المنعطف الأنطولوجي للهيرمينوطيقا عند هايدغر - محمد بنعبد الرحيم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ستشهد الهرمينوطيقا بعد دلتاي منعطفا حاسما سيساهم في دخول هذا الحقل المعرفي إلى مجال أكثر تعقيدا وخصوبة، وهذا المنعطف سيتأسس على نقض التصور المنهجي الذي اضطلع بالاشتغال عليه كل من شلايرماخر ودلتاي، وإن كان هذا النقض لن يتبلور صراحة  إلا مع غادامر إلا أن إرهاصاته ستبدأ مع هايدغر الذي سيتجاوز التصورات الميتودولوجية إلى الحديث عن طابع جديد للهرمينوطيقا يتجلى في الطابع الأنطولوجي، الذي يبحث في شروط وجود الفهم وإمكانية فهم هذا الفهم.
والحديث عن هرمينوطيقا هايدغر ليس بالأمر الهين ولا هو بالأمر الذي يمكن تلخيصه في فقرات محدودة، لكن يبقى المهم هو تبيان أهمية المنعطف الذي شكله هايدغر في مجال الفلسفة التأويلية وكيف اتجه بالفكر الهرمينوطيقي إلى أعمق ما يمكن أن يصله وفي قالب لغوي أعقد مما يمكن فهمه بسهولة، ويمثل هايدغر ضمن هذا العرض الموجز للهرمينوطيقا نوع من المجانسة بين الفينومينولوجيا والأونطولوجيا من جهة والهرمينوطيقا من جهة أخرى.

لقد أعاد هايدغر التساؤل نحو "الكينونة" التي يرى بأنها منسية في سياق التفكير الغربي، وهو إذ يحيي سؤال "الكينونة" في هذا السياق فإنه يطرحه بشكل مغاير يجعله يؤسس لنظرة جديدة تماما عن هذا المفهوم، حيث تجد مسألة الكينونة جذورها وأساسها عنده في "كائن خاص قادر على طرح تساؤلات لا فقط حول الكائنات الأخرى، بل حول كينونته هو"⁽1⁾، بمعنى أن الكينونة تجد تعبيرها الحقيقي ومجال انبثاقها من خلال الكائن نفسه الذي يحاول أن يفهم كينونته ويتمثلها ويتساءل نحوها، فلا نستطيع فهم هذه الكينونة إلا من خلال الكائن، وهذا التساؤل نحو الكينونة يهدف إلى إخراجها من اللاتجلي والخفاء إلى التجلي والوضوح والعلانية وبالتالي تحقيق الفهم بوجود الكائن في "العالم". وإن هذا الفهم في حد ذاته عبارة عن كينونة أو أسلوب في الكينونة؛ "إذ أن فهم الكينونة هو نمط من أنماط الكينونة أو سلوك إنساني"⁽2⁾ مرتبط بالكائن الذي هو مالك فكرة الكينونة والساعي إلى الكشف عنها، ويسمي هايدغر هذا الكائن بـ "الدزاين"، فهو الكائن الذي يملك تفرده من خلال اهتمامه بكينونته، ووجودُه في العالم هو وجود أصيل أساسه الانفتاح على جميع الإمكانات التي أقصاها "الموت" من حيث هو تحقق فعلي لـ"إمكانات" الدزاين ومعبر عن تناهيه أيضا، ووجود فكرة التناهي هو الذي يفرض علينا القول بأن "الكينونة مفهومة ومتصورة انطلاقا من الزمن"⁽3⁾، فالكينونة لا تفهم إلا زمنيا عبر عملية تأويلية تنعكس في عينية الدزاين في العالم واهتمامه بوجوده، والزمنية على هذا المستوى هي زمنية متناهية. إن الكينونة والزمن تجمعهما علاقة حميمة عند هايدغر، وهذه العلاقة هي التي تقصي التصور الميتافيزيقي الكلاسيكي الذي يعتبر الكينونة أبدية ويعتبر الزمن سلسلة لا متناهية من اللحظات المتتابعة.
إن "الدزاين" في وجوده وعالمه مطالب بفهم وتأويل ما يجده أمامه، والفهم كما ذكرنا هو نمط وجود وليس عملية ذهنية فقط، ويؤكد هايدغر في مؤلفه "الكينونة والزمان" على هذا فيقول: "إن الفهم، من حيث هو استشراف، هو نمط كينونة الدزاين الذي ضمنه هو يكون إمكاناته بوصفها  إمكانات"⁽4⁾، وعلى هذا الاعتبار يكون الفهم الذي يملكه الدزاين عن الكينونة وما يواجهه في عالمه هو فهم وجودي يكشف عن الوجود الأصيل لهذا الكائن، حيث ينفتح به على إمكانات وجوده التي يمكن أن يصل إليها، فالدزاين من حيث هو فهم إنما يستشرف كينونته على صفحة إمكانات عدة"⁽5⁾، وهذا القول يأخذنا إلى أبعد من اعتبار الفهم صبغة مضافة إلى الدزاين، بل إن الدزاين نفسه "فهم" بما هو نمط وجود فريد، إنه موجود في هذا العالم ككيفية من كيفيات الفهم، ولهذا كان الفهم معنيا بشكل أساس بتفهم إمكانية الكينونة.
لقد تحول الفهم مع هايدغر من كونه نشاطا لا تاريخيا أو عملية ذهنية متعالية إلى نمط وجود محايث للكائن، فأصبح الكائن لا يملك الفهم بل يكونه، ويكونه كوجود في العالم الذي لا يحدث الفهم إلا به ومن خلاله، إنه أساس كل فهم فهو عبارة عن مقولة قبلية لا يستطيع الدزاين تجاوزها باعتبارها أساسا الجامع لإمكاناته، "فالعالم والفهم أجزاء لا انفصام لها من البنية الأنطولوجية لوجود الآنية (الدزاين)"⁽6⁾، إن العالم ليس عبارة عن إجمال للكائنات الموجودة وإحصائها، بل هو المجال الذي "يترجم فيه الوجود نفسه إلى معنى وفهم وتفسير، إنه مجال عملية التأويل، أي العملية التي يتحول فيها الوجود إلى موضوع لغوي."⁽7⁾
 وإذا كان الوجود لا ينفصل عن الفهم، فإنه أيضا لا ينفصل عن اللغة، فاللغة هي "بيت الوجود"⁽8⁾، وهي من تحمل الأشياء من اللاوجود إلى الوجود، وبها تمتلك الأشياء حضورها وتدخل إلى الوجود، وهذا بالفعل يجعل القول بلغوية الوجود قولا ذو معنى، وعليه لا تكون اللغة مجرد أداة للتواصل بل هي من صميم ماهية الإنسان ووجوده في العالم، "فبدون اللغة لما أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأي أسلوب يمكن أن نتخيله"⁽9⁾، ومنه لا يمكن اعتبار الإنسان هو صانع اللغة مثلما لا يمكن اعتباره صانع الفهم ولا الزمان ولا الوجود.
إذا فقد أصبح الفهم مع هايدغر ذ صبغة زمانية وتاريخية تجاوز بها تلك النظرة التي تنظر إليه كعملية ذهنية، لقد أصبح الفهم وجوديا، وبهذا تجاوزت هرمينوطيقا هايدغر هاجس النص فأصبحت تعنى بالوجود ذاته، إنها هرمينوطيقا تحاول أن توقظ الدزاين الذي يقبع داخلنا وفي أعماقنا ليتساءل نحو الكينونة المخفية ويكشفها لذاته، إن الدزاين مطالب دائما بالتعرف على ما هو مخفي، أو بصيغة أخرى التعرف على ما ليس واضحا بذاته.


الإحالات المرجعية:
⁽ 1⁾ داستور، فرانسواز: فلسفة هايدغر، ترجمة: محمد سبيلا، مجلة الأزمنة الحديثة، عدد: 7 ـ 8، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2013، ص: 127.
⁽2⁾ داستور، فرانسواز: فلسفة هايدغر، مرجع مذكور، نفس الصفحة.
⁽3⁾ داستور، فرانسواز: فلسفة هايدغر، مرجع مذكور، ص: 127.
4⁾⁾ هايدغر، مارتن: الكينونة والزمان، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2012، ص: 285.
⁽5⁾ نفس المرجع، ص: 290.    
⁽6⁾ مصطفى، عادل: فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمينوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادمر، مرجع مذكور، ص: 227.
⁽7⁾ نفس المرجع، ص: 230.
⁽8⁾ نفس المرجع، ص: 232.
⁽9⁾ نفس المرجع، ص: 258.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟