دموع الرجال السبعة – نص: أبو بيان الخلادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أصاب الفيروسُ شجرةَ مراكش وارفة الظلال، غنية الثمار، فمحا ليلَها، وشل نهارها... ثم تسرب إلى جذورها الممتدة نحو عوالم السياحة والاقتصاد، ومنعَ إكسير الحياة الذي ظلت تَنفُثُه بركات ستّي فاضمة وأوريكة وأوكيمدن...
عبرتُ شارع الفاسي الذي بدا كعملاق يتفوه في كسل صباح السبت، وودعتُ صديقي السيمو المقاول الشاب... نغماتُه حزينة، وكلماتُه تَصُكَّ مسمعي: أخطبوط الأزمة يطبق على قطاع العقار... ثم توجهت إلى سيارة الأجرة الكبيرة بمحطة "السعادة"، في اتجاه الساحة التي يَفْتِلُ الحَكَواتي خيوط أنينها بإتقان.
قفز السائق من مكانه وفتح الباب بقفاز من حرير الترحيب، ولما تحركتُ استعدادا لطلب الوقوف، خيَّرني في أي مكان أريد، قانوني وغير قانوني... وبالفعل كان ما كان، عكس طاكسي العودة والذي كان صاحبه عنيفا متوترا، عشرات المرات قبضتُ على قلبي خوفا من أن يصطدم بالآخرين. وبمجرد أن تهم بقطع الشارع، يمهل الطاكسي الصغير سيره في انتظار إشارتك للوقوف، ثم ينصرف في هدوء... لم تعد له نظرة شزْراء ولا أنياب حمراء، ولم يعد يصعّر خده للناس، وكأنه لأول مرة يعرف أن لا فرق بين مواطن مغربي وسائح أجنبي إلا بالتقوى.

يعبر الناس عشوائيا، لكنهم لا يدخلون الساحةَ غرباء كالسابق، فقد بدت أكثر اتساعا، والوجوه مألوفة وكأنها تعرف بعضها البعض من زمان... تُخرج الساحة عينيها وتَشحذ أوتارَ عنقها كخرساء أوشكت على الكلام، ولو حصل لقالت: (أنا أمُّك، عانقْني بحرارة، وأَطِلِ المكوث... لا أريدك أن تغادر)... والناس متفرقون هنا وهناك يستفسرون عن المعنى، أكثرهم لا يعرف لِمَ هو هنا، كتلميذ انتفتْ حوافزُه فرأى المعلمَ مُملا والقسمَ سجنا...
تقف أحصنة العربات السياحية على ثلاثة قوائم بالتناوب كي تكسر تعب الوقوف الطويل، وقد صارت أكثر عدوانية رغم صمتها الثقيل، تنشر الحزن على بساط من الروائح النتنة. وحتى راكبوها القلائل يشعرون بأنهم صاروا فرجة بدلا من أن يتفرجوا على الأماكن السياحية والعادات وغيرها، تحاصرهم الأعين من كل الجهات...
تعمدتُ اختيارَ مقهى قاطعتُه لسنوات... النادل هو هو، والفضاء هوهو مع بعض الهواء المنبعث بين الطاولات المتباعدة، ليفسح المجال لمرور الفيروس كما يمر الأكسيجين بين صهريج المنارة ومطارها... سبحان مبدل الأحوال... إنه يكاد يفرش لي الورود... اخترت مقعدا وهممتُ بالجلوس تحت ابتسامته... انتقلت إلى الجهة الأخرى... أعاد المقعد إلى مكانه، ثم تبعني مبتسما. طلبت قهوتي، ولما عاد وجدني في مقعد آخر:
- هل يريحك هنا؟ مرحبا...
Abderrahim EL KHALLADIكانت الشمس حارقة ذات عصر صيفي... صُلْتُ وجُلت في الساحة متنقلا بين أطباق موروثها الثقافي والاجتماعي بتناقضاته العجيبة وأبعاده المحلية والإنسانية... أكْتادي تنوء بثقل المنظار الذي كنت أنظر به إلى الأشياء، وأنا أتنقل من حلقة إلى أخرى، ومن شكل إلى آخر، وكلما أحسست بالتعب ناداني صوتي الداخلي: لا يمكن التوقف فالمنظار لا تصفى عدساته في كل حين... فقد تندم إذا قطعت...
بالكاد كنت أجر رجلي خلفي، الملاذ الوحيد هو المقهى المزدحم لتناول مشروب حلو ومدّ الساقين لاسترجاع ما تبدد من طاقتهما. انتظرت أحدهم يتأهب للمغادرة كي أحتل مكانه، رميتُ بثقل يومي على الكرسي وأنا أتأمل قارعة الطاولة، فهي لا تكفي إلا لشخصين. ولم أنعم بالجرعة الأولى، حتى لاحظت حركة غريبة، فالنادل يسحب كرسيين إضافيين ويلح على سائح وصاحبته بأن يشاركوني المكان. اكتفيت بالنظر مستغربا. أما السائحان فقد أبديا احتراما مبالغا فيه واستنكارا لإلحاحه بأن يجلسهم بجِواري يشاركونني نفس الرقعة، وهو يردد بفرنسية ركيكة:
- La table pour quatre personnes
وقد بدا من نظراتهما أنهما كانا ينتظران انتفاضتي، لكنهما جلسا بإشارة ترحيبية مني.
هو نفسه الذي يحتفي بي اليوم ويتحمل هْبالي... لم تتغير مشيته، ففي كل مرة يهبّ مسرعا بين الطاولات ،ثم يفرمل، ويكتفي باستطلاع فضاء المقهى... زفّ إلى قهوتي باحترام، وتركني في راحة، أُطلِق سهامَ بصري في أرجاء الساحة التاريخية.
لم تكن سوى تلك الإفريقية نفسها التي تفرش بعض المبيعات في الأرض، لها طريقة خاصة في الحديث، فنظرتها وابتسامتها تشعراك بأنك تعرفها عن قرب. لها قدرة سحرية على تكسير الحواجز... نعم إنها هي، لكن فمها ازداد اتساعا تماما كالقميص الذي أنزلته من جهة اليسار حتى بدا كتفُها عاريا...
بائعُ الفقاعات يتساءل لمَ هَجَرَه الأطفال، فهو يكتفي بحمل أشعة الشمس الثقيلة على رأسه، ويتنفس من فمه كاشفا عن أسنان صدئة جافة. لا تكفّ سبابته عن الحركة، ولا يدري لِمَ ينتهي السائلُ سريعا... ذهنُه مسافر إلى السماء، وحين يعود تراه يحرك شفتيه متمْتِما بكلمات لا يفهمها إلا هو. لكنه لا يعرف لماذا ينظر إليه الكبار ولا يدري كم صبّ على وجوههم من الفقاعات المجانية...
بائع النعناع اقتحم الساحة شبه الفارغة يحمل كيسه البلاستيكي الأصفر، ويعرض بضاعته على الناس... يمد واحدة إلى بائعة متجولة، ويشرح كثيرا، يخطئ العنوان فيواصل رحلة المجهول، فاسحا المجال لبائع النظارات الشمسية الذي تحول إلى محاضر، مستغلا حياء الفتيات الثلاث... المهم أنه عثر على متنفس.
كان الناس –خصوصا الأسر- يتبرمون من نظرات مرتادي المقاهي... لكنهم اليوم هم من يقوم بالتّفرُّس في وجوه الجالسين واحدا واحدا... هممتُ بمغادرة مكاني، قبل أن يستوقفني أمر بعض كناوة وأولاد سيدي أحمد أوموسى، إذ لم يعودوا يكتفون بالفرجة وجمع بعض الدراهم عن طيب خاطر، بل تحولوا إلى الاستجداء، كحال صاحب العربة اليدوية الذي يقابل البازارات، ويناديك، يعرض خدماته عليك رغم أن يديك لا تحملان ثقيلا وعينيك لا تبحثان عن مُساعد، ولأنك لم تفهم فهو يتوسل إليك أن تتصدق عليه ببعض المال.
لا يُنْصَح بوُلوج البازارات لأصحاب القلوب الضعيفة... ولا مجال للتيه بين ممراتها والتواءاتها ومغاراتها، ولا داعي للحديث مع أصحابها وتابعيهم وتوابعهم في السلسلة الاقتصادية الصدئة... أما جيرانهم من مختلف التخصصات فوجوههم أصابتها التجاعيد، باستثناء بائعي الزيتون الذين حافظوا على نضارتهم وزيادة...
كان بائعو عصير الفواكه ينادون الناس للتذوق، أما اليوم فيطردونهم بنشاز أصواتهم، ويُنَفّرونهم بحناجرهم المتسابقة، التي لا تتناغم مع سيمفونية الفواكه المعروضة بإتقان...
تعِبَ بائعو الأكلات الشعبية من توقّع عدد الزبناء، منْشطرين بين الطعام الواجب تجديده، وذاك الذي يكتفون بتسخينه وإعادة استعماله، أما المطاعم فبعضها أصابه الكساد، وبعضها يعرف اكتظاظا تختفي فيه شوكة الفيروس وسط روائح المطبخ المراكشي...
مشروب الخدنْجال والمْساخن كاد يفقد طزاجته ومفعوله، فعند بعضهم ترفضه من الرشفة الأولى... ففي بداية كل ليلة يتخلى عن السهر في الساحة ويجُرُّ عربته مبكرا إلى البيت مستشعرا ما فضل وبقي، يغلق الباب، يطل على العبوة، ثم يتركها في البهو إلى الغد، مكتفيا بإعادة تسخينها...
ناقِشَةُ الحنّاء تظفر ببعض الأصابع، وعند النقش لا تدري هل تحافظ على نفس الأشكال أم تكتفي بخط عبارة (لا غالب إلا الله)، تحت أنظار الصومعة التي تسند رأس مطعم أركانة وتشاركه نحيبه...
العرّافة لم تُغيّر صوتَها... فهي ما تزال تعتقد بقدرتها الخارقة على فهم الأحداث والتنبؤ بمساراتها، مُطَمْئِنة التائهين بالمستقبل الزاهر...
وحدَهم الرجال السبعة استراحوا من وطْء أقدام الزوار وكاميراتهم المزعجة، لكنهم ما خَفَتَتْ أنوارُ يقينهم، ولا جفت دموعهم عن ترديد (اللّطيف) أملا في فرج قريب...

تعليقات (1)

This comment was minimized by the moderator on the site

قراءة سوسيولوجية وسيكولوجية ممتازة. لقد جعلتنا نتجول معك في مراكش، ونطرح معك نفس الأسئلة...
برافو
وشكرا استاذي

نور
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة