يسعى العالم الرأسمالي اليوم مثل البارحة إلى الترويج لخطاب يعتبر جزءا لا يتجزأ من رهاناته وأهدافه، ألا وهو خطاب العولمة، وذلك باسم المشترك بين الإنسان، وأيضا تحت يافطة المصير العام، وهو ما يجعل من نفس الخطاب ذلك الساهر دوما على تحقيق غرض ربما ليس في وسعنا اليوم الحكم عليه إن من باب السلبية أو الإيجابية، لسبب يكاد يكون إشكاليا محضا، وهو حاجتنا إلى الكونية وفي نفس الوقت رفضنا لكل أشكال التبعية، إذ أن نفس الخطاب الرامي إلى مد الجسور بين الثقافات هو نفس الخطاب الذي يسعى إلى تكريس الثقافة الوحيدة، ونفس الخطاب الساعي إلى نبذ الهوية الوحيدة لصالح الاختلافات المتكررة، هو نفسه الذي يوقظ شرارة التقوقع وما يرافقها من تعصب وغياب للتسامح وهيمنة الجهل على المعرفة، وسيادة الخنوع على الإبداع والتغيير الإيجابي.
لا مفر من فكرة مفادها أن الخطاب القوي هو الخطاب الذي يهيمن، في انتظار ظهور خطاب أقوى له أسسه ورهاناته الخاصة، كما أنه لا هروب من الإشارة إلى أن كل خطاب هو خطاب إرادة قوة أولا وأخيرا، أي أنه في الخطاب الوحيد نجد أنفسنا أمام ثنائية الظاهر والباطن، أي أمام خطاب البراءة وخطاب تحقيق الربح مهما كانت الطريقة، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول دعوة إلى السلام وفي نفس الوقت هي أكثر منتج ومصدر لأفتك الأسلحة، لهذا فخطاب الترويج يكاد يتناقض تماما وخطاب الغاية الرئيسية، على العموم هذه هي بنية كل قوة تسعى إلى الهيمنة مهما كانت أسسها، إن باسم العولمة أو الكونية أو حوار الثقافات، حيث تم تزيين هذا الأمر بتلك العبارات الداعية إلى التسامح وقبول الاختلاف دون أن نجد هذا الأمر على أرض الواقع.
إن أول منطلق توجب اعتباره هو تلك الطبيعة الشريرة للإنسان، الإنسان كائن أناني بطبعه، يميل إلى تكريس خطابه ويسعى دوما إلى الاستقواء على الآخرين، يظهر بمظهر المُخَلِّصِ لكنه يخفي ويضمر ما يظهر، إنها تركيبته منذ الأزل، وربما سيبقى على هاته الحالة حسب معطيات الحاضر، وإلا فلماذا نطور دوما أساليب دفاعنا ومؤسساتنا القانونية ومؤسساتنا العقابية... لهذا قد نرى في خطاب الكونية براءة مخترع وجريمة مستعمل لنفس الاختراع، قد نرى أيضا فيها أداة لتقريب الإرادات العامة والخاصة، وفي نفس الوقت قد نتأمل هيمنتها وسعيها إلى تكريس الخطاب الوحيد.
ماذا تحمل الكونية إذن؟ الكونية هي مد جسور التواصل والحوار بين كل الثقافات، والإيمان كل الإيمان بأنه لا توجد أية حقيقة صائبة، في مقابل خطأ باقي الحقائق، كما لا توجد ثقافة متفوقة وأخرى بدائية، والكونية أيضا فك للحصار الذي تفرضه بعض الثقافات المريضة بوهم الانغلاق، والمرتابة والخائفة من غزو الثقافات الأخرى، الفكر سلمي بطبعه وإذا كان له سلاح فإنه ليس سوى القلم، لهذا تعمل الكونية دوما على النظر لهذا الكائن كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، كما تقرر وبكثير من الثقة في النفس على ضرورة فتح نوافذنا أمام كل قادم تحاورا وتضامنا واحتضانا، لكن متى تبلورت الكونية وسؤال الكونية؟
إن الفكر الفلسفي هو أول من سعى إلى تكريس مبدأ الكونية ضد الغزو باسم الدين، فقد كان هذا الأخير يجبر الناس على اختياراتهم العقدية مخيرا إياهم بين التسليم أو النبذ والإبادة، لكن ومع ظهور الفلسفة الديكارتية توقف ملهمها عند تلك الفكرة الشهيرة التي تؤكد أن العقل أعدل قسمة بين الناس، أي أنه بين الجميع مهما اختلفت منطلقاتهم مشترك رئيسي هو العقل، ومنه فقد تغذى خطاب الكونية دوما من العقل كمبدأ للإنسان عامة، وعليه فإن تلك العناوين الفلسفية التي خاطبت الإنسان من خلال العقل إنما رمت إلى مخاطبته كإنسان وليس كإنسان أوربي، بل إن خصوم العقل أنفسهم وجهوا سهامهم نحو العقل بصيغته الكونية وليس بصيغته الخصوصية، والحال أن المجتمعات الرأسمالية استغلت كونية العقل الذي أرست دعائمه الفلسفة الديكارتية والكانطية، لتحقيق مآرب أخرى تبقى التبعية من بين أسسها.
الكونية نظريا لا تؤمن بالثقافة الوحيدة وإنما بالتعدد الثقافي، أما الكونية تطبيقيا فإنها تعمل على غزو الثقافات أو محوها ولنا في ذلك أمثلة عديدة من قبيل طمس ثقافة الهنود الحمر وثقافات المايا والأنكا والأزتيك... الكونية نظريا اعتبرت التقنية كاكتمال لكونيتها، لكنها تطبيقيا سعي لتكريس تبعية مستهلك التقنية لمنتجها باسم الربح والخسارة، والكونية نظريا مد جسور التعاون بين الحضارات، لكنها تطبيقيا إثارة للفتن وزرع لبذور الكراهية بين نفس الثقافات، من ثمة فإنه لا يسعنا إلا التأكيد أننا بتنا أمام خطاب ونقيضه في نفس الوقت، والحال أن بات على عاتق الفلاسفة الوقوف مطولا عند هذا التحريف الخطير، إننا نقتل اليوم باسم الكونية، ونبيح لأنفسنا ما نريد باسم الكونية، ونسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح باسم الكونية أيضا، في حين أن الغرض من الكونية لم يتحقق وإن مرت عليه قرون عدة.
إن أهم شرخ بتنا نسجله اليوم وأبرز مفارقة أصبح يعيشها العالم، هي مرض بناء الأسوار التي تفصل بين ثقافة وثقافة أخرى، بل إن الأمم التي تتفنن في بناء الأسوار هي نفس الأمم التي تقف دوما خلف الكاميرات متبجحة بسعيها إلى تكريس الكونية، لهذا فكلما رددنا ضرورة حوار الثقافات وتعايش الحضارات كلما أحطنا أنفسنا بأسوار عملاقة تبين مدى صعوبة تحقيق وهم الكونية، وأنه مجرد مطية لتحقيق أغراض أخرى، وعليه فلنتأمل مثلا السور العازل بين أمريكا والمكسيك، وسور كشمير الذي يفرق بين الهند والباكستان، وسور سبتة ومليلية الذي يفرق بين المغرب وإسبانيا،