قراءات فلسفية في كتاب : الدين و العلمانية في سياق تاريخي لعزمي بشارة (كانط وهيغل ونقض عملية تفنيد الدين) - كمال طيرشي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

سعى المفكر عزمي بشارة في هذه الجزئية من كتابه: الدين و العلمانية في سياق تاريخي إلى بيان أن الدين ليس عبارة عن خزعبلات أو حكايات خرافية أو مجرد تصورات فلسفية خاطئة يحملها الفهم الشائع للبشر، كما أن ظاهرة الإلحاد و ما يجبلها من مقولات لا ترقى إلى أن تكون نظرية علمية قائمة بذاتها، كما ينفتح بشارة على المقاربات الفلسفية التي جاء بها الفيلسوف الألماني عيمانويل كانط، و التي تؤكد أن موضوع العقل مغايراً تماماً لموضوع الدين، بحكم أن المفاهيم الجوهرية أو بالأحرى النومين لا يدان للعقل البشري المجرد حذقه بوسائله و آلياته الفهمية فهو يوجد خارج الفاهمة البشرية التي لها قيومية معرفة الظواهر الفيزيقية المجردة التي تدرك بمنطوق العقل أما المفاهيم النومينية فهي من المفاهيم التي اضطرت العقل إلى القول بها، تلافياً لمشكلة النقائض ( تكافؤ الأدلة في البرهنة على الأشياء الماورائية الغيبية) وكذا تمهيده للتأسيس لفلسفة أخلاقية مبنية على أخلاق الواجب لذات الواجب[1].

ويبقى المضمون الحقاني الذي يسعى إليه العقل العلمي مرتهنا بالأمل ، من منطوق الأسئلة الكانطية الشهيرة : ماذا أستطيع أن أفكر؟ ( المرتبطة بالعقل المجرد) ، وماذا أستطيع أن أعمل؟ المرتهنة بالعقل العملي الأخلاقي، و ماذا أستطيع أن آمل؟ ، المرتبطة بالعقل الديني (سؤال الأمل : هناك غائية نهائية نعمل لأجلها). ومع ذلك فالفكر الفلسفي الإنساني منذ الأزل تناول موضوعات مرتبطة بالدين ذاته، كما عمد بشارة إلى استحضار المقاربات الدينية للفيلسوف فريديريك هيغل الذي جعل الظاهرة الدينية مرتبطة جوهرياً بالعقل المطلق، ومؤكداً في النهاية إلى أن قضية الفصل بين المعقول و الإيماني لا يكفي لحذق الانسجام و التفاعل الثقافي و التاريخي و الإتيقي بين الدين و الفلسفة.


يستحضر المفكر عزمي بشارة بعض البرادايمات عن نقد الدين من التاريخ الفلسفي الإنساني ، خصوصاً في منحى النقد الذي طاله في شقه الأسطوري الميثولوجي، معتبراً أن أغلب هذه الانتقادات التي طالت الدين في هذا الجانب هي في الحقيقة انتقادات علمية و ليست انتقادات تصب في الجانب الإلحادي، و ضرب مثلاً عن ذلك بالمفاهيم التي عبرت عنها البشرية في الأزمنة الإغريقية خصوصاً الأساطير المتعلقة بهوميروس و هيزيود ، الذين أغدقوا على القوى اللاهوتية المفارقة كل ما يجبل الكائنات البشرية الفانية من سفالة و ووضاعة و أخطاء و خيانات وغيرها. [2]

كما يستدل بشارة بالمحاولات الحثيثة التي قام بها المؤرخ ثقوديديس في نقد الأسطورة باعتبارها تشويها و طمساً للحقائق باعتماد المخيال ، و رأى أن عدم الدقة الناجم عن أخطاء اللغة و النسيان و الأختلاق و هذا ما يجعله متقدماً على هيرودوتس، كما قدم الفيلسوف الإغريقي المثالي أفلاطون الإلهي نقداً ميتودولوجياً للأسطورة باعتبارها تشوه طبيعة الآلهة، كما أغدق شيشرون بأفكار حادة عن الدين ، دون أن ننسى منافحات و طروحات أبو العلاء المعري في نقده للدين بحكم أنه يسعى دوماً لاحتكار لحقيقة .[3]

هذا و أكد بشارة على أن الظاهرة الدينية ليست عبارة عن نظرية فكرية و فلسفية أو حتى زمرة نظريات و معتقدات لاهوتية باطلة، و نصوص مغالطة للحقيقة و مارقة عن الأصل ، كما يحكم عليها أرباب المذاهب المادية و لا حتى هي عبارة عن مجرد ميثولوجيا و خرافة كما ينعتها الملحد ، إنها باقتضاب شديد ظاهرة إجتماعية و سياسية و روحية و سيكولوجية عظيمة الأثر ، كما أن الدين لم يأفل بمجرد تبلور هذه النظريات المادية التي تفسر خلق العالم ، فدحض التصورات و الفرضيات و المقولات الدينية معرفية الطابع لا يحول البتة الدين إلى مجرد نظرية مغلوطة، فهو ببساطة ليس نظرية و التدين ليس موقفاً تحليلياً تشخيصياً صحيحأ أو خاطئاً بل هو في حقانية الأمر خبرة تجريبية مع الفضاء المقدس و الإيمان بمعتقد ديني محدد، و هو قبل هذا و ذلك ممارسة و فعل سوسيولوجي ممأسس و التغير في القيم الدينية مرتهن و متعالق بالغير في القيم السوسيولوجية .[4]

ثم ينقلنا المفكر عزمي بشارة إلى بعض المقاربات الفلسفية اللاهوتية التي درجت في الأزمنة الحديثة خصوصاً مع كانط و هيغل ، كانت المهمة الركيزة لكانط من وراء بنائه للفلسفة النقدية ، هو ما صرّح به في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه الأساسي " نقد العقل الخالص" (( لقد كان لزاما عليّ وضع "حدودا  للمعرفة "[5]، لكي افسح مجالا للإيمان ))[6] و في كتابه هذا الصادر عام 1781، يفند كانط ادعاءات الميتافيزيقا في معرفة ما وراء المعقولات، ومع ذلك فغالبا ما يتم الخلط بين نقده لهذه الإدعاءات وبين نقد الدين على هذا النحو[7] . لأن كانط لايقصد البتة نقدا الدين كنظام عقدي و سلوكي حياتي ، و إنما انتقد أوهام الميتافيزيقيا في ادّعاءها القدرة على تكنه الحقيقة الغيبية الماورائية ، كما أن الفيلسوف كانط كان هدفه المركزي و مبتغاه النهائي ليس تأسيس نظرية ابستمية في المعرفة البشرية ، بل كان طموحه هو خدمة الحقيقة الدينية اللاهوتية ، نحت بالفيلسوف الألماني إلى القول بوجود الله كحقيقة نومينية (شيء في ذاته) ، و ذلك بعد أن ايقظته نقائض[8] العقل ، و التي كانت بمثابة انشقاق داخل العقل نفسه ، ستنتهي بكانط اضطرارا إلى القول بثنائية (نومين[9] / فينومان [10]) ، و سيرفض هذا الفيلسوف الألماني البراهين الكلاسيكية على وجود الله ، مضيفا إليها البرهان الذي كان يراه الأساس الأوحد لإثبات وجود الله في كتاباته –قبل النقدية- مقرّا بأن براهينهم ناقصة و قاصرة و العقل النظري لا يدان له بالفصل في مثل هكذا قضايا لاهوتية ، لأنها تتجاوز جميعا حدود التجربة الإمبيرية الممكنة ، فأحلام الثيولوجيا و أوهام الميتافيزيقيا و آمال التجريبية ، هي التي حدت بكانط في المرحلة النقدية إلى طرح مساءلات حول طبيعة المعرفة الإنسية و بيان قيمتها و حدودها و علاقتها بالوجود ، و ضرورة امتحان وسيلتنا للمعرفة (العقل) قبل أن نعلق آمالا عليه و نعتمده مسلكا و شرعة و طريقا ، و بذلك التجأ كانط إلى طريقة ثورية عرفت بالثورة الكوبرنيقية ، مبينا من خلالها أن العملية المعرفية هي عملية معقدة لا يمكن تفسيرها بحسية دافيد هيوم ، و لا بدوغمائية جون كريستيان وولف ، و أن هذه العملية تتطلب تفاعلا بين الذات و الموضوع ، حيث الذات العارفة عن طريق نشاطها المقولاتي تقوم بعملية بناء الموضوع و تنظيمه وفقا لشرائط ذهنية قبلية ،فحوّر بذلك كانط مجال المعرفة البشرية حيث جعل الفكر حاصلا بذاته على شرائط المعرفة ، و أن الأشياء تدور حول فلكه الخاص لكي تكون موضوع ادراك وعلم و لا يدور هو حولها كما كان يُعتقد من قبل [11].و كذلك الأمر بالنسبة لنقد العقل العملي فبعد نقد كانط للأدلة الكلاسيكية المثبتة لوجود الله فإنه يعتبره كمسلمة من مسلمات العقل العملي ، فالفلسفة الكانطية في كتاب نقد العقل العملي تقترح يقينا أخلاقيا يتمتع بالضمان الإلهي ، إذ لا نقتدر على تصور حياة بشرية من دون أخلاق ، قطعا سيقول كانط بوجود الله ، لكنه لا يثبته نظريا و إنما يسلم به في المنحى العملي ، و في الآن عينه لا يقبل بالصفات اللاهوتية .


إن المنقلب النقداني الذي تمظهرت معالمه عند الفيلسوف كانط بادئ الرأي في مؤلفه المركزي الموسوم ب"نقد العقل المحض" الصادر سنة 1781 ، يجسد بحق بعدا قطائعيا يفصل مرحلة ما قبل النقدية عن منحى المرحلة النقدية ، و علة هاته القطيعة تبلورت في صورتين : أولاها تكمن في مجابهة الذهنية الكانطية لدوغماطيقية ليبنتز ووولف ، و ثانيها انشراح كانط و تأثره البالغ بالشكية الريبية لدافيد هيوم [12] ، و لم تك فلسفته النقدية في حقانية الأمر إلا مسعى تأملي و منهجي لأجل امكانية وضع حدود ضبطية للعقل في استخداماته المشروعة ، باعتباره أداتنا للمعرفة ، و يكون ذلك بضرورة امتحان ملكتنا العقلية على المعرفة قبل أن يتجرأ على اعتماد آلياته بغية الوصول إلى أي حقيقة من الحقائق الممكنة ، فقام كانط بفحص العقل الإنسي ، قبل الإحتكام إليه كوسيلة برهانية اقناعية على كثير من المفاهيم الثيولوجية و الماورائية و الغيبية [13] ، و يحيلنا العنوان "نقد العقل الخالص" في مستهله إلى موقف منازع للعقلانية ، كما كانت بغيته في الجزء الثاني منه من الباب الموسوم " بالدياليكتيكا " إلى تقويض مطارحات الميتافيزياء العقلانية مؤكدا بأن مجال المعرفة البشرية الأوحد الممكن إنما هو مرهون بعالم (الفينومان )، و لا يدان لنا بتكنه خبايا العالم الجوهري للأشياء كما هي في ذاتها (نومين)بغض النظر عن منظور العارف ، وأي تطاول يحاول مجاوزة عالم التجربة المحسوسة يفضي بنا إلى النقائــــض و المفــارقات و التناقضـات ، و يؤكد كانط على حصافة تصوره هذا بقوله (( إن اليمامة الخفيفة التي تشق الهواء بطيرانها الحر، قد تتصور أن الطيران مع ذلك سيكون أسهل في فضاء فارغ ))[14] .

و بذلك كانت المهمة النابهة لمشروع النقد الكانطي هي بيان تهافتية كل من الدوغمائية الوثوقية من جهة والشّكية الرّيبية من جهة أخرى،و هذا بغية مساءلة العقل لإمكانات مؤهلاته و قدراته المعرفية ، فوجد كانط نفسه أمام تصورين فلسفيين متنازعين لا سبيل البتة لدرء التعارض بينهما إلا بالنهج نحو "مَحْكَمَةُ النَّقْد" ، والتي من خلالها نقوم بفحص شامل ودقيق لملكة العقل المحض [15]،وحينما يقول كانط "النقد" لا يعني به أبدا نقدا للكتب والرؤى والتصورات والمذاهب الفلسفية و غيرها، بل هو في لبّه نقد لملكة العقل عموما ، وبـــدرجة أوفــــى تلك الحقـائق و المفاهيم التي يكابد العقل محاولا الوصول إلى حذقها من دون الإستعانة بالتجربة المحسوسة ، ويؤكد الفيلسوف الألماني على صدقية كلامه بقوله (( لا أقصد بهذا نقدا للمؤلفات و المذاهب الفلسفية ، بل ملكة العقل عموما ، و ذلك بتقصي المعرفة التي يسعى جاهدا إليها دون الإستعانة بالتجربة و استتباعا لذلك سيحدد النقد إمكانية أو استحالة قيام ميتافيزيقا بصورة عامة ، و يحدد مآلاتها و مجالاتها و حدودها ، و ذلك وفقا لمبادئ ))[16] . واطلق كانط على مقاربته الإبستيمية المعرفية بالثورة الكوبرنيقية ، فكما فسّر كوبرنيكوس الحركات اليومية للشمس و النجوم بافتراض أن المشاهد الأرضي هو الذي يدور ، لا الشمس و النجوم يقترح كانط أن تُقارب مفهوميتها للعالم لا من خلال الخصائص المفترضة للنومين ، بل بالبدء من البنية التي تفرضها قوة الفاهمة ذاتها.[17]
و نفهم مما سلف أن كانط وضع للعقل محدودية مُذّلة و للطُّموحات النظرية للكائنات المفكرة ، قطعا فالعقل يصرخ و كانط في المقابل من ذلك لا يستجيب له ، بل يحـــدّ من سلطــانه و المؤمــــن يستنـجد و يبحث عن المدد وكانط يُنجده ، فالقارئ لكتاب "نقد العقل المحض" يقتدر أن يحذق المثل التي يفكّر فيها أيّ مدّعي واهم لها مشروعيتها ، بل صلاحيتها لكن للأغراض العملية [18].

إن العِوَضَ المهيب الذي يقترحه كانط درءا لإحباطية العقل في معرفته النظرية و عدم تماميتها ، تراهن على أن وجود الله كحقيقة إيمانية ينتمي إلى مجال الإيمان التعليمي ، ورفض الإيمان وفق تصور كانط هو تعبير عن تواضع في المقصد الموضوعي أي في المقصدية المعرفية .

وبذلك فالنقد الكانطي لملكة العقل عموما افضت أخيرا إلى الإيمان ، وقد تمسّك بعروته الوثقى وعمد رغَبَا إلى اضعاف العقل من أجل فتح الباب للإيمان [19] ، وتكون حال المؤمن قانعة ، صحيحة و سديدة ، وله أن يرهن فؤاده مطمئنا لتلك المٌثل المتعالية لأنها ستفسح له المجال للعمل الأخلاقي و السيرة الحسنة ، وتضمن له دين السلوك القويم و استقامة الفعل ، لكن لابد له جزوما بأن يستعيض عن اعتقاده بوجودها ، أو حتى محاولاته بأن يثّبتها بوساطة عقله [20] ، ويعلق الباحث المصري محمد عثمان الخُشت في كتابه "مدخل إلى فلسفة الدين " قائلا '' جعل كانط العقل وحده بقوانينه الصارمة التي يستنبطها في النقد ، هو المقياس الذي يقيس به الإيمان الديني ، بحيث يأتي غير مجاوز للعقل ، بل يأتي مقيّدا بقواعده و غير متعدّ لحدوده ، و يكون مقصد كانط من الجملة ''قيّدت العقل لأفسح المجال للإيمان'' هو الغاء قدرة المعرفة العلمية بمعناها الرياضي و الفيزيقي على تحصيل يقين معرفي عن عالم ما بعد الطبيعة ، حيث أن مجالها المشروع هو مجال عالم الطبيعة أو التجربة الحسية (الظواهر)''[21] ، ولهذا يجب على العقل كذلك أن ينقاد من جديد إلى حدوده و يكون مستعدا للإنصات بمنحى الوحي الديني للإنسانية و إذا استقل العقل نهائيا و رفض هذا الإنصات فإنه يصبح هدّاما [22].

انتهى كانط كما تطرّقنا سلفا إلى الإقرار بأن تأكيد وجود الله و سائر معتقدات الإيمان الديني ، أمر لا يقتدره البتة العقل المحض ، معتبرا أن المفاهيم الإيمانية أفكار يركبها العقل المحض من لدنه ، نتيجة عدم وقوفه على قاعدة طبيعية و واقعية إمبريقية صلبة ، حيث يسعى لتحويل الحدود المنطقية التي من الواجب عليه الوقوف عندها إلى موضوعات جوهرية ، وعمد إلى تفنيد كل البراهين على وجود الله بدءا بالبرهان الأنطـولوجي والكوسمـولوجي و الفيزيقي .[23]

والدليل الغائي يرتهن بالبرهان الفيزيقي ، وهذا الدليل بدوره  يرتكز على البرهان الأنطولوجي ، وإلى جانب هذه الإثباتات الثلاثة لا يوجد سبيل  آخر مفتوح أمام مطارحات العقل التأملي النظري ،لذلك فإن الدليل الأنطولوجي المؤسس على التصورات المجردة للعقل هو البرهان الوحيد الممكن ، لأنه يفترض دائما أن أيّ برهان على قضية تتجاوز الإعتماد الإمبريقي لقوة الفاهمة (النُّهى) ، يكون ممكنا ، وأمام هذه الإمكانية تنبجس حروب الجدل و المفارقات [24]، وبالتالي فليس للعقل المجرد أي قانون إلا إذا كان استعماله في المجال العملي ، لذلك اضطر كانط إلى القول بوجود الله كحقيقة نومينية مسلّم بوجودها على مستوى العقل العملي ، ومفهومية العقل ههنا هي تلك الملكة التي تسنّ القوانين من دون وساطة في ملكة الرغبة ، وعلى هذا الشكل نُعِتَ بالعقل الخالص العملي [25] و بعد نقد كانط للبراهين على وجود الله أصبح الله مسلمة من مسلمات العقل العملي حاله كحال خلود النفس و الإرادة الحرة ، و تكون هاته المسلّمة حلاًّ اضطراريا لمتناقضات العقل العملي بين السّعادة و الواجب ، و اضطر كانط إلى القول بها بوصفها مصادرات ضرورية لقيام الأخلاق ، و المصادرات الثلاث التي سلّم بها كانط ليست عقائد نظرية ، بل هي فروض ضرورية من الناحية العملية، ويؤكد كانط على ذلك بقوله '' استجابة منّا لمطلب الأغراض العملية ، يجوز لنا أن ندعوه بالإيمان ، أي أنه إيمان عقلاني محض ، وذلك نظرا لأن العقل المحض وفي كل من استخدامه النظري و العملي هو المنبع الوحيد الذي ينبع منه ذاك الإيمان ''[26].

و نحذق مما سلف أن كانط حينما عمد لنقد العقل المحض اقتدر بحق أن يتأكد من قاعدة جوهرية مفادها أنه لا يدان للعقل الخالص من سبيل للبرهنة على وجود الله و خلود النفس و الحرية ، مما اضطره ذلك إلى الإلتجاء لزوما إلى العقل العملي أملا منه أن يجد ما قد عجز عن بلوغه في العقل النظري ، وفي ذلك استقر على تمايز مفارق بين نهج العقل النظري و العقل العملي ، الأول ينحو بإتجاه العلم الفيزيقي و الرياضي ، و الثاني ينحو بإتجاه الإيمان [27] .و حينما نستقرئ حيثيات مطارحات العقل العملي نجده سعيا كانطيا للإجابة عن سؤال ''ما الذي يمكنني أن اعمله ؟ '' لكن كانط في حقانية الأمر حاول الإجابة أيضا على السؤال الثالث القائل ''ما الذي يمكنني أن آمله (سؤال الأمل) ؟ ، و دليل ذلك أن الأخلاق خي المحك الذي سيكشف لنا عن الحقيقة الإلهية باعتبار الله الموجود الأسمى القادر على احقاق التّمام و الكمال الذي يتطلبه منّا القانون الأخلاقي ، و يؤكد كانط على ذلك في قوله '' بيد أنه قد كان واجبا بالنسبة إلينا أن نعمل على تحقيق الخير الأسمى ، و من ثمّ لم يكن افتراض امكان الخير الأسمى حقا فقط ، بل كان كلذك ضرورة ترتبط من جهة ماهي حاجة بالواجب ، و لمّا كان الخير الأسمى لا يحصل إلا ضمن شرط وجود الله ، فإنه يربط افتراض الوجود نفسه ربطا وثيقا بالواجب ، أي أنه من اللازم أخلاقيا أن يسلّم بوجود الله ''[28] . واحقاق الكمال و بلوغه يتطلّب منّا القانون الأخلاقي ، و هذا الكمال يتبلور في وجود الله ، و يعمد كانط إلى تبجيل القانون الأخلاقي لأنه تجسيد مهيب للحرية عينها ، و يؤكد على  أنّ القانون الأخلاقي مقدّس ، صحيح أن الإنسان غير مقدّس بدرجة كافية ، لكن الإنسانية في شخصه يجب أن تكون مقدّسة عنده .

و نفهم مما سبق ذكره أن مشكلة توافقية الفضيلة مع السّعادة هي التي قادت كانط إلى ضرورة التسليم بوجود عالم آخر يسمو على عالم الفينومان ، يكون ضمانتنا لإحقاق الخير الأسمى على نحو أتمي و كامل ، و لا مخرج لنا لنرفع تناقضات العقل العملي المحض ، إلا إذا سلمنا فرضا بوجود خالق عظيم عاقل للكون ، يكون هو سبب الترابطية بين الفضيلة و السعادة ، و ليتأتى لنا تحقيق هذا الترابط لابد من شرطين لزوميين أحدهما يقر بأن يكون بمقدور البشري أن تستمر لامحدودية وجوده و هو ما يطلق عليه بخلود النفس ، و الأخرى لابد أن يكون هناك فاعل قادر ، كامل تتحد في ذاته القداسة و السّعادة بصورة تامة ، و هذا الموجود هو ''الله'' ، الذي بمقدوره وحده أن يقيم فوق النّظام الفيزيقي ذلك النظام الأخلاقي الذي تتطلبه مجهوداتنا و خلود النفس يبقى مسلّمة ضرورية لابد من التسليم بها ، و هذا إذا أردنا أن يكون للإرادة الإنسانية القدرة على احقاق القانون الخلقي احقاقا كاملا ، أما وجود الله فهو مسلّمة لازمة بحكم تسليمنا بالتلازم بين الفيزيقا و حرية الإرادة من الناحية الأخلاقية .[29] ، و يؤكد كانط على ذلك بقوله '' السّعادة هي حال للكائن العاقل في العالم ، إذ يجري له كل شيء طوّال مدّة وجوده كلّها وفق ما يشتهي و يشاء ، و تقوم إذا على اتفاق الطبيعة مع الغاية الكاملة لهذا الكائن ، و كذلك مع الأسس الجوهرية التي تعين إرادته ''[30].

إن القانون الخلقي ينحو بنا من خلال مفهوم الخير الأقصى باعتباره موضوع العقل العملي المحض ، و غايته النهائية تنحو إلى الدين ، و في ذلك اعتراف بجميع الأوامر الإلهية كواجبات و ليس كفرائض تعسّفية لإرادة غريبة ، بل الواجبات الإلهية احقاق مهيب للإرادة الحرة في حدّ ذاتها ، و هذه القوانين الخلقية تستنبط من إرادة إلهية كاملة و أخلاقية مقدّسة و عظيمة و خيّرة خيرية مطلقة ، ويؤكد كانط أن الأخلاق لا تعلمنا على التدقيق كيف نجعل من انفسنا سعداء ، بل كيف ينبغي أن نصير أهلا للسعادة ، لكن فقط حين ينضاف إليها ''الدين'' ، يَهِلُّ الأمل أيضا في أن نحصّل ذات يوم السّعادة ، طالما كنّا قد حرصنا على ألاّ نصير غير أهل لها  ، فالإنسان في غالب الأحوال يعرف كيف يصنع حياته ، لكنه لا يعرف لأجل ماذا يجب أن يفعل ، لذلك فهو يشعر على الدوار بحاجته إلى غاية ما ، تكون هي غاية الغايات [31].

و يؤكد كانط على قيمة الدين كأمل في تحقيق السّعادة قائلا  ((...حين تكون الأخلاق التي تلزم بالواجبات فقط ،و لا تقدّم مقياسا للرغبة المختلطة بالمنفعة قد عرضت على تمامها (...) و هي الرغبة التي لم تكن قبل ذلك لتتمكن من نفسٍ تتعقب المنفعة ، و حين تكون الخطوة إلى الدين التي تعزز هذه الرغبة قد تمّت عندئذ فقط يمكن أن تسمى تلك النظرية في الأخلاق أيضا نظرية في السّعادة ، لأن الأمل في تحقيق السّعادة لا يبتدئ رأسا إلا مع الدين ))[32].

حقيقة فقد كانت بغية كانط هي رصد مصلحة العقل و ما تطلبه من حاجة ملحة إلى الحرية و إلى التشريع الذاتوي لعملية التفكير [33]، لكن في المقابل من ذلك فإن مطارحات النقد الثاني ''نقد العقل العملي'' تقول بمهمة ملقاة على عاتق النهج الأخلاقي تسمح له بمجاوزة الخصوصي أو إيتيقا الفرد إلى ايتيقا الكوني (أخلاق كونية إنسانية ) [34]، و نفهم من ذلك أيضا النقلة النوعية من دين فردي ذاتي إلى دين أخلاقي كوني ، و هاته هي البغية الركيزة لكانط في تأسيسه الدين على الأخلاق .

 

لينقلنا بعد ذلك عزمي بشارة إلى الفيلسوف الألماني هيغل الذي أكد خلافاً للتنويريين الذي سبقوه أنه لابد من مصالحة الفلسفة مع التقاليد الدينية المتراكمة عبر التاريخ كي يكون التفكير نابعاً من العقل الكلياني، و ليس من الفهم فقط، وهكذا يعتبر هيغل أن النقد و الشكية من التقاليد الهيومية و كانط ماهو إلا مرحلة يجب أن تعقبها توليفة ، و المقصود ههنا هو تركيبة أغنى لا تكفي بالفصل بين الإثنين بل تعنى بالجمع بينهما باعتبارهما مرحلتين نظريتين و تاريخيتين في الطرق إلى العقل المطلق. فقد كان لهيغل فكرة سامية عن الدين ، فلأنه يعده في إطار مصطلحاته الصارمة، هو وعي الذات بالروح المطلق، بالمعنى المزدوج، مرة أخرى، الذي تحمله هذه العبارة، فإذا كان الدين هو الذي بوساطته يعي الإنسان الروح الذي يحركه، و يمكنه تبعاً لذلك من أن يتحرر مما هو خاص، و يرتفع لمعانقة اللانهائي، فإنه من خلال الديانات التاريخية الخاصة يصبح الروح ذاته واعياً بذاته، إن الديانات التاريخية الخاصة يصبح الروح ذاته واعياً بذاته، إن الديانات إذا مفهومة لديه كمراحل أو محطات للروح الذي أصبح واعيا بذاته،ـ فالديانات بالنسبة لهيغل لم تنشأ عرضية، بل عي محددة بفعل طبيعة الروح ذاته، الذي شق لنفسه مساراً في العالم ليتوجه نحو وعي ذاته، وهو مسار ضروري، لأن هذا التاريخ هو الذي أنتج مفهوم الدين الذي تجسد المسيحية في نظره قمته و كشفاً عنه[35] .

[1] عزمي بشارة، الدين و العلمانية في سياق تاريخي، ج1،ط2 (الدوحة/بيروت: المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات،2013) ، ص 245.
[2] بشارة ، ص 245.
[3] المرجع نغسه، ص 246.
[4] بشارة ، ص ص 249-250.
[5] - أو الغائها و رفعها على حد تعبير كانط Aufheben الذي توسع هيغل بعد ذلك في استخدامه (( انظر: عبد الغفار مكّاوي ، ترجمة مقدمتي الطبعة الأولى و الثانية و مدخل نقد العقل النظري الخالص عن الألمانية ، مجلة أوراق فلسفية ، العدد الحادي عشر ، 2004 .)
2-Kant, Critique de la raison pure , traduction Tremessaygues ,et  B.pacaud ,6 éme édition ,paris ,P.U.F,1968.p18
3-Grondin Jean , La philosophie de la Religion , édition Point delta (Liban),2012.p99.
[8] -النقائض:(Antinomie):في الفلسفة هي التناقض بين القوانين أو المبادئ عند تطبيقها العملي في احدى الحالات الجزئية أو هو كل تنازع بين مبدأين أو استدلالين قائمين على مقدمات متساوية الصدق (انظر جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ، الجزء 2، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، دت، 1982 ، ص ص 505-506)
[9] -النومين (Nouméne) مقابل للظاهرة ، و يطلق على الشيء في ذاته ، و هو الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي ، لا بالتجربة و الإدراك الحسي ، أو هو الحقيقة المطلقة التي تجاوز نطاق التجربة ، لا تدرك بالعقل النظري ، لأن قوانين العقل لا تحيط بالمطلق و لا تدرك إلا الظواهر ( انظر : جميل صليبا، مرجع سابق.،ص 513.)
[10] -الفينومان(Phénomène)  تطلق الظاهرة على كل ما يبحث فيه العلم من الحقائق التجرببية أو على المعطيات التجريبية المباشرة من جهة ماهي مستقلة عن المدرك .(انظر جميل صليبا ،مرجع سابق،  ص 30)
[11] -انظر:يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة الحديثة ، دار القلم ، دت، بيروت ، لبنان ، ص213.
[12] -انظر:مقدمة كتاب :ايمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة و تقديم ناجي العونلي ، دار جداول ، بيروت (لبنان) ، ط1 ، نوفمبر ، 2011،ص10.
[13] -زكريا إبراهيم ، كانط أو الفلسفة النقدية ، دار مصر ، القاهرة ، ط2 ،. 1972، ص14.
[14] -جون كوتنغهام ، العقلانية :فلسفة متجددة ، مركز الإنماء الحضاري ، حلب (سوريا) ، ط 1، 1997 ، ص 99.
[15] - ابراهيم ، ص 14.
[16] -عمّانوئيل كنط ، نقد العقل المحض ، ترجمة موسى وهبة ، مركز الإنماء القومي ، بيروت (لبنان) ، 1989، ص 39.
[17] - كوتنغهام ، ص101.
[18] - محمد المزوغي ، عمانويل كانط، الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص ، دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب ، بيروت ، لبنان ، ط1، 2007، ، ص 47.
[19] نفسه ، ص 47
[20] -المرجع نفسه ، ص 46.
[21] -محمد عثمان الخشت ، مدخل إلى فلسفة الدين ،دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع ، القاهرة ، 2001 ،   ص ص 22/23.
[22] -يورغن هابرماس و جوزيف راتسنغر (البابا بيندكت ) ، جدلية العملنة ...العقل و الدين ، ترجمة و تقديم حميد شهب ، دار جداول ، بيروت ، ط1 ، يناير ، 2013 ، ص 81.
[23] -محمد عثمان الخشت ، فلسفة الدين تأويل جديد للنقدية الكانطية (مرجع سابق ) ، ص 93.
[24] -فريال  عبد السلام، الدّين و السّلام عند كانط ، مصر العربية للنشر و التّوزيع ، القاهرة ، ط1،  2001.ص20.
[25] -جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية ، ترحمة أسامة الحاج ، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ، بيروت،لبنان ،  ط 1، 1997، ص ص 47-48.
2-Kant, E .Critique de la raison pure , traduction Tremessaygues ,et  B.pacaud ,6 éme édition ,paris ,P.U.F,1968.P126.            
3- Kant , E ,Fondement de la métaphysique des mœurs ,traduction ; Victor Delbos , paris , Fernand Nathan , 1989  P19                                    
[28] -قارن : ايمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة و تقديم ناجي العونلي ،دار جداول ، بيروت (لبنان) ، ط 1 ، نوفمبر 2011، ص245.بترجمة : أحمد الشيباني ، بيروت (لبنان) ، دار اليقظة للتأليف و النشر ، 1966 ، ص 153.
[29] -ايمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة أحمد الشيباني ، ص 225.
[30] -قارن أيضا  : ايمانويل كانط ، نقد العقل العملي ، ترجمة ناجي العونلي ، ص 243.
[31] -انظر : مقدمة كتاب : ايمانويل كانط ، الدين في حدود مجرد العقل ، ترجمة فتحي المسكيني ، دار جداول ، بيروت ، لبنان ،ط1، فبراير2012، ص 12.
[32] -ايمانويل كانط ، نقد العقل العملي (مرجع سابق) ، ص 250.
[33] -خميسي بوعلي ، الفكر و الحرية أو في الشروط  الحقيقية  للتوجه في الفكر ،المجلة التونسية للدراسات الفلسفية ، تونس ، عدد 38-39 ، 2004-2005، ص18.
[34] -كلود بيشي ، المنهجية الأخلاقية عند كانط ، مجلة آيس ، الجزائر ، العدد 1 ، جوان 2005، ص36.
[35] جون غروندان، فلسفة الدين ،  ص ص 139-140.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟