يحب الفلاسفة أن يكرهوا آين راند ومن المألوف أن يسخر الفلاسفة من أي ذكر لاسمها. قال لي أحدهم يوما: "لا أحد يجب أن يتعرض لـ لأفكار) هذه المتوحشة". ويزعم الكثيرون أنها ليست فيلسوفة على الإطلاق ويجب ألا تؤخذ على محمل الجد. لكن المشكلة هي أن الناس يأخذونها على محمل الجد بالفعل بل في بعض الحالات، بشكل مفرط.
ولدت راند في روسيا ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة في عام 1926، حيث روجت لفلسفة الأنانية التي وصفتها بالفلسفة "الموضوعانية. كما كتبت في روايتها "أطلس يتململ" (1957)، فإن فلسفتها تعكس "مفهوم الإنسان ككيان بطولي، حيث تكون سعادته الخاصة هي الهدف الأخلاقي لحياته، والإنجاز الإنتاجي هو أنبل أفعاله، ويكون العقل المبدأ المطلق الوحيد لديه". ومع تبنيها للسعادة والعمل الجاد والفردية البطولية كمثل عليا، لا عجب اذن أنها لفتت انتباه الأمريكيين وأسرت خيالهم.
بعد ثلاث سنوات من وفاتها في عام 1982، تم تأسيس معهد آين راند في كاليفورنيا. وأفاد المعهد مؤخرا أن أكثر من 30 مليون نسخة من كتبها قد بيعت حول العالم. بحلول أوائل عام 2018، كان المعهد يخطط لتقديم ٤ ملايين نسخة من روايات راند إلى مدارس أمريكا الشمالية. كما تبرع المعهد بشكل نشط إلى الجامعات بحيث يرتبط التمويل في كثير من الأحيان بقيام الأساتذة لديها بتعليم مواد ذات "اهتمام إيجابي بفلسفة الموضوعانية لآين راند وكتاب أطلس يتململ.
إن كتب راند لم تزد إلا شعبية مع مرور الوقت. فاليوم، يتم تصنيف المؤلفة من قبل موقع أمازون في نفس مرتبة ويليام شكسبير وسالينغر، وفي حين أن هذه التصنيفات تتقلب ولا تعكس دائما حجم المبيعات، فإن وجود اسمها الى جانب هؤلاء العظماء له دلائل كثيرة.
إنه من السهل انتقاد أفكار راند فهي متطرفة لدرجة أن العديد من الناس يقرؤونها كأنها أفكار ساخرة. مثلا فإن راند غالبا ما كانت تقوم بلوم الضحية: إذا لم يكن لدى شخص ما مال أو قوة، فهذا نتيجة فشلهم وخياراتهم الخاطئة. وفي روايتها "فاونتن هيد" (رأس النبع)، يقوم "البطل" هاورد رورك باغتصاب البطلة دومينيك فرانكون، بعد انخراطها في حديث غامض حول إصلاح الموقد التي توحي راند من خلاله أن فرانكون كانت تدعو رورك لمعاشرتها. لكنه من الواضح أن ما يحدث بعدها هو اغتصاب، حيث أن فرانكون تقاوم بشدة فيما يجبرها رورك على معاشرته بالقوة - ومع ذلك فإن راند توحي بأن المسؤولية تقع على الناجيات من الاغتصاب، وليس المغتصبين. بالنسبة لها، وكما يقول رورك في بداية الرواية، فإن الحق هو للقوة، والمغزى ليس في من يسمح لمن بفعل ما يريد: بل "المغزى هو، من الذي سيوقفني من فعل ما أريد؟". في الحقيقة، فإن تأييد راند للأنانية كعقيدة، وقسوتها تجاه المستضعفين، يجد صداه في السياسة المعاصرة، وليس مبالغة القول، بأن فلسفتها شجعت بعض السياسيين على تجاهل معاناة الفقراء والضعفاء ولومهم على حالتهم.
تنادي راند بالاكتفاء الذاتي، وتهاجم قيماً مثل الإيثار، وتشيطن الموظفين العامين والتدخلات الحكومية لتنظيم أمور الحياة لأنها تعوق الحرية الفردية على حد زعمها. ومع ذلك، فهي تتجاهل حقيقة أن العديد من القوانين واللوائح الحكومية تعزز الحرية والازدهار. في كتاب "أطلس يتململ"، يهرب الزعيم الغامض والناطق باسم الموضوعانية جون غالت وزمرته لتأسيس مستعمرة خارج سيطرة الحكومة، حيث لهم حرية خلق قوانينهم الخاصة بهم. لكن تخيلوا وجود عالم بدون لوائح كتلك الخاصة بوكالة حماية البيئة. سيكون الجيران أحراراً في نفث الدخان السام في المدينة الفاضلة لغالت، أو تلويث إمدادات المياه، أو رش المبيدات الحشرية السامة التي تدخل الدورة الغذائية وتسمّ السكّان.
يرفض غالت فكرة أنه عليه أي واجبات تجاه الآخرين، ولا يتوقع أي واجبات منهم تجاهه. يقول: "هل تسأل ما هو الالتزام الأخلاقي الذي أدين به إلى أخواني في الانسانية؟ الجواب هو لا شيء. غالت غني وقد يتمكن من رشوة بعض الجيران ولكن تفترض فلسفة راند -كما تتبناها شخصيات مثل غالت التي تمثل وجهات نظرها- أننا نعيش في عالم يتمتع بموارد وممتلكات غير محدودة يمكن عزلها عن الآخرين في حين أنها تتجاهل حقيقة أننا نتشارك الأرض مع الآخرين -حيث نتنفس نفس الهواء، ونسبح في نفس المحيط، ونشرب من مصادر المياه المشتركة نفسها.
بعض الفلاسفة الليبرتاريين، مثل وليام إيروين في كتاب "الوجودي المؤمن بالسوق الحرة" (٢٠١٥)، اقترحوا نسخة معدّلة من أيديولوجية راند بشكل يضيف دوراً للدولة لحماية الناس وممتلكاتهم من الأذى والعنف والاحتيال والسرقة (على الرغم من أنه لا يؤيد بشكل خاص إنشاء وكالة لحماية البيئة). ولكن بالنسبة إلى راند، كما كتبت في مجموعة مقالاتها "فضيلة الأنانية" (١٩٦٤)، فإنه "لا يمكن أن يكون هناك أي حل وسط بين الحرية والضوابط الحكومية"، حيث أن قبول أي شكل من أشكال الرقابة الحكومية هو "تسليم الذات إلى الاستعباد التدريجي"!
ومع ذلك، لم تكن راند تعيش دائمًا وفقًا لفلسفتها الخاصة: ففي دليل قاطع على نفاقها، كانت راند تتلقى الأموال من الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية في وقت لاحق من حياتها. في مقال آخر بعنوان "مسألة المنح الدراسية" (١٩٦٦)، حاولت راند تبرير قبولها للمنافع الحكومية كتعويض جزئي على الضرائب التي يدفعها المرء أو التي سوف يدفعها في المستقبل، لكن فقط إذا كان المتلقي لها يعترض عليها!
المشكلة هنا لا تكمن فقط في الحسابات المعقّدة لتقدير مدى الدعم الحكومي الذي يمكن للمرء أن يتقاضاه مقابل الضرائب المدفوعة، بما أن راند على الأغلب استفادت من استخدم الطرقات، وخدمات المياه، وحماية الشرطة، وعدداً لا يحصى من الخدمات الأخرى التي توفرها الحكومة. المشكلة هي أن الأمر يتناقض أيضًا مع وجهة نظرها التي تقول إنه لا يمكن أن يكون هناك حل وسط بين الحرية والحكومة. علاوة على ذلك، فإنه من النفاق أن تقوم بالاستفادة من نفس النظام الذي اشتكت منه هي تحت حجة استرجاع ما تم أخذه منها غلابة. قد تكون هذه فعلة أنانية، لكنها ليست، كما تزعم، فعلة أخلاقية.
لكن شيطنة راند دون قراءة التفاصيل، أو تشويه سمعتها دون دحض أفكارها بشكل منهجي، هي مقاربة خاطئة. وحجب أعمالها لن يساعد أي شخص على التفكير النقدي حول أفكارها. في عام ١٨٨١، حذّر فريدريش نيتشه -وهو فيلسوف يتم مقارنته أحيانا بشكل سطحي مع راند، ويرجع ذلك جزئيا إلى مفهومه عن الرجل الخارق- قائلا: "الأبرياء سيظلون دائما ضحايا لأن جهلهم سوف يمنعهم من التمييز بين ما هو معقول وما هو متطرّف، ومن التحقّق من الذات في الوقت المناسب".
أي أن أفكار آين راند هي خطرة لأنها تجذب الأبرياء والجاهلين باستخدام زخارف الحجة الفلسفية كغطاء بلاغي تقوم من خلاله بتهريب تحيزاتها القاسية إلى عقولهم. إن كتاباتها مقنعة للضعفاء فكرياً والمفتقرين للحس النقدي، وهي قد كتبت روايات مثيرة حققت عددا كبيرا من المبيعات ولقد منحت أغلبية المراجعات لكتاب "أطلس يتململ" والتي يبلغ عددها الآلاف على موقع أمازون تقييمًا إيجابيا جدا. يبدو أن الناس يشترون الكتاب من أجل القصة التي يحتويها، ثم يجدون الفلسفة الموجودة في أحداثه مقنعة، فيمتصونها دون تفكير. ليس من الصعب جدًا تخيل ما قد يراه القرّاء مثيرًا للإعجاب في شخصياتها: فعلى الرغم من أن أبطال راند أنانيون، فانهم أيضًا ماهرون جدا في ما يختارون القيام به، وهم يتمسكون بمبادئهم بعناد. إن كتاب راند هو مثال قوي - وتحذير - عن القوة المؤثرة للأدب الروائي المتخيل.
إن تمني اختفاء أفكار راند مع الوقت، ليس حلًا جيدًا للمشكلة. لا يزال كتاب "فاونتنهيد" من أكثر الكتب مبيعا، بعد مضي ٧٥ عاما على طباعته ونشره للمرة الأولى. وربما حان الوقت للاعتراف بأن راند هي فيلسوفة – لكنها فيلسوفة سيّئة. يجب أن يكون من السهل إظهار الخطأ في أفكارها، وأيضاً إدراك، كما فعل جون ستيوارت ميل في كتابه "عن الحرية" (١٨٥٩)، إن حتى الأفكار الخاطئة قد تحتوي على بعض عناصر الحقيقة، كما يجب فهم قيمتها كحافز استفزازي يحثنا على التفكير في كيفية إثبات خطئها.
لا يزال خطاب راند يأسر ملايين القراء، لذا نحتاج إلى لغة وقصص مقنعة لتوفير حجج مضادة ببلاغة. تخيل لو استطاع كاتب ما أن يقنع الملايين من الذين يقرؤون راند اليوم أن يتوصلوا إلى استنتاجات مختلفة أكثر عطفا وأكثر رحمة وأن يروا أنانيتها بدلاً من أن يغريهم نثرها. نحن بحاجة لأن نأخذ ظاهرة آين راند على محمل الجد. فتجاهلها لن يجعلها تختفي وله آثار خبيثة. أما دحض أفكارها، فهو سهل نسبياً.