اِطمئن يا قلبي – نص: غزلان ايت جعفر و عبد الحفيظ ايت ناصر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مرت كل هذه السنين وأنا أعتق الحب في قلبي، ظنا منها اني قد سلوت عنها، ولكن هل ينسى القلب من احب، والحقيق به اكثر انه لا ينسى الذين احبوه، قد صُمْتُ عن الحب منتظرا ان يطلع عليَّ هلالها، منتظرا سُقياها كي تبتل عروقي بشراب الحب.
كنا صغيرين والحب يضم قلبينا بخيطه السماوي الصافي كفراشات لطيفة في بستان زاهي، في كل مرة يجمعنا الرصيف أحس بنظراتها تخترقني، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك النقش على اطلال قلبٍ غابت عنه يمامته منذ زمن بعيد، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك الرسم الفرعوني، انه الحب المعتق والعشق المسجى في البردي، النقش الازلي العريق.

سالت اوردتي بعدك بالأسى وضجرت مني كل امكنتي ورفضتني كل ازمنتي، يا ليت ذاك الزمن الاول يعود، حيث لمسة يدك غير المقصودة تزرع في فؤادي محابقا وزعتر، وتنبث فيه الياسمين و الأقحوان، يوم جلوسنا على نفس الكرسي، أيام العتاب الجميل حين كنا نرسم حدودا على الطاولة، هذا العتاب الطفولي اللذيذ، كم من الشوق يعتمل في فؤادي، وكم تمزقني الذكرى.
وها انا اهيم بين اشجار اللوز، فالأماكن كلها غربة، و وحدها ذكرى الطاولة كانت لي الوطن في بعدك عني، كل الكراسي وكل الطاولات حِرَبٌ تمزق قلبي، لأنها تحمل في احشائها تلك الذكرى التي لا استطيع القبض عليها، ان تعلق في لحظة لن تعود يشبه الامر السقوط في بئر عميقة دون ان تجيد السباحة، إن الاغتراب هذا هو الموت الوحيد الذي يصيبنا.
كان الوشاة سبب الواقعة المشؤومة، ألم تعلمي يا محبوبتي انك كنت كالفراشة الزاهية في بستان الآس والنسرين، ولا يدري الرائي اي روعة تأسره أ روعة الفراشة ام روعة البستان، إن الحساد هم من صوب سهام غدر الحب السماوي البريء الذي كان يجمعنا، ليت الوقت رحمنا ورحم قلبينا، كان الوشاة والحساد كالأفعى التي قتلت يوريديس زوجة اورفيوس، وبقي المسكين يعزف الحان الاسى والالم وينوح بقيثارته، هكذا سمم العداة حبنا.
ولم انسك ولم تغيبي عن شعوري لحظة واحدة، كنت ابدا لحن نفسي ونغم روحي، كنت كل فرحي ونشوتي وسعادتي، وأعرف خرائط عيناك الواثقة وهي تطالعني [...] إن تلك الثقة في عينيها يا ناس هي ما يحكم علي بهذا الارتباك المميت، وإن غضضت طرفي عنها فإني انظر اليها بقلبي دوما، اتذكر جيدا اني في كل ليلة اكتب لها رسالة غرام عازما على ان اضعها دون ان تحس في مقلمتها، فشلت في المهمة دوما وما زلت افشل، وإني اعرف كل تواقيع قدميها على قراميد الرصيف، حفظتها كما احفظ احب لحن موسيقي الى قلبي، واني اعرفها كما اعرف خطوط يدي، لكنها كانت واثقة وكنت مرتبكا.
إما أن تحبني او ان تحبني ولا خيار بينهما هكذا كان لسان حالها يقول، كانت هي النغمة الوحيدة الفريدة التي استطاعت أن تلائم وتر قيثارتي، كانت هي النغمة التي تنقص حياتي لتكون توليفة في غاية الانسجام والتلاؤم.
فيا لبعد الذكرى وقسوة البعد ومشقة الشوق، والنسيان من الشيطان والقلب الكريم كما يعلمنا جدنا الرافعي لا ينسى انسانا احبه، ويا حياةُ رفقا بالعاشقين فإن كان من مقتول يمشي على الارض فهو العاشق، الحب عندي بلغ نصابه وزكاته لا تخرج الا فيما شرع الفؤاد، ويمامتي عني بعيدة، فكيف اطعمها من حنطة قلبي.
° ° °
[.....]
-في الحقيقة اجل، كان لي حب طفولة... كنا ندرس معا طيلة سنوات السلك الابتدائي.. كنا صديقين مقربين... كان هو محط اعجاب الفتيات جلهن، لشكله البريء ولصوته المتخشع ، يحاولن التقرب له بشتى الطرق ، لازلت أذكر أن البعض منهن كن يكتبن له رسائل غرامية و قلبا كبيرا بالأحمر يخترقه سهم، و يكتبن في وسطه "احبك" ...كان هذا آنذاك قمة العشق... لكنه لم يكن يعير اهتماما لهن بتاتا.. بل كان يستغل أحاسيسهن التالفة تلك ليساعدنه في اجتياز الفروض أو إنجاز التمارين... كان لديه ذكاء ماكر.. الكل لاحظ أن بيننا علاقة غريبة تتعدى الصداقة... الكل إلا نحن...
إلى أن حان ذلك اليوم حيث أتتني صديقتي تجري وبرفقتها بعض الفتيات وقالت؛ " أتعرفين ماذا قال لنا ذلك الذي تعتبرينه صديقا مقربا لك.. .؟ أنه يحبك كثيرا.. وهو الذي طلب مني أن أقول لك هذا لأنه خجل كثيرا"
ترى ماذا كانت فتاة مثلي في تلك السن، في ذلك الموقف، ماذا كانت لتفعل..!! بالتأكيد ستقوم بالأمر الصحيح، (...) عكسي
بدأ وجهي بالاحمرار ، كعادته، لينهمر بعده شلال لا منتهي.. ثم هرولت هاربة...
كنت أظن أن الحب عيب.. وأني سأصبح مسخرة لزملائي في القسم.. وأني سأدخل جهنم إن مت... ليس لأنه أحبني... بل لأني انا أيضا أحببته.....
عندما التقينا في القسم، وبالمناسبة كنا نجلس معا في نفس الطاولة، قلت له أنه علينا ألا نتحدث مدة قصيرة...لا تتجاوز الاسبوع.. نظر إلي بخيبة أمل كبيرة ، لازلت أتذكرها جيدا.، رفض في الاول ، لكني أصررت ، وتلك المدة القصيرة لم تنتهي الى الان..
-ألم تكلميه. ..؟
-حاولت مصالحته بعد اسبوع ... لكنه ابى التحدث الي.. وطوال عشرة سنوات.. ارتدنا نفس المدارس ونلتقي دائما في المواصلات و الاحياء لكن لا يلق احدنا بالا للآخر ، بالأحرى هو لا يلقي بالا لي. .اما انا فلا اغض بصري عنه.. نهائيا....
-وهل لا زلت تحبينه؟
-كثيرا...
كان فارسا، ولم اعرف من اين جاءني ذلك الشعور الغريب، لقد كان رجلا او هكذا كنت انظر إليه من مرآة براءتي، وقد احسست بمقدار كبير من الامان وانا اجلس بجانبه وقد تآلف قلبينا وتلاءمت نفوسنا ولم نكن نعلم ذلك.
لم اكن اجيد الرسم لكني ما زلت اتذكر ذاك الدفتر الوردي اللون غلافه، مرسوما عليه احدى بطلات احب سلسة كرتونية الي، في كل ليلة كنت ارسم شخصين متحابين دون ان اسميهما، كان قلبي الصغير والبريء يعرفهما جيدا، ارسم منزلا سعيدا تحيطه اشجار النارنج والبرتقال وتنمو على جنباته ازهار الياسمين، وحمامتين فوق السطح وعائلة سعيدة يغمرها الحب، هذا المنزل القصي عن ضوضاء المدينة الى هنا كنت اهرب بفارسي لأني وبلا شعور مني كنت اغار عليه من المدينة ومن زميلاتي في الفصل.
كان مثل ذلك الفارس الشهم الذي يملأ خيال كل امرأة، ومليئا بذاك الذكاء الغريب الذي يضفي على وجهه مسحة من الجلال ويكسوه برداء الهيبة، كحكيم هرب من قصص التاريخ وكان في عينيه ذاك البريق الشهي الذي يوحي بأنه يتربص بشيء ليسرقه، وقد سرق قلبي وغنم نفسي، ومنذ ذلك الحين انا هائمة في دروب العشق، وأحرقت كل سفن النجاة، لأني لم اكن اريد ان اخرج من بحر حبه، اردت ان اضيع كل الضياع وان اتوه كل التيه، فأصبحت منذ ذلك الحين مولهة قد شغل عليّ كل ركن من نفسي وسرق لبي وعقلي.
من لي بزمن الكرسي الاول ادفع فيه عمري، فبعده لم اعد غير يمامة قد قص القدر احد جناحيها وهل تطير اليمامة بجناح واحد، أي تحالف هذا تحالفنا على الصمت، لم اكن ادري ان الصمت رديف الموت وإلا ماكنت تحالفت مثل هكذا تحالف، وتواعدنا على اللقاء عند عتبة ذاك المساء وها نحن نشيخ شيئا فشيئا دون أن يجيء هذا المساء، ها هي ذي سنون العمر تجري وها هي ذي السعادة تنضب وعيون النفس، وها هي ذي اوتار قيثارتنا تتراخى وليس غير الحب المفقود يستطيع ان يشدها وليس غير ذاك المطر يستطيع ان يحيي ورود بستان العمر المجرود.
° ° °
من يخبر العاشقين في اغترابهما أن القلوب ما زالت تلتقي هناك عند الشجرة القديمة وعند الطاولة الأولى المليئة بخرائط الذكرى و ارواح العابرين، من يعيد اليمام الى عشه الاول الى ايام البراءة الاولى الى ايام الخفقة المقدسة الى ايام نفخة الحب، اكسير حياة القلوب، من يخبرهما ان الشوق فاض وان الكأس امتلأت والنفس تقطر ألما والروح تعتصر ذكرىً، هذا الحب، هذا هو الحب الذي عتقه الزمان.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة