حينما توقف نبض الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، تلميذ نيتشه وهيدغر، في يونيو 1984 كانت وفاته مفاجئة جدا لأنه مات بسبب مرض لم يكن آنذاك معروفا: مرض السيدا. مات بعد أن وضع بصماته على جبين الحقل الفلسفي الفرنسي وغير الفرنسي من خلال تدخلاته في مجالات ظلت عذراء إلى تلك الحدود: الجنون، الإجرام، الجنس، السلطة، وفاة الإنسان والتاريخ، تفتت الذات لصالح الخطاب…الخ. بعد كتاب تاريخ الجنون أصبح اسم ميشال فوكو مع الكلمات والأشياء (1966) متداولا بشكل كبير في فرنسا وغير فرنسا بعد أن كانت كل الكلمة للوجودية الفينومينولوجية الفرنسية التي هيمنت باسم هوسرل وتعززت بسارتر وميرلو بونتي ما يقرب عن ثلاثين سنة. عرف فوكو الشاب بعشق اختراق الحدود وسبر أغوار الجوانب المظلمة للمتاهات المرتبطة والملتصقة بالإنسان باعتباره كائنا في العالم بتعبير هيدغر أو كائنا من أجل الموت بتعبير سارتر. لكن، فوكو لم يكن يرغب في أن يشتهر اسمه ولا أن تردد الخطابات الفلسفية اسمه باعتباره منتجا لخطاب فلسفي متميز. كان يود أن يغادر فضاء الذات المنتجة أو على الأقل وهم الذات المنتجة حتى ينتصر لموقفه الرافض لفكرة أو مبدأ المؤلف Auteur.
عمل فوكو على تجسيد موقفه من وحدة الذات على مستوى الممارسة بعد أن عرضه نظريا بشكل مفصل في كتاب أركيولوجيا المعرفة(1969). غير أن العمل على تجسيد هذا الموقف يبدو استحالة مطلقة لأنه مهما كانت الرغبة الأنطولوجية لفلاسفة الذات المشتتة (ضد وحدة الذات) تبقى هناك آليات غامضة لا يمكن الانفلات منها. لنأخذ هنا الحالة الملموسة التي حاول فيها فوكو أن يبين عمليا أنه ليس مؤلفا وليس ذاتا مستقلة حينما استجوبته جريدة لوموند الفرنسية سنة 1980. في الصورة التي نشرت في الجريدة آنذاك ظهر فوكو أمام مستجوبه ملثما ويتكلم من وراء قناع حتى لا يتعرف عليه أي كان. حينما طرح عليه السؤال عن مغزى موقفه ذلك أشار فوكو إلى حكاية قيام بعض علماء النفس بتصوير مشاهد فيلم في قرية ما بإفريقيا السوداء، بعد نهاية التصوير طلبوا من بعض المتفرجين من الأهالي أن يحكوا قصة الفيلم بلغتهم الخاصة واتضح فيما بعد أن كل ما ستهواهم في الفيلم كله هو حركة الضوء وسط الأشجار. بالنسبة لثقافتنا تسودها ظاهرة اهتمام المتفرج (المتلقي) بشخصيات الفيلم، سلوكاتها، تصرفاتها وأنماط حياتها، يقول فوكو. هذا يعني، من باب التأويل، أن فوكو كان يخاف أن تطبع أعماله بسلوكه وتصرفاتها وبهذا يندثر فكره ويغرق في قضايا مرتبطة بجسمه أساسا. يقول فوكو إنه يهدف أساسا من وراء الرغبة المستمرة في أن يظل مجهولا إلى أن يصل ما يقوله إلى أكبر قدر ممكن من المتلقين. إذا ما تعرف المخاطب (بفتح الطاء) على المخاطب (بكسر الطاء) فسيكون هناك خطر النفور مما يقوله بسبب ما يفعله أو يقوم به. لنجعل سلطة الخطاب تكسب المعركة ضد سلطة الذات المنتجة أو المؤلف. والأمر ليس اختيارا في الواقع وليس عطفا عن الخطاب بل هو ضرورة. لقد حاول فوكو في كتبه (أركيولوجيا المعرفة) ونصوصه المشهورة (الذات والسلطة سنة 1986، كانط، الثورة والأنوار سنة 1984) أن يظهر، بعد إعلان موت الإنسان في الكلمات والأشياء، أن الوحدة المفترضة للذات ليست وحدة حقيقية بل هي وهمية ومقررة سلفا بشكل ساذج. الذات عبارة عن تشابك مواقع وأحداث بدونها لا يمكن لها أن تتصرف. مثل الوعي conscience الذي يتحدث عنه سارتر وهو وعي يمتلئ ويمتلك جسمه عبر حضوره الدائم وسط الأشياء Intentionnalité، ترتبط الذات أنطولوجيا بما يجعل منها ذاتا، أعني العوامل التاريخية والسوسيوثقافية التي تجتمع كلها لتصوغ خطابا معرفيا عبر ذات غير منتجة بل ناقلة أو حاملة. إذا ما طبقنا هذه الفكرة على فكر فوكو نفسه فإننا قد ننبهر للوهلة الأولى بهذا الموقف الذي يحاربه اليوم كبار الفلاسفة المعاصرين أمثال هابرماس وريتشارد روطي بعد أن بدأ إرث نيتشه وهيدغر يتأزم؛ سننبهر لأننا سنجد في فوكو فعلا مواقف مختلفة ومنوعة خلفتها آثار نيتشه، هيدعر، جورج كانغيلم، كانط، نيرفال، روسل، أرطو…الخ. لكن مع ذلك، يقول أنصار وحدة الذات إن هذا ليس كافيا لإدانة هذه الأخيرة خصوصا وأن مسألة التأثير والتأثر موجودة عبر التاريخ أفقيا وعموديا، وما معنى أن نجعلها اليوم حجة على أن الاعتراف بدور الذات كان نزوة فقط وليس ضرورة إبستمولوجية بدونها سيواجه الفكر الفلسفي صعوبات من نوع لم يعرفه من قبل. الاختراق ممكن إذن لكنه لا يخلو من مغامرات على ما يبدو.
كان فوكو يرفض كل شكل من أشكال الكشف عن الهوية إلا حينما تقتضي القانون ذلك. يقول: "لنترك للبيروقراطيين ولرجال الأمن مهمة التأكد من هويتنا" (أركيولوجيا المعرفة، 28) وكأنه كان يرغب في المطالبة بإلغاء القوانين المدنية لكي لا تضبط هوية الأفراد بأي شكل ومن الأشكال. نلاحظ هنا خلطا جليا بين الذات العارفة والذات الاجتماعية المحكومة بآليات اقتصادية، سياسية واجتماعية وهنا نتساءل: أية هوية يخاف عليها فوكو؟ وبالتالي هل كان رهانه الكامل من وراء ذلك هو فقط إثبات قوة ونفوذ الخطاب أم كان الأمر يختلف عن ذلك كله؟
أريد هنا أن أتعامل مع هذا السؤال كإشكالية تحتاج لمقاربة جدية دون المساس بأي معنى من المعاني بعظمة الفيلسوف الفرنسي الذي حارب أوهاما كثيرة حتى وإن أحدث بذلك ضجة فلسفية سقطت أحيانا في تعقيدات غير ضرورية. إن عدنا إلى مثال الحوار مع لوموند سنة 1980 فسنجد أن ما فسر به فوكو موقفه لا علاقة له بما يقولوه في كتاب أركيولوجيا المعرفة حول وهم وحدة الذات غير منتجة للخطاب وأيضا دعوته المعرفية –في سياق الصراع مع وجودية سارتر المعروف بدور العراب الحديث للذات- لعدم الاستمرار في الاعتراف بدور هذه الذات في إنتاج المعارف. إن كون ثقافتنا تعرف ظاهرة تركيز متفرج الفيلم على سلوك الشخصيات وتصرفاتها كما يقول فوكو وبالتالي الخوف من أن تحجب تداعيات الذات وتصرفاتها ما تنتجه هذه الذات على المستوى الفكري، يعني في العمق أن الذات قائمة وهي التي تنتج لكنها تتحايل على الذات الأخرى حتى تجد موقعا لما تنتجه وتحميه من الذات الثانية التي قد تشوهه. ما هي الهوية التي كان يخفيها فوكو إذن، إذا سلمنا أن ما كان يحركه في هذا المجال ليس هو الخوف على ضياع الخطاب بسبب ذات متسلطة وإنما شيء آخر؟
ما كان يزعج فوكو فعلا هو هويته كشاذ جنسيا، هو الخلط الذي قد يحصل بين هذه الهوية وهويته الفكرية ويصبح لا شيء. ولكي ينقذ هويته الفكرية عمد إلى نكران أي صيغة من صيغ الهوية الذاتية بل رفض حتى الذات كعامل وحدة ضروري لجميع أشكال الهوية. ليس في ما نسجل هنا أية جدة بالنسبة للمهتمين بميشال فوكو بل إن الفرنسيين أقاموا ضجة كبيرة حينما ظهرت السيرة الذاتية The passion of Michel Foucault للأمريكي James Miller الذي يلح على ضرورة قراءة فوكو على ضوء هويته كشاذ جنسيا. يمكن القول إن عشق اختراق الحدود لدى فوكو نابع من كونه شاذا جنسيا اختار اختراق العرف المعهود ليتحول إلى ما اعتبره هو نفسه غير هادئ من خلال إلحاحه المستمر على إخفاء سلوكاته الغامضة. ثمة ارتباط إشكالي بين سلوك فوكو الشاذ جنسيا وإنتاج فوكو الفيلسوف، وهذا ما تلح عليه السيرة الذاتية التي كتبها Dedier Eribon سنة 1989 مع أن هذا الأخير ظل متحفظا مقارنة مع الأمريكي ميلر الذي وصل به الأمر إلى القول إن المؤلف الأخير لفوكو، يعني تاريخ الجنس، كان من وحي تداعياته الجنسية.
بالنسبة لإريبون، اضطر تحت ضغط أصدقاء فوكو إلى التعريج على بعض التفاصيل في الحياة الجنسية لميشال فوكو لكن البعض ذهب إلى أبعد الحدود. في روايته الصادرة عن غاليمار في باريز حول فوكو يذكر Hervé Guiberts أن صديقه (فوكو) كان يخفي في خزانة سرية الأدوات المستعملة من طرف الشواذ SM. لم يكن الفرنسيون راضين بما ذكره هذا الأديب عن فيلسوفـ"هم" ميشال فوكو لأنهم يرون أن الحياة الخاصة لمفكر ما لا علاقة لها بفكره، لكن Guiberts دافع عن موقف وتصدى لجميع الانتقادات بالتأكيد على أن هدفه ليس الإساءة لفوكو خصوصا وأنه هو الآخر مصاب بالسيدا. ففوكو نفسه كان في حياته يؤكد على أن "حياته الخاصة" لا وجود لها. حتى وإن كان فوكو شاذا جنسيا فيبقى هو فوكو آخر غير فوكو المراقبة والعقاب أو فوكو الكلمات والأشياء.. هناك فوكو متعدد وليس فوكو واحدا كما يقول جورج دوميزيل. إنه ينفلت مثل الزئبق من الكمين الذي يحاول الأمريكي ميلر أن ينصبه له.
1 ـ الجسد الشاذ جنسيا:
حاول فوكو كما قلنا إقصاء هويته الجنسية بعد أن هيأ لذلك من خلال إقصائه النظري للذات باعتبارها منتوجا وليس منتجة، لأنها عبارة عن تركيبة غامضة لأحداث ومواقف ومواقع متفاعلة، لكنه يعود بشكل غامض وغير مفهوم إلى التقليد الفلسفي الذي أسسه ديكارت حينما يميز بين ذات مفكرة وجسد صامت (مثل الموجود في ذاته لسارتر) وبين الاثنين سد منيع حيث لا علاقة لطرف بعمل الطرف الآخر. جسد فوكو كان شاذا جنسيا لكنه غير مهم ولا اعتبار له بالنسبة للذات المفكرة (ليس هذا تناقضا إن استعملنا هذا التعبير لأن فوكو لا يرفض الذات في ذاته وإنما يرفض وحدتها الضامنة لإنتاج المعارف كما عهدنا ذلك في التقليد الفلسفي). من الناحية الاستراتيجية نفهم جيدا الموقف الذي اتخذه فوكو من الجسد وعدم إعارته أية أهمية: لو فعل ذلك لاعترف ضمنيا أنه جسد شاذ يكتب ولو حدث ذلك لأصبح الحديث يدور ليس عن فوكو "المفكر" وإنما عن فوكو الشاذ وسينصب هنا الاهتمام كله على الجسد. إذا كان تجاهل فوكو لجسده قد وصل إلى هذا الحد فبأي حق يتم الإلحاح إذن على ضرورة قراءة فوكو للذات المفكرة من خلال التأثير الذي يخلفه عليه فوكو الجسد الشاذ. فديديي إيريبون الذي تلقي انتقادات حادة بسبب كتابه Michel Foucault عاد في كتاب آخر Michel Foucault et ses contemporains (1994) ليقول إن من الأهمية بمكان معرفة بعد الشذوذ الجنسي لدى هذا الفيلسوف؛ غير أن هذا لا يعني بتاتا –يضيف إريبون- ضرورة قراءة أعمال فوكو على ضوء بعد الشذوذ الجنسي لديه كما يدعو إلى ذلك الأمريكي جيمس ميلر. ينصف إريبون ميشال فوكو إلى حد بعيد لكن الأمر يصبح جد مزعج حينما نقرأ قولا لفوكو في إطار حوار عام مع Trombadori تحت عنوان Conversazione con Michel Foucault (1980): "ليس هناك كتاب واحد كتبته أنا لم تكن وراءه أو في جزء منه على الأقل تجربة شخصية. لقد عشت علاقة شخصية معقدة مع الجنون، طب الأمراض العقلية والمرض. عشت أيضا العلاقة مع الموت: حينما كنت أشتغل على ظهور الطب العيادي الذي يتناول موضوعة الموت في المعرفة الطبية، كان ذلك في الوقت الذي كانت موضوعة الموت جد مهمة بالنسبة لي"
[1].
يجعلنا هذا النص في حيرة من أمرنا ونحن نحاول أن نحذو حذو من ينزلون فكر الاختراق عن التجارب الشخصية لهذا الفيلسوف الذي كان يفضل الهروب بعيدا عن فرنسا ليحرر جسده من الحدود المرسومة له ضمن الثقافة الفرنسية التي ظلت ترفض الشذوذ الجنسي على الرغم من أنها أنتجت الثورة الفرنسية وهيأت كل شيء للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ألا يقابل الاختراق الفكري الذي يدعو إليه فوكو الاختراق الجنسي الذي مارسه أخلاقيا: الدخول في ممارسات ما تزال إلى حدود الآن غير عادية على الرغم مما يعرف في الغرب من تسامح واحترام لحريات الفرد. قد يكون عمل فوكو مستلهما جزئيا من تجربته الخاصة في الحياة لكن لا يمكن تفسير كل هذه الأعمال بنزوات وغرائز جسد فوكو كما يذهب إلى ذلك الأمريكي جيمس ميلر الذي وصل به الأمر إلى حد وضع علاقة مباشرة بين تاريخ الجنون وسعي فوكو نحو فيلسوف أراد الخروج عن المألوف وبالتالي مراجعة المعايير الفلسفية والطمأنينة المعرفية التي ألفها التقليد الإنسي أو الإنسانوي. لماذا القول إن تاريخ الجنون حددته تداعيات جسد فوكو الشاذ دون الاهتمام بما توصل إليه الفيلسوف من حقائق ومعطيات تاريخية تفضح عقلية بأكملها، عقلية التضليل التي أدانها نيتشه من قبل بطريقته وحاول هوسرل أيضا بأقل قسط من الدراماتية.
حتى مبدأ التضحية بذاتية الذات المؤلف Le soi de l'auteur الذي دافع عنه فوكو "يعثر" عليه ميلر في الممارسة الجنسية للفيلسوف: التعاطي للممارسات الغربية لجماعات SM. لكن ميلر يخونه تأويله كثيرا حينما يخلط بين الموت النظري للذات والموت الحقيقي للفرد، بين التضحية الجسدية (الذهاب إلى إيران مثلا أيام الثورة) والتضحية بالإنسان أو الذات التي اعتبرها فوكو وهما وفقا للآليات الفلسفية الخاصة. يلح ميلر كثيرا في كتابه على عشق فوكو للموت كتجربة رائعة للاختراق وكان هذا العشق هو الذي يلهم حسب ميلر فكر فوكو باستمرار. من باب السجال: لو كان فوكو عاشقا للموت إلى هذا الحد فلم لم يختر الانتحار مثلا كما فعلا صديقه جيل دولوز مؤخرا؟ ما الذي جعله لا يفعل ذلك ما دام عاشقا للموت إلى هذا الحد؟ ألم يكن فوكو في حياته اليومية يعشق الحياة والإنسان: الدفاع عن السجناء، عن العاهرات، عن المهمشين، الاستسلام لتداعيات الجسد؟ أليس هذا كافيا ليجعلنا نقول إن فرضية عشق فوكو للموت فرضية خاطئة ولا يمكن بالتالي الاعتماد عليها في تفسير الاختراق الفكري لدى الفيلسوف؟
نعتقد، ليس من باب الدفاع عن فوكو وهو الأكثر عنادا حتى في مؤلفاته، أن أكبر إجحاف في حقه هو ما يلح عليه الأمريكي ميلر وبالتالي اختزال كل أعماله في بعد واحد هو بعد الشذوذ الجنسي لديه. نعرف مثلا أن فوكو كان مهتما للغاية باكتشاف كل أشكال الإقصاء بالإكراه وكل تلاوين الاستبداد الناتج عن العرف noorme المطلق ثم إنه لم يشأ كما فعل غيره من قبل الاكتفاء بـ"الحقيقة الأليفة" التي احتضنتها العقلانية في تاريخها الطويل. ثمة "حقيقة متوحشة" ينبغي تحويلها بالشكل الذي يسمح لها بالدخول إلى مجال الحقيقة المعتادة أو التي اعتاد عليها الناس. حينما راح فوكو يترصد في جسم التاريخ أشكال التعامل مع الجنون والمجنون (من الإبعاد في العصر الوسيط إلى الحبس في العصر الحديث) لم يتطلب منه ذلك أن يكون مجنونا أولا (منطق الأمريكي ميلر). ثم، إن نحن حاولنا تفسير أعمال فوكو بشذوذه الجنسي وعشقه لتجارب المجون على الطريقة الغربية فعلينا على الأقل أن نحصر مجال تأثير هذا البعد فقط في الكتابات التي حاول فوكو أن يرى فيها ذاته المنفية كما يقول ميلر. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا "تقييم" تاريخ الطب العيادي مثلا أو أركيولوجيا المعرفة؟ ألم يكن كتاب الكلمات والأشياء عملا أملاه السجال الفلسفي الكبير بين تلامذة هوسرل من جهة وتلامذة نيتشه وهيدغر من جهة ثانية في فرنسا؟ لا نعتقد أن اختراق فوكو لمعايير تاريخ الأفكار في هذا العمل كان من إلهام بعد الشذوذ الجنسي لديه. في هذا الكتاب (الكلمات والأشياء) الذي أثار نقاشات موسعة واستقطب من النقد ما لم تستقطبه مؤلفات أخرى، نعثر على مفاهيم فلسفية ذات طابع إبستمولوجي محض ولا علاقة لها بنوع القهوة التي كان يشربها فوكو ولا علاقة لها أيضا بمجون فوكو في ملاهي فرانسيسكو حسب ما يسجله ميلر.
إن الموقف الذي اتخذه ديديي إريبون –تسجيل أهمية بعد الشذوط الجنسي لدى فوكو دون أخذه كمعيار لتفسير كل شيء- يبدو أقرب جدا من "الموضوعية". بعد السيرة الذاتية التي أصدرها سنة 1989 والتي كانت موضوع انتقادات كثيرة بسبب تركيزها الحاد على قضية الشذوذ الجنسي، أصدر إريبون كتابا آخر سنة 1994 يحمل عنوان "فوكو ومعاصروه" Foucault et ses contemporains أخذ فيه بعين الاعتبار الانتقادات التي تلقاها. يقول: "لا يمكن فهم بعض التدخلات النظرية لفوكو واختيار مواضيع بحثه التاريخي إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا البعد الأساسي لتجربة الشخصية"[2]. يتضمن هذا الموقف إنصافا رائعا لميشال فوكو الذي لم يفعل شيئا –دون الاستخفاف- سوى أنه دفع بـ"جنون" نيتشه إلى أبعد الحدود مع المحاولة "الفاشلة" للهروب من المعيارية والوعود الكبرى التي عودتنا بها الخطابات الكبرى.
2 ـ فوكو متمردا:
لم يكتب فوكو عن الجنس ليطرح بديلا ما للتعامل والتصرف على هذا الصعيد كما أنه لم يكتب عن السلطة كدعوة إلى "شرعية" بديلة الخ. لقد أنشأ ما يمكن أن نسميه بـ "مؤسسة نقدية" هاجسها الفلسفي هو، ليس اقتراح معايير جديدة للحقيقة أو اكتشاف حقائق أخرى أغفلها التاريخ وإنما لفضح هشاشة المعايير السائدة والتي يحميها التقليد الفلسفي الإنسانوي. المثير في كتابته هو التمظهر بمظهر جديد في كل مجال ولا يمكن ضبطه كما هو الشأن بالنسبة للفلاسفة الآخرين، إنه غير قابل للتشخيص incontournable. إن فوكو تاريخ الجنون وأيضا تاريخ الطب العيادي كان أقرب إلى الماركسية مع أنه لم يظهر في كتاباته أي نوع من التعاطف معها، كان "ماركسيا" حينما حاول مقاربة الجنون أو الحمق بربطها بشبكة من العلاقات والمواقع من الموقف القانوني حتى للموقف الطبي مرورا بالموقف الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي. هذا ضدا على الموقف الطبي العيادي الذي يتعامل مع الحمق من منظور واحد ويفسره من خلال تصور واحد أيضا. كان هدف فوكو في هذين الكتابين بالخصوص هو تحليل النظرة Le regard والخطاب Le langage اللذان يحاصران موضوع الجنون؛ ومع التحليل كان لا بد أن يظهر تمفصل مجموعة من الممارسات الاجتماعية وتشابك المؤسسات من المدرسة حتى السجن. هذا في ما يخص ظاهرة الجنون وأشكال التعامل التاريخية معها لكن الأمور ستختلف كثيرا بل جذريا مع الكلمات والأشياء الذي تناول فيه الفيلسوف العلوم الإنسانية ومقدماتها التأسيسية. وما أضاف هذا الكتاب إلى الجهاز المفاهيمي الفلسفي المعاصر هو بالدرجة الأولى مفهوم الإبستيمي Epistèmé الذي يعني البنية الداخلية غير مرئية للمعارف السائدة في عصر ما. هذا المفهوم تضمن نقدا لاذعا لتاريخ الأفكار الذي يعتمد أساسا مفهومي التقدم والغائية Téléologie في نظرته لتطور الأفكار والعلوم. كان باشلار قد سبق بتقديمه لمفهوم القطيعة الإبيستميولوجية في مجال تاريخ العلوم وسبق لريمون أرون أن طرح أيضا أهمية مفهوم القطيعة في فلسفة التاريخ (كان بينه وبين سارتر سجال حاد في هذا الموضوع) وسبق لأستاذ فوكو نفسه جورج كانغلهم أن طرح وحدة الذات العارفة للشك وإعادة النظر. كان هناك إذن سياق فلسفي معرفي عام شجع فيلسوف "الحقائق المتوحشة" على الدفع بتجربة الاختراق إلى أبعد الحدود معتمدا في ذلك على الفلسفة الألمانية، نيتشه وهيدغر، التي يحاول ألمان اليوم (هابرماس مثلا) التخفيف من "جنونها". لقد تمرد فوكو ضد تقليد "الطمأنينة الفلسفية" و"العلموية" التي تعيد مضغ واجترار الإرث من خلال نفس المفاهيم في إطار التأويل الذي لا ينتهي: تأويل التأويل إلى ما لا نهاية. فبدل البحث عما لم يقل أو عن المنسي في "تاريخ" الفكر راح فوكو يبحث عن النظام الداخلي للمعرفة Le savoir وليس العلم مدينا بذلك –ضد هوسرل وتلامذة الفرنسيين- علموية scienticité العلوم التي تستمد مشروعيتها من العقلانية Rationalisme المقرورة. وإذا ما اكتشفنا البنية أو النظام الداخلي لمعارف عصر ما فسندرك أن تلك المعارف ما هي إلا "اختيارات خطابية" تختلف قليلا عن بعضها وتشترك كلها في مرجعية واحدة هي علة وجودها جميعا. تلك المرجعية لا مرجعية لها سوى نفسها ولا علاقة لها بالممارسات الاجتماعية للآخر، مثلها مثل الوعي La conscience لدى سارتر. هنا يكمن أيضا تمرد فوكو على السائد حيث إنه يضرب التحديدية (الحتمية) Déterminisme المألوفة (الماركسية مثلا) في الصميم دون أن يعني ذلك أنه كان يهدف إلى استبدال "المعياريات" Normativités القائمة بمعيارية خاصة. بعد قراءة أركيولوجيا المعرفة تحصل القناعة أن الأمر يتعلق بتدخل استنفاري لا يرتاح نهائيا لما هو سائد لكن مع ذلك يصعب القول إن فوكو نحج فعلا في محاولاته للهروب من المعيارية: مفهوم الإبستمي مثلا، أليس معيارا لقراءة تاريخ المعرفة؟ أليست مفاهيم أركيولوجيا المعرفة مثل "التشكيلة الخطابية" Formation discursive، الصورية Formalisme، الوضعنة Positivité…الخ في حد ذاتها عناصر معيارية جديدة؟ الأمر واضح لكننا لسنا هنا بصدد نقد أعمال فوكو.
كونه ينفلت لأي تشخيص أمر واضح للعموم على ما يبدو واختلاف المواقع الذي لاحظناه بين الكتابات الأولى وكتاب الكلمات الأشياء الذي اعتبره أحد الدارسين "كتاب المعركة" Livre de combat (المعركة الفكرية التي بدأت مع الستينات في فرنسا بين جيل سارتر وجيل كلود ليفي ستروس وفوكو). مفهوم "الأركيولوجيا" الذي سيطر على الكلمات والأشياء وأركيولوجيا المعرفة سيغيب نهائيا مع المراقبة والعقاب ليعطي المجال لمفهوم الجينيالوجيا. عنصر واحد ثابت ويعود باستمرار في كتابات فوكو سواء الأولى أو الأخيرة منها: فضح الأسس الوهمية لـ"العادي" و"المألوف" وبالتي السعي الدائم والمستمر لإثبات أنه ليس هناك ما يمكن اكتشافه وليست هناك حقيقة كامنة قد تظهر يوما. ما قد نقوله اليوم سيعاد قوله غدا لكن بشكل مختلف يقول فوكو. إننا محكومين بالتأويل إلى ما لا نهاية: تأويل التأويل. يبدو لي أن المؤسسة النقدية التي أسسها فوكو تركز أساسا على العرف norme لكي تبين أنه لا يمكن أن يكون معيارا للحقيقة المفترضة. والعرف مبني في الواقع على التوافق Consensus في حين كان فوكو يسعى لتعزيز نفوذ ما قد يكون عكسا لهذا التوافق Dis-sensus كما يقول Miguel Morey[3]. إذا كان سارتر مثلا قد أحدث قطيعة مع التقليد الفلسفي الكلاسيكي بإلحاحه على أولوية الكينونة على حساب الماهية (الإنسان لا ماهية قبلية له وإنما يصنع الماهية باستمرار) فإن فوكو قد أحدث القطيعة بإلحاحه على ضرورة الخروج من أي عرف كان حتى يتحرر الخطاب من قيود نحافظ عليها عبثا. هنا نعود إلى سؤال طرحناه سابقا: إذا كان فوكو يسعى لتجاوز العرف واختراق التخوم المألوفة، فهل يتحدث هو من خارج العرف؟ أليس ما يقوله هو بدوره عرفا من نوع آخر؟
ليس هذا السؤال جديدا بل طرح قبلنا في مناسبات وسياقات مختلفة غير أن الحسم لم يتم بعد (وهل في الفكر الفلسفي الذي هو عبارة عن بحث مستمر عن المعنى حسم؟)، سواء مع فوكو أو ضده. أعتقد أن فوكو لم يتمكن فعلا من الهروب من هذا الفخ الذي نصبه لنفسه لأنه على الرغم من إلحاحه الدائم على أنه يتحدث من خارج أي عرف، تحول إلى عرف خاص به وهذا ما أسميه بكمين المعنى: حينما نفكر ننخرط منذ الوهلة الأولى في لعبة المعنى، نتكلم من داخله وليس من خارجه والمعنى ليس معنى إلا في إطار علاقة، علاقة الذات التي يمر عبرها المعنى والأشياء التي يستقر على سطحها: لم يهتم ميشال فوكو بالمهمشين مثلا إلا لأنه منح لقضيتهم معنى ما جعله يتحفز لإدخالها مجال الاهتمام الجدي. وحينما يطالبنا مثلا باستبدال النزعة الغائبة بالاعتقاد الراسخ في أن الفكر لا يعرف إلا التأويل إلى ما لا نهاية (الطي Pli بتعبير دولوز وليبنتز من قبله)، أليس ذلك عرفا جديدا؟ تلك لعبة من الصعب الخروج منها. يفضح فوكو سذاجة الاعتقاد في أن الخطاب يمكن له أن يدرك الصواب ويصحح الخطأ ويساعدنا على قبول هذا الموقف بتركيزه الذكي على أنماط الخطاب وليس على "معاني" خطاب معين. صحيح، لقد كان فوكو يسعى إلى "تعرية" أصول العرف أو الأعراف حتى تتضح هشاشتها وهذا كاف ليجعلنا نقول مع آخرين إن فكر فوكو استراتيجية وليس منهجية يمكن الاعتماد عليها لبناء أعراف جديدة. لكن هذا القول لن يمنعنا أيضا من الإلحاح على أن فوكو يزودنا فعلا بتصور معين، بمفاهيم فلسفية وبمعجمية فلسفية قادرة على جعلنا ننطلق من "نظرة" مغايرة للإنسان وما ينتجه على مستوى اللوغوس أو الخطاب. هذا يشجعنا على القول إن فوكو قد نجح فعلا في مغامرات الاختراق لكنه لم ينجح في الحروب من المأزق الأنطولوجي للذات العارفة. هذا المأزق الذي وصل إليه فوكو كان مأزقا فرنسيا بالدرجة والأولى لأن الفكر الفلسفي في ألمانيا والعالم الأنجلوساكسوني اختار عدم السير في منحى نيتشه وإنما استفادوا أكثر من هيجل الذي أغفله الفرنسيون في هذا القرن على الرغم من دروس الثلاثينات التي قدمها الروسي ألكسندر كوجيف لبعض المهتمين من ضمنهم سارتر وميرلوبوني، ومن ثم المجهودات التي قام بها هيبوليت من خلال ترجمته لـ"فينومينولوجيا الروح" لهيجل. ما نلاحظه اليوم في الفكر الفلسفي الفرنسي الذي هيمن عليه جيلان بعد جيل جيل برغسون وليون برنشفيك، هو ظهور جيل ثالث يسمى نفسه بجيل الثمانينات ويمثله كل من لوك فيري وألان رونو. هذا الجيل الثالث يحاول اليوم العودة إلى سارتر الذي خلص الوعي من المثالية المطلقة وأدخله التاريخ باعتباره وعيا يتحدد ليس سلفا وبشكل قبلي وإنما في سياق تاريخي تحكمه آليات الحضور وسط الأشياء Intentionnalité، لقد كانت المغامرة بالنسبة لفوكو وجيله محفوفة بالمخاطر لأنه اختار العمل في حقل لا مداخل ولا مخارج له: حقل اللامعنى الذي يستحق رغم كل شيء المزيد من الجرأة والرغبة في اختراق الحدود المخترقة, المعنى أو اللامعنى… لعبة أنطولوجية لا بد منهاn
[1] - الترجمة الهولندية للحوار تحت عنوان: Ervaring en waarheid, Te elfder Ure, Nijmegen, 1985، ص14.
[2] - D.Eribon, Foucault et ses contemporains, Fayard, 1994, p45.
[3] - مقال في:
Michel Foucault Philisophe, Rencontre internationale, Seuil, 1989