التشظي – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

عج المقهى بالرواد وغطى دخان السجائر الوجوه الكالحة المتحفزة التي هدها التعب والإرهاق وأعيتها الحركة الدائمة، فقد بحّت الأصوات وتشققت الحناجر من الصراخ الذي لم ينقطع طوال اليوم، الكل قدم إلى هذا المقهى ليريح النفس مما كابدته وليلتقي بالأحباب، ففي مثل هذه الأمكنة يبقى العالم في الخارج وتبقى ضغوط الحياة في الخارج، فتتعالى القهقهات وتطيب الجلسات بالأحاديث الحلوة المؤنسة، وخلال هذه الأوقات تتجدد خلايا النشاط ليستقبل الكل يوما جديدا لا مجال فيه للخمول والسكينة.
وقف نزار في باب المقهى يتفرس الوجوه، فقد خاب ظنه، إذ لم ير أحدا من الذين كانوا يجوبون الأزقة بسيارات الجيب العسكرية، يلهبون أجساد المتظاهرين بالعصي والهراوات غير آبهين بالدماء المثناثرة والتي غطت الوجوه وصبغت الملابس بلونها الأحمر القاني، تقودهم عيون مبثوثة بين الصفوف فتنبئهم عن المخابئ السرية وعن مراكز القيادة وجهات الدعم. كان يوما مجنونا، وبلغ الإصرار أقصاه، فلا المتظاهرين قبلوا بالتراجع ولا رجال البوليس رضوا بالانسحاب، كانت معركة عنيفة، وعندما احتدم الموقف، لعلع الرصاص وغطى دخان القنابل المسيلة للدموع الممتزج بالدخان المتصاعد من العجلات المطاطية سماء المدينة، تناثرت الأجساد بين مغمى عليها وجريح، وعلا الصراخ بين نائحة فقدت إلفها وبين شاتم وساب في الذين تسببوا في ما حدث، عفّرت الوجوه بالتراب، ناب صوت الرصاص عن الكلام، فلا أحد يجيبك عما حل بالمدينة سوى الهراوات وعلب الغاز الموقعة باللونين الأبيض والأزرق.

كان دخول نزار دخولا فانتاستيكيا، لفت إليه كل الأنظار، فوجئ بالنظرات التي انصبت نحوه، حاصرته العيون المتحفزة المتوثبة متفرسة ملامحه، لم يدر ما عليه فعله، ولم يدُرْ بخلده أن يكون يوما موضع تحديق كل هذه العيون.
هذا المساء جاف وبغيض، والمدينة تنفث سمومها من كل الجهات، وبقايا غبار متطاير يعلو هامات الأشجار ويغطي السيارات الرابضة فوق الرصيف وفي مداخل الأزقة والمتأهبة للانقضاض والدوس، بصفيرها المرعب الحاد المتوغل في ظلام الليالي القاتمة، ينطلق منها رجال مدربون على إنشاب الأنياب والقواطع في اللحم البشري، لا تؤلمهم صرخات الثكالى ولا تهزهم ولولات الأرامل ولا يفزعهم بكاء الأطفال. فللهراوات دندنها وتهتك أعراض الأمهات التي تلوكها الأفواه القذرة ذوات الروائح الكريهة التي عفنتها السجائر الرخيصة والمبتذلة والمغتصبة من المهربين اللائذين بما وراء الحدود لتأمين عيشهم داخل وطن متخبط بين براثن أبنائه يقضمونه نعنف وبتلذذ مستمتعين بلوك لحمه وبتلطيخ أفواههم الوالغة بدمائه.
لليل طقوسه، وللمقاهي طقوسها، وللغضب أيضا طقوسه، فعندما تدق الطبول، تكون الساحة مستباحة لكل الراغبين في الرقص، ورقص هذه الليلة له إيقاعه الخاص وله نغمه المميز، وله كذلك أسراره التي لا يدركها سوى الذين كوتهم نار الحقد والغضب في مدينة متأرجحة بين النار والنار.
المقهى الضاج برواده، ونزار الواقف بين الحيرة والحيرة، تتنازعه رغبتان، فلا هو قدر على التقدم، ولا هو استطاع التراجع والخروج، فالذين جاء من أجلهم لم يجدهم، عليه الآن أن يثبت، عليه ألاّ يتهاوى كما تهاوى كثير قبله... الحد الفاصل بين الحياة والموت دقيق كحد السيف، والسير فوق الحبال المتأرجحة يتطلب مهارة ساحر وصبر جنية، الساقان الدقيقتان ترتعدان، لا تقويان على حمل الجسد النحيل، جميع الحواس تعطلت، كل الحواس، صارت الأجساد في المقهى كتلا هلامية شفافة يخترقها البصر، والأصوات المتداخلة استحالت نداءات عنيفة تدعوه إلى التقدم، ازداد وجيب القلب و تشنجت العضلات... وفجأة حُسم الأمر واتخذ القرار.
الجسد النحيل يتقدم والوجه يزداد شحوبا والعينان تفقدان بريقهما ودقات القلب تتسارع والهواجس تعمق الجرح، وصدى كلمات شيخه الذي هيأه لمثل هذه المهمة ولمثل هذا اليوم تتردد، تعصف بالعقل "تخلص من جسدك، تخلص منه نهائيا، ومن خوفك ومن ترددك تخلّص، الحوريات في انتظارك، خطوة واحدة تفصلك عن الجنة، الأبواب مشرعة، درجات الجنة مهيأة لك دون غيرك، اِرضِ ربك، وانعم بالسعادة الأزلية، نفّذ، لا تتردد، لا تتراجع، الكل يكرهك، الكل يحقد عليك، كل الذين يحيطون بك لا يعبدون الرب الذي تعبد، لا يؤمنون بالذي تؤمن به أنت، أنت وحدك على صواب ..."
صارت الخطوة ميلا وصدى الكلمات مطارق تعصف بالعقل "لا تدع مجالا للتفكير، هذه فرصتك، أنت الأفضل..." العيون تحدق فيه مذهولة، لا أحد يقوى على الوقوف، تغافل البعض عنه، وتشاغل البعض بأحاديث ثنائية تقيِّم ما حدث وتخطط لما سيحدث، شكله الغريب هو الذي شد إليه الأنظار منذ اللحظة الأولى التي تجاوز فيها باب المقهى، ذقنه المحلوقة وشعره الذي كان بالأمس مسدلا على كتفيه قُصَّ، والجلباب استبدل بسروال الدجينز.
ينشغل الجميع، يلعبون الورق، يدخنون النراجيل، المقهى الضاج ملاذهم، يأتون إليه في المساءات تجلبهم إليه ابتسامة العم مختار النادل، يجلبهم إليه أنسهم فيه، رغبتهم في التلاقي، هم أبناء هذه المدينة نشؤوا فيها وتربوا بين أزقتها وفوق بطاحها، تعلموا في مدارسها ودربوا أنفسهم على الصبر، هذا المقهى محرم على رجال البوليس، لا يدنون منه منذ شُوِّه وجه أحدهم حين تظاهر بالشجاعة وتطاول على العم مختار النادل، بل وشتمه، وحين حاول صفعه هوت عليه اللكمات من كل جانب، ونجا من موت محقق، وخرج من المقهى بوجه مشوه ما زالت الندبة شاهدة على بشاعة ما حدث خلال ذلك اليوم، ومنذ ذلك اليوم صار المقهى مكانا آمنا للمتظاهرين ونقطة لا تطالها يد البوليس، تُكتب فيه اللافتات وترسم فيه الخطط وتخبأ فيه الكتب الممنوعة...
من جيب سرواله سحب نزار هاتفا جوالا، بحث بين الأسماء بأصابع مرتعشة، وبكلمات مقتضبة أخبر مخاطَبَه بأن الأمر قد حسم. وبشكل استعراضي فتح أزرار سترته، وأمام ذهول الجميع سحب سلك الأمان من الحزام الناسف لتتناثر الجثث في كل مكان، تمزقت الأوصال، وانفصلت الرؤوس والأطراف عن الأجساد، تصدعت جدران المبنى وامتزجت الدماء ببقايا الشاي والقهوة ومياه النراجيل...حدث كل ذلك في لحظة مجنونة توقف خلالها الزمن، لا مجال للهرب ولا مجال للتراجع، كان الأمر قد حسم...وفي لحظة هدأ كل شيء وخيم صمت رهيب على المكان، وظل صوت طفل يتردد من هاتف جوال ملقى بين الجثث "لا تنس علبة العصير يا بابا".

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة