الفلسفة تعرية والصحافة تغطية، الأولى تعري الواقع محاوِلة الكشف عما يخفيه، وعاملة على إماطة اللثام على ما يمكن أن نعتقد فيه أبدا، بينما الثانية تصور لنا الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان، الأولى تعري الواقع عن طريق تأويله، فتقول إن الانسان هو مقياس كل شيء، وإن كل قيمة أو حقيقة يؤمن بها هذا الكائن إنما منبعها ما تقدمه له من نفع لا غير. فتعدو كل حقيقة قيمة مؤقتة ليس لها من الإطلاق شيء. أما الثانية فإنها تنقل لك الواقع كما يحدث، جاعلة منه حقيقة ثابتة لا تقبل الشك بتاتا، ثم تخبرك ضمنيا أنها تلتزم الحياد تجاه ذلك، بل إنها تعتبره من أخلاقياتها القبلية.
لكن وعلى النقيض من ذلك، قد تلتقي الفلسفة والصحافة في شيء مهم، ألا وهو السؤال؟ تخيلوا معي فلسفة دون روح التساؤل، وتخيلوا معي أيضا صحافة دون أسئلتها، بيد أن بين هذا التشابه اللفظي اختلاف يكاد يصل حد التضاد، والذي يكمن أساسا في طبيعة السؤال المتعلق بهما معا، لذا قد نتساءل عما هي حدود العلاقة بين السؤال الفلسفي والصحفي؟ وهل يمكن أن يكون هذا الأخير فلسفيا حينما يبحث عن حقيقة ما ـ هذا إذا كانت توجد حقيقة ـ أم أن غرضه يكاد لا يتجاوز الإخبار فقط؟
السؤال الفلسفي لا يؤمن بالمحدودية، إنه يتقن لعبة التجاوزات المستمرة، ويرسم لنفسه خطوط انفلاتات لا تستقيم على حال، هو إذن بمثابة الرحالة الذي يهيم il erre في الأرض دونما البحث عن هدف محدد، إذ في كل نهاية، بداية لبداية جديدة، أي لرحلة يجعل من نفسه هزيمها، ولمغامرة ليس يهمه ما سيحدث فيها، بقدر ما يهمه أن يكون من صلبها، وأن يعيشها مثلما هي أولا وأخيرا..
وفي معرض آخر، نكاد نقول إن السؤال الصحفي مهووس بهدف منشود سلفا، ومسكون بِنِيّة قبلية تصنف هذا على حساب ذاك، وتنتصر للذي تريده أن ينتصر. فكلما ادعى السؤال الصحفي منطق الحياد، كلما ألفى نفسه في اللاحياد، وكلما أكد على تصوير ما يحدث بطريقة لا زيادة ولا نقصان فيها، كلما انغمس في دائرة التفضيل والتضليل والإقصاء والرفع، السؤال الصحفي من هذا المنطلق يفتش عما سيعجبنا ويثيرنا، وليس عن هذا الذي يحدث مع التفكير في القوى التي جعلته التي جعلته يحدث.
السؤال الفلسفي بناءً على ما تم ذكره سالفا، لا يأخذ بعين الاعتبار أصل ما يحدث، بقدر ما يبحث عن الشروط والظروف التي جعلت من هذا الحدث يحدث، لهذا قلنا إنه يتغذى من التعرية. إنه لا ينتصر لشيء ما، أما إذا انتصر فإنه ينتصر لكل شيء وليس لأحد، لكن ليس من باب الحياد طبعا، وإنما من باب إتمام السير دون الارتباط العاطفي لا بالمكان ولا بالزمان، حيث يكمن سبب هذا الأمر، في الإيمان بأن لكل لحظة خاصيتها المتفردة التي ينبغي أن يتحقق فيها التجاوز كي تمنح الدور للحظة جديدة وهكذا دواليك.
وفي نفس السياق، لا شك أن السؤال الصحفي سؤال تراكمي، يعطي الأهمية للماضي من أجل فهم الحاضر تطلعا للمستقبل، كما أنه سؤال إحيائي يتوجس ويخشى النسيان، بل يعتبره صفة مذمومة للشخص الذي نسأله، إذ ما إن ينسى بعض ما حدث، حتى نذكره إياه جاعلين منه صدى للماضي، بل إنه كلما تهرب هذا الشخص من الجواب كلما كررناه بطريقة أخرى، من ثمة فالسؤال الصحفي لا يهمه من نفسه إلا الجواب، بل الجواب الذي يريده هو وليس الذي يمكن أن يقال، إما بدافع الكذب أو التمويه أو الإخفاء أو عدم مشاركة الآخرين.. مما يجعله شاهدا على غياب الحياد الذي يدعيه..
السؤال الفلسفي لا يعترف بالجواب، ففي كل جواب إيديولوجيا تصنيفية إقصائية، تنتصر للمركز وتعلي من التشابه وتعطي كبير أهمية للهوية والنسخة الأصل، إنه يكرس هذا الحضور الذي تعمل الفلسفة على طرده من أرضها، ليس بدافع أخلاقي أو عاطفي، وإنما بناء على علل منطقية. في المقابل إذا سعى السؤال الفلسفي إلى الجواب، فإنه يعطي الأولوية للأجوبة اللامتناهية، دون الركون أو الانتصار لجواب على آخر. شعار السؤال الفلسفي يقول: كل الأشياء ممكنة ولا انتصار لواحد. في حين أن شعار السؤال الصحفي، يؤكد أن ما يريده هو الذي يجب أن يحصل وإن لم يحصل أبدا.