«"نحن" سكان جنوب الحداثة، الذي نتفلسف بلا "يوم ميتافيزيقي يخصنا"»
فتحي المسكيني
«ليس من السهل دائما أن يكون المرء هيدغريا»
دولوز-غتاري
تقديم
نتج عن نشر سياسية "الأمر الواقع"، وممارسة السلطة كونيا بمنطق التحكم والمراقبة والإخضاع والعقاب، إعادة التفكير في منطق الوجود المشروع، وفي أفضل طريقة لتدبير حياة الناس وتربيتهم. لقد شغلت طريقة حكم الأفراد والجماعات والشعوب جل الفلاسفة والسياسيين والمفكرين الأخلاقيين. فمنذ المدينة- الدولة اليونانية ظهر تفكير جدي في طريقة حكم الناس وتدبير حياتهم وشؤونهم الإجتماعية والسياسية، وهذا يعني البحث عن أفضل شكل للحكم، يسمح بانخراط المواطن في الحياة ورعاية وجوده في التاريخ. لكن مع ولوج عصر "الإمبراطورية" وتراجع دور الدولة الوطنية والقومية، افتقد إنسان الجموع البوصلة، وتاه في دروب لا تؤدي إلى أي مقام.
يمنحنا سؤال الأستاذ فتحي المسكيني، إمكانية ولوج عصرنا -الإمبراطوري الجديد- فلسفيا عبر بوابة قراءة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر:
كيف نقرأ هيدغر في ضوء العصر الإمبراطوري الذي بدأت أولى ملامحه مع بداية انهيار نموذج الدولة-الأمة وانحسار مشروعيات السرديات الكبرى؟(1).
يفتحنا المسكيني، على شكل جديد للعالم سماه ب"الإمبراطورية" على غرار أنطوني نيغري وميشيل هاردت. هكذا ينخرط في مساءلة وجودنا الراهن، المتميز بشكل جديد من السيادة على البشر، في ظل جهاز "حكم بلا مركز أو إقليم" ولا حدود. إنه "نظام" يؤبد الوضع الراهن للقضايا ويتغلل في أعماق اليومي ويقضم فضاء العالم كرة بعد أخرى ويخلق كل مرة ملامح العالم الذي يسكنه. إنه "سلطة حيوية تسبح في الدماء لكنها تهدي عملها للسلام - سلام دائم وكوني يقع خارج التاريخ"(2).
فكيف يمكن ضمان وجود مشروع في عصر الإمبراطورية؟
فتحي المسكيني والقراءة الجدية لهايدغر
يؤكد فتحي المسكيني على أن نصوص هايدغر تحمل هما عمليا وبراغماتيا جذريا قلما أخذ مأخذ الجد، أي فلسفة أولى عملية مكتوبة في لغة الأنطولوجيا. هكذا تصبح عبارة "الوجود في العالم" لدى هايدغر بوصفها استباقا إشكاليا طريفا للوضعية ما بعد الحديثة متى تأولناها في مقام إمبراطوري يقع ما وراء أفق الذات الكلاسيكية التي تأسس عليها مفهوم الدولة-الأمة...، كما يصير الفرد ما بعد الحديث أو الفرد الإمبراطوري حيوان مدني ما بعد-قومي وما بعد- شخصي(3). في ظل هذا الوجود الإمبراطوري، يحدرنا المسكيني من العماء السياسي والفكري، في مقاربتنا الوجودية والإستطيقية، خاصة مع قصورنا في بناء ما يسميه ب"الدين المدني" الذي هو الشرط التاريخي للتسامح بين العقول. فالإحساس بخطورة هذا القصور على وجودنا، هو الذي يفترض تكوين "المناضل الإمبراطوري"، القادر على مواجهة عصر الإمبراطورية وإنتاج أجساد "ما بعد- إنسانية" قادرة على الحرية، أي قادرة على بناء مكان جديد ومتين للوجود ومقام حر في العالم.
إن عصر الإمبراطورية ينشر إحساسا عميقا بالوحشة والخوف والرهبة والقلق(4)، يرمي بالكائن في وجود "غير مشروع". إنه نوع من انحطاط الحياة اليومية، في فضاء محكوم من قبل مجهول، أي تحكمه "عمومية" لا شخصية بتعبير فتحي المسكيني. حيث يصير وجودنا في العالم، هو وجود من أجل الموت، أي الظاهرة الروحية المميزة للعصر الإمبراطوري، والتي نتجت عن الإنتاج النسقي للجثث كهدف تقني وحضاري ونشاط غائي تشرف عليه مؤسسات تطور أداءها على نحو رقمي.
هكذا يتحول "القلق" الهايدغري تحت تأويل المسكيني إلى معيش وضياع خلقته الحروب العالمية، لهذا يدعو إلى البحث عن طريق للتحرر.
فهل يمكننا تحقيق التحرر من القلق الوجودي عن طريق "الصداقة"، أو " السياسة الكبرى"، أو "الإقامة الرحالة"؟.
يستبعد المسكيني العودة إلى أرسطو، أو نيتشة، أو دولوز، في حين يمنحه هيدغر إمكانية لجعل "القلق" مفهوما سياسيا ومدنيا جذريا، في ظل معنى أصيل للوطن أي "رعاية الوجود"، وإنسان إمبراطوري "راعي للوجود". تستهدف هذه الرعاية، ليست فقط تلبية حاجيات الكائن البشري في الخبز والمأوى، ولكن في الحصول على "الدفء"، أي الإهتداء إلى المقام ضمن حقيقة الكينونة التي تجد مأواها الأول والأخير في اللغة(5) وليس في الفلسفة. لذلك ينصحنا فتحي المسكيني بقليل من الفلسفة، بحيث لن يكون التفكير المقبل فلسفة(6).
إن حقيقة الكائن ووجوده المشروع، لا يمكن أن تؤسسه لا الأنطولوجيا ولا الإيتولوجيا، بل فقط حقيقة الكينونة التي هي سند كل سلوك. على هذا الأساس تنفتح فسحة مفهوم "الرعاية" كخيط هاد لتهيئة التفكير في العالم بما هو مدينة الوجود الكونية(7). ورغم الإرتماء في حضن وجود تسوده التقنية، فتكفي عملية التفكير في غربة الإنسان الحديث عن موطنه(8) والفعل بشكل عالمي، حتى يتحقق الوجود المشروع في العالم(9).
في الحاجة وعدمها إلى مفهوم "الكينونة"
تتحدد غربة الإنسان في العالم المعاصر، عالم التقنية، في نسيان الكينونة. لذلك فالرهان معقود على الكينونة التي هي ما يحررنا نحو الحرية. ووحده هذا التحرير هو كنه الحرية(10). والحرية الحقيقية هي تلك التي لا تنطلق من كون الإنسان حيوانا "حاسبا" "عادا" خاضعا لمطلب الربح موجها من طرف البحث عن "الإستصناع" و"الإستعمال" و"الإستهلاك"وإنما تنطلق من من التأمل في كل شيء بدءا من كنهه.... إن الحرية الحقيقية لا تنبع من من نداءات ناجمة عن الحاجة وعن رغبة الفرد والجماعة في النمو والإزدهار، وإنما هي تنبع عن مطلب عدم استكراه الكائن وعدم إخضاعه إلى مسيس الحاجة الإستعمالية الإستصناعية الإنسية(11). هكذا تصير الحرية شرط إجلاء كينونة الكائن، وشرط إمكان فهم الكينونة في الآن ذاته. لكن هذا الإجلاء وهذا الفهم لا يتحدد بعنصر الإرادة والمقدرة، بل بالإصغاء إلى نداء الكينونة. فبنقد مفهوم الإرادة والمقدرة، لن يتبقى أمام الإنسان سوى الإصغاء والإنتظار، مادام أن الكينونة هي ما يحملنا على الإنتظار، وكون كنه الإنسان يكمن في كونه "ذاك الكائن الذي ديدنه أن ينتظر"، أضف إلى ذلك صعوبة مقاومة هيمنة التقنية حسب مارتن هايدغر.
يصعب احتمال هذا الإنتظار أمام خطر داهم يستوجب " أن نتخذ إجراءات مستعجلة لإنقاذ الحضارة المهددة ". فهل يكفي انتظار "أن تنفتح لنا الكينونة من ذاتها، وأن تستبد بنا وتستأثر"، و"أن نترقب إفضالها وإبذالها" حتى يحل الخلاص؟، كما يقول محمد الشيخ بصدد مارتن هايدغر. وما دور هذا الإنتظار بالنسبة للكيانات الغائبة داخل خارطة "تاريخ الكينونة"؟، أي "الأسف الفلسفي" بتعبير فتحي المسكيني.
يجب التأكيد، وبدون لف ولا دوران، على أن تفكير الفيلسوف الألماني في الكينونة، كان موجها لرعاية مصير الأمة الألمانية، خاصة بعد إهانة العنصر الجرماني في "قصر فرساي" بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. كما وجب الإنتباه إلى تلك الإشادة التي خص بها مارتن هيدغر الإغريق كأصل للفلسفة، وتجميد حركة الإنتشال الإقليمي بين الكينونة والكائن، وبين الإقليم اليوناني والأرض الغربية التي أطلق عليها الإغريق (بحسب هيدغر) إسم الكينونة(12)، ويطلق عليها كتاب ما بعدها الحداثة وأصحاب خصوصية "النحن" إسم الإمبراطورية. هكذا كفت الكينونة بمقتضى بنيتها، عن تغيير الإتجاه كلما اتخذت لنفسها توجها؛ كما أن تاريخ الكينونة أو الأرض هو تاريخ تغيير اتجاهها وانتشالها الإقليمي في إطار التطور التقني- العالمي للحضارة الغربية التي وضع الإغريق مبادئها الأولى، ثم لتعود فتستقر فيما بعد على الإشتراكية الوطنية(13)، وعلى الديمقراطية المسيحية مع العصر الإمبراطوري. لا يمكن أن نطمئن لتأويل ينتشي بشعار النهايات، وتبرئة أنظمة سياسية وإيديولوجية من الفضاعات التي ارتكبت في حق البشر والطبيعة، ولا إلهاء الناس عن طرح الأسئلة الحقة حول حياتهم ومستقبلهم في عصر تسودة العولمة، أي الرأسمالية المتوحشة. فهؤلاء الناس ليست لهم رغبة في تأويل العالم ولا البحث في "نسيان الكينونة"، بل همهم الأساس هو الإنفلات من قبضة الرأسمال. يكفي الآن متابعة ما يحدث في العالم من احتجاجات ومظاهرات واعتصامات لمقاومة الفساد والسرقة والإرتشاء، وتخريب الطبيعة(المقام)، والقوانين الجديدة للعمل، وتنظيم كيفية الحياة وأسلوب العيش(التقشف)، حتى يتضح ما آل إليه مفهوم "الرعاية" الإجتماعية و"التنمية" الإقتصادية و"الديمقراطية" السياسية.
فهل يساعدنا "تعلم الجوار "(14) والتدرب على "إيتقا الإختلاف" التي لعب مارتن هايدغر دورا طلائعيا في إخراجها عبر إيتيقا اللغة، في عبورنا إلى العصر الجديد وتقرير مصيرنا هنا والآن، أم أن التحول العميق للفكر يحتاج إلى التراث الأوربي وإلى تملك جديد لهذا التراث. لأن الفكر لا يتحول إلا بالفكر الذي له المنبع عينه والمصير عينه(15).
من نقد اللأخلاقية والإقامة الرحالة إلى تمجيد العقل والحوار
يشير فتحي المسكيني إلى ما يسميه ب"طرافة" بعض الفلاسفة الإستثنائيين، و"الشخوص المعنوية" التي اعتمدوها في قولهم الفلسفي، جعلت منهم "ملحدين نسقيين". والأمر هنا يتعلق بمذهب في الحياة، شأن فريديريك نيتشه الذي جن بعدما تماهى مع شخصية "ديونيزوس الفيلسوف"(16). لهذا وجب الإحتراس عند التعامل مع هذا الرجل المجنون، اللأخلاقي، الخارج عن القانون...، والبحث فقط عن "نيتشه الذي يهمنا" وعن "المكان الذي يناسبنا في أفق نيتشه"(17). لكن قبل تمييز نيتشه الذي يهمنا، يتم عرض صوره المتعددة: نيتشه الفيلولوجي؛ المؤرخ "الإستيطيقي"، الناقد "ما بعد رومانسي"، و"الوضعي السعيد". يرى فتحي المسكيني أن كل هذه الأشكال من نيتشه يمكن احتمالها(18). لكن نيتشه الذي لا يحتمل هو ذاك الناقد الشرس للأخلاق، الذي وضع سؤال الأخلاق موضع تساؤل. لا يتحمس المسكيني لطرافة هذا الفيلسوف(فيلسوف الملة)، خاصة مسه بقيمة الإعتقاد بما هو سلوك أخلاقي يستخدمه نمط من الحيوانات من أجل البقاء(19). لذا وجب عدم احتمال تعامل نيتشه مع الإعتقاد وكأنه يتعامل مع أي سلوك أخلاقي آخر. يستخدم فتحي المسكيني معرفته و"انتماءه" لمواجهة نيتشه "المربي"، ليحذر من أفكاره وفلسفته، لأنها تعبير عن أعراض مرضه، وليست تعاليم زرادشت الممكن تدريسها للأجيال المقبلة(20). لهذا لا يجب حتى التساؤل عن نيتشه ونحن - يقول المسكيني - مادام إنسان شرق وجنوب المتوسط يواصل "الحياة العادية"، بعد موت الإله الأخلاقي في أفق الإنسانية الأوربية.
لم يحتمل فتحي المسكيني أيضا طرافة جيل دولوز وفكرته عن "الإقامة الرحالة"، أي تلك المطية الطريفة لممارسة نمط لطيف من "الخارجية"، عن ربقة "المدينة/الدولة"، على حدود "المفكر الخاص" الذي قال به صديقه ميشيل فوكو. نفس الطرافة تظهر في سؤال المسكيني عن فكرة "الخارج"، يقول:" أي فكر يمكنه أن يزعم أنه "فكر الخارج" الذي صبا إليه كتاب الإختلاف في فرنسا لبعض الوقت؟(21). كما صار سؤال دولوز عن "ما هي الفلسفة؟"، هو الآخر طرافة، على اعتبار أن كتابة تاريخ الفلسفة يجب حسب المسكيني أن يأخذ صيغة سؤال:" من هو الفيلسوف؟" حتى يسهل تقديمه إلى محكمة "ملتنا". هذه الملة نفسها، هي التي أيقظت فيلسوفا آخرا من سباته "الغربي"، أو سباته "الحديث"، أو سباته "النقدي"، ومنحته "الروح" الإيتيقية وضربا آخر من الحياة، وهو ميشيل فوكو.
لكن مقابل سرد هذه الطرائف، يبدي فتحي المسكيني حماسه لمجهود هوسرل في الدفاع عن "إنسانية أوربية"، وهي مناسبة استثنائية للطمع في اقتراح مفهوم "إنسانية غير أوربية"، تقوم على احترام الخصوصية المتعالية لإنسان جنوب وشرق المتوسط. في هذا السياق، تكلم الأستاذ عن إنسانية "إسلامية"، في حين منح للأسويين "إنسانية أسيوية" وللأفارقة "إنسانية إفريقية". إن دفاع المسكيني عن إنسانيته، تتطابق مع طموحه في طرح تأويله للحداثة بعد فشل نقادها، وذلك باقتراح "حداثة مغايرة"(22)، مخالفة لمفهوم "الغيرية" الغربي، ويرى أنها مغايرة تخص "النحن"؛ تخصنا وحدنا، أي حرية أن نكون محدثين على طريقتنا، أو "حرية الحداثة" كشكل غير مسبوق من الفضيلة.
هكذا اكتشف أخيرا فتحي المسكيني الحل السحري في عصر الإمبراطوية، إنه الحرية - القيمة الصورية أو الشكلية التي يصعب تسميتها حتى بقيمة، حسب إريك فايل- التي تطرح مشكلا من نوع جديد يقع خارج "الغيريات"(23). يتكون هذا المشكل من "جملة من العناصر القلقة"، التي وجب التفكير فيها "بلا مفهوم"، فهي أقرب إلى لعبة لغوية. إنها مغايرة مسالمة لا تبحث عن ثأر أو اعتراف، يطلق عليها المسكيني "حرية النسيان"، إنها بدون إرادة، فيكفيها تلك الرغبة في ابتكار "فن الرجاء الحر" والكلام عن "إله قادم"، إله هايدغر المخلص كآخر إله.
فتحي المسكيني والمقاومة: دفاعا عن روح الشرق
تصل قمة تمجيد الخصوصية عند المسكيني حين يقول:" نحن نملك بنى ذاتية وسيرورات إنتاج ذاتي وهووي في صحة جيدة وتعمل بكامل سرعتها ومداها"(24). وهنا يشيد بالمعنويات الميتافيزيقية العالية، وعدم معاناة أمراض العدمية التي عانها "الإنسان الأخير". ويذكر بسبق التوحيديين في اكتشاف معنى "حرمة" الحياة الإنسانية وخاصة الدائرة الإنسانية التي ينتمي إليها الأستاذ، وهي "الإنسانية الإسلامية". كل مظاهر هذه الخصوصية تجعل استمرار الحياة كملكية أخلاقية لدينا، يقول المسكيني. هكذا تصبح المغايرة قدرة فذة على الإقامة داخل أشكال الحياة بلا هوية، وعمل على استرجاع "حق المقاومة" في صيغة وعد أو شكل معين من الرجاء، كما عند هايدغر، إنها "غضبة بلا عمل". فالطموح الفريد للإنسان ومنه الفيلسوف، في عصر اللإمبراطورية هو الإنتماء إلى العالم بأخلاق مؤقتة ذات مدخلين وجيهين، هما: الإستعمال العمومي للعقل والحوار، وهو طريق تحول فيلسوف الإمبراطورية إلى مربي جذري. أما أصحاب الإعتذار الرواقي، والإستقالة الكلبية والضحك الديمقريطي، فلا مكان لهم في عالم الكينونة، وإقامتهم بين الجموع غير مشروعة.
إن كلام فتحي المسكيني عن الأخلاق المؤقتة، يعبر عن غاية التربية في كنف الجامعة، وعن دور الأستاذ العمومي كأمين سر أخلاق "النحن" في عصر الإمبراطورية. إنها الأخلاق الفاضلة والحقة، الموجودة في التراث العربي- الإسلامي، والشرقي، والتي تحتفظ بتقليد إيتيقي غابر، محفوظ بين ثنايا كلام الفرابي(25). أما فلسفة "الآخر" فلن تنفعنا، على اعتبار أننا فقط "مشروع مجتمع"(26)، منذ حوالي خمسة عشر قرنا. لذلك يجعل المسكيني من انغلاق قوس الأخلاق المسيحية منذ نيتشه بواسطة تجربة العدمية، مناسبة لفتح سبيل بناء إتيقا موجبة تملأ الفراغ المفزع الذي خلفه انزياح الأخلاق المسيحية، والإنسانية "الحديثة" المريضة(27)، التي من واجبها الأخلاقي التغذي من الداخل من التراث الشرقي الذي هو تراث إتيقي في جوهره، يؤكد الأستاذ المسكيني. هكذا يحقق فيلسوف الإمبراطورية مقامه المدني الجذري عن طريق تغلبه على الوحشة والرهبة والخوف والقلق؛ أي اللاوطن، وتمتعه بالحرية كاحتفال جذري بالأبدية، وبناءه ل"اصطناعية متينة للوجود" في فضاء الإمبراطورية، ترتب للبشر وجها جديدا من المقام الحر في العالم(28).
خاتمة
تبدو إقامة الكائن البشري في عصر الإمبراطورية مهددة بسبب الأزمات والحروب، فهل يكفي الإلتحاق بالشرق، لرعاية "الكرامة الإنسانية" ومنح مصداقية للفلسفة، كما فعل هيدغر عند التحاقه بالإغريق عبر الألمان في أسوإ لحظة من تاريخهم؟. يجب التأكيد مع دولوز، أن هايدغر، هذا الأستاذ الصارم، كان أكثر جنونا مما يبدو عليه، فقد أخطأ الشعب والأرض والعنصر، ذلك أن العرق المنادى به من قبل الفن والفلسفة ليس هو العرق الذي يدعي نقاءه. ويبدو أن فتحي المسكيني يريد السير على خطى هيدغر "الأستاذ" العمومي، لكن في عصر مختلف، إمبراطوري، يمكن أن يضيع فيه حتى الكائن البشري المزود مسبقا بالروح الإستثنائية، ذات المنبع الإغريقي. فمع انتفاء المعالم التوجيهية والحواجز الواقية داخل عصر إمبراطوري مفتوح على جميع الإحتمالات، من السهولة الإرتماء في وجود غير مشروع. لذلك ينصح الأستاذ محمد الشيخ بمعية هايدغر بإعداد الإنسان أحق الإعداد للتعلق بحقيقة الكينونة وتحديد شروط إقامة الإنسان في الأرض، مع الإقرار بانتماء كنه الإنسان إلى الكينونة، وهو دور ما كان من شأنه أن يحط من عظمة الإله وجلاله(29). فبلا كينونة لا شيء ثمة يكون، ولا حدثا يطرأ، ولا كائن يحدث. لكل هذا وجب تحقيق التعالق بين الإنسان والكينونة، كما يدعو محمد الشيخ. ومن شروط تحقيق هذه الغاية هو، أن يفقد الإنسان السمات التي بها ميزته الميتافيزيقا (الذاتية والعاقلية) ، وأن تفقد الكينونة بدورها السمات التي أسبغت عليها (الحضور، الفعل، الديمومة، القوة).
فهل يقبل الأستاذ فتحي المسكيني بهذا الفقدان؟
الهوامش:
1-فتحي المسكيني: هيدغر وراعية الوجود في عصر الديجيتال: مدخل إلى قراءة سياسية، عدد 3995، موقع مؤمنون بلا حدود، 22 ديسمبر 2016.
2-فتحي المسكيني: هيدغر وراعية الوجود في عصر الديجيتال: مدخل إلى قراءة سياسية ، نفس المرجع.
3-يقول المسكيني:"تصبح مفاهيم الدازين واليومية والإنحطاط والقيل والقال والهم والعمومية والعالمية...إلخ، مفاهيما عملية وبراغماتية جذرية، ومن تم تصرف في طبقات خافية منها دلالة مدنية وسياسية"، الفيلسوف والإمبراطورية، نفس المرجع.
4- "على اعتبار أن الإقامة في المدينة، - مدينة العدد والمعلومة والبضاعة والوثن والصورة والآلة، تقطع الإنسان عن كيانه، ومن تم تقدف به في ضرب من "فقدان الوطن"، الذي فيه ليس يتيه الناس، بل ماهية الإنسان"، فتحي المسكيني: هيدغر وراعية الوجود في عصر الديجيتال: مدخل إلى قراءة سياسية ، نفس المرجع.
5-يقول فتحي المسكيني:"رب هبة تكمن في أنه في الفكر تأتي الكينونة إلى اللغة. فإن اللغة هي مسكن الكينونة. وإنما في هذا السكن يقيم الإنسان. إن المفكرين هم الساهرين على هذا السكن. إن سهرهم هو ما ينجز تجلي الكينونة، من جهة ما يحملون هذا التجلي إلى كلم اللغة وكانوا عليه في اللغة حافظين" كتاب: التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل، مرجع سابق، لبنان، الطبعة الأولى، مارس 2011، ص193و194.
6- فتحي المسكيني: التفكير بعد هيدغر...، مرجع سابق، ص208. يؤكد مارتن هايدغر أن "الخطر الأقبح والشنيع هو الإنتاج الفلسفي"، وهو أيضا من أعلن "نهاية الفلسفة" .
7-"، فتحي المسكيني: هيدغر وراعية الوجود في عصر الديجيتال: مدخل إلى قراءة سياسية ، نفس المرجع.
8-يشير فتحي المسكيني إلى أن نيتشه، هو آخر من جرب هذه الغربة. على أن ذلك كان بلوغ الغاية في اليأس من المخرج. انظر كتاب فتحي المسكيني: التفكير بعد هيدغر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل، مرجع سابق، ص197.
9-يقول فتحي المسكيني:"إن Halt إنما تعني في لغتنا الرعاية. إن الكينونة هي الرعاية التي تحفظ الإنسان ضمن ماهيته المتوجدة بحيث تؤوي التوجد في اللغة"، كتاب: التفكير بعد هيدغر...، مرجع سابق،ص206. وللقارئ حرية كاملة في تأويل Halt.. .
10- محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر هايدغر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص556.
11- محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر هايدغر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص558و559.
12-جيل دولوز وفيليكس غتاري، ما هي الفلسفة، ص108.
13-جيل دولوز وفيليكس غتاري: ما هي الفلسفة، ص108. نثير في هذا الهامش مفهوم"الأصل" ومفهوم"الكينونة":
× مفهوم"الأصل": يقول جيل دولوز وفليكس غتاري:" إن علاقة الفلسفة الحديثة مع الرأسمالية تنتمي إلى الجنس نفسه الذي تنتمي الجنس نفسه الذي تنتمي إليه علاقة الفلسفة القديمة باليونان: فهناك اقتران مسطح محايثة مطلق مع وسط اجتماعي نسبي يعمل هو أيضا وفق المحايثة (...). تعيد الرأسمالية إحياء العالم الإغريقي على هذه الأسس الإقتصادية والسياسية والإجتماعية: إنها آثينا الجديدة "، كتاب ماهي الفلسفة؟، مرجع سابق، ص111. . تبدو الإشادة بالأصل متأصلة في الفكر الفلسفي الأوربي حتى عند فلاسفة الإختلاف، الشيء الذي يطرح تساؤلات حول استمرار تقليد فكري مهموم بالمركزية والذاتية المتعالية.
×مفهوم "الكينونة": يتميز مفهوم "الكينونة" الذي هو محور فكر هايدغر ب"الغرابة" و"الغموض" و"العجب" -يؤكد الأستاذ محمد الشيخ- وخاضة فكرة أن الكينونة "متناهية"، ويقول:" ولئن أنبأ هذا الأمر عن افتتان هايدغر بفكرة "التناهي" و"الموت" حد تقريظها كل التقريظ، فقد أنبأ هو أيضا عن "تخم" من "تخوم" فكره –لعل أعقدها- صعب دركه كل الدرك. بل إنه وشى باستحالة التقريب بين فكر هايدغر واللاهوت البروتستانتي. في هذا السياق طرح الأستاذ محمد الشيخ الأسئلة الآتية: ماذا يعني تناهي الكينونة، خصوصا وأن تاريخ الفلسفة انشد دوما إلى فكرة "عدم التناهي"؟ وماذا يفيد أن الكينونة متناهية؟ وما أثر ذلك في أنظار هايدغر الفلسفية بشأن "الإنسان" و"الكائن" و"الكينونة"؟ تلك أسئلة يظل تقحمها عنا ممتنعا"، انظر كتاب: نقد الحداثة في فكر هايدغر...، مرجع سابق، ص38و39.
14-فتحي المسكيني: التفكير بعد هايدغر أو الخروج من العصر التأويلي للعقل، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2011، ص151.
15- فتحي المسكيني: التفكير بعد هايدغر أو الخروج من العصر التأويلي للعقل، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، مارس 2011، هامش رقم1، ص151.
16-فتحي المسكيني: الهوية والحرية نحوأنوار جديدة، جداول، لبنان، الطبعة الأولى، فبراير 2011، ص179.
17-فتحي المسكيني: الهوية والحرية...، ص184. يطلق محمد الشيخ على نيتشه، "الخبول"، الذي أعلن أمام الملأ "إن الإله قد مات"، كتاب: نقد الحداثة في فكر هايدغر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص674. وهذا "الإشهار" يدخل فقط في باب "آداب نقل آراء الغير"، ففد كان مفكروا الإسلام على دراية بهذه الفكرة، يؤكد محمد الشيخ، في الهامش362، نفس الصفحة أعلاه. يتماثل هذا الموقف مع استبعاد هايدغر لقدرة نيتشه على إدراك كنه الكينونة، الحط من قيمة فلسفة هي نفسها "تيولوجيا" بتعبير الأستاذ الشيخ. لكن أمر معرفة كنه الكينونة، يصبح مستساغا مع "نور الشرق" القريب من الكينونة، وخاصة مع رجال ونساء التصوف، فالأمر أمر بيان.
18-يقول المسكيني في الصفحة 183 من كتابه: الهوية والحرية...مرجع سابق:"إذ طالما ينحصر الخطر في الثورة الجامحة على الإستيطيقا الحديثة والثقافة الحديثة وإرادة المعرفة الحديثة، فإن نيتشه الذي يبدو في صورة ناقد جذري للفن والثقافة والعلم ويهم بأخذ مكان كانط وشوبنهاور بفضل تملك خاص لموسيقى فاغنر، نيتشه هذا، الذي يأخذ هيئة المربي الحقيقي للأجيال تحت هدي برنامج عبقرية حرة ومهذبة، هذا الشخص النوعي يمكن تدجينه". لكن ما لا يمكن احتماله مطلقا هو نيتشه "الملحد"، "اللأخلاقي"، الذي قال ب"موت الإله". ليس الإلحاد ولا موت الإله -حسب دولوز وغتاري- مشكلا بالنسبة للفلسفة؛ لا تبدأ المشكلات إلا فيما بعد .... فهناك دائما إلحاد يمكن استخراجه من أية ديانة. انظر جيل دولوز وفيليكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ص105.
19-فتحي المسكين: الهوية والحرية...، ص188. في نعث المسكيني لنيتشه ب"فيلسوف ملة"، انظر الفصل الخامس، من كتابه: الهوية والزمان تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001.
20-كان نيتشه يحلم بخلق كراسي جامعية لتلقين تعاليم زرادشت. لكن فتحي المسكيني كان يخشى من هذا العدمي الذي راهن على اختراع فكرة أرستقراطية عن الجامعة لا تؤدي إلى إلى التفريط في المكاسب المدنية لواقعة الحداثة، انظر فتحي المسكيني: الهوية والزمان تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص162.
21-فتحي المسكيني: الهوية والحرية...، مرجع سابق، ص2078
22-يقول فتحي المسكيني:" إن نقاد الحداثة لم يطرحوا مسألة الحداثة المغايرة أصلا ولا فكروا بها. ذلك بأن الحداثة المغايرة هي منزع غير نقدي تماما(تشديد من الكاتب لغير نقدي)، كتاب الهوية والحرية...، مرجع سابق، ص212.
23-حسب المسكيني، هناك غيرية احتفائية كما في "بيذاتية" عند الفينومينولوجيين من هوسرل إلى ريكور، وغيرية حدادية كما في "آخر الآخر" اليهودي بعد المحرقة من أدورنو ووليفيناس إلى دريدا معين.
24-فتحي المسكيني: الهوية والحرية...، مرجع سابق، ص221. نثير في هذا السياق تمجيد فتحي المسكيني لما يسميه ب" أنفسنا العميقة"(الإسلام) و"أسلافنا العظام"(المسلمين التاريخيين)، مع إمكانية تطوير "حداثة إسلامية"، ويتجنب كل كلام عن تلك الأجساد التي عمرت هذه البقعة الجغرافية التي تمتد جنوب وشرق البحر المتوسط، كالأمازيغ والأقباط والأكراد والأفارقة، و.... إن فتحي المسكيني ملتزم بالعبارة الجامعة لمشروع مارتن هايدغر الفكري، والتي تتلخص في:"استذكار البدء، واتخاذ القرار حول المستقبل". والبدء عنده يتحدد ب"كل ما قالته العرب عن نفسها منذ القرن السابع الميلادي"، فلنتظر أن يتخذ العرب القرار حول المستقبل...؟. أتساءل أخيرا، في هذا الهامش، عن سبب إعراض المسكيني عن دور الشعر في استدعاء "المقدس" كما فعل هايدغر أثناء تأويله لشعر هولدرلين. إذ من شأن "المقدس" أن يؤسس بمجيئه بدءا جديدا وتاريخا آخر. لقد أدرك شاعر ألمانيا الكبير أن الشأن الضئيل إذ يحدث -أي زواج الأرض والسماء واحتفال الآلهة والبشر- ما كان بالأمر الصغير الحقير وإنما الأمر النفيس هو كان . أولم ير هايدغر أن الإنتماء غير النهائي الذي يحدث بين رابوع الأرض والسماء والناس والآلهة، إنما الشأن فيه أن "يزدهر في المكان الفقير"، أو في المكان المستتر الذي لا عجعجة فيه ولا ظهور. انظر محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر مارتن هايدغر، مرجع سابق، ص622.
25-انظر القسم الثاني من كتاب "فلسفة النوابت"، مولد "الإيتقا" عند العرب الفارابي شاهدا، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1997.
26-فتحي المسكيني: ينبغي الدفاع عن الدولة....!، موقع الأوان، 28 يوليو 2014.
27- فتحي المسكيني: الهوية والزمان تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"، مرجع سابق، ص251.
28- فتحي المسكيني: هيدغر وراعية الوجود في عصر الديجيتال: مدخل إلى قراءة سياسية ، مرجع سابق.
29-محمد الشيخ: نقد الحداثة في فكر هايدغر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص685.