فوكو وشجاعة قول الحقيقة: الخطاب الحق في الفلسفة الحديثة (المقالة السابعة) - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم
    قطع تصور "الإهتمام بالنفس" مسارا طويلا شمل الفلسفة اليونانية والهلنستية والرومانية وكذلك الروحانية المسيحية. بحيث شهدت الفترة الممتدة من القرن الرابع قبل الميلاد إلى غاية القرن الرابع والخامس بعد الميلاد، نوعا من "العصر الذهبي" فيما يخص مسألة "الإهتمام بالنفس". لكن مع دخول العصر الحديث، سيتم تفضيل وإعطاء قيمة أكبر لمبدإ "معرفة النفس"، وترك جانبا، وفي الظل على الأقل، التصور الخاص ب"الإهتمام بالنفس". وستكون "اللحظة الديكارتية" لحظة مقررة في تاريخ ونمط وجود الذات الحديثة؛ بحيث أصبح مبدأ "اعرف نفسك" المدخل الأساسي للحقيقة، لكنها ساهمت في التقليل من تصور "الإهتمام بالنفس" بل وإبعاده وإقصائه من التفكير الفلسفي الحديث(1). كما تزامن مطلع العصر الحديث مع إعطاء الاولوية للعقل وإصلاح الفهم (القرن 17م)، وميلاد فلسفة الأنوار والنزعة الإنسانية (القرن 18م)، وتزايد ظاهرة الإستغلال والنزوع نحو الهيمنة (القرن 19). رافقت هذه التحولات ميلاد العلوم الإنسانية وتطور فروع علمية مختلفة، وابتكار تكنولوجيا سياسية للجسد، جعلت فوكو يربط بين الجنسانية وبروز استراتيجية سلطوية حديثة وضعت الفرد والجماعة عند ملتقى السلطة الحيوية(2).

لكن الممارسات السياسية للعصر الحديث تميّزت بتناقضاتها يؤكد ميشيل فوكو؛ ففي الوقت الذي ولّد الخطاب المساواتي للنزعة الإنسانية حركات سياسية ذات شأن (الثورة الفرنسية، الحركات العمالية مثلا)، تم في الوقت نفسه تشديد النظام في المشاغل، وأعمال السخرة، وتعزيز رقابة الشرطة على كل مواطن. الشيء الذي ساهم في انتشار خطابات ثورية ويسارية تدافع عن العدل والمساواة، وبروز مثقف ملتزم، منخرط في قول الحقيقة وفي مواجهة الإستيلاب والإستغلال والهيمنة.

1- الثقافة الحديثة وسؤال الإهتمام بالذات
    أشار ميشيل فوكو إلى أن تصور "الإهتمام بالنفس" كان أحد الخطوط الموجهّة بدون أدنى شك للمواقف الفلسفية طيلة ألف سنة، منذ ظهورها عند الإغريق إلى غاية الأشكال الأولى في الزهد المسيحي. في الوقت ذاته، تساءل فوكو عن ذلك التفضيل والإنتباه الكبير والقيمة التي منحت لتصور "اعرف نفسك"، وعن الإهمال الذي لحقه من قبل المؤرخين؟. يؤكد فوكو على دور "اللحظة الديكارتية" في محو المكانة التي احتلها مبدأ "الإهتمام بالذات" خلال ألف سنة في الثقافة القديمة، ويعتبرها أكثر أهمية من مقارنة مع مفارقات تاريخ الأخلاق(3).
لاحظ فوكو أيضا تقلص مبدأ "الإهتمام بالنفس" كبعد داخل التجربة الأخلاقية في الثقافة الحديثة. ويرجع ذلك إلى الدور الذي لعبته الموضوعاتية المسيحية المتعلقة بالتخلي عن الذات والشجب الكلاسيكي لحب الذات والإدانة الكانطبة للأنانية، جعلت كلها وبشكل تدريجي مبادئ الأخلاق غير قادرة على التعايش مع الإهتمام بالذات. بالإضافة إلى ذلك فإن ما يلاحظه فوكو على مستوى التجربة الفلسفية، هو الإمتياز المتزايد لموضوعة معرفة الذات على حساب موضوعة الإهتمام بالذات(4).
فالمسيحية كان لها دور أساسي في الحط من قيمة "الإهتمام بالنفس"، بينما ساهمت "اللحظة الديكارتية" بتمجيدها لمبدإ "اعرف نفسك" في التقليل من شأن تصور "الإهتمام بالنفس"، بل أبخسته وأبعدته وأقصته من حقل التفكير الفلسفي الحديث(5).

2- العصر الحديث وسيادة العقل
    منحت "اللحظة الديكاتية" قيمة لمبدإ "معرفة النفس"، واختار رونيه ديكارت اختبار ذات المعرفة ومعرفة الذات، وليس أسلبة الوجود. فتوجه الفلاسفة والمفكرون إلى الإهتمام بالعقل منذ بداية القرن السابع عشر (ديكارت Descarte، سبينوزا Spinoza، لايبنيز Leibniz، بيكون Francis Bacon...)، ومع بزوغ عصر الأنوار، سار شعار "لتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك" و"الإنتصار للذات" و"الحرية" علامات على الخروج من الوصاية بلغة كانط Kant. فمع كانط، نلاحظ حضور المحكمة، محكمة العقل، الأشياء يجري الحكم عليها كدالّة لمحكمة العقل. والملكات – بمعنى الفهم، الخيال، المعرفة، الأخلاق – تُقاس كدالة لمحكمة العقل. وبالطبع، يستخدم منهجا معينا اخترعه، منهجا مدهشا يُدعى المنهج النقدي، المنهج الكانطي بالمعنى المحدّد... ، ومفهوم محكمة العقل لا ينفصل عن المنهج النقدي(6). وتحوّل العقل مع هيغل Hegel إلى "روح" ألّفت بين الوعي بالموضوع والوعي بالذات(7). أما القرن التاسع عشر، فتميز بانخراط العقل في إدارة الحياة والبقاء، والأجساد والأعراق، وشن العديد من الحروب، لقد أمست المذابح حيوية(8).
واكب هذه "الطفرة في العقل!" نمو الدولة الحديثة ومؤسساتها التي استخدمت جهازا كاملا موجها لإنتاج خطابات حقيقية(9)، كما ابتكرت تكنولوجيا تأديبية تهم التحكم في الرغبة، واستخدمت خطابات علمية لتفكيك الجسد ومراقبة الحياة. وتم تفعيل الإرث المُميّز للعصور الوسطى وهو "الإعتراف" لإنتاج الحقيقة؛ بحيث اندرج الإعتراف بالحقيقة في صلب إجراءات التفريد التي قامت بها السلطة(10). هكذا فقد الإعتراف تمركزه الطقسي والحصري، وانتشر واستُخدم في سلسلة طويلة من العلاقات: بين الأهل والأولاد، وبين التلاميذ والمربين، المرضى والأطباء النفسانيين، الجانحين والخبراء(11).
تلك كانت -يقول ميشيل فوكو- اللحظة التي دعيت فيها اللذات الأكثر فرادة إلى أن تصوغ حول نفسها خطاب حقيقة كان عليه أن يتمفصل، لا حول الشخص الذي يتحدث عن الخطيئة والخلاص، عن الموت والأبدية، بل حول الشخص الذي يتحدث عن الجسد والحياة – أي حول خطاب العلم(12).
 رغم النزوع العقلي الذي ميّز العصر الحديث، فقد تراوح قلق الفلاسفة حول العقل بين الوقوع في الخطإ، والسقوط في الأوهام، وقول البلاهات، تلك هي رواية جيل دولوز  Gilles Deleuzeحول خصائص العقل خلال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، يقول:
"في القرن السابع عشر بالنسبة لمعظم الفلاسفة العظام، ماذا كان قلقهم السلبي؟ كان قلقهم السلبي هو منع الخطإ. كانت مسألة صد مخاطر الخطإ . بعبارة أخرى، كان سالب الفكر هو أن العقل قد يخطئ، ولمنع العقل من الخطإ، كيف نتجنب الوقوع في الخطإ. ثم حدث انزلاق طويل، تدريجي، وفي القرن الثامن عشر، ولُدت مشكلة أخرى. قد يبدو أنها نفس المشكلة، لكن ليست هي نفسها على الإطلاق: لم تعد شجب الخطإ، بل شجب الأوهام، فكرة أن العقل يسقط في الأوهام وحتى مُحاط بها، وفضلا عن ذلك يمكنه هو ذاته أن ينتجها، لا مجرد أن يقع في الخطإ، بل أنه قد أنتج أوهاما. هذا إذن مجمل الحركة في القرن الثاني عشر، حركة فلاسفة القرن الثامن عشر، شجب الغيبيات، إلى آخره... . لم يعد السؤال كيف نتجنب الوقوع في الخطإ، بل كيف ننجح في تبديد الأوهام التي تحاصر العقل. ثم، في القرن التاسع عشر، ماذا حدث؟ يبدو كأن الأمور قد انزلقت أكثر، لا تنفجر تماما، بل تصبح أكثر فأكثر كيف يمكن تجنّب ... الوهم؟ لا، ليس أن العقل... بل أن البشر، ككائنات روحية، لا يكفوا أبدا عن قول البلاهات، الأمر مختلف عن الوهم، ليس الوقوع في الوهم: كيف نصُد البلاهات؟(13).

3- أشكلة الجنس ورهانات الدولة في العصير الحديث
    إلى جانب التحولات التي لحقت العقل، تفككت تلك الوحدة النسبية التي طبعت خطاب العلوم في القرون الوسطى حول الجنس وممارسة التوبة. بحيث تفجّرت خطابات متمايزة، اتخذت أشكالا في الديمغرافيا، والبيولوجيا، والطب، والطب النفسي، وعلم النفس، والأخلاق، والتربية، والنقد السياسي. بل أكثر من ذلك، إن الصلة المتينة التي كانت تجمع بين اللاهوت الأخلاقي للشهوة وبين واجب الإعتراف (الخطاب النظري عن الجنس وصياغته بضمير المتكلم) قد ارتخت وتنوعت، إن لم يكن قد انقطعت: فبين توضيع الجنس في خطابات عقلانية وبين الحركة التي عينت لكل فرد مهمة رواية حياته الجنسية الخاصة، حصلت منذ القرن الثامن عشر مجموعة كاملة من التوترات والصراعات وجهود التوفيق ومحاولات إعادة الصياغة(14). لقد أصبح الجنس من اختصاص السلطة العامة، يستدعي إجراءات إدارية ويجب معالجته بخطابات تحليلية(15). هكذا تم إعداد مؤسسات جديدة كالطب عبر "أمراض الأعصاب"، والطب النفسي والقضاء الجزائي وأجهزة الرقابة الإجتماعية التي نمت في آواخر القرن التاسع عشر. وفي خضم تكاثر الخطابات حول الجنس واختراع تكنولوجيا تأديبية، وجهّت الدولة الحديثة الناشئة ونظامها الرأسمالي الليبرالي وعقلانيتها "سياستها الحيوية" نحو هم أولي: تأمين ازدياد السكان، إنتاج قوة العمل، تجديد شكل العلاقات الإجتماعية؛ تنظيم حياة جنسية مفيدة اقتصاديا ومحافظة سياسيا(16). وبهذا تم تلبية المتطلبات الجديدة للرأسمالية عن طريق إدخال أفراد مُؤدّبين ومُنضبطين في جهاز الإنتاج من جهة، واستغلال قوى الإنتاج وثروات الشعوب من جهة أخرى.
هكذا تكوّن الجنس كرهان على الحقيقة(17)، في حين سارت الجنسانية مرتبطة ارتباطا وثيقا ببروز استراتيجية سلطوية وضعت الفرد والجماعة عند ملتقى السلطة الحيوية(18). ففي القرن الثامن عشر، سيظهر "السكان" كمشكلة اقتصادية وسياسية: السكان-الثروة، السكان-اليد العاملة أو طاقة العمل، السكان-التوازن بين نموهم الذاتي ونمو الموارد التي يملكونها. الشيء الذي سيدفع الدولة الحديثة إلى عقلنة المسائل المطروحة على الممارسة الحكومية والمتعلقة بالظواهر الخاصة بمجموعة من الأحياء، الذين يؤلفون جملة السكان: الصحة، نسبة المواليد، طول العمر، الأجناس. أما في القرن التاسع عشر، ستمثل هذا المسائل مواضيع رهان سياسي واقتصادي إلى اليوم. هكذا سيسقط الإنسان الحديث في شرك علاقات السلطة (السلطة الحيوية) وعلاقات المعرفة (العلوم الإنسانية)، بل سيغدو رهان السلطة، يعكس مجموع علاقات القوى، بتعبير دولوز(19).

4- الخطاب الحق في النظام السياسي: الخطاب الثوري واليساري ودور المثقف
    شكلت الثورة الأنجليزية (1688) والثورة الفرنسية (1789) لحظتان حاسمتان في تاريخ أوربا، مكنتا من إدخال "مفهوم التحوّل" في الفكر والممارسة وفي التجربة والحياة السياسية. فمع حدث الثورة الفرنسية خصوصا، بدأنا في تحديد مخططات ونماذج من التجارب الشخصية والذاتية التي ستكوّن ما سمي ب"التحوّل إلى الثورة".
 يقول ميشيل فوكو:"يبدو لي أنه ما كان لنا طوال القرن التاسع عشر أن نفهم ما هي الممارسة الثورية، ولا نستطيع أن نفهم ما هو الفرد الثوري وماذا تعني تجربة الثورة، لو لم نأخذ في الحسبان التصور والمخطط الأساسي للتحوّل نحو الثورة. وعندئد يكون المشكل هو أن نعرف كيف دخل هذا العنصر الذي ينتمي إلى تكنولوجيا النفس، أي التحوّل، قد ارتبط بهذا الميدان الجديد وبحقل النشاط الجديد الذي هو السياسة؛ كيف أن هذا العنصر المتعلق بالتحول قد أصبح ضروريا، وبشكل خاص أصبح مرتبطا بالإختيار الثوري والممارسة الثورية. يجب معرفة كيف أن هذا المفهوم المتعلق بالتحوّل قد أصبح مقبولا شيئا فشيئا - ثم بعد ذلك تم امتصاصه واستيعابه وأخيرا إلغاؤه- في شكل حزب ثوري، أي تم إلغاؤه بالحزب الثوري. وكيف أننا انتقلنا من الإنتماء إلى الثورة بواسطة مخطط التحوّل، إلى الإنتماء إلى الثورة بالإنخراط والإنضواء في حزب الثورة"(20).
شكلت الثورتين الأنجليزية والفرنسية لحظة استثنائية لميلاد ما سماه ميشيل فوكو ب"المثقف العمومي اليساري"، الممثل لوعي المجتمع، الحامل للحقيقة والمدافع عن العدالة والمساواة، والمالك لنظرة شاملة للمجتمع قائمة على التمييز بين الخطإ والصحيح. هكذا احتل المثقف اليساري موقعه في المجتمع البورجوازي وفي نظام الإنتاج الرأسمالي من خلال الإيدويولوجيا التي ينتجها أو يفرضها وخطابه الذي يفصح عن بعض الحقائق ويكتشف علاقات سياسية غير مُدركة. وبالتالي فهو المُؤهل لقول الحقيقة للذين لم يكونوا يرونها وباسم الذين لا يسطيعون قولها إنه: الوعي والفصاحة يقول فوكو(21). فرض هذا الموقع على المثقف النضال ضد أشكال السلطة، النضال من أجل إظهارها، هناك حيث لا ترى وحيث تكون أكثر مكرا ودهاء. لكن فوكو يُنبّه إلى مُهمات المثقف من خلال طرح الأسئلة على هذا المجهول الأكبر في الوقت الحاضر: من يمارس السلطة؟ وأين يمارسها؟
يقول فوكو:"حاليا نعرف تقريبا من يستغل، وأين يذهب الربح، ومن يتصرف فيه، ويعيد استثماره، ... أما السلطة فإننا نعرف بأن الحكام ليسوا هم الذين يملكونها. ولكن مفهوم "الطبقة الحاكمة" ليست لا واضحة ولا مشكلة ومبنية جدا. "الهيمنة"، "القيادة"، "الحكم"، "فريق الحكم"، "جهاز الدولة"..إلخ، هنالك لعبة من المفاهيم التي تتطلب التحليل... . في أي مكان تكون فيه السلطة، السلطة تمارس... لا نعرف من يملكها بالضبط، ولكننا نعرف من لا يملكها"(22).
ينصح ميشيل فوكو المثقف بالإقلاع عن رؤيته التنبّئية والشمولية، ويحُضّه على التخلّي عن مواقف كبار العرّافين والمشرّعين (الحكيم اليوناني، النبي اليهودي، المشرّع الروماني)، فلا مجال للإستمرار في الإشتغال على ما هو ’’كوني’’ و’’نموذجي’’ وعادل وحقيقي بالنسبة للجميع.  في الوقت ذاته يشيد بدور "المثقف المختص" أو ’’المثقف الخصوصي’’، ’’المثقف الخبير’’ أو ’’العالم الخبير’’ (عالم في المجال النووي، الوراثي، المعلوماتي، الصيدلي...)  الذي يواجه مشاكل نوعية ’’غير كونية’’؛ إن الأمر يتعلق بصراعات واقعية، مادية ويومية، يتحمّل أثناءها المثقف مسؤولية سياسية(23) .  
يُميّز فوكو بين الوظيفة السياسية للمثقف، والوظيفة النقدية ونظام الأشكلة الذي يضطلع بهما المثقف الحديث:
- ترتبط الوظيفة السياسية بالوظائف العامة لجهاز الحقيقة وبمشكلة إنتاجها داخل المجتمع، وبدور المثقف في إبراز العلاقات المتجددة بين الحقيقة والسلطة غاية في بناء "سياسة جديدة للحقيقة".
- أما الوظيفة النقدية ونظام الأشكلة système de problématisation ، فيقومان على إظهار مجال من  الأحداث والممارسات والأفكار التي يبدو أنها تطرح مشاكل على السياسة، وإظهار المشاكل المحلية وطرح كل البداهات، وإنتاج المعارف الحقيقية التي بإمكانها أن تتصدى لكيفيات إدارة الحكم المسيطرة، وتوفير الفرص لإبداع ذاتيات جديدة، وتحدّي حرياتنا وإمكانياتنا على العمل، وإبراز تاريخانية أنظمة معارفنا وأنظمة السلطة، وخلق الذاتية والبرهنة على أن لا شيء مُقدّر علينا، وفي النهاية ضرورة تغيير حيواتنا(24).

خاتمة   
     أشار جيل دولوز إلى نجاح الدولة الحديثة بأجهزتها الإدراية والعلمية والأمنية في محاصرة حياتنا اليومية وجوانيتنا وفرديتنا. بحيث أمست السلطة تخترق الأفراد، وتظهر عبرهم، وأضحت المعرفة تفرض نفسها على الافراد أكثر فأكثر، منشئة بذلك تأويليات وقوالب جاهزة مقننة ومنظمة للذات الراغبة(25). لذلك دعا إلى مواجهة السياسة الشاملة والعامة للسلطة بالقيام بمقاومات محلية، بنار مضادة، بدفاعات فاعلة، وفي بعض الأحيان بمقاومات وقائية...، وإقامة روابط جانبية و نظام كامل من الشبكات. كما شجّع على تمسك الفنان والفيلسوف والعالم ب"الإيقاع الخاص" وعدم الرضوخ للإتجاهات المُغرية وللميول في الرأي الشعبي، غاية في الإبداع والخلق والإبتكار، وتحرير الحياة من السجون التي خلقها الإنسان.
 أما ميشيل فوكو، فقد ربط مهمة الفلسفة بمراقبة السلطات المفرطة للعقلانية السياسية وإقامة "اقتصاد جديد للعلاقات السلطوية"، ودعا إلى تنظيم مقاومة إيجابية غاية في التقدم نحو "اقتصاد جديد للأجساد والرغبات". كما راهن على قول الحق وشجاعة الحقيقة لمواجهة السلطات القائمة(26)، فالمشكلة السياسية هذه المرة هي النطق بالحقيقة في نظام السلطة والمخاطرة المفتوحة بالنسبة للذات الناطقة؛ فالكلام-الحق سيلعب هنا دور المقاومة في وجه السلطة(27).
لكن ميشيل فوكو سيضع قول-الحق وخطابات الحقيقة بين قوسين حين قال:
" إن إنتاج الحقيقة مخترق بكامله بعلاقات سلطوية"(28).
فما العمل؟                                                                                           
الهوامش:
1- ميشيل فوكو: تأويل الذات، دروس ألقيت في "الكوليج دوفرانس" لسنة 1981-1986، ترجمة وتقديم وتعليق د. الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2011، ص23.
2- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، ص151.  
3- للمزيد من التفصيل، انظر: ادريس شرود: فوكو و"اللحظة الديكارتية" تساؤلات حول "معرفة النفس" و"الإهتمام بالنفس"، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان،  15 فبراير 2019.
4- فريديريك غرو: فوكو، ترجمة د.محمد وطفة، كلمة ومجد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2008، ص142.
5- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص23.
6- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص95،
K مثلما في Kant
7- محمد الشيخ: فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث والنشرالطبعة الأولى، بيوت-لبنان، 2008، ص145.
8- ميشيل فوكو: إرادة المعرفة، تاريخ الجنسانية، الجزء الأول، ترجمة مراجعة وتقديم مطاع صفدي وجورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان،  ، الطبعة الأولى، 1990، ص139.
9- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، استعمال اللذات، الجزء الثاني، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1991، ص82.
10- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص73.
11- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص77.
12- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص78.
13- جيل دولوز وكلير بارنت: الألف لام، ترجمة أحمد حسان، المحروسة، ص79.
H مثلما في Histoire de la Philosophie [تاريخ الفلسفة]
14- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص52.
15- ميشيل فوكو: إرادة المعرفة، 44.
16- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص54.
17- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص71.
18-. أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص151.
19- جيل دولوز: المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1987، ص111.
20- ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص201.
- راهن فوكو على تصور جديد ل"الثورة"، يقول :"يمكن أن نتصور الثورة لا كمشروع سياسي فحسب، بل كأسلوب، كنمط وجود بجماليته وزهده وبالأشكال الخاصة لعلاقته بذاته وبالآخرين"، ميشيل فوكو: هم الحقيقة، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، مصطفى كمال، محمد بولعيش، (بصدد نسابة فلسفة الأخلاق -نظرة عن عمل قيد الإعداد- ميشال فوكو يحاوره هوبير دريفوس وبول رابيناو-  منشورات الإختلاف، الطبعة الجزائرية الأولى، 2006، ص96.
21- المثقفون والسلطة.. حوار بين ميشال فوكو وجيل دولوز.ترجمة الزواوي بغورة،موقع كوة، 10 مايو 2017 .
22- المثقفون والسلطة.. حوار بين ميشال فوكو وجيل دولوز.ترجمة الزواوي بغورة،موقع كوة، 10 مايو 2017.
23- يقول فوكو:"هنا يمكن أن يأخذ وضع المثقف دلالة عامة، وأن تتضمن معركته المحلية أو النوعية، تأثيرات ومقتضيات تتجاوز ما هو مهني أو قطاعي. فهو يشتغل أو يصارع على المستوى العام لنظام الحقيقة الأساسي بالنسبة لبنيات مجتمعنا ووظائفه. هناك إذن معركة ’’من أجل الحقيقة’’، أو على الأقل ’’حول الحقيقة’’... . ان الأمر لا يتعلق بمعركة ’’لصالح’’ الحقيقة، بل حول وضع الحقيقة والدور الإقتصادي والسياسي الذي تلعبه. ويجب التفكير في المشاكل السياسية للمثقفين، ليس بألفاظ ’’العلم/الإيديولوجيا’’بل بالعمل على فصل سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة [الإجتماعية والإقتصادية والسياسية] التي تعمل بداخلها حاليا. ميشيل فوكو: المثقف والسلطة، ترجمة: د عزالدين الخطابي، رؤى تربوية، عدد 26.
يزيد فوكو:" ليس عمل المثقف هو أن يشكل الإرادة السياسية للآخرين؛ وإنما يكمن عمله في التحاليل التي يقوم بها لميادين هي ميادينه، وفي إعادة مساءلة البديهيات والمسلمات، وزعزعة العادات وطرق العمل والتفكير، كما يكمن في تبديد الأمور المألوفة المقبولة، وإعادة النظر في القواعد والمؤسسات؛ مع المساهمة، انطلاقا من عملية إعادة الأشكلة هذه (التي يؤدي فيها وظيفته النوعية باعتباره مثقفا) في تشكيل إرادة سياسية (عليه أن يلعب فيها دوره كمواطن)"، ميشيل فوكو: هم الحقيقة - ميشال فوكو (يحاوره فرانسوا إيوالد)- ترجمة مصطفى المسناوي، مصطفى كمال، محمد بولعيش،  منشورات الإختلاف، الطبعة الجزائرية الأولى، 2006، ص116.
24- فريديريك غرو: فوكو، ترجمة: د، محمد وطفة، مجد-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2008، ص157، 158.
25- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، ص114.
26- يقول فوكو:"صحيح أنه لا يمكن أن نطلب من حكومة ما قول الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء غيرها. غير أنه وعوضا عن ذلك من الممكن أن نطلب من الحكومات نوعا من الحقيقة بخصوص مشروعات محددة أو اختيارات عامة بالنسبة للآليات المعتمدة، أو عدد معين من النقاط الخاصة المرتبطة ببرامجها: إنها الكلام الحر أو الصراحة [بالمعنى اليوناني]. صراحة المحكوم الذي يمكن، بل يلزم عليه أن يسائل الحكومة باسم المعرفة وباسم التجربة التي يمتلكها، ليس باعتباره مواطنا له الحق في معرفة ما يقوم به الآخر (المسؤول الحكومي) حول معنى أفعاله وحول الإجراءات التي اتخذها، يلزم بالمقابل أن نحترز من تلك الخديعة التي يود الحاكمون أن يُسقطوا فيها المثقفون، والتي عادة ما تنطوي عليهم، والتي شعارها:’’ضعوا أنفسكم في مكاننا ثم قولوا لنا ماذا ستفعلون’’، جمالية الوجود، حوار مع ميشيل فوكو، ترجمة محمد زويتة/حميد طاس، موقع حكمة، 04 يونيو 2015.
27- فريديريك غرو: فوكو، ص121.
28- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، 74.

تعليقات (4)

This comment was minimized by the moderator on the site

دور الممارسات السياسية للعصر الحديث تميّزت بتناقضاتها
واشكر الدكتور علي وطفه على تسلسل الافكار والشروح

ايه صباح العنزي
This comment was minimized by the moderator on the site

وأضحت المعرفة تفرض نفسها على الافراد أكثر فأكثر، منشئة بذلك تأويليات وقوالب جاهزة مقننة وانا الحكومه تصارع من اجل البشر

ساميه حمود الديحاني
This comment was minimized by the moderator on the site

لاحظ فوكو أيضا تقلص مبدأ "الإهتمام بالنفس" كبعد داخل التجربة الأخلاقية في الثقافة الحديثة. ويرجع ذلك إلى الدور الذي لعبته الموضوعاتية المسيحية المتعلقة بالتخلي عن الذات والشجب الكلاسيكي لحب الذات والإدانة الكانطبة للأنانية، جعلت كلها وبشكل تدريجي...

لاحظ فوكو أيضا تقلص مبدأ "الإهتمام بالنفس" كبعد داخل التجربة الأخلاقية في الثقافة الحديثة. ويرجع ذلك إلى الدور الذي لعبته الموضوعاتية المسيحية المتعلقة بالتخلي عن الذات والشجب الكلاسيكي لحب الذات والإدانة الكانطبة للأنانية، جعلت كلها وبشكل تدريجي مبادئ الأخلاق غير قادرة على التعايش مع الإهتمام بالذات. بالإضافة إلى ذلك فإن ما يلاحظه فوكو على مستوى التجربة الفلسفية، هو الإمتياز المتزايد لموضوعة معرفة الذات على حساب موضوعة الإهتمام بالذات

اقرأ المزيد
تحرير الشمري
This comment was minimized by the moderator on the site

شكلت الثورتين الأنجليزية والفرنسية لحظة استثنائية لميلاد ما سماه ميشيل فوكو ب"المثقف العمومي اليساري"، الممثل لوعي المجتمع، الحامل للحقيقة والمدافع عن العدالة والمساواة، والمالك لنظرة شاملة للمجتمع قائمة على التمييز بين الخطإ والصحيح.

ريم محمد غالب الخالدي
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟