قصة ودراسات أدبية

طنجة أيتها المدينة المَهْر[1]. ها أنا أحلق فوق سمائك وأشاهد مبانيك وأزقتك وأتطلع إلى أسرارك من علٍ، وأنت كما أنت فاتحة ذراعيك تستقبلين الوافدين بفرح وتودعين المغادرين بدموع، وبين الضحكة والدمعة تاهت مشاعرك واضطربت فظللتِ محافظة على ابتسامتك مثل أم حنون لا تريد تشييع أبنائها بالبكاء ولا استقبالهم بالبكاء.

أزت عجلات الطائرة على إسفلت المطار بعد رحلة دامت ما يناهز الساعتين، دنونا خلالهما أكثر من النجوم والسماء. شعرنا براحة نفسية عميقة ونحن ندنو من الأرض، أمّنا الحبيبة. ما إن توقفت الطائرة واستكان جناحاها حتى ارتفعت موجة من التصفيق العارم اعترافا لقائد الرحلة ببراعته وتقديرا لخبرته وتهنئة له بنجاحه.

عندما لامست أرجلنا التراب انزاح ذلك الخوف الذي استبد بنا ونحن نجوس بين النجوم، هناك عاليا معلقين دون حبال داخل هذا الصندوق الحديدي العجيب. متجاورين فوق مقاعد مرقّمة بنظام ودقة. لم يكن بين الركاب تعارف سابق. هكذا وجدنا أنفسنا في الوقت ذاته وفي المكان ذاته نتجه نحو سلم الطائرة ونطير. أنسى انغماس البعض في تبادل الأحاديث الخوف والرهبة أثناء الإقلاع والهبوط. ونام البعض الآخر كي لا يعيش تلك اللحظات الرهيبة التي تشعر أثناءها أن قلبك يكاد ينفصل.

وأخيرا زال توترنا واضطرابنا ونحن نتحسس أصلنا الطيني بأقدامنا، فالإنسان يحنّ دوما للأصل. نزلنا تباعا عبر السلم الذي جيء به. ابتعدت قليلا والتفت خلفي لأنظر إلى هذا الهيكل الضخم الجاثم الذي كنا في جوفه. جناحاه ممتدان يمينا ويسارا مثل طائر يصل إلى الضفة الثانية بعد أن هدّه الترحال وهو يكابد ليعبر بحرا عظيما في رحلة هجرة موسمية شاقة.

كان المطار فسيحا، تناثرت في أرجائه الطائرات القادمة من كل بقاع الدنيا، وعلى جوانبها رُسِمت شعارات شركات الطيران التي تملكها وأسماؤها.

 "كن أنت التغيير الذي ترجو حدوثه في العالم" (غاندي)

"ما عييتُ إلاّ أمام من سألني، من أنت؟ (جبران خليل جبران)

جَرَّبْنا الهمس والصراخ، جربنا الصمت والكلام، جربنا الحزن كلما انكسرنا ـ وانكساراتنا كثيرة ـ او خبت فينا جذوة البداية، جرّبنا الخيانات حين خُنّا شرف الكلمة والمواقف، وحين وقفنا متفرجين حين سار العالم جريا إلى الأمام، جربنا الوقوف في وجه بعضنا بغضاً كراهية..

لم لا نجرب المحبّة؟

لعلّها تكون ورقتنا الرابحة، لعل أمام محرابها نندهش، ننبهر، ننفعل، نترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وبُغْض وحقد وانكسارات وخسارات، ونفتح بالمحبّة للأمنيات كفّا على أعتابه ترتاح البسمات، ونطوي صفحاتِ ذواتٍ تُجيد احتراف التواطؤ والخيانة والكُره.

"المحبّة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنها ترفع النفس إلى مقامٍ سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها"[1].

المحبّة، فعلٌ للمقاومة، ضدا على القهر والغبن والألم والكراهية البغيضة.

الواجب. الواجب الذي يلزمني، هو تعلم الكتابة، إعادة تعلم الكتابة، الذي يلزمني هو نسيان كل النصوص، كل أشكال الرسم، وأن أعيد اكتشاف الرسم من جديد. قَلَّتِ، نَدُرت الأشياء التي تقتدر على خلق الدهشة فيّ، جَفَّ نهري، ومد توقفت السماء، مد سكتت، مد انقطع المددُ، نسيت، والنسيان مرض الرجال.
حدثٌ. حدثَ لثواني قصيرة، ما قبضتُ عليها إلا كما يُقبض على الماء، حدثَ أن نسيت اسمي، لقد أدهشني الأمر، أسعدني، خلق فيَّ نوعا من الانتشاء، ونوعا من العزاء وعبرت من خلالي في تلك اللحظة التي استحال القبض عليها، عبرت من خلالي انهار من الحرية، من التحرر، الوجود نفسه، عينه، الفكر، عبر من خلالي، لأكتب حكاية تلك اللحظة اللامتناهية من الوجود، عليّ أن اجلس أزلا، ويلزم لرسمها بالألفاظ مددا. أخذت اللحظة رغم قصرها تتسع، تتسع، تتسع، وكلما اتسعت تقازمت الالفاظ، أعياها إمساكها، ببهت الرسوم، والحروف، والحروف يتعذر عليها حمل الفكرة، الوجود.
تلك اللحظة القصيرة، حررتني من ثقل الإسم، من ثقل الذاكرة، من صخرة الآراء، من هول ما يقض الراحة، يلسع المضاجع، لقد كانت لحظة فرح خالص، لحظة دهشة تساوي عمرًا، من أجلها أستطيع، وفقط من أجلها، أن أسامح، أن أغفر للعالم.
لماذا أرسم. لماذا أرسم بأحرف من مداد، لماذا أكتب على ورقٍ، لماذا أكتب عن لحظة الحرية تلك، لماذا اسجنها في هذه الرسوم الباهتة، وكم أكره خط يدي، كم أكره الشكل الذي به أرسم الكلمات.
لماذا. إن اللحظة القصيرة من الحرية، اللحظة الواسعة من الفكر، اللحظة من اشراق الوجود بداخلي، حدثُ نسيان الإسم، التحرر من الذاكرة، من التاريخ، ومن الزمن، ليست شأنا خاصا، ليست شأنا شخصيا.
إني أكتب، إذن، نيابةً، أكتب بالنيابة عن الناسي، عن المتحررين إطلاقا من الذاكرة، بالنيابة عن المنسيين، المجانين، الناسين، المجهولين، والذين لا يملكون إلى رسم أفكارهم حروفًا سبيلا.
التحرر. التحرر من ثقل الوجود، من صخرة الإسم لوهلة قصيرة، الدخول في عرف هؤلاء الأحرار، ثم العودة إلى جبة الإسم، إلى ظلِّه، تحت ظل جاثوم الإسم، هذه العودة، هي ما يعطيني حق الكتابة، يكتب الذين يعيش الحدث، يكتب الذي ليس معنيا بالحياة، يكتب الذي لا يجيد القبض على العيش، والحر من هذه الاثقال لا يكتب أبدا، وأيُّ وما حاجته بالكتابة، الكتابة بهتان يحاول القبض على النور، أو فانوس صدءٌ يحاول امساك الضّيْ، يبرع الكُتاب يا رفيق في وصف الشيء الذي يسكن هناك، لكنهم ابدا لم يذهبوا، لم يعبروا، الى هذا، ذاك، الـ هناك.

جلس رحيم على ضفاف المحيط، يراقب الأمواج المتلاطمة كأنها أحلام تتكسر على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في حركتها المتواصلة والمتغيرة، تشبه حياته الهاربة من وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى قفص حديدي، يلتهم كل روح تحلم بالحرية. هرب رحيم من ذلك القفص، باحثًا عن السلام في بلاد أخرى، لكنه لم يكن يعلم أن العالم كله قد بات قفصًا أكبر، تغمره الغربة ويطغى عليه الحنين. سافر إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، ظنًا منه أنه سيجد فيها نجمة الأمان تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، لكنه سرعان ما اكتشف أن الحلم لم يكن سوى سراب، وسوريا امتداد لصحراء حياته، حيث كان الكابوس يرافقه في كل خطوة. تركها وراءه واتجه إلى ليبيا، آملاً أن يجد استقرارًا يحذف من ذاكرته تمائم الخرافة. غير أنه وجد ليبيا معسكرًا ضخمًا محاطًا بالجدران والأسوار العالية، حيث الأوهام تحاصر كل زاوية والشواطئ بدت كالصحراء، صامتة، تجسد عزلته الداخلية. وفي المغرب، جلس رحيم على حافة المحيط، وسط تيه الأقاصي، محاطًا بعالم يتغير من حوله، لكنه يظل ثابتًا كشرارة في بلاد الحطب، تنطفئ لتشرق من جديد. كان الوطن قد خنق صوته منذ سنوات، لكن ذكراه لم تبرح قلبه، كدمعة الأرض التي كلما أمطرت نشرت الصحو في مدائن الغضب. والآن، وهو مثقل بذاكرته التي تضيء ثم تنطفئ في مدارات روحه، يراقب العالم يغرق في صمت مطبق، غريبًا في أرض لا تعرف سوى التيه.

جلس رحيم على ضفاف المحيط، متأملاً الأمواج المتلاطمة أمامه، كأنها قطع من أحلامه التي تحطمت على صخور الواقع القاسي. كانت الأمواج، في انكساراتها المتكررة، تُذكّره بحياته المتغيرة، التي قضى معظمها هاربًا من قفص كبير، وطنه العراق، الذي لم يعد وطنًا بل تحول إلى سجن من الحديد، يلتهم الأرواح الحالمة بالحرية. كأنه يترك وجهه المحترق تحت مداس الوقت، محاولاً الخروج من غمد اسمه المستعار، لعبور هذا الموت الرمزي الذي يطارد روحه. ترك العراق وراءه، بحثًا عن السلام في مكان آخر، لكن العالم بأسره كان قفصًا أكبر، تمتد قضبانه في كل اتجاه، يلفه الغربة ويغمره الحنين. سافر رحيم إلى سوريا في سبعينيات القرن الماضي، باحثًا عن الأمان والحرية. كانت سوريا في مخيلته كنجمة بعيدة تلمع في سماء ملبدة بالغيوم، حلم مضيء وسط ظلمة، لكنه سرعان ما اكتشف أن ذلك الحلم لم يكن سوى سراب. كأنه يراقص طرائد الوجع على إيقاع الكوابيس، كانت سوريا امتدادًا لصحراء حياته، حيث كانت كل خطوة فيها تحمل معها عبء الكوابيس الماضية. ثم انتقل بعدها إلى ليبيا، ظانًا أنها ستكون واحة هدوء في صحراء التيه، لكنها لم تكن سوى معسكر ضخم تحيطه الأسوار العالية، غارقة في عزلة موحشة. كانت الشواطئ هناك كالصحراء القاحلة، صامتة، تفتقد الحياة، كأنها لوحة فارغة تعكس الصمت والوحدة التي اجتاحت كل زاوية من روحه. وكأن العالم مجذوب بالهذيان، بينما رحيم يركض خلف خطاه المتعثرة، محاولًا أن يحلق في رؤى قلبه الممزق. كان هو الخيال الضاحك التعيس، والانتظار يلتهم أنفاسه بين أنيابه. في وسط هذه الرحلة، كان هو ضوء الخرافة، بينما قنديله المتمثل في تجاعيد الوداع لا يتخطى مداه، يظل عالقًا بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يغمره صمت الكون العميق.

وقف متشامخا يحدق من علٍ في هذه الوجوه الكالحة المنثورة أمامه على الرصيف. وجوه هدّها الإعياء والسهر وأحرقتها ملوحة مياه البحر بعد ليلة عاصفة ظلت الرياح خلالها تدمدم والموج يحمحم مثل فرس مهزوم في سباق. ليلة رهيبة ارتفعت فيها الأمواج عاليا في صخب وعنف كاشفة عن وجه قبيح للطبيعة الثائرة التي لا ترحم. كانت ليلة مخيفة مظلمة لم يضئها سوى وميض البرق بين الفينة والأخرى فتكاد الأبصار تعشى ثم سرعان ما تعقب ذلك الوميض زمجرة الرعود الحادة العنيفة. هو البحر في أشد حالات غضبه وعنفه، يثور بلا إنذار ويهدأ بلا إنذار، وبين ثورانه وهدوئه تحدث أشياء لا يعيشها سوى البحارة الذين نذروا حياتهم لواجهة صخبه وغضبه وجبروته. في تلك الليلة رأى البحارة الموج يتلاعب بالمواعين كما تتلاعب الرياح بأوراق الأشجار أثناء فصل الخريف. رأوا المجاديف تتطاير والشباك تتناثر على الرصيف، شاهدوا المياه تصفع خدود المراكب فتبكيها.

عندما أزاحت أنوار الصباح غشاوة الظلام من أمام أعين البحارة أدركوا حجم خسارتهم، وأدركوا أنهم وحدهم سيعانون لأيام وربما لأسابيع محاولين رتق جراحاتهم. خرجوا من مآويهم وأوكارهم وأوجارهم وتوافدوا على الرصيف، جاؤوا فرادى، وظلوا يبحلقون في معداتهم المكسرة وشباكهم الممزقة ومراكبهم المحطمة. لم يستنجدوا بأحد بل رفعوا أعينهم إلى السماء يستغيثون. لا ملجأ للضعفاء سوى الله.

كان قدومه دراماتيكيا، وكان وصوله فانتاستيكيا، فُتِح له باب السيارة فنزل ومشى محاطا برجال أقوياء أشداء. كان يرتدي بذلة سوداء بخطوط بيضاء دقيقة. لمعت ساعة يده الذهبية فكاد لمعانها يخطف الأبصار. خاتمه الماسي بفصه الكبير يبهر الأنظار. تقدم ويده تحاول كل مرة إعادة ربطة عنقه التي تلاعبت بها الرياح إلى موضعها فوق بطنه المكور الكبير. لا أحد يعلم أجاء معزيا مواسيا أم شامتا هازئا.

سرت بين الواقفين همهمات سرعان ما تحولت إلى عبارات اشمئزاز وتقزز من هذا الزائر الغريب الذي حل بينهم في لحظةٍ مجنونة. كانت الكلمات في البداية مبهمة غامضة بأصوات خفيضة ثم انكشفت الحروف وعلت الحناجر بألفاظ السب والشتم. ارتفعت الأصوات وتداخلت فبدت لأول وهلة مثل نداءات الباعة في الأسواق الشعبية. لكن صوتا واحدا علا فوق كل الأصوات صارخا dégage. في تلك اللحظة توحدت كل الحناجر مرددة هذا العبارة التي أنجبتها التحركات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط النظام السابق ورحيل رموزه. كانت تلك العبارة كلمة عبور من عهد إلى عهد جديد خطه جيل جديد بلغة جديدة فأحدث فوضى جديدة غير مألوفة عمّت الشوارع والأسواق والساحات والمقاهي والمواخير والحانات والمعاهد والمدارس ووسائل النقل والمحطات وأروقة المحاكم ومدارج الملاعب ومدرّجات الجامعات. وبلغت تلك الفوضى أشدها عندما تحولت إلى مواقع النفوذ وأروقة اتخاذ القرارات المصيرية. لحظات مجنونة، لم يدرك أحد ما حدث إلا عندما شقَّ صوتٌ الليلَ "افرحوا يا توانسة الدكتاتور هرب". لكن التوانسة لم يفرحوا منذ تلك اللحظة. ظلت وجوههم واجمة وعيونهم جاحظة تتطلع إلى هذا الفرح الذي كلما حاولوا الإمساك به تفلّت من بين أيديهم كالماء. ظلوا يخوضون في بحار ناضبة وهم يخالون أن أجسادهم محمولة فوق الماء متناسين أن أقدامهم مغروسة في الوحل لا يستطيعون منه فكاكا.

تجربة غريبة دفعني إليها صديقي الذي أوْقعَني أكثر من مرة في مَواقِفَ لم أكُنْ أُحسَد عليها، ولم أكُنْ أُجيدُ الخروجَ منها. هو زيرُ نساءٍ بامتياز، لذلك لا يُراعي أية حدود إذا تعلق الأمر بمغامرة ستُفضي به إلى ربط علاقات جديدة، أو حتى مجرد التملي بوجوه نسائية جميلة... يستطيع أن يبيع أي شيء، أن يبيع نفسه حتى، في سبيل الحصول على تلك اللحظة. من ذلك مثلا أنه كثيرا ما كان يتردد على الحي الذي أسكُنه، لأنه لمَح ذات مرة بعضَ جاراتي، فأُعجِب بهن، أو بإحداهن، خصوصا بعد أن فتح شَهِيتَهن للحديث معه، مُتذَرِّعًا بالسؤال عني. ضَبطتُه ذات صباح يحمل باقة كبيرة من الورود، ويقف على مقربة من الزقاق، يختلس النظر إلى الأبواب والنوافذ، في انتظار أن تفتح إحداهن الباب لِيُهديَها الباقة... ولما اسْتيْأَس من خروجهن تَقدَّمَ نحو أحد الأبواب ليَطرُقها، لولا أنني منعتُه، مخافة أن يَخرجَ الزوج فنصبحَ، جميعا، في مأزق... بصعوبة صرفتُه عن فكرته، فاكتفى بوضع الباقة على عتبةِ بابٍ من تلك الأبواب، ثم انصرفنا، وهو يُشيِّعها، آمِلا أن يَحظى، على الأقل، برؤية إحدى تلك الجارات، وهي تلتقط الورود، كي تَعلَمَ أنها هديةٌ منه هو بالذات...
أما في هذه المرة، فقد كنتُ على موعد معه، كي نجلس في أحد المقاهي الفاخرة بهذه المدينة الحديثة التي نزورها، بعيدا عن مدينتنا الصغيرة الهادئة، النائمة في أحضان مجدها العريق... تأخَّر بعضَ الوقت عن الموعد، وكان ذلك دَيْدَنَه في غالب الأحيان، إذْ لم يكن ذلك يَضيرُه في شيء، ولا يَجدُ فيه أدنى حرَج... فمَنْ يَعرفه جيدا يَعلَم أنّ مِن عاداته ألا يَحضُر في الوقت المضبوط، لأنه، وهو في الطريق إليه، قد تَلفِتُ انتباهَه فاتنةٌ فتُنسيه مواعيدَه، ويُلاحقها حتى تعودَ إلى بيتها، أو تضيعَ منه في الزحام، أو تُسْلِمَه لأخرى أشدَّ منها فتنةً... كثيرا ما دعوتُ له بالهداية، وبالشفاء من هذا الابتلاء الشديد، ولكن يبدو أن داءَه هذا توغّل في خلاياه، حتى بلغ مرحلة مَيْؤوسًا من شفائها... أخيرا حضر، وبرفقته صديق له... وسأعرف في ما بعد أن صديقه هذا هو الذي اقترح عليه المكانَ المفضّل لجلستنا هذا المساء. بدا، طول فترة الطريق، متحمِّسا لاكتشاف هذا المكان، بناءً على إغراءاتِ صديقه، الذي يعرف بالتأكيد نوع ابتلائه، فراهَن عليه، ليَضمَنَ موافقتَه بسهولة.

انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.

في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.

يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بذلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.

في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملاؤه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية ، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.

كانت رحلة العودة من الماضي القريب جد مؤلمة، لم تتخللها لحظة سكون أو راحة نفسية. تتهاطل عليها الذكريات بشكل مفزع وتؤذي راحتها النفسية. فكرت طويلا، توقف دماغها عند نقط الصفر. ولم تعد تستحمل. اما الجنون أو الموت. لم تكن تظن يوما أنها ستلج القضاء من أجل الحصول على حريتها من الرجل الذي اختارته من بين الآلاف. وبنت معه بيتا دافئا وجميلا. ولجت مكتب المحامية، وجلست بهدوء ينذر بعاصفة هوجاء. كانت جد متوترة. سألتها المحامية: "لماذا تطلبين الطلاق؟" نظرات مترددة لكنها ثائرة وراغبة في الخلاص. أجابتها بصوت خافت رغم قوته الداخلية:" لم أعد أستطيع التنفس في بيتي." وبدأت الحكاية:
يوم تخرجت صفاء وحصلت على دبلوم الهندسة، كان هناك مع أحد أصدقائه، يرمقها من بعيد ويرميها بنظرات اعجاب. اقترب منها وهنأها على كفاحها الدراسي وقال لها:" مبروك." وابتسم وتوارى للخلف تاركا صوته يدندن حولها. يراقبها ويبتسم. ارتبكت في البداية، وتطورت العلاقة الى لقاءات يومية. حتى إنه كان يكلمها يوميا ويسألها عن يومها وأين توجد ومن يوجد معها. كانت صفاء لا تبالي بهذا الاهتمام الزائد، بل اعتبرته حبا حقيقيا يملأ عليها عالمها. نبهتها احدى صديقاتها الى هذا الامتلاك المغلف بالحب وقالت لها: " ان ملاحقته لك بهذا الشكل، لا يبشر بخير. "
كانت صفاء تعيش في عالم آخر، مملوءا بالهمسات والقبلات والعشق. تركتهم يلاحظون ويحذرون ومشت أميالا معه ولم ترغب في الاستماع إليهم. اعتقدت أنهم فاقدو الإحساس الحقيقي بالحب.
طلبت منها المحامية أن تشرح لها بالتفصيل الممل عن احساسها في تلك اللحظات. كانت ملامح وجهها صامتة، فقدت لمعان بريق عينيها المعهود، تتأمل الفراغ الذي أمامها بدون حياة. قالت:" كنت سعيدة جدا، سعيدة وكأنني طفلة تراقص لعب العيد."
عاشت معه أياما كلها صفاء واهتمام مبالغ فيه لحد الشعور بالاختناق. هاتفها يوما وهي في مكتبها. تركت الهاتف يرن، فرمته داخل حقيبتها وأكملت عملها. هنا، امتلأت مآقيها بالدموع، وانزلقت دمعة مباغتة لم تكن تنتظرها، وتركتها تنام على خدها، سألتها المحامية:" ما بك؟ هل تذكرت شيئا مؤلما." ابتسمت صفاء ابتسامة استهزاء ومرارة وقالت لها: "من هنا بدأت محنتي التي كنت أرفض أن أراها أو أشعر بها." وتابعت بنفس المرارة:" عدت الى البيت وكلي فرح بلقائه. كان هناك، بعينين تحملان شرارة الموت، صرخ في وجهي وقال لي: "لقد اتصلت بك مرارا. مع من كنت؟ " وتحول الى وحش، لم أفهم ساعتها ما يحدث لي. اعتقدت أنني أعيش كابوسا وسأستيقظ منه. لم أتكلم. تسمرت في مكاني كطفلة خائفة من العقوبة. واستمرت الأسئلة تنهال علي كأنني في استنطاق. وما زلت أتذكر كلمته الأخيرة، التي غيرت حياتي وجعلتني أسيرته بإرادتي.

وضع إبهامه على الصفحة، حدق جيدا قبل أن يتنقل بالبصمة على المساحة البيضاء، تنمل الإبهام، بات شبه مخدر، استبدله بالسبابة، تنملت، جرب الأوسط فالخنصر فالبنصر، وقفت يده كلها فوق البياض الممتد كغيمة ملفوفة بسحب من عهن منفوش، امتصته السحب، فانزلق في كومات من ضباب رمادي يتجه نحو التعمق في سواد مكدس، مزدحم، غلفه المجهول بخيوط عنكبوت يفيض سما.

ما الفرق بين الحياة والموت؟ سألته نفس شاردة من غيبوبة مكتظة بالتناقض، ما الفرق بين الثقة المنزوعة من القلب المعذب بالحنين لتجربة الثقة الموطدة في القبور؟ سألت النفس الواهمة بشيء من اليقين المخلوع من نفس تتوق للشيء الخفي، ربما النقاء، وربما الصفاء.

قالت النفس المتوثبة: القبور لا تتحدث، لكن العظام المتحللة المتكلسة، يمكن أن تخبرك بالكثير عمن انسلخ عنها، عن عمره، طوله، جنسه، مرضه، حتى أنها تستطيع الاسترسال بالحديث كمذياع لا يتوقف. بمن أثق إذا؟ بالشمس التي تغيب؟ بالقمر الذي يأفل؟ بالجليد؟ بالصحراء؟ حتى هذه كغيرها، لا تكف عن الصفير والجواح والهسهسة والطقطقة.

هناك شيء فيَ ذاتي، تكويني، يرجني، يخضني، كما يرج الزلزال الأرض من أعماقها، وكما يخض الفيضان ما على سطحها، يحمله من مكان ليضعه في مكان لا يشبه ما كان يألف ويعهد ويعرف، في كائنات تتوغل، تتعمق، تتجذر، تمد جذوعها وسيقانها، فيغزوها فطر يكاد لا يرى، يفتتها، يحللها، وينثرها فوق مكان البصمة تماما، فيختفي النثار، وتتلاشى البصمة، يقتحم المجهول غامض من الغيب المخبأ في الإضمار القصي عن المحسوس، الملموس. تتقاطر العقارب من كل الجهات، لكنها رغم ما تملك من عيون تظل عمياء عن رؤية البؤرة التي تتضفر بأعماقي كضباع لا تكف عن سفك الروح أمام الحياة، فهي هكذا خلقت، كالكلاب التي تستمد حياتها، بقاءها، من الألم المعتصر من الضحية التي تنهش وهي تراقب بلوعة اختفاء روحها المطحونة بين الأنياب والأضراس.

تلخيص
سنحاول في هذه الدراسة مقاربة رواية (قطط إسطنبول) للروائي السوري زياد كمال حمامي والنبش في دلالات ورمزية القطط في هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية  لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات) ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلا، مع ردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان) لنتساءل عن السر في اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربي.

 

تواصل الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبي الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربي ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربي في واقع  زئبقي مختل عصي على التصنيف يعاني أزمة قيم، يتحول (se métamorphose) باستمرار، لا يستطيع أي تعبير فني آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات،  فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة... ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة في عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب في الدول المجاورة التي اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكي للعراق ، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربي التي دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم... فتهاوت قيمة العربي في بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار...

وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشييء الإنسان العربي إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائي العربي أن اللغة المباشرة عاجزة على استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد في الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان (الذي كان رمزا للوحشية والهمجية) أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التي تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن...  وقد يكون في حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية... ولعل من الروايات الصادرة حديثا في هذا الموضوع رواية (قطط إسطنبول للروائي السوري زياد كمال حمامي لتنضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائي بعد روايات (الظهور الأخير للجد العظيم) و(الخاتم الأعظم) ورواية (قيامة البتول الأخيرة) ...

عند تصفحي لرواية " صابرين" للكاتبة نُعمى شاكر، المغربية المولد، العربية الانتماء، المهجرية الإقامة، لم أشعر إلا وأنا أجاوز العتبات بسرعة فائقة، تتجاذبني الحكايات المتتابعة مثل غزلان تتهادى بلا توقف، لأجد نفسي إزاء الصفحة الأخيرة أتساءل معها: (ماذا لولا القبو؟)
الكتاب سيرة ذاتية بحس نفسي عميق، لكاتبة باحثة في علم النفس، وهذا ما أعطى للحكي بعدا جماليا من نوع خاص. فإذا قيل بأن الكتاب الأول لا يُعوَّل عليه، فإن الانطباع الأول الذي ينتاب القارئ يبدو إيجابيا إلى أبعد الحدود باتجاه ضمان استمرارية الكاتبة، لما تتوفر عليه من قدرات لغوية ومعرفة سيكولوجية ونفسية وغزارة في الحكايات، وسهولة في السرد الذي ينزاح صوب السهل الممتنع...
تطالعك العتبات المتداخلة بشكل غريب، تتحسس من خلالها مضامين الرواية، حيث تمتزج جمالية الإسم (صابرين) بحمولة معنى الكلمة وما توحي به من حث على صبر النفس بصيغة الجمع... وتمتزج في لوحة الغلاف للفنان معاذ السيد، صورة شابة تُسند همَّها على ركبتيها وتعطي ظهرها للكون ، بصورة بدر مكتمل خلفها يرسل بارقة أمل وسط الظلام المخيم... تُجاوز صفحات الرواية مائةً وخمسين صفحة بقليل، وهي صادرة عن دار "اسكرايب للنشر والتوزيع، بجمهورية مصر العربية". وقد اختارت الكاتبة أن تؤثت الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب بفقرة معبرة، تلخص معاناتها ونظرتها للحياة، مذيلة كل ذلك بصورتها الشخصية وهي مبتسمة، في إشارة واضحة إلى الأمل والصمود الذي يجب أن يتحلى بهما الكاتب حتى في أحلك مراحل الحياة... كما اختارت أن تهدي هذا الكتاب إلى كل من يصر على الحياة ويحارب كي يعيش... بل اختارت أن تنهي الكتاب من حيث بدأت: تحذير القارئ من دخول القبو، سواء دخله أو لم يدخله، والتجاؤها إلى القبو في النهاية كحل أخير وهي تتساءل عن مصيرها في حال غياب هذا "القبو..." تاركة للقارئ مساحة التأرجح بين قبو معنوي وقبو محسوس...
ورغم أن الكاتبة جعلت من الحكايات المؤطرة فصولا مرقّمة بلغت عشرين فصلا، إلا أنها تبدو فصولا بلا فواصل، بل إنها حكايات مندمجة ضمن الحكاية الإطار، حكاية صابرين، تسردها في تتابع وانسجام مبرزة أدق تفاصيل الأحداث والأوقات والفضاءات والشخوص، عبر مراحل متفرقة ومجتمعة في آن واحد من حياتها، بنكهة نوسطالجية ، وتحليل نفسي لمختلف الحالات التي طبعت ذاتها والشخصيات المصاحبة...

يتضمن ديوان «صمت الخيام» للشاعر المغربي داحوس عبدوس نصوصا تتشكل من عناصر الإبداع الشعري الإيقاعية، والبلاغية فضلا عن موضوعات ذات أبعاد ودلالات متنوعة ترسم أفق تجربة كتابة تنحت مسلكياتها الخاصة في خارطة شعر متعدد الرؤى والمقصديات.

فإن جاءت نصوص المجموعة بأسلوب نثري إلا أنه لا يعوزها الإيقاع بشقيه الخارجي والمتمثل في نص «لونك ملك يدك» : " واعلم سر الصبائغ زيتا وماء... فالكل سواء . " ص 10، حيث الروي ( الهمزة)، والتي يمكن اعتبارها ساكنة بجرْس مغلق، والكاف في قصيدة« لوجودك وجهان » : "مرفوض طلبك . لا وجود لقهوتك " ص 28، وهنا الروي ( الكاف) قابل للإشباع . والداخلي من خلال تكرار نفس الحروف مما يجنب النص مغبة السقوط في رتابة نثرية ؛ في مثل عنوان« لونك ملك يدك » ص 9، والذي يجسده تكرار الكاف، والهاء والتاء في : " والأمهات المكرهات " ص16، والسين في قصيدة« لوجودك وجهان » : " على ضفتي كل طاولة جنسان نظرات الأنس وحميمية الجلوس .حديث رومانسي. " ص29، فتجانس الحروف يمنح القصائد إيقاعا ينبع من طبيعة تركيبها وتتابعها. وتوظيف الثنائيات الضدية مما يخلع على الأسلوب زخما جماليا ودلاليا عبر استخدام عنصر الطباق كمكون بلاغي في قصيدة « إنشاد الشعر قدري »مثلا : " الصوت والصمت تحت قدمي " ص 13، لاحظ من تقابل الصوت والصمت، نفس التضاد يحضر في غرضيْ الشعر الهجاء والمدح : " هجاء ومدح " ص22، و : " فرح وحزن " ص26، و: " بين مد وجزر " ص33، حيث يتوالى الطباق كشكل تعبيري بحمولات متعددة الأوجه والمناحي . والجناس الذي استعمل في العديد من أساليب المجموعة، مثل قصيدة «هناك ... بلا إذن أحد» التي تستهل بعبارة : " الروح تناجي الروح " ص 64، وقصيدة « حياة تحت الصفائح » حيث تتوالى كلمات : " ونكبر، وتكبر فينا الطفولة، ويكبر الفرق بين طفولة وطفولة ،طفولة سيد، وطفولة عبده ..." ص18، فبالإضافة إلى تكرار ( طفولة )، و(يكبر ) لتجسيد الجناس يحضر، على شكل تضمين، الطباق في : سيد وعبده، عبر خلق نسق بلاغي متداخل ومتآلف العناصر. وعنصر التشبيه الذي انضاف لعنصريْ الجناس والطباق لإثراء وتعميق السمة البلاغية التي ميزت القصائد، في استعمالات متنوعة اقترن فيها بأداة الكاف تارة : " وكالغابة التي تصحو من نومها " ص59، وفي : " حيث تحط كالندى " ص 115، وخال من الأداة طورا، في مثل : " البيوت كلها أضحت لوحات " ص10، كما طغت على نصوص المجموعة سمة المجاز التي طبعت العديد من أساليبه وعباراته كما في قصيدة « هناك » : " أنصت إلى روح النجوم إلى السحب وهي نائمة في حضن الظلام " ص7، في استعارة الكلام للنجوم، والنوم للسحب، وهي تعابير ترقى بالمتن الشعري إلى مقام بلاغي يمنحه جمالية لغوية، وبعدا دلاليا.

     شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه ، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان ، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل ، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ ( الانطفاء ) ومَرجعيةِ الحُزْنِ ( الاشتعال ) ، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ ، وتَخليدِ المَيِّتِ . وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه ، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .

     والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء ، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .

     مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب ، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ ، وإعادةُ تأويل للوُجود ، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه ، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة ، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .

     والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة ، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين ، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر ، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود ، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع ، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية ، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .

آه يا تونس الخضراء لقد مضى ربيعك سريعا خجولا تائها منهكا هرما وصار صيفا لهيبا حارقا يلفح أغصان ثورتك البريئة، هذا ما أرادت أن تبوح به رواية حرائق قرطاج للمبدع خير الدين جمعة من خلال مشهد سردي شامل لأحداث الثورة التونسية التي وقعت في العام 2011.

اعتمد الكاتب في بنائه لهذا المشهد الروائي على أسلوب السرد بالشخصية المتعددة  بالمعنى الذي ذهب إليه المفكر الفرنسي رولان بارط ، ويسمى أيضا أسلوب السرد بالضمير الأول؛ فقام بتقديم أحداث الرواية من خلال رؤية ومنظور شخصيات الرواية نفسها مستخدما ضمير المتكلم، ليكون السرد مباشرا وشخصيا عكس من خلاله آراء ومشاعر وتغيرات هذه الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية، الأمر الذي يسمح للمتلقي بالتواصل والتفاعل العميق مع الشخصية، وفهم دوافعها وتحليلاتها الفكرية، والتأثر بها أيما تأثر؛ ليضفي مزيدا من الواقعية على أحداث الرواية.

استخدم الكاتب في روايته لغة شاعرية مترعة بالصور والتعبيرات البلاغية، وتنوع في أساليب السرد والوصف والحوار مع توسع ملحوظ للوصف والسرد ،  الأمر الذي أضفى المزيد من الحركية المناسبة للصراع بين شخوص الرواية والواقع المرير، والمزيد من الواقعية أيضا.

الشخصية الأولى: خليل بن خليفة (المال )

يصدق فيه قول الشاعر  الفلسطيني محمود درويش ( انتصرت، مجازا أقول خسرت، ويمتد وادي سحيق أمامي  ). خليل الانتهازي رمز لتلك الطبقة الثرية التي تتكيف مع كل الظروف لتحقيق مصالحها، وتعيد تشكيل نفسها وتغيير جلدها كالحرباء، وقد تكون هذه الفئة الأكثر تأثيرا في فشل المشهد الثوري التونسي برمته؛ لأنها تلدغ في العمق، وتسري كالسرطان في كل مجال من المجالات التي تمثل المجتمع ككل.

لم تظهر شخصية خليل في الرواية بهذه السلبية والسوداوية بشكل مفاجئ بل تطورت مع تطور الأحداث وتناميها؛ فقد نشأ خليل في أسرة  انتهازية محبة للمال والنساء، وكان قدوته في هذا خالد الأخ الأكبر له، وهو الذي أوصله بطريقة ما إلى سناء، وكان والده تاجرا بخيلا على ما يبدو على أبنائه، وعندما رفعوا عليه قضية الحجر على الأموال استغل خليل الفرصة جيدا وحصل على الثرورة كلها بحكم علاقته الجيدة بوالده، بعدما تعاون معه في تسليم رفاق الأمس للأمن  الداخلي و من ثمّ اعتقالهم و سجنهم  فترة توهج الثورة ، ثم انعزل عن  رفاق الثورة بالثروة  متلفعا بعاره .

يبدو أن التفكير في الأدب لا ينفصل عن الممارسة الأدبية نفسها، على الأقل حين تمر هذه الممارسة عبر الكتابة: إضافة إلى الثقافة الغربية، فإن كل الحضارات التي عرفت الكتابة، سواء أتعلق الأمر بالهند، أم الصين، أم اليابان، أم بالفضاء الثقافي الشاسع للأمة الإسلامية، قد أنتجت ثقافة محلية حول الإنتاجات الأدبية. صحيح أن طريقة التفكير التي طورها الغرب قد بدأت نتزع إلى استئصال أنماط التفكير المحلية، منذ القرن التاسع عشر، بموازاة مع التوسع السياسي والاقتصادي للحضارة الغربية: ولكن من المهم أيضا أن نؤكد على أن الحضارة الغربية لا تنفرد بالتفكير في اللغة، كما أن المفاهيم الوصفية والمنهجية المؤسسة لتقاليدها النقدية لا تشكل النمط الوحيد الوجيه للتفكير في الأدب.
ليس مجالنا هنا أن نقدم عرضا لتاريخ التفكير في الأدب عند الغربيين، والذي لم يتوقف عن مواكبة التطور الأدبي بأشكاله المختلفة ، منذ أرسطو وحتى خلال العصر الوسيط (خلافا للرأي الشائع)، (انظر كلوبش، 1980، هوغ ، 1985). سنقتصر هنا على التذكير ببعض الوقائع العامة التي يمكن أن تساعد على فهم أحسن للوضع الراهن.

النموذج الكلاسيكي
منذ العصور القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر عموما، مورس التفكير في الأدب أساسا وفق ثلاثة محاور، مع اختلاف في التأكيد على هذا العنصر أو ذاك باختلاف العصور:
1) الشعرية: والمقصود بذلك دراسة الوقائع الأدبية من زاوية الفن اللفظي. إن التفكير في فن الشعر الذي أسسه أرسطو كشكل خاص للدراسة، قد ظل حاضرا عبر العصور، رغم أنه سيفقد بسرعة استقلاليته التي منحها له صاحب كتاب فن الشعر، وسوف يتم احتواؤه من طرف البلاغة. واقتضى الحال أن ننتظر عصر النهضة، وإعادة اكتشاف نص أرسطو لكي تستعيد الشعرية استقلاليتها.
2) البلاغة: وتعني تحليل الخطابات ، وخاصة مجموع الوسائل المستخدمة لضمان التواصل الجيد. إنها مهارة تقنية مرتبطة بالحياة العمومية أولا ( يجب أن يتعلم المرء الوسائل اللسانية المناسبة للاستخدام من أجل تحقيق الهدف المقصود)، ومع ذلك فإنها تحمل في طياتها منذ البداية مكونا تحليليا ما دام اكتساب فن الخطابة يمر عبر دراسة النماذج الخطابية الجيدة. ولأسباب تاريخية ( ومنها على الخصوص تراجع الديمقراطية في العصور القديمة)، فإن النصوص الأدبية بحصر المعنى ( الأعمال التخييلية والشعر) ستحظى بمكانة متزايدة الأهمية على مستوى النماذج الخطابية التي تشكل موضوعا للنقاش. وفي نفس الوقت، فإن الخطاب الأدبي سيحتل مكانة مركزية بين الأجناس الخطابية المدروسة. وسوف يستمر هذا التطور خلال العصر المسيحي ليؤدي إلى إفقار حثيت وعنيف للبلاغة التي سيتم اختزالها تدريجيا لتقتصر على مشاكل البيان.
3) الهرمنوطيقا: والمقصود بها نظرية التأويل. ورغم اقتصارها في الأصل على النصوص المقدسة، فإنها تناولت أيضا منذ العصر الإسكندري المشكل الفقهي اللغوي المتعلق بتأسيس النصوص الآدبية الدنيوية. أضف إلى ذلك أن النصوص المقدسة في التقليد اليهودي والمسيحي تحمل مجموعة من القواسم البنيوية مع النصوص الدنيوية الترفيهية (نصوص سردية وشعرية): فبعض المشاكل الخاصة التي تتناولها هرمنوطيقا النصوص المقدسة تتدخل أيضا في فهم النصوص الأدبية بحصر المعنى، خاصة قضية الرمز والحكاية المجازية. وفي النهاية عوض النقد الفيلولوجي ابتداء من عصر النهضة بشكل متزايد هرمينوطيقا النصوص المقدسة، رغم اقتصارها في البداية على الأعمال المنتمية للعصور القديمة.
في دراسة كلاسيكية حول تقاليد النقد الغربي، ميز أبرامس ( 1953) بين أربعة ، وليس ثلاثة ، توجهات نقدية. حسب ما إذا كان الناقد يركز على الفنان المبدع، على العمل الإبداعي، على الواقع كما يعبر عنه هذا العمل أو كما يفهمه الجمهور المقصود بهذا العمل. لقد ميز أبرامس بين : النظريات التعبيرية، التي تحدد العمل الأدبي كتعبير عن ذاتية فنية؛ النظريات الموضوعية التي تحصر العمل الأدبي في بنيته النصية المحايثة؛ النظريات المحاكاتية التي تحدد هذا العمل في علاقته بالواقع الذي يمثله؛ وأخيرا النظريات التداولية التي تحلل العمل الأدبي من زاوية آثاره على المتلقي. تنتمي الشعرية طبعا للنظريات الموضوعية، وتنتمي البلاغة للنظريات التداولية. هذا صحيح على الأقل إذا التزمنا بالحدود الكلاسيكية لهذين المجالين المعرفيين، رغم أن هذه التحديدات قد تبدو إشكالية نظرا لصعوبة الفصل بين العوامل التركيبية والتداولية ضمن تحليل الخطاب. أما النظريات المحاكاتية فإنها تنتسب للقطب الهرمينوطيقي، إذا نظرنا إليها كنموذج مميز للتحليل الدلالي ( وهو عمليا تحليل من زاوية العناصر المرجعية). أما النظريات التعبيرية فلم تتطور بشكل فعال إلا مع العصر الرومانسي.

     قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا ، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا ، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية ، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية ، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

     وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

     وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

     وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.
منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.
" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.
هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.
" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.
وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.

"لا يبقى العالم كما كان بعد أن تُضاف إليه قصيدة جيدة"
 ديلان توماس
من عليائه الشعرُ تنزَّل، فارداً جناحيه على امتداد الفضاء ووُسْع المدى، يعلوه الجمال والكمال والجلال والبهاء، يغسل وجه الوجود، ويُحيي موات الموجودات، يحضن الحائرين والعاشقين والمعذّبين والسائرين نحو الجمال. كُتِب بماء الذهب، وعُلّق على جدار الكعبة تكريماً واحتفاءً وتقديساً، فكانَ بدايةً للكلام والحكمة، وكان ديوان الإنسان والقبيلة، وحامل أخبارهم وأسرارهم وقصصهم ورحلاتهم وحروبهم. دوّن الأخلاق العربية، الكرم والوفاء، الشجاعة والإقدام، الانتماء للأرض وللديار، الحب والحسب، البيداء وصفاء الفضاء مع رحابته..

تغيَّر الظرف، وجاء الإسلام بنوره ليضيف قيماً ويلغي أخرى، ويفتح للشعر آفاقا جديدة حيث ارتبط بالدعوة الإسلامية، فانخرط شاهراً كلمته، منافحاً عنها بالكلمة، ومسجّلاً فتوحاته وغزواته وآثاره قصائد. وتتعاقب العصور تَتْرى، يلاحق بعضها بعضاً، والشعر يسير جنبها خاضعاً للتغييرات التي يأتي بها كل عصر، ففي العصر الأموي ظهرت الخلافات السياسية والقبلية والمذهبية، وتحيَّز الشعر إلى الجماعات ينشُر أفكارها ويدافع عنها، ولبس لكل موقف وجماعة لباسها، وتنقَّل بين الفخر والوصف، وبين المدح والهجاء أو خاض في الغزل والخمريات والنقائض..

ثم أضحى عبّاسياً حين انفتح على الثقافات الأجنبية التي وسَّعت مجالاته وآفاقه، فجدَّد ألفاظه، ومال إلى المُحسّنات البديعية والألفاظ الجديدة تبعاً لتطور الحياة، فجاء الشعر رقيقاً في النَّسْج، ودقيقاً في التصوير، ومُزخْرفاً في اللفظ، ومتيناً في الصّنْعة..

وحين هبَّت رياحُ الأندلس، أصبح للشعر طعمٌ جديد وميزانٌ، وأحاطتْ به أَلْسُنٌ تنوّعتْ بين اللاتيني والقوطي والبربري والعبري، نما وتجمَّل حِسُّه وهو يصغي للآذان يصدح من المآذن، وللأجراس تدقّ في تناغم جميل. ازدان حَرْفه حين وصف المنتزهات والعمارة وانساب موشّحاتٍ وموسيقى وغناء..

ثم امتد إلى العهد العثماني حيث تدهورت الأوضاع ولم يتدهور الشعر، لأنه لسان الزمان والوقت، فنشأ البديع والتصوف والمديح والمراثي والملاحم.. ليصل إلينا مُزهِراً، جمع حول محرابه منَ العاشقين والحالمين والغاضبين والسّائرين نحو الحق والحب والجمال، يؤوبون إليه حِصنا حين تشتدُّ الأزمات، وتنقبِضُ دوائر التّوحُّش والقُبح على الإنسان، أو حين يرتاح القلبُ على أعتاب الجمال، فتتَّسعُ رؤاه، فيفرد جناحيه طائرا مُحلّقا مُنْشداً ركنا قويا ينسُج سر الكلام والبوح، أو يَسْرحُ حرّاً في فضاءات لا نهائية لوجودٍ يتّسعُ كلما اتّسع للحرف الكلام، شعراً حرّاً أو نثراً ينقل معاناة وغضب الإنسان، والسير به ومعه على صهوة السِّحر والجمال والدهشة مرة، والغضب والصراخ والمواجهة مرات أخرى..

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • شعراء في ضيافة دار الشعر بمراكش يفتحون نوافذ شعرية جديدة في بيت المعتمد بأغمات
    شعراء في ضيافة دار الشعر بمراكش  يفتحون نوافذ شعرية جديدة في بيت المعتمد بأغمات التأم مجموعة من الشعراء والإعلاميين والفاعلين الجمعويين، ليلة السبت 8 يونيو، ضمن فقرة جديدة من برنامج "نوافذ شعرية" بفضاء بيت المعتمد بأغمات. هذه البرمجة التي تسهر عليها دار الشعر بمراكش، في أن تكون نوافذ مشرعة على التجارب والحساسيات وأجيال القصيدة المغربية الحديثة، وأيضا هي نوافذ جديدة تفتح في أمكنة وفضاءات أخرى، ضمن سعي حثيث من الدار لانفتاح برامجها على مدن وجهات أخرى خارج مدينة مراكش. ثلاث تجارب شعرية بأنماط رؤى مختلفة، تعبر عن راهن الكتابة الشعرية المغربية اليوم، ومنها أصوات شعرية تكشف الدار عن تجاربها لأول مرة. الشعراء: لبنى المانوزي وعائشة إذكير وسعيد التاشفيني اختاروا ديوان نوافذ شعرية، كي يخطوا "زمن الالتباسات الآسر" حيث الذات أمست "مثخنة بجراحاتها وانكساراتها"، وحيث الحياة "تستعيد صوت الشاعر كي يعيد ترميم الخراب". تعددت تيمات…