الحضور تذكر للتذكر، وحلول للمنسي فينا كحاضر، إنه تفوق لإرادة قوة من بين الإرادات المحتملة، وخروج للغائب من براثن النسيان نحو الوجود بما هو موجود en tant qu’étant، وحده الإنسان من يستطيع الإيمان بفكرة الحضور، ووحده هذا الكائن من تمكن من نسيان الحضور، أي حضوره كنسيان وليس كحضور، حيث لا تستقيم الحياة ومنطقها العابث إلا بواسطة هذا الأمر، وإن كان قدرا محتوما لوجودنا فإنه أيضا قتل لنفس الوجود، وإقبار لروح الانخراط في الوجود الأصيل، وليس الوجود المزيف الذي نعيش على أنقاضه لحد الساعة.
والنسيان على جانب ضِدِّيدٍ، سلاح ذو حدين، فهو الذي يقينا ألم التذكر، أي تذكر ما نريد نسيانه، كما أنه المسؤول عن نسياننا للوجود الأصيل وانغماسنا التام في الوجود المزيف، النسيان جوهر الحياة وضامنها الأول، إذ من خلاله نستمر في الحياة تفاديا للوقوف عند أكثر اللحظات بشاعة، وعند أشدها حزنا ووطأة على الوجدان، وهو في نفس الآن تخطي للماضي وتحرير لإرادة الحياة فينا، يؤكد نيتشه في مؤلفه considérations inactuelles بخصوص هذا الأمر: " في أصغر السعادات كما في أكبرها، هناك شيء من خلاله نعرف أن السعادة سعادة، والذي ليس سوى إمكانية النسيان la possibilité d’oublier، أو بعبارة أدق: ملكة الإحساس بالأشياء ومدى تعميرها خارج أي منظور تاريخي." من ثمة فلو كان الإنسان لا ينسى، أي أنه لا يمكن إلا أن يسكن اللحظة الواحدة، عندها تتجمد فيه إحداثيات الزمن، وآنذاك فقط يموت كإنسان ويموت أيضا كوجود، إننا ننسى لسبب بسيط ألا وهو الاستمرار في الحياة، كما ننسى أيضا هروبا من البشاعة، إن جوهر الذاكرة هو النسيان وليس التذكر كما يعتقد أغلب الناس، أو كما كانت تعتقد الفلسفة قبل نيتشه.
إن أهم قوة وأهم سبيل للانخراط في النسيان ليس إلا العمل على فهم كيف تشتغل اللحظة في الحياة، فالإنسان الذي لا يريد الإحساس بالأشياء إلا تاريخيا، كمثل الذي نجبره على تغييب النوم فيه، على العموم هناك أشياء حاضرة وجلية، لكن منطقها السليم ليس يكمن إلا في فهمها كنسيان وليس كحضور، صحيح أن الحضور يقاوم هو الآخر جمالية الحياة من خلال عمله الدءوب على قتل النسيان فينان عندها يلعب النسيان لعبته غير المكشوفة عندما يتحول إلى حضور، لكنه ليس حضورا للحضور وإنما حضورا للنسيان، فيعدو النسيان حاضرا، وكلما حضر بقوة كلما غاب الحضور بقوة، أي حضور النسيان كنسيان، من ثمة وحسب فلسفة نيتشه فالإنسان :" غير القادر على الجلوس في عتبة اللحظة ناسيا كل أحداث الماضي، هو الذي ليس يمكن له (...) تطويع اللحظة كانتصار، إنه لن يعدوا أبدا سعيدان والأدهى من كل ذلك ليس بمكنته فعل أي شيء لمنح السعادة للآخرين." هكذا فقد رسم النسيان في فلسفة نيتشه معالم جديدة تحول من خلالها إلى سبب للوجود raison de vivre، وليس إلى شيء توجب النَطُّ من براثنه.
فلتكن الحياة إذن خالية من أي نسيان، ربما كان الإنسان سينقرض بما أنه خاضع لملكة الفهم عكس باقي الكائنات، أو ربما قتل نفسه بنفسه طواعية، إن النسيان يشتغل هو الآخر، إنه قوة خلاقة لا يمكن للحياة أن تستمر في الحياة إلا بواسطته، فالنسيان يغلق تارة باب التذكر والعودة، كما يقفل نوافذ الركون في اللحظة وتحويلها إلى قدر واحد ووحيد، وذلك سعيا على تحقيق مبدأ الاستمرارية ورسم الأمل، والهروب من البشاعة، وعليه فقد توجب منا تقبيل اللحظة انفلاتا منها، وليس الجمود فيها إلى أبد الآبدين، إن إقفال كل منافذ الشعور في بعض الأحيان، والعمل على مسح طاولة اللاوعي، هو فتح لأبواب العبث والفوضى الخلاقة والاستماع إلى ضجيج كلماتنا، حيث يساعدنا هذا الأمر على نسيان ما حدث، حينها قد لا يفكر الإنسان تاريخيا، وإنما يصبح الزمن نسيانٌ ونسيانٌ للنسيانِ، أي أن الإنسان يفكر بمنطق اللحظة التي تشوه الزمن ثلاثي الأبعاد لصالح الزمن الجينيالوجي.
والنسيان أيضا ليس لحظة جامدة، إننا ننسى كي نعلن تشبثنا بالحياة، وننسى كذلك لحظات الشجن سعيا إلى الاستمرار في الحياة، ثم ننسى لحظات الفرح تأسيسا لفرح جديد، هكذا فالنسيان محرك يتحرك، ومعادلة تتوازن بها حياتنا إن لم نقل أنه الحياة نفسها، وعليه فنيتشه يرى في نفس المؤلف المذكور آنفا، أن بقرة ما وعلى عكس الإنسان، لا تعرف لا مللا ولا ألما، فهي غير قادرة على التذكر، مثلما هي ليست قادرة على النسيان، لأنها وبكل بساطة لا تتذكر، وعليه فالغرض من هذا الأمر حسب نيتشه ليس إلا إعلاء من شأن النسيان، إنه ليس فقدانا للتذكر، ولكنه قوة فعالة لها أثرها على الوجود في كل حال من الأحوال، هكذا فالنسيان حسب نيتشه قوة للتحرر puissance de libération، أي أنه من خلالها نتحرر من قيود الماضي ومن ذكرياته، كي نؤسس للحظة أخرى وبنفس آخر.
أن تنسى معناه أنك تعود في التاريخ، لكن ليس بمنطق التذكر وإنما بمنطق البحث عن شيء جديد، والحال أن الفهم الهيجلي للتاريخ كتحقيق لفكرة المطلق، والفهم الماركسي كصراع مادي، ليس يستويان والتفسير الذي أراده نيتشه للتاريخ، حيث يعدو هذا الأخير مفخرة للشعوب والأفراد من خلال منعهم من منطق الحتمية وذلك بواسطة النسيان، إننا نحيا تاريخيا من أجل أن ننسى، وكلمنا نسينا كلما ولدنا من جديد، وكلما حدث ذلك كلما تخلصنا من الأيقونة لصالح السيمولاكر، أي تخلصنا من الأوثان لصالح المطرقة التي تهدم كي تبني من جديد، ولصالح الطفل فينا الذي يلعب ثم ينسى كي يستمر في هاته اللعبة مطلقا.
التذكر موت وقتل لروح الإرادة في الإنسان، إذ بواسطته نحتفظ بالمثال الذي يعدو مرجعا لكل فعل، ومعه نسقط مرة أخرى في مشكل الضرورة، أما النسيان فهو إمكان للعيش في منطق آخر وفي حياة أخرى، إنه تكريس لصراع القوى التي تبسط هيمنتها مؤقتا لصالح قوة أخرى، وعليه فالنسيان يعقلن علاقتنا والماضي، حيث يصبح هذا الأخير لعبة بين يدينا وليس منطقا لكل أفعالنا، النسيان حرية تساعدنا في الاستمرار في الحياة، والتذكر قتل لإرادة القوة فينا.
عندما نحاول مرة أخرى قراءة ثنائية التذكر والنسيان بناءً على منطق الموت، نجد أن هاته الأخيرة هي الأخرى نسيان، إنها نسيان للوجود كوجود en tant qu’être، وتذكر للوجود كموجود، بواسطة الموت نتذكر النسيان، وبواسطة النسيان ننسى الوجود، فتتخلخل مرة أخرى هاته اللعبة، حيث لا يمكن للحياة أن تستقيم بدون موت، مثلما لا يمكن للفلسفة أن تكون إلا عن طريقها ـ الموت ـ، وعليه فقد كان الإغريق أذكياءً عندما قسموا العالم إلى عالمين، عالم الحياة حيث الإله زيوس، وعالم ما بعد الحياة حيث الإله هاديس، إذ حسب الميثولوجيا اليونانية، فهما أشقاء، ومنه فالنسيان ليس يمكن له غلا أن يلازم التذكر، إنهما كَفَّتَيْ الحياة وتوازنهما، هذا وإن كان التذكر مرضا يصيب أخلاق العبيد، فإن النسيان شجاعة وإقدام نحو حياة ما إن تبدأ حتى تنتهي كي تبدأ مرة أخرى وبنفس جديد.