة الدم النتنة تأتينا من كل حذب وصوب، ففي كل يوم تأتينا أخبار عن مئات الجرحى وعشرات القتلى بسبب الحروب والنزاعات التي يعرفها العالم إلى درجة أصبحنا معها أمام ما يمكن أن نسميه بـ"تنميط الموت"، خاصة مع توفر ماكينات إعلامية لا تتوانى في نقله إلى بيوتنا في كل وقت وحين، فعاد القتل أمرا إعتياديا سقطت عنه صيغة الجلالة ولم تعد تشخص له عيون ولا ترتجف له قلوب.
إن مشاهد الدماء المسكوبة في كثير من الأماكن، باسم الدفاع عن السلم ونشر الديمقراطية في أغلب الأحيان، تدفعنا إلى التساؤل : أي دور يمكن أن تلعبه السياسة اليوم إذا لم تستطع أن ترفع هكذا مشاهد؟ إذا افترضنا جدلا أن الصراع ظاهرة إنسانية لا يمكن تجاوزها ألا يحق لنا التشكيك في جدوى السياسة إذن؟ ألا تستطيع التقليل من حدته أو الكف على الأقل عن ممارسته وتشجيعه؟ أم أن التسليم بفرضية العنف كظاهرة إنسانية يشل كل محاولة للحد منه وبالتالي شرعنته والبحث عن المبررات قبل، أثناء وبعد ممارسته؟
إذا كانت هذه التساؤلات تكشف عن بؤس السياسة في الحد من العنف، وعن ميكيافيلية (نسبة إلى نيكولا ميكيافيلي) ممارسيها، فإنها تنبهنا في الوقت نفسه إلى أن قصورها في معالجة إشكالية العنف لا يعفينا أبدا من مواجهته ليس بعنف مماثل، لأن العنف لا يجب ان يواجه بالعنف، ومواجهة العنف بعنف مضاد لا يمكن أن يؤدي إلا لمزيد من العنف، بل إن الأمر يتطلب منا، أمام هذا القصور، البحث عن مداخل أخرى غير المدخل السياسي، الذي يقارب به الساسة مسألة العنف في ظل عدم القدرة على ممارسة السياسة كما يجب أن تمارس.