مطاردة حلم غير مكتمل - قصة: عبد الغفور مغوار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

غابة كثيفة ومظلمة لا تضيئها شمس ولا قمر، يسير تيّم وسطها دون هدف، هكذا كان حلمه كلما أخذته سنة أو خلد إلى نوم بالليل أو بالنهار. وكلما استيقظ، كان يحاول تذكر تفاصيل أو جزئيات هذا الحلم، ولا يتذكر سوى أنه يمشي وسط غابة كثيفة الأشجار ومظلمة. فيتناول قبل أن يغادر فراشه قلما ويرتمي في بحر الخيال ليجد تصورا عن بداية ونهاية لهذا الحلم الغريب المتكرر، وكلما أسعفته الكلمات وجادت عليه بقصة، بعد مراجعتها تجده لا يحس بالرضا ومن تم يمزق الورقة ويلقي بها في سلة المهملات.
كان تيّم يبحث عن تتمة حلمه في قصة كاملة لها بداية ونهاية وترقى لمستوى تطلعه، كانت رحلته شاقة، فما أصعب أن تدمن على الكتابة وتستجدي الإلهام بمختلف الطرق حتى وإن كان الأمر يستدعي تغيير نمط حياتك. بالنسبة له، فقد أصبح شبه مدمن لحبوب النوم، غايته أن ينام وأثناء نومه يجد تتمة لحلمه الذي حيره. ولقد عزا تكرار هذا الحلم المبهم إلى الاحتياجات النفسية التي لم تحقق بعد. عندما استشار طبيبا نفسيا لم يقنعه بشيء ذي جدوى، فلم يزد عن قوله بأن هذا قد يكون نتيجة لشعوره بالتوتر والقلق تجاه شيء ما لا يستطيع الحصول عليه، أو مشاكل من الماضي لم يستطع حلها، ونصحه بعلاج توتره أو محاولة حل مشاكله بطرق أو بأخرى. بحث في كتب تفسير الأحلام واتصل بالمفسرين أيضا، ولم يعثر على رأي ثابت مقنع، مما جعله يصمم على المواظبة على الكتابة واحتراف الغطس في بحار الكلمة.

صار يعتمد طقوسا قبل النوم، كأن يطفئ الأنوار ويسدل ستائر النوافذ ويغمض عينيه وهو يسمع لقصة مقروءة مسجلة بصوته أو صوت غيره، أو يفتح عينيه جاحظتين ليرى فيلما أو جزءا منه بعد أن يختار الذي يقدم مشاهدا في الغابة، ويظل يعيد تلك المشاهد ثم يغمض عينيه، ومبتغاه أن يكتمل الحلم المتكرر، لكن في كل مرة لا يرى سوى نفس الحلم ولا شيء غيره.
عاش تيّم مدة طويلة في ظل هذا العذاب. جرب مرة أن يتجول في الغابة ليلا، وتحسر كيف لم يفكر في هذا الأمر من قبل. تسلح بالإصرار، واختار يوما لا قمر فيه، قصد الغابة وسار بين أشجارها العالية بخشوع كأنه يتوسل الإلهام أن يكرمه ببقية الحلم المتكرر. في أول ليلة حاول غلق عينه تاركا أمله يضيء له الطريق، فهيئ له أن يسمع أصواتا مرعبة وأنه يركض مذعورا فلم يقاوم وعاد مسرعا إلى غرفته، ثم تناول منوما ورمى بجسمه على السرير ونام. تلك الليلة رأى نفس الحلم، كان يسير في غابة كثيفة مظلمة، والجديد أنه رأى أيضا بين الجذوع أشكالا غريبة تسير عكس مساره غير آبهة بوجوده، حين غامر وتقدم رأى فجأة نارا تشتعل، فتقدم إليها وأخذ قبسا منها وأكمل مسيرته ولما التفت كانت النار قد اختفت، انتهى الحلم ونهض مرتعبا. ولكيلا يضيع خيوط القصة، بادر بكتابة هاته الجزئيات وبحث عن تفسير لهذا الحلم، فالتبس عليه الأمر وأخذته الحيرة، لكنه حاول مرة أخرى في ليلة ظلماء أن يقصد الغابة، لما وصل إليها، كانت الغابة تحترق أمام ذهوله، محبطا عاد أدراجه إلى منزله ليستتر عن العالم في غرفته البئيسة ويتناول حبوبه المنومة. وهو نائم، رأى الغابة تحت غيوم مظلمة تصيبها بوابل من الغيث، خمدت النار وخرج من كان فيها من كائنات غريبة يحملون وردا ويهتفون هتافات مبهمة، لما اختفوا عن ناظره توغل في الغابة معاندا ليكتشف أن الغابة كانت سليمة، وأنه يسير فيها مغمض العينين، وأن حدسه من كان يرشده إلى أن اهتدى إلى كوخ صغير بسيط من الخارج، وثير، فاخر ومذهل من الداخل، دخله مغمض العينين، ثم سمع صوتا بعيدا وكأنه ترحيب، فتح عينيه في الحلم، فوجد نفسه يفتحهما في الواقع. سر لهذا الحلم، "وأخيرا، قال في نفسه، الحلم بدأ يكتمل". أخذ دفتره وصار يكتب قصة حلم في الغابة فتدفق سيل الكلمات وحصل على بداية ونهاية سلسلة لحلم طالما انتظر اكتماله. صار إنسانا متفائلا أكثر مما مضى وكان تأويل حلمه خيرا، حيث كانت الشعلة التي حملها قبل ذاك المنام دليلا على بداية رحلة في عالم الكتابة، بعدما صار مطاردا بارعا لأحلام متكررة وغير مكتملة، مروضا ساحرا لأفكاره وخياله، إلى أن توج إصراره بجائزة يطمح لها أكبر الكتاب المبدعين.

تعليقات (4)

This comment was minimized by the moderator on the site

بارك الله فيك أيها الصديق الكبير والسند القوي.

عبد الغفور مغوار
This comment was minimized by the moderator on the site

بارك الله فيك، شكرا على التعليق المشجع.

عبد الغفور مغوار
This comment was minimized by the moderator on the site

قصة رائعة، مبدع كعادتك أتمنى لك دوام التوفيق والسداد

أمينة
This comment was minimized by the moderator on the site

قصة مشوقة.... بوركت أناملك ايها المغوار

Fouad
لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة